أحد أهم الأسئلة المطروحة مؤخرا على الساحة الفكرية هو ذاك المتعلق بالعلاقة بين القارة الأوروبية وبين الإسلام كدين والمسلمين كأتباع لهذا الدين، وهي علاقة في حقيقة الأمر تعود إلى قرون طويلة مضت، نعم ربما لم تكن بأكملها سخاء رخاء، لكن بنوع أو آخر شهدت نوعا من أنواع التعاون والتعايش.
والآن يتساءل المراقبون هل العمليات الإرهابية الأخيرة عطفا على تنامي الأصوليات الراديكالية سوف تشكل عقبة وقطعاً على طريق التعايش المشترك أم أوروبا التنوير والتسامح، سوف يقدر لها القفز فوق هذا الحاجز واعتباره جملة اعتراضية لا أكثر في علاقة تزيد عن الألف عام.
في هذه القراءة التحليلية، نحاول أن نطوف مع القضية الملحة وذلك عبر رؤى لعدد من كبار المفكرين الغربيين والمسلمين على حد سواء من أجل وضع ملامح ومعالم هذه العلاقة، والتي تؤثر ولا شك على مستقبل الحياة في الشرق الأوسط وحوض البحر الأبيض المتوسط معا.
لا يمكن القفز مرة واحدة من أربعة عشر قرناً خلت إلى الواقع المعاصر الأوروبي الحديث لتبيان شكل العلاقة بين أوروبا والمسلمين، وسط المخاوف الآنية، ولهذا يتوجب أن نقترب عبر القرنين السابقين على الأقل.
تحدثنا ديبا كومار أستاذ مشارك الدراسات الإعلامية ودراسات الشرق الأوسط بجامعة «روتجرز» الأميركية في كتابها «فوبيا الإسلام والسياحة الإمبريالية»، عن الغرب الذي بات قبل قرن ونصف تقريبا ينظر إلى الشرق بوجه عام وإلى العثمانيين بوجه خاص على أنهم أدنى من الغرب وغير قادرين إلا على إفراز مجتمعات استبدادية، ثم تحولت هذه الصورة الجدلية إلى صورة غرائبية أثناء الحقبة الرومانية، وتعايشت مع هذه الفانتازيا مع رؤى أدق للإسلام ظهرت أثناء عصر التنوير وإيجازا، كما تقول المؤلفة، وعلى العكس من أكذوبة أن الغرب والشرق كانا دائما في حالة صراع فإن الصراع تعايش في حقيقة الأمر مع التعاون، وبعيدا عن فكرة أن الشرق شرق والغرب غرب وأن الاثنين لا يمكن أن يلتقيا أبدا، فإن ما شهدناه هو أن تاريخ الشرق وتاريخ الغرب، بقدر ما يمكننا حتى أن نتحدث عن شرق منفرد وغير منفرد، يوجد بينهما تداخل وثيق.
السؤال الحيوي والجوهري هنا... «هل كان للغرب دوما صورة سلبية ومشوهة عن الإسلام والمسلمين؟ والجواب الأول لم يكن ذلك كذلك أبدا، وإنما وجد لا سيما في مراحل الاستعمار من عمل على تعزيز «شيطنة الإسلام والمسلمين»
.يعن لنا ونحن نتناول المخاوف جراء الحوادث الإرهابية في العقدين الماضيين عامة، وفي العامين الأخيرين خصوصا أن نتساءل، هل كانت الإسلاموفوبيا عقبة كئود قائمة بدورها على خط الاتصال والتواصل بين الجانبين قبل حدوث تلك العمليات ووقوع قتلى ومصابين وإراقة دماء أوروبية على الإسفلت؟
أفضل من يقدم لنا جواب في هذا الإطار إيدوي بلينيل الكاتب والصحافي الفرنسي في كتابه القيم «من أجل المسلمين»، ومن ترجمة الأستاذ عبد اللطيف القرشي، وعنده أن قضية الإسلام يتم توظيفها بكثافة لصناعة عدو داخلي لخلق حالة من الفزع لدى جزء هام من الرأي العام الأوروبي عامة والفرنسي خاصة، ذاك الذي أصبح يتبنى مواقف عنيفة ضد قضايا الهجرة، التي صارت مرادفة - في كثير من وسائل الإعلام – للإسلام والتطرف والإرهاب والغزو الثقافي وغيرها من مفردات القاموس الكزينوفوبي (الخوف من الأجانب والغرباء).
يقودنا بلينيل إلى تقرير اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان عام 2013 (قبل ظهور داعش) وفيه يبدو واضحا استفحال العنف، وإن المعطى الأكثر ثباتا وتجذرا في هذا العنف هو التعصب المعادي للمسلمين والتكتل المناهض للإسلام.
وعليه فإذا قورنت المرحلة الحالية في أوروبا بمرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية تحديدا، فإنه يمكننا القول إن المسلم متبوع بالمغاربي عوض اليهود قد بات في التمثلات الأوروبية الحديثة هو كبش الفداء، حسب تعليق علماء الاجتماع والسياسة الذين استشارتهم اللجنة.
في هذا الإطار أصبحت تطرح قضايا جديدة مثل اقتراح منع الرموز الدينية (الحجاب) في الجامعات والمدارس العليا، وبات التوظيف المتهافت للإسلاموفوبيا بذريعة حماية «العلمانية» وتحصينها يؤكد على استعجالية وراهنية التصدي للتوظيف السياسي لقضايا الهجرة والإرهاب.
هنا قد ينبغي على الأوروبيين أن يفصلوا فصلا عقلانيا بين هاتين القضيتين، سيما وأنه ليس بينهما علاقة السبب والنتيجة كما يحاول البعض التدليل على ذلك بِلَيّ عنق الحقائق وتزييف الوقائع، ويدعو إلى مقاربة سؤال الإسلام بمفاهيم التلاقح الثقافي والتنوع الحضاري وتعدد الهويات وديناميتها... لكن كيف يمكن أن يحدث ذلك وهناك من يزرع الشكوك في طريق المسلمين وعلاقتهم بأوروبا؟
يبقى بطريرك الاستشراق برنارد لويس، زارعا للشكوك، ومنذ وقت طويل، وهو لا ينسى رغم تجنسه بالجنسية الأميركية قبل بضعة عقود، إنه أوروبي الأصول، بريطاني النزعة، ولهذا فإنه يقدم صورة لأوروبا العنصرية، ذات الرؤية غير التصالحية أو التسامحية مع الإسلام والمسلمين، والغريب والعجيب، أنها رؤية سبقت الأحداث الإرهابية الأخيرة، وسبقت ظهور «داعش»، وقد أوردها في كتابه «الإيمان والقوة والدين والسياسة في الشرق الأوسط»، الصادر عام 2010 عن جامعة أكسفورد.
يفرد الفصل الثاني عشر من مؤلفة للحديث عن أوروبا والإسلام، والكتاب من ترجمة الأستاذ أشرف محمد كيلاني، وفيه ينزع لويس إلى فكرة التنبؤات التي تحقق ذاتها بذاتها، من خلال حديثه عن الأقلية الأوروبية المتعصبة، والتي تتكاثر عتادا وعددا وعدة في الأعوام الأخيرة.
هذه الأقلية ترى أن ما يحدث في أوروبا اليوم هو الموجة الثانية لهجوم المسلمين... أنهم يتحدثون بصوت عال، «يجب ألا نخدع أنفسنا فيما يتعلق بماهية تلك الهجمة وما تعنيه وهي تتخذ أشكالا مختلفة هذه المرة، اثنين تحديدا: الإرهاب والهجرة... كيف فعلها لويس قبل عام من انفجار ما عرف بـ«الربيع العربي» الذي قادنا إلى الهجرة واللاجئين وأذكى من نيران الإرهاب القاعدي ثم الداعشي دفعة واحدة؟
أما الإرهاب عنده فهو جزء من القضية الأكبر للعنف، واستخدامه في خدمة الدين، ويروج لأن الإسلام يوصي ويأمر به كحقيقة حياتية وأن المسلمين يؤمنون بأن العالم ينقسم إلى دار الإسلام، حيث يسود الحكم والقانون الإسلامي، وتعرف البقية بدار الحرب.
أما الشكل الآخر الأكثر ارتباطا بين المسلمين وأوروبا فهو الهجرة، ومن هنا يفهم المرء، ميل لويس إلى ترجيح فكرة فقدان أوروبا لطبيعتها الديموغرافية، وإشاعة طرح أسلمة القارة المسيحية، عبر تكاثر أعداد المسلمين بها.
البحث المعمق في قراءة فكر برنارد لويس يقودنا إلى ما لا يمكن أن نتوقعه، من عينة وجود أرضية خصبة تجمع الأصوليين المسلمين ببعض الحلفاء في أوروبا أيضا.
يرى الرجل، أن الإسلاميين الراديكاليين لهم جاذبية يسارية لدى العناصر المعادية لأميركا في أوروبا، كبديل عن السوفيات، ولهم جاذبية يمينية لدى العناصر المعادية لليهود في أوروبا كبديل عن النازيين، وقد تمكنوا من كسب تأييد كبير تحت كلا العنوانين، وغالبا من نفس الشعب، ويرى البعض في أوروبا أن الضغائن تفوق الولاءات بوضوح.
وثمة اختلاف مثير للاهتمام في ألمانيا، حيث أكثرية المسلمين من الأتراك، وهناك غالبا ما كانوا يميلون لمساواة أنفسهم باليهود، ويعتبرون أنفسهم قد خلفوا اليهود كضحايا للعنصرية والاضطهاد الألماني.
يذكر أحدهم اجتماعا عقد في برلين لمناقشة أوضاع الأقليات المسلمة الجديدة في أوروبا، وفي المساء طلبت مجموعة من المسلمين الأتراك أن ينضم «لويس» إليهم وسماع ما لديهم بهذا الشأن، وهو ما كان مثيرا للاهتمام حقا، وكانت أكثر عبارة علقت في ذهنه ما قاله أحدهم: «على مدى ألف عام لم يتمكنوا (يقصد الألمان) من قبول 400 ألف يهودي، فأي أمل هناك في أن يقبلوا مليوني تركي؟
لكن لويس يضع كعادته السم في العسل، إذ يشير إلى أن المسلمين الأتراك يستخدمون هذه العبارة ويلعبون على الشعور بالذنب لدى الألمان لتعزيز أجندتهم الخاصة...
ضمن خطوط البحث عن مستقبل العلاقة بين أوروبا ومسلميها والإسلام بشكل عام نجد أن هناك من يروج لفكرة أسلمة القارة الأوروبية.
يذهب الكاتب الفرنسي اليميني الأمازيغي اليهودي الأصل إيريك زيمور، صاحب كتاب «انتحار فرنسا»، والداعي لطرد المسلمين منها، إلى أن منهج مقارنة وضعية اليهود في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ووضعية المسلمين في فرنسا اليوم هو وضع معيب، فاليهودي - كما جاء في مقال له بصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بتاريخ أكتوبر (تشرين الأول) 2014، كان يقدم بوصفه ثريا حقق نجاحا غير مستحق، أما الخوف الذي يثيره المسلمون اليوم فراجع إلى كثرتهم العددية وإلى التطرف والإرهاب الإسلاميين حسب وصفه، فضلا عن أن كون العنف الذي يتهدد اليهود في فرنسا يقف وراءه في أغلب الحالات مسلمون.
في السياق نفسه سار الكتاب والصحافي في موقع «أتلانتيكو» للأخبار اليميني «بونوا رايسكي» والمتخصص في مهاجمة الإسلام، فقد كتب مقالا عنوانه «من الواجب علينا أن نكون إسلاموفوبيين»، وقد حاول رايسكي دوما تعويم قضية الإسلاموفوبيا الفرنسية في مناخ دولي يتميز بالجرائم المرتكبة ضد المسيحيين في نيجيريا والعراق والسودان وذبح الرهائن الغربيين في مناطق «داعش».
من هنا يطفو على السطح التساؤل: «هل سيكون هناك أوروبا متأسلمة أم إسلام متأورب؟ والجواب غير واضح أو محسوم حتى الساعة سيما وأن الأحداث الإرهابية الأخيرة تخلط المشهد خلطا مخيفا.
نحن على الأرجح أمام مرحلة جديدة من علاقة أوروبا بالإسلام والمسلمين؟ باختصار غير مخل يمكننا القول إن العلاقة المباشرة بين أوروبا والإسلام قامت خلال ثلاث مراحل أو أزمنة مختلفة من حيث الجوهر، وفي كل محطة من هذه الحقبات كان المحاور المسلم الذي تلتقيه أوروبا مختلفا، وبما أننا نستطيع ولو تجاوزا اعتبار هذا المحاور ممثلا للإسلام، والناطق باسمه، فإنه يمكن القول كذلك إن هذا الناطق باسم الإسلام والمضطلع بهذا الدور كان يختلف في كل زمن من تلك الأزمنة.
على هذا النحو برز العرب في زمن أول، والأتراك العثمانيون في مرحلة ثانية، والمغول في مرحلة ثالثة.
ومن ثم هنا من يرى أننا إزاء مرحلة رابعة من علاقة أوروبا بالمسلمين داخلها بداية وتاليا خارجها مع الأخذ في عين الاعتبار التبعات والاستحقاقات التي تولدها المواجهات الإرهابية في الداخل على العلاقة مع مسلمي العالم الخارجي؟
أفضل ما يمكن أن نختتم به السطور المتقدمة حيث الحيرة والضبابية تلف المشهد،، سطور إيدوى بلينيل الفرنسي المنتمي بحق إلى عصر الأنوار، والذي لم تغير موقفة طلقات رصاص الإرهابيين في مسرح «الباتاكلان»، ولا شر سائق شاحنة «نيس»، وغير ذلك من حوادث إرهابية شهدتها فرنسا.
بلينيل يرى أن الخلط بين جماعة بشرية بأكملها بالانتماء أو بالثقافة أو بالعقيدة وتصرفات بعض الأفراد الذين يحسبون أنفسهم عليها أو يتباهون بالانتماء إليها هو تمهيد للظلم، والتزام الصمت أمام خطابات كهذه هو تعويد لوعينا على الإقصاء، من خلال إضفاء شرعية التمييز، وإسباغ الاحترام على التشويش.
وفى كل الأحوال تبقى أوروبا أمام اختبار صعب. والتاريخ حافظ لما جرى في القرن الماضي، عندما بينت المأساة الأوروبية النتائج الكارثية لدوامة العداء والكراهية، ومن خلال التقبل السلبي لصناعة المشكلة اليهودية، ولمجرد مسؤولية الأوروبيين عن الإرث، ولهذا نجد البعض في الداخل الأوروبي يرفضون بكل قوة هذه الصناعة الحداثية الماكرة والملحة للمشكلة الإسلامية، وإن كانوا أقلية في وسط عدد أكبر وأصوات أعلى لتيارات اليمين العنصري، وأصحاب الاتجاهات القومية السوفياتية.
أغلب الظن أن قادة الرأي وحملة مشاعل التنوير في القارة الأوروبية هم المنوط بهم تصحيح المشهد في الداخل الأوروبي، حيث صار تقديم الإسلام باعتباره ديناً مقاوماً للحداثة أمراً مألوفاً، الأمر الذي يزكي نيران التصادم بين المسلمين في أوروبا وأصحاب اليمين فيها من الأوروبيين المتشددين، وبهذا يفتحون الباب واسعاً لمزيد من الأصولية القاتلة، إذ ساعتها تبقى الأصولية الإسلامية هي التعبير عن التعارض الجوهري بين الإسلام والغرب، ناسين أو متناسين أن العالم الإسلامي دخل بالفعل في مرحلة الثورة الديموغرافية كما يقول المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود، بل والثورة الثقافية والفكرية التي أدت سابقاً إلى تطور البلاد التي تعد اليوم أكثر المناطق تقدماً في العالم، وهو يتوجه على طريقته ناحية نقطة يلتقي فيها بتاريخ كلي وأكثر شمولاً.