يلقي رحيل المخرج داود عبد السيد قبل يومين الضوء على موقف صناعة السينما المصرية غير المتوازن، ما بين التجارة والفن.
مقابل 10 أفلام من نوع «الدشاش»، و«استنساخ»، و«أحمد وأحمد»، و«روكي الغلابة»، و«السلم والثعبان: لعب عيال»، و«فيها إيه يعني»، توفر السينما المصرية في عصرها الحالي فيلماً واحداً من تلك التي يمكن القول إنها مختلفة، أو تسعى إلى طرح موضوعات مهمَّة بلُغة فنية واعية.
إنها نسبة لا تكشف فقط عن التفاوت الخطير؛ بل أيضاً عن دور المنتجين المصريين في تهميش الحياة الثقافية والفنية بلا أدنى اكتراث، حباً في الإيرادات. لا أحد يريد أن ينظر إلى حقيقة أن ربح الأفلام «التجارية» ليس مضموناً، ولا إلى أنه مُطالب -وطنياً- بأن يدفع إلى الأمام أفلاماً ذات قيمة، وأن يشترك في الدفاع عن فن السينما المصرية، عوض الاستثمار في إطلاق أفلام هابطة.
خط مختلف
في عام 2022، وجد عبد السيد الذي رحل وهو في عزلة شبه كاملة، نفسه عاجزاً عن تأمين تمويل لمشروع جديد. تنقَّل بين المنتجين، ناقش وشرح، ليكتشف اتساع الهوة بين رغبته ومكانته الفنية من جهة، ومنطق السوق ورؤى المنتجين من جهة أخرى. وسواء أعلن اعتزاله لاحقاً أو فُرض عليه الأمر، فالنتيجة واحدة.
مرَّت 10 سنوات على عرض آخر أفلامه «قدرات غير عادية»، وهو فيلمه الروائي التاسع. وبعد محاولات متكررة لإنجاز فيلم عاشر، اختار الاكتفاء بما قدَّمه، معلناً اعتزاله قبل 3 سنوات. قوبل القرار بمزيج من الأسف والإنكار، قبل أن يطويه زمن سريع الإيقاع، وعصر الاتصالات الذي نحياه.
كان داود عبد السيد من القِلَّة التي امتلكت موهبة حقيقية وفرادة أسلوب، مع مضامين نابعة من رؤيته الخاصة. أفلام تحترم الجمهور لكنها لا تهادنه. منذ «الصعاليك» (1985)، و«الكيت كات» (1991). شقَّ لنفسه موقعاً قريباً من الجمهور، مع إصرار واضح على تقديم أعمال أعمق وأكثر طموحاً من السائد.
بحث عن واقع بلد

على الرغم من محدودية عدد أفلامه، رسَّخ عبد السيد مكانة مستحقَّة منذ عمله الأول «الصعاليك». ويعود ذلك إلى أسلوبه الخاص في معالجة الموضوعات: كاميرا تتتبَّع الحالات بصبر، وسرد هادئ الإيقاع، وتوتُّر محسوب يظهر عند الضرورة، كما في «أرض الخوف».
شخصياته مصرية بطبيعتها، ولكنها تتنفس هواءً مختلفاً. في معظم أفلامه، تتحول هذه الشخصيات إلى أدوات للبحث عن واقعها وواقع البلد، وإلى مفاتيح لأسئلة أوسع. أبطاله غرباء في أرض غير غريبة. وكما يقول «سيد مرزوق» (علي حسنين) لـ«يوسف كمال» (نور الشريف) في «البحث عن سيد مرزوق»: «إنت إنسان غريب... موجود وفي الوقت نفسه مش موجود».
الأعمى البصير
بعد «الصعاليك»، قدَّم «الكيت كات» و«البحث عن سيد مرزوق» (1991)، ثم «أرض الأحلام» (1993)، و«سارق الفرح» (1995)، و«أرض الخوف» (2000)، و«مواطن ومخبر وحرامي» (2001).
توقَّف 9 سنوات قبل أن يعود بـ«رسائل البحر» (2010)، ثم غاب 5 سنوات أخرى ليقدِّم «قدرات غير عادية» (2015).
كل فيلم من هذه الأعمال يتَّسم بأسلوب هادئ ينقِّب عمَّا وراء الموضوع، حتى حين يكون خيالياً، كحال «قدرات غير عادية».
أفلامه لا تدَّعي الواقعية، ولكنها تغوص في الواقع بعمق. في «أرض الخوف» كشف المخرج عن حالات ونماذج بشرية واجتماعية من دون وعظ أو خطابة. يبدأ كل شيء عندما يقبل «الضابط يحيى» (أحمد زكي) أن يخلع شخصيته تلك ويرتدي غيرها. و«غيرها» هذه ليست أي شخصية متوارية ولا كناية عن التخفي تحت قناع أو اسم جديد فقط. عليه أن يصبح شخصية بديلة بكاملها. لا محطات للتوقف، ولا رجوع، ولا حرية العودة إلى أصله، لا من حين لآخر، ولا في أي مستقبل منظور.

على «يحيى» (أحمد زكي) أن يصبح «أبو دبُّورة» جسداً وسلوكاً وقناعة. والمخرج حرص على تمييز فيلمه، على هذا الصعيد، بتفعيل كيفية هذا الانتقال من شخص بهوية مرموقة إلى شخص كلما مضى في تأدية المطلوب منه (الدخول في العالم السفلي لتجارة المخدرات) فقد هويَّته الأولى إلى حد الذوبان.
في «الكيت كات» (اسم الحي الذي تقع فيه الأحداث) جسَّد عبد السيد حالة من الذوبان الذاتي في البيئة المعبِّرة عن المجتمع التحتي. صحيح أن مشاهدة بطله «الشيخ حسني» (محمود عبد العزيز) يقود دراجة رغم عماه، ألهبت نقاداً وجمهوراً؛ لكن النفاذ من تصوير هذه الحالة الواردة في ذلك المشهد لما وراءه أمر ضروري. في صلبه هو مشهد يعكس رغبة الإنسان في التعايش مع واقعه بحرية، وقدرته على ذلك لو أراد. تحدٍّ كبير؛ لا ضد المعوِّق المتمثل في فقدان البصر؛ بل لعالم لا يرى «الشيخ حسني» إلا كأعمى.
لتقريب اختلاف «الشيخ حسني» عن الآخرين، فهو -حسب رواية الراحل إبراهيم أصلان- ليس شيخاً فعلياً. إنه يسمح لنفسه بالقيام بما لا يصح لشيخ آخر القيام به (جلسات نميمة ومخدرات)؛ لكن الطريقة التي يتعامل بها المخرج مع هذه الشخصية ليست طريقة «شعبية» لتهييج الناس وبيعهم شخصية من الحارة المصرية، بقدر ما هي تعليق على وضع وتوظيف الشيخ للكشف عن خطايا وفضائح رنَّانة.
مجهر غامض

يختار عبد السيد في آخر فيلم له (قدرات غير عادية)، منحى آخر للتعامل مع شؤون المجتمع المصري. موضوع كان قد تطرَّق إليه في «البحث عن السيد مرزوق» و«أرض الخوف» و«مواطن ومخبر وحرامي» و«رسائل البحر»، وهو موضوع البحث عن الذات وسط متاعب الفرد في مجتمعه، وتصوير ذلك المجتمع كعالم متعدد الظلمات.
ومع أن فيلمه الأخير منصَبٌّ على فكرة تناول موضوع أولئك المتميِّـزين بقدرات غير عادية، مثل توقع أن يحدث شيء فيحدث، أو مثل النظر إلى الشيء البعيد فيقترب، أو تحريك الأشياء في الهواء، وسواها، فإن السبب لا يزال بحث فرد عن هويته غير المستقرة.
المنطلق بدوره ما زال واحداً: مهمَّة تُسنَد إلى رجل لدخول عالم مغلق والبحث فيه، حتى وإن لم يكن من المحتمل العودة منه. خلال ذلك، تضيع هوية الباحث الأصلية، ولا يتمكَّن من البديلة. ينطلق الفيلم من فكرة قيام «الباحث يحيى» (خالد أبو النجا) بطرق باب لا يستطيع استيعاب ما وراءه، ومن ثم دخوله عالماً يتحوَّل فيه إلى مجرد أداة تحت مجهر غامض. في ذلك هو مثل شخصية «يحيى» في «أرض الخوف» مع اختلاف الحكاية التي تلج به إلى هذا الوضع.
تحمل بداية «قدرات غير عادية» رنَّة من بعض الأعمال الماضية. في الدقيقة الأولى يُطلب من «يحيى» أن يواصل العمل على بحثٍ كتَبه عن الأشخاص الذين يتمتعون بتلك القدرات الفائقة غير الطبيعية، ما يذكِّرك بمطلع «مواطن ومخبر وحرامي» (الذي مثَّله أيضاً أبو النجا) عندما يُمنح بطلُه وقتاً غير محدد للغياب عن العمل والنزول إلى الشارع، ليستكشف أمر الناس وينقل معلومات عنهم.
الطلب هنا هو نوع من منحه تذكرة ليذوب ويغيب. أول ما يفعله بعد أن أخبره مديره أن عليه أن يأخذ إجازة «وما تورنيش خلقتك لشهر» هو النزوح إلى بنسيون يقع على مقربة من مدينة الإسكندرية؛ حيث يستأجر غرفة ليعيش، (ونظرياً لكي يقرأ ويدرس). يكتشف أن صاحبة البنسيون الجميلة والجيدة (نجلاء بدر) وابنتها «فريدة» (مريم تامر) تملكان قدرات غير عادية بدوريهما. الأولى -مثلاً- تستطيع أن تتنبأ بقدومه إلى الإسكندرية وملاقاته فيها حتى من دون موعد متَّفق عليه. والثانية تستطيع أن تحرِّك الأشياء من مكانها. هذا ما يدخل في صميم بحثه، ولكن بحثه ليس علمياً. يترك «يحيى» نفسه ينساب إلى عالمهما من دون كوابح. يصبح جزءاً من حالة عامَّة، ويكتشف أنه تحت المرصاد، وأن هناك رجل أمن على قدر كبير من التأثير في مجريات الأمور، اسمه «عمر» (عباس أبو الحسن) كان يموِّل بحوثه ويدير الجهاز الذي يريد التعرُّف على من يمتلكون مثل تلك الطاقات العجيبة.
شرط المعرفة
لا يتطلب الأمر بحثاً طويلاً لإدراك أن نوعية الشخصيات التي أثارت اهتمام داود عبد السيد في معظم أفلامه، هي تلك التي ترضى التخلي عن واقع كشرط لمعرفة الحقيقة، فإذا بها لا تستطيع العودة إلى ذلك الواقع، ولا إلى معرفة الحقيقة.
أفلامه هي رحلات في النفس، حتى عندما يختار معالجة موضوع طبيب يقرر ترك المهنة التي درسها ومارسها لأخرى تتمتع بحرية أوسع، وهي الصيد؛ هذا ورد في فيلمه قبل الأخير «رسائل البحر» منضمّاً إلى تلك الشخصيات التي تنطلق من نقطة وتنتهي في نقطة أخرى.
سينما عبد السيد انطلقت في الفترة الصحيحة؛ حيث كان لا يزال في الجوار محمد خان (الذي تعرَّض بدوره إلى البطالة، بسبب عدم عزف أفلامه ألحان المنتجين) وخيري بشارة، ورضوان الكاشف، ومحمد ملص (في سوريا)، وبرهان علوية (في لبنان)، ونوري بوزيد (في تونس)، وعدد آخر توزَّع فوق الخريطة العربية. أمثاله -وتبعاً لقول الشاعر الأميركي روبرت فروست في «The Road Not Taken»- مشوا في الطريق الأقل سيراً.



