في أقصى الشمال الصيني، حيث تتنفس القرى ببطء بين الجبال الممتدة حتى حدود كازاخستان، وُلد فيلم «عالم النبات» الذي حصد تنويهاً خاصاً من مسابقة «أسبوع النقاد الدولي»، بالإضافة إلى جائزة أفضل فيلم آسيوي في مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي» في دورته الـ46.
في وادٍ بعيد يشبه الحكايات القديمة، تتجاور البيوت الطينية، ويتداخل صوت الريح مع أصوات الأغنام، في حين يجوب الأطفال التلال كأنهم ينتمون إلى الطبيعة أكثر مما ينتمون إلى العالم الحديث. في هذه الأجواء وجد المخرج الشاب جينغ يي البذرة الأولى لفيلمه، الذي قدّم من خلاله رواية ناعمة عن الطفولة والعزلة والبحث عن معنى في زمن يتغير سريعاً.
يقول المخرج الصيني جينغ بي لـ«الشرق الأوسط» إنه كتب السيناريو بنفسه، ولم يكن يتوقع أن يمنحه النص تلك المساحة الواسعة للتحليق، فشارك به خلال مرحلة الكتابة في فعاليات عدّة للحصول على دعم، مما مَكّنه لاحقاً من الحصول على مساعدة إنتاجية أتاحت له التمويل الأولي الذي سمح له بتحويل الفكرة إلى رحلة حقيقية، لم تقتصر على التمويل الصيني، بل امتدت إلى جهات عدّة من بينها مؤسسة «الدوحة للأفلام».

يعود المخرج الصيني إلى اللحظة الأولى لبزوغ الفكرة، حين كان العالم يتنفس بحذر خلال «جائحة كورونا»، ويوضح: «في تلك الأيام الطويلة، التي بدا فيها الخروج من المنزل حلماً بعيداً، بدأت أفكّر في معنى الحياة داخل مساحة مغلقة، وكيف يمكن للإنسان أن يعيد اكتشاف علاقته بالطبيعة حين يُحرَم من رؤيتها. في تلك اللحظات استعدتُ طفولتي بإحدى قرى إقليم شينجيانغ، المكان المليء بالذكريات، وكيف أن سكانه يعيشون في انسجام فريد مع الأرض، ويعرفون كيف يلتقطون معنى البقاء بالقرب من الطبيعة. من هناك جاءت الإلهامات الأولى، ومن هناك وُلد الفيلم بوصفه نوعاً من استدعاء الذاكرة قبل أن يكون مشروعاً سينمائياً».
لكن الطريق إلى الشاشة لم يكن سهلاً. يعترف جينغ بأن صناعة فيلم فني في الصين «أمر بالغ الصعوبة»، وأن الحصول على تمويل كان معركة في حد ذاته، فوفق قوله: «السوق ليست في أفضل حالاتها، ورغم تجاوز تلك المرحلة، واجهتُ تحدياً آخر مع الممثلين الصغار الذين اخترتهم لأدوار البطولة. فهم ممثلون غير محترفين، أطفال يحملون عالمهم الخاص، ولا يمكن السيطرة عليهم بسهولة. وفوق ذلك، كان التصوير في قرية فقيرة ذات ظروف قاسية، ما جعل إدارة العمل، وتهيئة الأطفال، ومتابعة الإيقاع البطيء للبيئة المحيطة مهمة تستنزف جهداً كبيراً».

ويشير جينغ إلى أنه قضى مع فريقه أسابيعَ يعيشون داخل بيوت السكان، يشاركونهم الطعام والدفء والبرد، ويكتشفون تفاصيل الحياة اليومية في قرية تشبه تلك التي نشأ فيها هو نفسه. يقول المخرج الصيني: «القرية كانت تُعيد لي ذكرياتي. كل شيء فيها يشبه طفولتي... لذلك اخترت هذا المكان. هذا الاندماج الكامل مع البيئة لم يكن مجرد قرار لوجيستي، بل كان جزءاً من روح الفيلم، إذ أردت أن أبني عالماً يتنفس ببطء، ويظهر على الشاشة كما لو أنه خارج الزمن».
أما رحلة الفيلم في المهرجانات، فقد بدأت بانطلاقة لافتة حين عُرض في النسخة الماضية من مهرجان «برلين السينمائي». يتحدث المخرج عن تلك اللحظة بحماسة، ويروي كيف شاهد نحو 600 طفل الفيلم في برلين، وكيف شعر بأن العمل وجد طريقه إلى قلوب جمهور غير معتاد على هذا النوع من السينما الهادئة، ويقول: «إذا أحبّ الجمهور هذا الفيلم، فهم يحبونه بعمق... يندمجون معه تماماً».

ورغم أنه حضر إلى القاهرة لعرض العمل في مهرجان «القاهرة السينمائي»، يؤكد جينغ أنه لم يكن يفكّر في المهرجانات حين بدأ التصوير؛ كان يريد فقط أن يصنع فيلماً «لأنه يريد أن يرى شيئاً»، وفق قوله. لم تكن الطموحات تتعدّى الرغبة في تسجيل تلك المشاعر التي يحملها تجاه الطبيعة والطفولة، لكن الطريق قاد الفيلم إلى منصات دولية كثيرة، من هونغ كونغ إلى طوكيو وتايبيه، مروراً بمهرجانات عدة في الصين.
ويشير إلى أن رحلة المهرجانات تقترب من نهايتها، وأن الفيلم بعد القاهرة سيعود إلى الصين استعداداً لعرضه المحلي العام المقبل، وهو العرض الذي ينتظره بشغف خاص لأنه سيجمعه بجمهور يعرف المكان، ويعرف الأرض التي خرج منها الفيلم.
وفي نهاية حديثه، بدا المخرج ممتنّاً للتجربة بكاملها، مؤكداً أن ما يحمله معه ليس فقط نجاحاً سينمائياً، بل ذكريات العيش بين الأطفال، والتنقّل بين البيوت الترابية، والتقاط الضوء على وجوه أناس يشبهون زمنه الأول. تلك الذكريات، وفق قوله، «هي الفيلم الحقيقي».

