بعد طول انتظار، استيقظ السعوديون، فجر الجمعة، على عرض أول حلقتين من مسلسل «بلوريبس»، الذي لطالما انتظره ملايين المشاهدين حول العالم، وكان لافتاً ما أظهرته التقييمات الأولية في «قاعدة بيانات الأفلام العالمية» من أنّ السعودية هي الدولة العربية الوحيدة ضمن قائمة الدول الخمس الأعلى تفاعلاً مع المسلسل، إلى جانب الولايات المتحدة، وكندا، وبريطانيا، والبرازيل.
وتكمن جاذبية العمل الذي يُعرض على منصة «آبل تي في» في كونه يُمثّل عودة المبدع فينس غيليغان، صاحب المسلسل الشهير «بريكنغ باد»، بعمل مختلف كلياً عن تاريخه المعروف. فبدلاً من عالم الجريمة والتسويات الأخلاقية، يُقدّم هذه المرة تجربة خيال علمي إنساني تتناول فكرة تبدو بسيطة في ظاهرها، عن تهديد يواجه كوكب الأرض ونجاة عدد محدود من البشر.

بطلة واحدة في عالم غامض
تتمحور القصة حول «كارول ستوركا»، التي تؤدّيها النجمة ريا سيهورن، وهي مؤلّفة روايات رومانسية تصبح أتعس امرأة في العالم، بعد أن تتفشَّى عدوى غامضة تجعل الجميع غرباء ويتعاملون ببلادة مُفرطة بلا سبب. ومن المشهد الأول، بيَّنت الحلقة أنّ شيئاً غريباً يُهدّد العالم، في مركز بحثي يقع في صحراء نائية، يجتمع فيه الباحثون والخبراء أياماً طويلة لفهم الخلل ومحاولة تفسيره، بينما كانت الكاتبة «كارول» تعيش حياتها الاعتيادية، تُوقّع أحدث رواياتها في مكتبة واسعة والقراء يصطفّون أمامها بحماسة.
كل شيء بدأ اعتيادياً في تلك الليلة التي شكَّلت المسار التحوّلي على كوكب الأرض؛ فبعد حفل التوقيع، تذهب «كارول» مع صديقتها للسهر في حانة داخل المدينة، ثم تخرجان لتناول السجائر، فترفع «كارول» رأسها إلى السماء وتنتبه إلى طائرات تنفث غازات غريبة بكثافة، فتشعر بأنّ أمراً مُربكاً يحدُث. ويتوالى بعدها كلّ شيء: سائق يقود بجنون، سقوط صديقتها فجأة، وتجمُّد كلّ الذين في الحانة بشكل مخيف.
ومع نهاية الحلقة الأولى، تكتشف «كارول» أنها الوحيدة التي لم تتأثّر، ويقال لها إنّ الكوكب لم يعد فيه من البشر الطبيعيين سوى 11 شخصاً، هي من بينهم. 5 فقط من هؤلاء يتحدّثون الإنجليزية، فتحاول التواصل معهم بحثاً عن طريقة لإنقاذ البشر ممّا حدث.
عودة غيليغان المختلفة
لكن «بلوريبس» ليس عملاً عن الأوبئة ولا عن الخيال العلمي البحت، بل عن الإنسان حين يُسلب منه حق الشعور الكامل. فالعمل يُعيد تعريف الدراما الفلسفية التي كادت تنحسر في المسلسلات الأميركية الحديثة، في عمل تحاول من خلاله منصة «آبل» أن تستفيد من هيبة اسم غيليغان لتقدّم عملاً نادراً يجمع بين البطء والذكاء. وربما إحدى أهم مزايا المسلسل أنه لا يعظ ولا يفسّر، بل يتيح للمتفرّج أن يعيش الحيرة نفسها التي تعيشها البطلة. فلا أحد يعرف إن كانت «كارول» مُنقذة أم مختلّة، ولا إن كانت السعادة وباءً أم خلاصاً.
والمفارقة التي يطرحها غيليغان ليست في عنصر الخيال العلمي، بل في الأسئلة التي يثيرها العمل: هل مقاومة الفوضى فعل خاطئ إن كان سيضاعف عدد الضحايا؟ هل السعادة ممكنة إذا كانت مفروضة؟ وهل الغضب يعني نهاية الإنسان؟
المسلسل، ومنذ أول حلقتين، يضع المُشاهد أمام معضلة أخلاقية تشبه أسئلة روايات دوستويفسكي أكثر مما تُشبه أعمال نهاية العالم.

ريا سيهورن... قلب العمل
تُكرّر ريا سيهورن تعاونها مع فينس غيليغان في مساحة تمثيلية أكثر عمقاً. وجهها الصامت ونظراتها المتردّدة يصنعان مفارقة لافتة، في امرأة يُطلب منها إنقاذ عالم لا يريد أن يُنقذ. أداء يقوم على طبقات من الحزن والكوميديا السوداء، يجعل الشخصية قريبة من المتفرّج رغم غرابة الظرف الذي تعيشه. ويمكن وصف سيهورن بأنها «قلب العمل».
ومن اللحظات الأولى، يُدرك المشاهد أن «بلوريبس» ليس عملاً جماهيرياً تقليدياً. فالصورة مُشبَّعة بضوء بارد، والمدن ساكنة، والوجوه تبتسم بتناسق مُقلق، كما أنّ الإخراج يعتمد على زوايا قريبة تُظهر الاختناق أكثر مما تُظهر الراحة، فيما الموسيقى المُصاحبة تمزج بين نغمة هادئة مؤثّرة وأصوات إلكترونية إيحائية تدلّ على أنّ شيئاً غير طبيعي يحدُث.
يُضاف إلى ذلك أنّ الإيقاع بطيء ومدروس، لا يُقدّم أحداثاً متسارعة بل يترك الفراغ ليملأه التوتر، وهو أسلوب قد ينفّر بعض الجمهور، لكنه يعكس رغبة المؤلِّف في جعل التجربة أقرب إلى التأمُّل منها إلى الحكاية. تماماً كما في «بريكنغ باد»، ففي كلّ مشهد هناك سؤال مُعلّق أكثر من إجابة جاهزة.
في «بريكنغ باد» كان البطل يصنع الشرّ بحثاً عن معنى، أما في «بلوريبس» فالشرّ غائب، والاستسلام هو الخطر الحقيقي. ينقل غيليغان ثيماته المُعتادة حول التحوّل والهوية والعزلة إلى سياق فلسفي جديد؛ ليس في مختبر ولا في صحراء، بل داخل المجتمع نفسه حين يشعر الفرد بالغربة والنبذ.
ويُعد هذا المسلسل أحد أبرز إنتاجات «آبل تي في» هذا العام، خصوصاً أنه يفتح الباب لقراءة جديدة في علاقة الإنسان بالتقنية والعاطفة والمجتمع. ففي زمن تُقاس فيه السعادة بالتفاعلات ونسب المشاهدة، يأتي «بلوريبس» عملاً يقلب المعادلة ليقول إنّ السعادة قد تكون الشكل الجديد للعبودية.

