يُعدّ المصور الفوتوغرافي الكندي الأميركي جوريج ستيرانكا أحد رواد هذا الفن في العصر الحديث، وقد اشتهر بعدسة كاميرته الثاقبة المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأرض والطبيعة والإنسان. في عام 2023 رغب جوريج، المعروف فنياً باسم «جاي»، في إقامة معرض له في بيروت، ولكن اندلاع الحرب في الجنوب آلت إلى تأجيله. انتظر العام التالي كي يحقق رغبته، ولكن الحرب طالت، فلم يستطع الانتظار طيلة هذا الوقت. رحل الفنان الكندي-الأميركي بعد أن تدهورت صحته وأُصيب بالمرض.

شقيقة جاي كريستينا والمتزوجة بلبناني وتقيم في بلاد الأرز، لم تشأ تفويت فرصة تنظيم معرض لأخيها في لبنان. حسمت أمرها ليكون موعده في عام 2025. وافق جاي ولكن رحيله في مايو (أيار) الماضي تسبّب بصدمة للجميع. لكن المعرض أُقيم في موعده، ليشكل لفتة تكريمية له يحتضنها غاليري «آرت ديستريكت» في شارع الجميزة. صاحب الغاليري ماهر عطار هو مصور فوتوغرافي معروف. وأطلق هذا الغاليري من باب تسليط الضوء على أهمية الصورة الفوتوغرافية، إذ يعدّها من الفنون الجميلة التي تحافظ على مكانتها، والتطور التكنولوجي لم يستطع أن يفقدها بريقها.
تدخل المعرض فتطالعك صور التقطها جاي بالأبيض والأسود، من مكان إقامته في لوس أنجليس. وتبعاً لخطّه الفوتوغرافي، تجذبك في أعماله حركة عدسة كاميرا غير عادية. منظر البحر، أو الكنيسة والمدفن، وحتى الغيوم والسماء تسكنها الحركة. ويشير ماهر عطار، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن جاي عاش الفترة الذهبية للصورة الفوتوغرافية. وترك بصمته فيها من خلال تقنية «الأنالوغ» التصويرية القديمة، وكان من خلالها يلتقط الصور وكأنه يكتب قصائد الشعر.

ويتابع عطار في سياق حديثه: «كان من المقرر أن يكون جاي حاضراً معنا اليوم في هذا المعرض. ولكن القدر شاء أن يغيب عنا، فقررنا تنظيم الحدث رغم كل شيء، وتمسكت بإقامته في شهر الصورة بباريس. ويصادف نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، فيكون بمثابة تكريم له. وكوني عملت في فرنسا من قبل وترعرعت مهنتي هناك، أحب أن أبقي هذه الصلة بيني وبينها حيّة، وترجمتها من خلال أعمال المصور جاي».
تملك صور جوريج ستيرانكا أبعاداً ثلاثية، بحيث لا يمكن لناظرها أن يُحصي تفاصيلها من اللحظة الأولى. يلعب بعدسة كاميرته، وبلحظة التقاط المشهد ليزوّدها بفنون التصوير الفوتوغرافي الأصيل. ويعلّق ماهر عطار: «طريقة محاكاة جاي للمشهد المصور بين الطبيعة والإنسان فيها الكثير من الشاعرية، ويقدمها بأسلوب لطيف وسلس. فقد يخيّل لناظر صوره للوهلة الأولى بأنها عادية. ولكن لا يلبث أن يكتشف الخلفية الفنية الغنية التي تتمتع بها».
يعتمد جوريج ستيرانكا على سرعة استخدامه للمغلاق في كاميرته. يضغط على هذا الزر من باب التقاط اللحظة. وفي واحدة من أعماله المعروضة التي يتناول فيها منظر البحر يدرك مشاهدها هذا الأمر. ويشرح ماهر عطار: «لاحظي هنا البحر كيف تبدو أمواجه متحرّكة، وكأنها في حالة اهتزاز، وهو ما نسميّه في فن التصوير بـ(الفلو) أي غير الواضح الملامح. ولكن جاي كان يهدف من خلال هذه التقنية إلى تزويد الصورة بالنبض. فلا تبدو مجرّد صورة جامدة لا روح فيها. وإذا ما غصنا أكثر في هذه الصورة بالذات لاحظنا الأبعاد التصويرية التي تتضمنها؛ فهو يمزج فيها ما بين مشاهد قريبة وبعيدة جداً، فتستوقف مشاهدها لا شعورياً كي يتسنّى له استيعاب عناصرها».

الديناميكية التي تسكن صور جوريج ستيرانكا تبرز في لعبة الضوء التي يجيدها، فالصورة تتكلّم وتحكي عن محتواها بين ظلال النور والعتمة، ولمجرّد أن تشاهد صورة الكنيسة والمدافن المحيطة بها تشعر بالرهبة والراحة في آن، فهو يضع تحت الضوء التفاصيل الروحانية، ويغطي قسماً منها بالظلمة لنشعر بثقل الموت المهيب.
ويشير ماهر عطار إلى أن لجوء المصور الأميركي إلى الأبيض والأسود ينبع من أهمية هذه التقنية. «إن قراءة الصورة بالأبيض والأسود تختلف تماماً عن تلك الملونة، فناظر هذه الأخيرة قد يضيّع معناها وتفاصيلها ويشرد في ألوانها. ولكن الأبيض والأسود يحفّزان مشاهدها على رؤيتها بتأنٍّ وبتركيزٍ كبيرَيْن، فيصله معناها مباشرة بعد أن يأخذك إلى عمق الصورة».








