منذ اللحظة الأولى لدخولك فيلا عودة، حيث يقام معرض «المذابح» لغسان زرد، تُصاب بالدهشة. ضخامة الأعمال الفنية المعروضة من منحوتات ورسومات تطبعك بألوانها وأحجامها. تتسمّر أمامها لا شعورياً. تحاول استيعاب فضاءات فنية تسبح فيها أفكار تجريدية. تجذبك بالروحانيات التي تحملها كأنها فعل دعاء، لتكتشف بعدها أنها تحتضن ذاكرة صاحبها. فغسان زرد جسّد من خلالها فعل البقاء، وألّف منها مشوار حياة خاضه بخشونته، ونعومته، وشظاياه، وإيماءاته، وخرج منه بريشة لوّنها بحب الحياة والتفاؤل.

المعرض من تنسيق مارك معركش، الذي وزّع قطعه الفنية لتتلاءم مع رهبة فيلا عودة وضخامة عمارتها.
الأزرق يطغى على لوحاته، في حين المنحوتات النحاسية تتوزع بينها كشهود عيان تتظلل بسمائها وبحرها. تتوزع القطع الفنية على 3 أقسام. حمل كل واحد منها عنواناً يلائم فحواها. وهي «عروق الصعود» و«خرائط المناطق الواقعة بينها» و«الأجراس بعد الحريق».
أول تجهيز فني «عروق الصعود» يتصدّر المعرض، وطريقه مزين بشريط ذهبي متعرّج يكمل مساره معها نحو الأعلى. الأزرق يُشكّل خلفيته مع خطوط رفيعة منثورة عليه بألوان دافئة. إنه المذبح الأول في مشوار أي شخص يبحث عن المطلق.
ويشرح غسان زرد لـ«الشرق الأوسط»: «إنه يُمثل مشوار حياة صعب. يشق طريقه صعوداً لأننا في النهاية سننتقل. العمل بمجمله مبني على السكوت والصمت، وينبع من تجربة حقيقية عشتها كما غيري من اللبنانيين، فلدينا حب الحياة بالفطرة رغم مآسٍ نعيشها. نفرح ولكن يرافق شعورنا هذا أوزان بثقل وحش، ولكن مع الأزرق الذي أحب، أوصل رسالة التفاؤل. وهو ما يجب ألا نفقده مهما بلغنا من صعوبات».

وأنت تصغى إلى شروحات الفنان زرد تدرك مدى تعلّقه بلبنان. ويستطرد: «لقد هجرته لسنوات، ثم ما لبثت أن عدت إليه بقرار نهائي. ولست نادماً مطلقاً. فالحياة في لبنان لا تُشبه غيرها في أي بلد آخر».
يفسّر الشريط الذهبي المتعرّج بآثار تُشبه تلك التي استخدمت في قصة «بيتي بوسيه» من قبل بطلها توم ثامب. «في هذه اللوحة طرقات عديدة، وهذا الشريط يدلّنا على الطريق الصحيح الذي يجب أن نسلكه للوصول إلى برّ الإيمان».
يستخدم زرد رماد الخشب في لوحاته، ويغمرها بألوان ريشته، ويغلب عليها الأزرق.
وجوه غامضة تُطالعك هنا، وأطياف إنسان هناك. وبين الأسود والأحمر نلحظ قوة ريشة سريعة بحركتها. ويعلق: «من السهل أن نولّد الخوف بلوحاتنا وكذلك الحزن. ولكن الأجدى بنا أن نقفز فوقها، وصولاً إلى مساحة من الراحة».
عنوان المعرض «المذابح» يُشير زرد من خلاله إلى وقفات مع الذات، نجريها مع أنفسنا بوصفها مراجعة لشريط حياة فيه الحلو والمر. ومن خلالها يبوح الشخص بكل ما يراوده من أفكار بصمت. «أراها مساحة بحث نفتش فيها عن أصدقاء وأحباء اختفوا من حياتنا، فنلتقي بهم، ولو أننا لا نراهم ولا نلمسهم. إنها الامتداد من الداخل نحو الخفي. وتؤلف حوارات محملة بالقوة والصراع والخيال».

تكمل جولتك في المعرض لتستوقفك مجموعة منحوتات ولوحات أخرى. ففي القسم الثاني منه ندخل غرفة «الخرائط الواقعة بينها». هنا تُطالعك أشجار الحياة، وتوحي لك بخرائط بلدان غير موجودة. وهي كناية عن منحوتات نحاسية، أوراقها وأغصانها يختلط فيها الملمس الناعم والخشن على أسطح منحوتة بدقة، فيبدأ خيالك يُشير إليك بأنك أمام صراع يدور بين الخير والشر. وكذلك تحضر مجموعة لوحات تنقل القلق والمقاومة مع جرعة من الأمل.
ويوضح غسان زرد في سياق حديثه: «المشاوير في هذه المجموعة من اللوحات تمثّل نقلة روحانية كمن يحجّ إلى مكان مقدس. لا أصوّرها من باب الديانات والمقدسات، بل من باب محطات حياة قاسية تقابلها واحات فرح تشعرنا براحة داخلية».
في القسم الأخير من المعرض «الأجراس بعد الحريق» يأخذنا غسان زرد إلى أبعاد حياتية أخرى. اللوحات هنا تبلغ ذروة القساوة، وتُلاحَظ فيها بقع سوداء. وكذلك غموض قدر لا يرحم. وتأتي الأجراس النحاسية حولها لتكسر شلل حياة. لا سيما أنها تُمثل صدى ذكريات طفولته. «بالنسبة لي هذه الأجراس تأخذني نحو أفق البحار، وأتخيلها تسير من دون توقف، تشق طريقها من جذور متشبثة بالأرض. فمهما بلغ مشوار الحياة من صعوبات لا بد أن نعترف بجماله. قد نتأفف ونحزن ونقلق. ولكن يجب ألا تطغى كل هذه المشهدية القاتمة على جمال الحياة».


