جولة بين الجواسيس... الاستخبارات البريطانية تعرض نجاحاتها وإخفاقاتها

جهاز «إم آي 5» يفتح ملفاته منذ بدايات القرن الماضي... انتصار على الألمان وفشل أمام الروس... وأضخم العمليات ضد «القاعدة»

معدات راديو متطورة عُثر عليها مدفونة في حديقة الجاسوسَين السوفياتيَّين هيلين وبيتر كروجر في ستينات القرن الماضي مُعارة من مقر الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ) (National Archives)
معدات راديو متطورة عُثر عليها مدفونة في حديقة الجاسوسَين السوفياتيَّين هيلين وبيتر كروجر في ستينات القرن الماضي مُعارة من مقر الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ) (National Archives)
TT

جولة بين الجواسيس... الاستخبارات البريطانية تعرض نجاحاتها وإخفاقاتها

معدات راديو متطورة عُثر عليها مدفونة في حديقة الجاسوسَين السوفياتيَّين هيلين وبيتر كروجر في ستينات القرن الماضي مُعارة من مقر الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ) (National Archives)
معدات راديو متطورة عُثر عليها مدفونة في حديقة الجاسوسَين السوفياتيَّين هيلين وبيتر كروجر في ستينات القرن الماضي مُعارة من مقر الاتصالات الحكومية البريطانية (GCHQ) (National Archives)

قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن هذا الموضوع لا بد أنه منشور في المساحة الخطأ. فالقارئ العربي لن يشعر، على أغلب الظن، براحة نفسية وهو يجول بين جواسيس أجهزة الأمن. السوري سيتبادر إلى ذهنه، ربما، فرع فلسطين السيئ السمعة في أجهزة النظام السابق. العراقي سيرتعد فزعاً وهو يستعيد ما يعرفه عن غرف التعذيب في دهاليز أجهزة استخبارات الرئيس الأسبق صدام حسين. أما الليبي فسيفكر في «سجن أبو سليم» أو «محكمة الشعب» خلال حكم العقيد الراحل معمر القذافي. وما ينطبق على سوريا والعراق وليبيا لا بد أنه ينطبق كذلك على كثير من الدول العربية.

لذا، إذا كان جواسيس أجهزة الاستخبارات يثيرون الرعب في قلبك، فهذا الموضوع لا يعنيك بالتأكيد.

مناسبة هذه المقدمة هي التقديم لمعرض يقيمه جهاز الأمن البريطاني (إم آي 5) ويستعرض فيه بعض أبرز إنجازاته، مع إقرار بإخفاقاته أيضاً. يتعرَّف الزائر على معلومات عن أبرز جواسيسه التاريخيين، مسلطاً الضوء على ما قاموا به منذ تأسيس جهاز الاستخبارات البريطاني في أوائل القرن العشرين. إضافة إلى الجواسيس، يتضمَّن المعرض بعضاً من الأجهزة التقنية التي استخدموها، والتي تبدو اليوم، مع سرعة التقدم التكنولوجي، في مكانها الصحيح: متحف المحفوظات التاريخية.

يقدِّم المعرض المقام في أحد أجنحة الأرشيف الوطني بضاحية كيو، جنوب غربي لندن، لمحةً عن تاريخ إنشاء جهاز الاستخبارات البريطاني في بدايات القرن العشرين، في خضم حمّى خوف متفشٍّ عمَّ الشارع البريطاني من تحضير الألمان لغزو البلاد. تمهيداً لذلك، أرسلت ألمانيا شبكةً واسعةً من جواسيسها لجمع معلومات تساعد جيشها عندما يبدأ الغزو. وللتصدي لشبكة الجواسيس المفترضة، قرَّرت الحكومة البريطانية، عام 1909، إنشاء «مكتب الخدمات السري» الذي كان أول جهاز من نوعه في بريطانيا مهمته التصدي للجواسيس الأجانب. بدأ المكتب عمله بعنصرين فقط: الكابتن فيرنون كل، القادم من صفوف الجيش، والكوماندر مانسفيلد كامينغ، الآتي من البحرية الملكية. وسرعان ما انقسم عملهما إلى فرعين مستقلين: أسس فيرنون كل الاستخبارات الداخلية المكلفة التصدي للتجسس الأجنبي (إم آي 5)، بينما أسَّس كامينغ الاستخبارات الخارجية (إم آي 6) ومهمتها التجسس خارج بريطانيا.

نسخ طبق الأصل من ملفات «MI5» السرية للغاية سابقاً بما في ذلك ملفات الجواسيس والعملاء المزدوجين (National Archives)

ربما كان الخوف من شبكات التجسس الألمانية مبالغاً فيه، لكن الحرب العالمية الأولى أظهرت أن هناك فعلاً مبرراً للقلق. ففي 4 أغسطس (آب) 1914، أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا، وزعمت، في اليوم التالي مباشرة، أنها حطَّمت شبكات التجسس التي زرعها الألمان. اعتقل البريطانيون فوراً 21 جاسوساً حقيقياً أو مشتبهاً بأنهم جواسيس لألمانيا، وخلال الحرب اعتقلوا 11 جاسوساً كان مصيرهم الإعدام. مع خسارتهم شبكة عملائهم، اضطر الألمان إلى خفض نشاطهم الاستخباراتي في بريطانيا بعد عام 1915. شكَّل ذلك انتصاراً واضحاً للجواسيس البريطانيين على الألمان. على الأقل هذا ما تحاول أن تُظهره لوحة معلومات معلقة على جدار في معرض «إم آي 5».

هُزمت ألمانيا في الحرب الأولى، لكنها سرعان ما أعادت الكرّة في بدايات الحرب العالمية الثانية. تُقدِّم إحدى اللوحات المعروضة في المعرض معلومات عن إطلاق ألمانيا النازية، عام 1940، حملة تجسس في بريطانيا تمهيداً لغزوها. وصل الجواسيس الألمان في زوارق أو غواصات، بينما وصل بعضهم جواً عبر مظلات. توضِّح لوحة التعريف أن كثيراً منهم (الجواسيس الألمان) «كانوا من ذوي التدريب الرديء. بعضهم لم يكن يتكلم الإنجليزية إطلاقاً، وجميعهم فعلياً تم رصدهم واعتقالهم». وجد المعتقلون أنفسهم في قاعدة لـ«إم آي 5» تُعرف بـ«معسكر 020» في ضاحية هام كومون قرب ريتشموند بمقاطعة ساري (على أطراف لندن)، حيث حاول المحققون «قلب» العملاء الألمان كي يصيروا «عملاء مزدوجين». نجح البريطانيون في «قلب» بعضهم. تتباهى إحدى اللوحات في المعرض بأن الاستخبارات البريطانية لعبت دوراً بارزاً في النصر على ألمانيا نتيجة عمليات نفَّذها 120 من «العملاء المزدوجين» الذين كانوا يعملون لمصلحة البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية. تشير لوحة معلومات أخرى إلى أن بريطانيا لاحقت، بين عامَي 1940 و1946، 19 جاسوساً بتهمة الخيانة، وأعدمتهم. أحد هؤلاء كان يوسف يعقوب الذي هبط بمظلة، لكنه أُصيب بكسر في الساق وتم اعتقاله. في التحقيق، زعم يعقوب أنه جاء ليقدم تقارير عن «أوضاع الطقس». لم ينقذه نفيه. أعدمه البريطانيون، بموجب قانون الخيانة، في قلعة لندن الشهيرة، وكان الشخص الأخير الذي يُعدَم هناك.

الدليل على أن يوسف يعقوب آخر شخص تم إعدامه في برج لندن كان جاسوساً ألمانياً (National Archives)

لا يشير جهاز الأمن البريطاني بالتفصيل إلى طريقة انتزاع الاعترافات من الموقوفين. لكنه يخصِّص قسماً من المعرض لضابط كبير يدعى روبن ستيفنز، الملقب بـ«صاحب النظارة بعين واحدة» (كان يضع نظارة بعين واحدة). قاد ستيفنز معسكر «هام كومون» التابع لجهاز الأمن والمخصَّص للتحقيق مع الجواسيس المفترضين، وكان معروفاً بأنه «متقلب المزاج وشرس». هذا التوصيف الذي يقدِّمه الجهاز لقائد معسكر التحقيق، سرعان ما يضيف إليه تأكيداً بأنه منع استخدام «العنف الجسدي» ضد السجناء في «المعسكر 020»، لكنه «سمح باستخدام الضغط النفسي». سواء استخدم العنف الجسدي أو الضغط النفسي، سيبدو «صاحب النظارة بعين واحدة»، على الأرجح، وكأنه ملاك مقارنة مع ما قام به المحققون في مراكز التعذيب العربية... على غرار الأهوال التي كُشفت أخيراً عمّا كان يحصل في «سجن صيدنايا» السوري السيئ السمعة.

يخصص قسم من المعرض لضابط كبير يدعى روبن ستيفنز الملقب بـ«صاحب النظارة بعين واحدة» (الشرق الأوسط)

يتضمَّن المعرض كاميرات قديمة كان الجواسيس البريطانيون يستخدمونها لتصوير العملاء المشتبه بهم، وأجهزة تنصت على الهواتف والمنازل. ويشير الجهاز إلى أن فريقاً، معظمه من النساء، كان يتولى تفريغ نصوص تسجيلات التنصت، مقرّاً بأن النساء لم يتم ضمهن إلى فرع المراقبة (المعروف بـ«آي 4») سوى في خمسينات القرن الماضي. وحتى في ذلك الوقت، لم يكن مسموحاً لهن بالبقاء في منصبهن هذا سوى لـ5 سنوات حدّاً أقصى. كما أن مهماتهن في الواقع لم تعدُ أن يكنَّ جاسوسات نيابةً عن الضباط الغائبين عن عمليات المراقبة.

من كاميرات جهاز «إم آي 5» (National Archives)

نجاحات وإخفاقات

يتباهى جهاز الأمن «إم آي 5» بقصص نجاحات عديدة، بينها قصة أوليغ غورديفسكي. هذا الضابط في جهاز الأمن والاستخبارات السوفياتي (كي جي بي) جنَّده البريطانيون للعمل لمصلحتهم بدءاً من عام 1974. استدعاه الـ«كي جي بي» للعودة إلى موسكو للاشتباه في أنه جاسوس مزدوج، لكن البريطانيين رتَّبوا هروبه عام 1985. تُظهر إحدى لوحات المعرض كيف تم إبلاغ رئيسة الحكومة الراحلة مارغريت ثاتشر بتهريب العميل «هتمان» (الكود السري لغورديفسكي) بعدما قدَّم «كمية كبيرة جداً من المعلومات البالغة القيمة عن نشاط الاستخبارات السوفياتية».

نجاحات «إم آي 5» قابلها أيضاً إقرار بالفشل. خصَّص جهاز الأمن قسماً من المعرض لكلاوس فوش الذي لم يُكشف سوى عقب نقله أسرار القنبلة النووية الأميركية (مشروع مانهاتن) للروس خلال الحرب العالمية الثانية. يُقرُّ جهاز الأمن بأن قضية «الجاسوس الذري» فوش، أثبتت آنذاك أن إجراءات التثبت من عدم وجود اختراق استخباراتي للأمن البريطاني لم تكن كافيةً، خصوصاً أنه خضع لإجراءات كشف العملاء 3 مرات، وكان ينجح في كل مرة. ألحقت فضيحة فوش ضرراً كبيراً بالعلاقة الاستخباراتية الخاصة مع الأميركيين، لكنها لم تكن الانتصار الوحيد للسوفيات على البريطانيين. في الواقع، يُخصِّص معرض «إم آي 5» جزءاً من أقسامه لإخفاقاته في مواجهة الروس، وتحديداً في قضية مَن يسميهم «جواسيس كمبردج»: هارولد (كيم) فيلبي، وغاي بيرجس، ودونالد ماكلين، وجون كيركروس. شكَّل هؤلاء أرفع شبكة استخبارات سوفياتية داخل الاستخبارات البريطانية. كانوا جميعاً من خريجي جامعة كمبردج وجنَّدهم السوفيات منذ ثلاثينات القرن الماضي.

حقيبة الجاسوس غاي بيرجيس التي احتوت على رسائل وأوراق وصور مُعارة من جهاز الأمن (National Archives)

إضافة إلى جواسيس شبكة كمبردج، يُقرُّ معرض جهاز الأمن البريطاني باختراق سوفياتي آخر تمثَّل فيما تُعرف بـ«حلقة جواسيس بورتلاند» خلال حكومة المحافظين بقيادة هارولد ماكميلان في ستينات القرن الماضي. ضمت خلية الجواسيس موظفَين في الحكومة البريطانية يعملان في فرع للبحرية الملكية مخصص لعمليات الرصد تحت الماء في بورتلاند بمقاطعة دورست (غرب إنجلترا). مرَّر الموظفان للاستخبارات السوفياتية تفاصيل سرية عن مشروع الغواصات البريطاني. ضمت الشبكة أيضاً عميلين آخرين لـ«كي جي بي» من مواليد أميركا كانا يتظاهران بأنهما بائعا كتب نادرة. فكَّك البريطانيون هذه الشبكة ولكن ليس نتيجة جهدهم الخاص، فقد أبلغتهم عنها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) بعدما كشفها لهم عميل بولندي.

الحرب ضد الإرهاب

لا يكتفي معرض الاستخبارات البريطانية بتناول النجاحات والإخفاقات التاريخية، إذ إن قسماً منه يتناول أيضاً الحرب ضد تنظيم «القاعدة» وكيف كشفت «عملية أوفيرت»، وهي أكبر عملية لمكافحة الإرهاب في تاريخ «إم آي 5» وشرطة لندن، خلية انتحاريين كانت تخطِّط لتفجير 7 طائرات تنطلق من مطار هيثرو إلى الولايات المتحدة في صيف عام 2006. يتضمَّن المعرض نموذجاً للسوائل المتفجرة التي كان سيستخدمها الانتحاريون، التي كانت مخفيةً في عبوات مشروبات. كما يتضمَّن المعرض تفاصيل عن العملية التي نفَّذتها، على الأرجح، الاستخبارات الروسية في قلب لندن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 وأسفرت عن مقتل ألكسندر ليتفينينكو، ضابط الاستخبارات الروسية (إف إس بي). كان الأخير يعمل لمصلحة الاستخبارات البريطانية، وقتله عميلان روسيان بعدما دسَّا له سم «بولونيوم 210» المشع في فنجان شاي كان يحتسيه بفندق شهير في العاصمة البريطانية.

يستمر المعرض المجاني حتى 28 سبتمبر (أيلول) المقبل.


مقالات ذات صلة

معرض «آي كلاود» لجولي بو فرح ريشة مغمسة بالحدس والعفوية

يوميات الشرق تدور موضوعات لوحات بو فرح بين الخيال والواقع (الشرق الأوسط)

معرض «آي كلاود» لجولي بو فرح ريشة مغمسة بالحدس والعفوية

تستعير الفنانة التشكيلية جولي بو فرح في معرضها «آي كلاود» من الغيوم صورة شاعرية لأعمالها، فترسمها بريشة تتأرجح بين الواقع والخيال.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق إحدى لوحات المعرض (المتحف المصري بالتحرير)

المتحف المصري يحتضن لوحات «من البردي الأخضر إلى الفن الخالد»

تحت عنوان «من البردي الأخضر إلى الفن الخالد»، استضاف المتحف المصري بالتحرير (وسط القاهرة) معرضاً فنياً يضم لوحات وأعمالاً تستلهم الحضارة المصرية.

محمد الكفراوي (القاهرة )
لمسات الموضة انطلقت الدورة الثانية من أسبوع الموضة المصري بورشات عمل وتدريب وعروض تبرز قدرات مواهب شابة (خاصة)

أسبوع الموضة المصري... آمال كبيرة في ترسيخ مكانته بالخريطة العالمية

يأتي أسبوع الموضة المصري ليكون خطوة مهمة في رحلة القاهرة لاستعادة دورها بوصفها عاصمة ثقافية وفنية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق وجه مرسوم على ورق هندي مصنوع من القطن (الشرق الأوسط)

«تاريخ الورق»... معرض مصري لسبر أغوار الذاكرة الإنسانية

لا يتعامل الفنان التشكيلي المصري محمد أبو النجا مع الورق باعتباره وسيطاً فنياً فحسب، بل يقدّمه على أنه مركز تاريخي يمكن عبره إعادة النظر إلى رحلة الإنسان نفسه.

منى أبو النصر (القاهرة )
يوميات الشرق أعمال الفنانين تناولت مظاهر الحياة في الأقصر (قومسير الملتقى)

«الأقصر للتصوير» يستلهم تراث «طيبة» وعمقها الحضاري

بأعمال فنية تستلهم التراث القديم والحضارة الموغلة في القدم لمدينة «طيبة» التاريخية، اختتم ملتقى الأقصر أعماله الخميس.

محمد الكفراوي (القاهرة )

«البحر الأحمر» يُعيد للسينما سحرها... افتتاح مدهش يُكرّم مايكل كين ويحتفي بالبدايات الجديدة

‎لحظة تاريخية لتكريم النجم الأميركي مايكل كين في حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)
‎لحظة تاريخية لتكريم النجم الأميركي مايكل كين في حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)
TT

«البحر الأحمر» يُعيد للسينما سحرها... افتتاح مدهش يُكرّم مايكل كين ويحتفي بالبدايات الجديدة

‎لحظة تاريخية لتكريم النجم الأميركي مايكل كين في حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)
‎لحظة تاريخية لتكريم النجم الأميركي مايكل كين في حفل الافتتاح (إدارة المهرجان)

في لحظة يصعب نسيانها، ظهر النجم الأميركي فين ديزل، وهو يدفع الأسطورة البريطانية مايكل كين على كرسيه المتحرّك فوق خشبة مسرح حفل افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، مساء الخميس، في مشهد بدا كأنه يُلخّص روح دورة خامسة تجمع بين شغف السينما وامتنانها لرموزها، وبين حضور دولي يُرسّخ جدة منصةً تلتقي فيها قصص نجوم «هوليوود» و«بوليوود» والعالم العربي.

وقف ديزل على المسرح لتقديم الجائزة التكريمية، قائلاً: «هذه الليلة مميّزة بالنسبة إليّ، لأنني أقدّم جائزة لشخص تعرفونه جميعاً بأنه من أفضل الممثلين الذين عاشوا على الإطلاق... مايكل كين يملك من الكاريزما ما يفوق ما لدى معظم نجوم هوليوود». أمّا كين، الذي بلغ التسعين من عمره، فصعد إلى المسرح بدعم 3 من أحفاده، وقال مازحاً: «أتيتُ لأتسلم جائزة، ولا يفاجئني ذلك... فقد فزت بأوسكارين».

مايكل كين متأثّراً خلال كلمته على المسرح (إدارة المهرجان)

كان ذلك المشهد الشرارة التي أعطت مساء الافتتاح طابعاً مختلفاً؛ إذ لم تكن الدورة الخامسة مجرّد احتفاء بفنّ السينما، وإنما إعلان عن نقلة نوعية في موقع السعودية داخل الخريطة العالمية، حيث تتقاطع الأضواء مع الطموح السينمائي، ويتحوَّل الافتتاح من استقطاب للنجوم وعروض الأفلام، إلى قراءة لصناعة تتشكَّل أمام العالم.

وانضم إلى مايكل كين في قائمة النجوم المكرّمين لهذا العام: سيغورني ويفر، وجولييت بينوش، ورشيد بوشارب، وستانلي تونغ، فيما استمرَّت أسماء عالمية في التوافد إلى جدة في اليومين الماضيين، من بينهم جيسيكا ألبا، وأدريان برودي، ودارين أرونوفسكي، والمخرجة كوثر بن هنية.

وينسجم ذلك مع كلمة وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، خلال الحفل، بأنّ المهرجان أصبح منصةً تعكس التحوّل الكبير الذي يشهده القطاع الثقافي في المملكة، ويُظهر دور الشباب في تشكيل مشهد سينمائي ينسجم مع طموحات «رؤية 2030»، مشيراً إلى أنّ الثقافة تُعد إحدى أقوى أدوات التأثير عالمياً.

حشد سينمائي عالمي كبير في الحفل (إدارة المهرجان)

السعودية... بدايات هوليوود

ومثل عادة المهرجانات، اتّجهت الأنظار نحو السجادة الحمراء، فامتلأت «الريد كاربت» الواقعة في منطقة البلد التاريخية بطيف نادر من نجوم السينما العالمية؛ من داكوتا جونسون، وآنا دي أرماس، ورئيس لجنة التحكيم شون بيكر وأعضاء اللجنة رض أحمد، وناعومي هاريس، ونادين لبكي، وأولغا كوريلنكو، إضافة إلى كوين لطيفة، ونينا دوبريف؛ اللتين شاركتا في جلسات حوارية مُعمَّقة قبل الافتتاح.

وخلال الحفل، أكد رئيس لجنة التحكيم شون بيكر، أنه متحمّس جداً للحضور في السعودية، التي شبَّهها بـ«هوليوود في أيامها الأولى»، مضيفاً: «بينما نُقاتل للحفاظ على دور العرض في الولايات المتحدة، افتُتِحت هنا مئات الصالات خلال 5 سنوات، لتصبح السعودية أسرع أسواق شباك التذاكر نمواً في العالم. ما يحدث هنا مُلهم ودافئ للقلب».

رئيسة مجلس أمناء مؤسّسة «البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد (إدارة المهرجان)

من جهتها، تحدَّثت رئيسة مجلس أمناء مؤسّسة «البحر الأحمر السينمائي»، جمانا الراشد، عن أثر المؤسّسة خلال السنوات الخمس الماضية، قائلة: «لقد بنينا بهدوء ما كان كثيرون يرونه مستحيلاً: منظومة تمنح صنّاع الأفلام من آسيا وأفريقيا والعالم العربي القدرة على القيادة». وأشارت إلى أنّ 7 أفلام دعمها «صندوق البحر الأحمر» اختارتها بلدانها لتمثيلها في «الأوسكار»، وهو دليل على أثر الصندوق الذي دعم أكثر من 130 مشروعاً خلال 5 سنوات فقط. وأوضحت أنّ الدورة الخامسة تضم هذا العام 111 فيلماً من أكثر من 70 دولة، وتسلّط الضوء على 38 مُخرجة، مؤكدة أنّ حضور المرأة في هذه الدورة يُسهم في إعادة تعريف حدود السرد السينمائي، ويشكّل جزءاً أساسياً من روح المهرجان.

«العملاق»... فيلم الافتتاح

وفي نهاية الحفل، بدأ عرض فيلم الافتتاح «العملاق» للمخرج البريطاني - الهندي روان أثالي، وهو عمل يستعيد سيرة الملاكم البريطاني - اليمني الأصل نسيم حمد «برنس ناز»، والفيلم من إنتاج سيلفستر ستالون، ويقدّم فيه الممثل المصري - البريطاني أمير المصري أهم أدواره حتى الآن، بينما يلعب بيرس بروسنان دور المدرّب الذي شكّل مسيرة ناز.

ورغم أنّ السِّير الرياضية مألوفة في السينما العالمية، فإنّ اختيار هذا الفيلم تحديداً يحمل دلالة ضمنية؛ فهو عن شاب صنع مساراً لم يكن موجوداً، وعَبَر حدود التصوّرات الطبقية والثقافية ليصنع له مكاناً يُشبهه. بما يُشبه إلى حد كبير قصة الصناعة السينمائية المحلّية التي تُحاول إعادة تعريف صورتها أمام العالم، وتبني حضورها من نقطة البدايات، بمزيج من الحلم والهوية والإصرار، لتصل اليوم إلى مرحلة النضج في دورة تحتفي بشعار «في حبّ السينما»، وتحمل معها 10 أيام من عروض وتجارب تُعيد إلى الفنّ السابع قدرته الأولى على الدهشة.


ابتلعها بهدف سرقتها... استعادة قلادة مستوحاة من أفلام جيمس بوند من أحشاء رجل نيوزيلندي

شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)
شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)
TT

ابتلعها بهدف سرقتها... استعادة قلادة مستوحاة من أفلام جيمس بوند من أحشاء رجل نيوزيلندي

شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)
شرطي يعرض بيضة فابرجيه خضراء مرصعة بالماس في أوكلاند بعد مراقبة دامت 6 أيام للص المتهم بابتلاعها (أ.ف.ب)

كشفت شرطة نيوزيلندا، التي أمضت 6 أيام في مراقبة كل حركة أمعاء لرجل متهم بابتلاع قلادة مستوحاة من أحد أفلام جيمس بوند من متجر مجوهرات، اليوم (الجمعة)، أنها استعادت القلادة المزعومة.

وقال متحدث باسم الشرطة إن القلادة البالغة قيمتها 33 ألف دولار نيوزيلندي ( 19 ألف دولار أميركي)، تم استردادها من الجهاز الهضمي للرجل مساء الخميس، بطرق طبيعية، ولم تكن هناك حاجة لتدخل طبي.

يشار إلى أن الرجل، البالغ من العمر 32 عاماً، والذي لم يكشف عن هويته، محتجز لدى الشرطة منذ أن زعم أنه ابتلع قلادة الأخطبوط المرصعة بالجواهر في متجر بارتريدج للمجوهرات بمدينة أوكلاند في 28 نوفمبر (تشرين الثاني)، وتم القبض عليه داخل المتجر بعد دقائق من السرقة المزعومة.

وكانت المسروقات عبارة عن قلادة على شكل بيضة فابرجيه محدودة الإصدار ومستوحاة من فيلم جيمس بوند لعام 1983 «أوكتوبوسي». ويدور جزء أساسي من حبكة الفيلم حول عملية تهريب مجوهرات تتضمن بيضة فابرجيه مزيفة.

وأظهرت صورة أقل بريقاً قدمتها شرطة نيوزيلندا يوم الجمعة، يداً مرتدية قفازاً وهي تحمل القلادة المستعادة، التي كانت لا تزال متصلة بسلسلة ذهبية طويلة مع بطاقة سعر سليمة. وقال متحدث إن القلادة والرجل سيبقيان في حوزة الشرطة.

ومن المقرر أن يمثل الرجل أمام محكمة مقاطعة أوكلاند في 8 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وقد مثل أمام المحكمة لأول مرة في 29 نوفمبر.

ومنذ ذلك الحين، تمركز الضباط على مدار الساعة مع الرجل لانتظار ظهور الدليل.


إزالة غامضة لـ«جدار الأمل» من وسط بيروت... ذاكرة المدينة مُهدَّدة بالمحو!

كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)
كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)
TT

إزالة غامضة لـ«جدار الأمل» من وسط بيروت... ذاكرة المدينة مُهدَّدة بالمحو!

كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)
كان الجدار يقول إنّ العبور ممكن حتى في أصعب الأزمنة (صور هادي سي)

اختفت من وسط بيروت منحوتة «جدار الأمل» للفنان هادي سي، أحد أبرز أعمال الفضاء العام التي وُلدت من انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول). العمل الذي استقرّ منذ عام 2019 أمام فندق «لوغراي»، وتحوَّل إلى علامة بصرية على التحوّلات السياسية والاجتماعية، أُزيل من دون إعلان رسمي أو توضيح. هذا الغياب الفجائي لعمل يزن أكثر من 11 طناً يفتح الباب أمام أسئلة تتجاوز الشقّ اللوجستي لتطول معنى اختفاء رمز من رموز المدينة وواقع حماية الأعمال الفنّية في فضاء بيروت العام. وبين محاولات تتبُّع مصيره، التي يقودها مؤسِّس مجموعة «دلول للفنون» باسل دلول، يبقى الحدث، بما يحيطه من غموض، مُشرَّعاً على استفهام جوهري: بأيّ معنى يمكن لعمل بهذا الوزن المادي والرمزي أن يُزال من عمق العاصمة من دون تفسير، ولمصلحة أيّ سردية يُترك هذا الفراغ في المكان؟

من هنا عَبَر الأمل (صور هادي سي)

ليست «جدار الأمل» منحوتة جيء بها لتزيين وسط بيروت. فمنذ ولادتها خلال انتفاضة 17 أكتوبر، تحوَّلت إلى نقطة التقاء بين الذاكرة الجماعية والفضاء العام، وعلامة على رغبة اللبنانيين في استعادة مدينتهم ومخيّلتهم السياسية. بدت كأنها تجسيد لما كان يتشكّل في الساحات. للحركة، وللاهتزاز، وللممرّ البصري نحو مستقبل أراده اللبنانيون أقل التباساً. ومع السنوات، باتت المنحوتة شاهدة على الانفجار الكبير في المرفأ وما تبعه من تغيّرات في المزاج العام، وعلى التحوّلات التي أصابت الوسط التجاري نفسه. لذلك، فإنّ إزالتها اليوم تطرح مسألة حماية الأعمال الفنّية، وتُحيي النقاش حول القدرة على الاحتفاظ بالرموز التي صنعتها لحظة شعبية نادرة، وما إذا كانت المدينة تواصل فقدان معالمها التي حملت معنى، واحداً تلو الآخر.

في هذا الركن... مرَّ العابرون من ضيقهم إلى فسحة الضوء (صور هادي سي)

ويأتي اختفاء «جدار الأمل» ليعيد الضوء على مسار التشكيلي الفرنسي - اللبناني - السنغالي هادي سي، الذي حملت أعماله دائماً حواراً بين الذاكرة الفردية والفضاء المشترك. هاجس العبور والحركة وإعادة تركيب المدينة من شظاياها، شكّلت أساسات عالمه. لذلك، حين وضع عمله في قلب بيروت عام 2019، لم يكن يضيف قطعة إلى المشهد بقدر ما كان يُعيد صياغة علاقة الناس بالمدينة. سي ينتمي إلى جيل يرى أنّ الفنّ في الفضاء العام مساحة نقاش واحتكاك، ولهذا يصعب عليه أن يقرأ ما جرى على أنه حادثة تقنية، وإنما حدث يُصيب صميم الفكرة التي يقوم عليها مشروعه.

يروي باسل دلول ما جرى: «حين أُعيد افتتاح (لوغراي) في وسط بيروت، فضّل القائمون عليه إزالة المنحوتة». يُقدّم تفسيراً أولياً للخطوة، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «قبل 2019، كانت المنحوتة تستمدّ الكهرباء اللازمة لإضاءتها من الفندق وبموافقته. ثم تعاقبت الأحداث الصعبة فأرغمته على الإغلاق. ومع إعادة افتتاحه مؤخراً، طلب من محافظ بيروت نقل المنحوتة إلى مكان آخر». يصف دلول اللحظة قائلاً إنّ العملية تمّت «بشكل غامض بعد نزول الليل، إذ جِيء برافعة لإزالة العمل بلا إذن من أحد». أما اليوم، فـ«المنحوتة موجودة في ثكنة مُغلقة بمنطقة الكارنتينا».

كأنّ المدينة فقدت أحد أنفاسها (صور هادي سي)

دلول الذي يتابع مسارات فنانين، من بينهم هادي سي، لا يتردَّد في الإجابة بـ«نعم» حين نسأله إن كان يرى الحادثة «محاولة محو للذاكرة». يخشى أن تصبح الأعمال الفنّية في بيروت مهدَّدة كلّما حملت رمزية جماعية أو امتداداً لذاكرة سياسية لا ترغب المدينة في مواجهتها. يرفض أن يتحوَّل الفضاء العام إلى مساحة بلا سردية، ويُحزنه، كما يقول، صدور هذا الارتكاب عن فندق «يُطلق على نفسه أوتيل الفنّ»، حيث تتوزَّع اللوحات في أروقته ويتميَّز تصميمه الداخلي بحسّ فنّي واضح. ومع ذلك، يُبدي شيئاً من التفاؤل الحَذِر حيال مصير المنحوتة: «نُحاول التوصّل إلى اتفاق لإيجاد مكان لائق بها، ونأمل إعادتها إلى موقعها».

أما هادي سي، فلا يُخفي صدمته لحظة تلقّي الخبر: «شعرتُ كأنّ ولداً من أولادي خُطف منّي». نسأله: هل يبقى العمل الفنّي امتداداً لجسد الفنان، أم يبدأ حياته الحقيقية حين يخرج إلى العلن؟ فيُجيب: «بعرضه، يصبح للجميع. أردته رسالة ضدّ الانغلاق وكلّ ما يُفرّق. في المنحوتة صرخة تقول إنّ الجدار لا يحمينا، وإن شَقَّه هو قدرُنا نحو العبور».

كان الجدار مفتوحاً على الناس قبل أن تُغلق عليه ليلة بيروت (صور هادي سي)

ما آلَمَه أكثر هو غياب أيّ إشعار مُسبَق. فـ«منحوتة ضخمة تُزال بهذه الطريقة» جعلته يشعر بأنّ «الفنان في لبنان غير مُحتَرم ومُهدَّد». يؤكد أنّ «الفعل مقصود»، لكنه يمتنع عن تحديد أيّ جهة «لغياب الأدلّة».

يؤمن سي بأنّ الفنّ أقرب الطرق إلى الإنسان، والذاكرة، وإنْ مُحيَت من المكان، لا تُنتزع من أصحابها. كثيرون تواصلوا معه تعاطفاً، وقالوا إنهم لم يتعاملوا مع المنحوتة على أنها عمل للمُشاهدة فقط، وإنما مرّوا في داخلها كأنهم يخرجون من «رحم أُم نحو ولادة أخرى». لذلك يأمل أن تجد مكاناً يسمح بقراءتها من جديد على مستوى المعنى والأمل: «إنها تشبه بيروت. شاهدة على المآسي والنهوض، ولم تَسْلم من المصير المشترك».

من جهتها، تُشدّد مديرة المبيعات والتسويق في «لوغراي»، دارين مدوّر، على أنّ الفندق «مساحة لاحتضان الفنّ واستضافة المعارض ومواكبة الحركة الثقافية البيروتية». وتنفي لـ«الشرق الأوسط» أيّ علاقة للفندق بقرار إزالة المنحوتة: «الرصيف الذي وُضعت عليه لا يعود عقارياً لنا، ولا نملك سُلطة بتّ مصيرها. بُلِّغنا، كما الجميع، بتغيير موقعها، لا أكثر ولا أقل».