المايسترو لبنان بعلبكي: تفخيخ منزل عائلتي في الجنوب قهرٌ ثقافي

تساءل عن تعميم الإبادة وسط ما تقدَّم من جمال

المايسترو لبنان بعلبكي حمل وطنه في فنّه ونغماته (فيسبوك)
المايسترو لبنان بعلبكي حمل وطنه في فنّه ونغماته (فيسبوك)
TT

المايسترو لبنان بعلبكي: تفخيخ منزل عائلتي في الجنوب قهرٌ ثقافي

المايسترو لبنان بعلبكي حمل وطنه في فنّه ونغماته (فيسبوك)
المايسترو لبنان بعلبكي حمل وطنه في فنّه ونغماته (فيسبوك)

عزَّ الحجر المُسوَّى بالأرض على المايسترو لبنان بعلبكي، وعزَّ أكثر ما يُخبّئه من طفولة وذكريات. فمنزل والده الفنان التشكيلي عبد الحميد بعلبكي، في بلدة العديسة الجنوبية، شُمِل مع منازل مجاورة في زنّار النار الإسرائيلي وفُخِّخ بوحشية. يُخبر «الشرق الأوسط» أنه ليس مجرّد منزل. والتحسُّر على خسارته يتضخَّم بفعل رمزيته بوصفه أقرب إلى صرح ثقافي وحيِّز لتأكيد التنوُّع. يُفخَّخ المنزل وبوسط حديقته يرقد والداه في استراحتهما الأبدية. يخشى أن يُصاب المرقدان بالهمجية ويخرج إلى الأرض ما وُوري في الثرى. يؤلمه المشهد ويشعر بامتداد الخراب حدَّ فَتْك الروح.

ويُشبِّه مصير منزل عائلته بمنازل لبنانيين لم يبقَ منها سوى كومة حجارة وبقايا موجودات تتآكل بالدخان. يتضاعف الألم لإحساسه بأنّ إرث والده أُصيب بنكبة، أولاً لإصراره على بناء البيت ليكون بذرة في أرض تتمسّك بتنوُّع الحقل وتأبى الثمرة الواحدة، وثانياً لأنه احتضن فنّه ورسومه، واستضاف أهل تنوير وعقل، وربّى أفراداً مارسوا الفنون وكرّسوا العمر للألوان والأنغام. يقول قائد الأوركسترا الوطنية الفيلهارمونية: «أراد والدي منزلاً بمرتبة منارة. عمَّره رغم الاحتلال الإسرائيلي، وصمد حتى يوم التفخيخ. صمّمه على هيئة إرث وطني؛ لا ليعني أفراده فحسب، وإنما الجماعات الثقافية».

يتساءل بلفحة خجل: «كيف أتكلّم عن منزل وآخرون فقدوا أحبّة؟»، ويُلحِق السؤال بواقع أنه «آمِن» في بيروت، ولبنانيون يُبادون. ذلك يجعل الخجل يتقدّم كلَّ حديث أو يُمهّد له، وهو أقرب إلى الحياء لأن الفواجع تتّخذ أكثر من مظهر وتغدو درجات تُصيب أقلُّها صاحبَها بتقزيم طرق التعبير.

يعيد سرد الحكاية لرفض طمسها كما طُمست المنازل في الجنوب المشتعل باللهب. وما يُدعِّم الرغبة في إخبار القصة، أنه يرى في منزل والده أبعد من جَمعةٍ عائلية، «فهو تأكيد أنّ الفنون لا تقتصر على صنّاعها، لقدرتها على محاكاة الجميع والتحوُّل وطنيةً شاملة».

اعتاد التردُّد على قريته، وبشكل مكثّف فعلتْ شقيقته الفنانة سميّة بعلبكي لتعلّقها بالأرض ومرقَدي الوالدين. تخرج من تراب القرى رائحة تمنح الأنف يدين لعناقها، فيشتمها حدّ الامتلاء. هذه العلاقة بين الحواس والمكان طاردها المايسترو في كل مرة غادر فيها صخب بيروت إلى اخضرار العديسة وهوائها وسهولها.

كبُر وهو يراقب حرص والده على أن يكون للعائلة منزل وللثقافة صرح: «لم يُشيَّد في ظروف عادية أو في مدّة تتراوح مثلاً بين الـ6 أشهر والسنة. بناؤه أُخضع لمسار طويل. نشأنا على ريشة أبي وهي ترسم قنطرته وقراميده وواجهته. شكَّلت مشهدية البناء جزءاً من طفولتنا. فخَّخت إسرائيل مشروعه ومكانه المفضَّل. وُلد في العديسة، ثم قصد بيروت من أجل الدراسة، وغادرها ليستكملها في فرنسا. ولما عاد، وعمل أستاذاً في الجامعة اللبنانية، راح يستكمل بناءً أراده ملاذاً لتقاعده. فكَّر في منزل يتحوّل متحفاً للفنّ ويحفظ اسمه لأنه أحد كبار المثقفين الجنوبيين في جيله، مع عمّي فوزي وأخي أسامة والشاعرَيْن محمد وحسن العبد الله من الخيام، وبحر من المثقفين يضمّ منذر جابر وشوقي بزيع... وأمواجاً عظمى».

عدَّد الروابط بالمنزل ليقول إنّ له تاريخاً: «لم يكن والدي مغترباً جمع المال وشاء بناءه بهدف استثماري. شيّده للثقافة. وإن كانت نشأتي البيروتية أبعدتني عنه، فقد ظلَّ وجداني متوهّجاً، وما أشعله أبي فيّ أُشعله بأولادي».

ليست العديسة القرية الجنوبية الأولى التي تصبح ضحية أقصى الهمجية. سبقتها قرى إلى التفخيخ. ذلك هوَّن وَقْع الصدمة، فيُخبر: «كنا في وضعية استعداد نفسي، ومع ذلك، بدت قاسية رؤية قريتنا تُمحى. بقيت ثيابنا في المنزل، ولوحات أبي وريشته وألوانه كما تركها حين انطفأ العمر عام 2013. طلبنا من صديقٍ صورَ الأقمار الاصطناعية، وتبيَّن أنّ شيئاً لم يبقَ. واجهت العديسة أهوال الحرب منذ اندلاعها قبل ما يزيد على سنة، وأصابتنا بألم على مآلاتها. لكنّ تفخيخها علَّم عميقاً».

منزل عائلة بعلبكي كان أبعد من حجر (فيسبوك)

بالمواساة، هدّأ أفراد عائلة بعلبكي بعضُهم آهات بعض. تبادلوا الكلمة المُعزّية... «بالتضامن والتماسُك، تقبّلنا هذه الأحزان. ولمّا تأمّلنا قدر مدينة صُور العريقة والمسّ بتاريخها، استكان بعض الوجع. التقبُّل مرير، لكن لا مفرّ منه».

يرجو أن تكون «خاتمة الحروب»، فهي تفتُك ولا تأتي «سوى بالخراب». يجيد توصيفها. يتساءل إنْ كانت «لعنة الجغرافيا» خلف «كل هذه الأثمان». ثم يتطلّع إلى لبنان فيراه «ضائعاً بين البلدان لصغره على الخريطة»، ومع ذلك «نوره عميم بإرث مثقّفيه وعباقرته». يترك السؤال معلّقاً، أسوةً بأحلام وآمال جماعية: «لِمَ تعمُّ الإبادة وباستطاعتنا صناعة كل هذا الجمال؟».


مقالات ذات صلة

تركيا تقصف جواً وبراً مواقع «قسد» وبنيتها التحتية في شمال سوريا

شؤون إقليمية تركيا تشن هجمات جوية ويرية مكثفة على مواقع «قسد» في شمال سوريا (المرصد السوري لحقوق الإنسان)

تركيا تقصف جواً وبراً مواقع «قسد» وبنيتها التحتية في شمال سوريا

شنت تركيا هجمات جوية وبرية مكثفة على مواقع سيطرة «قسد» في شمال وشمال شرقي سوريا، على خلفية هجوم إرهابي على مقر «شركة صناعات الطيران والفضاء (توساش)» في أنقرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جندي إسرائيلي يطلق النار من داخل إحدى البنايات في قطاع غزة (موقع الجيش الإسرائيلي)

بروكسل تحقق في ارتكاب «قناص» بلجيكي إسرائيلي جرائم حرب بغزة

فتحت النيابة الفيدرالية البلجيكية تحقيقاً في الاشتباه بارتكاب جرائم حرب في غزة نُسبت إلى إسرائيلي من وحدة النخبة في الجيش الإسرائيلي يحمل الجنسية البلجيكية.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
الولايات المتحدة​ دمار هائل في خان يونس جنوب قطاع غزة نتيجة القصف الإسرائيلي (رويترز)

رسائل بريد إلكتروني تُظهر مخاوف أميركية مبكرة بشأن جرائم حرب إسرائيلية في غزة

بينما كانت إسرائيل تقصف شمال غزة بغارات جوية في أكتوبر الماضي، وتأمر بإجلاء مليون فلسطيني، وجّهت مسؤولة كبيرة في «البنتاغون» تحذيراً صريحاً للبيت الأبيض.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي الرئيس السوداني السابق عمر البشير (أرشيفية - رويترز)

محامي البشير: نقل الرئيس السوداني السابق إلى مدينة شمالية لتلقي العلاج

قال محامي الرئيس السوداني السابق عمر البشير اليوم الثلاثاء إن موكله نُقل من العاصمة السودانية التي مزقتها الحرب إلى مدينة مروي بشمال البلاد لتلقي العلاج.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شؤون إقليمية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت (أ.ب)

نتنياهو يبحث عن كبش فداء إسرائيلي لتفادي المحاكمة في لاهاي

السعي في إسرائيل لإيجاد كبش فداء يحمل ملف التهمة عن نتنياهو وغالانت، والتحقيق سيقتصر على عدد قليل من الأشخاص، ولوقت قصير، ومن دون توجيه اتهامات حقيقية.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)

إغلاق قناة وإيقاف برنامجين في مصر بسبب «مخالفات مهنية»

رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر كرم جبر (الهيئة الوطنية للإعلام)
رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر كرم جبر (الهيئة الوطنية للإعلام)
TT

إغلاق قناة وإيقاف برنامجين في مصر بسبب «مخالفات مهنية»

رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر كرم جبر (الهيئة الوطنية للإعلام)
رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر كرم جبر (الهيئة الوطنية للإعلام)

لم يمرَّ يومان على قرار المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر وقفَ برنامج «شاي بالياسمين» عبر قناة «النهار» لارتكابه «مخالفات مهنية»، حتى أصدر، الخميس، قرارات بإغلاق قناة ووقف برنامجين لمدّة محدّدة على قناتين أخريين.

وأشار المجلس، في بيان، إلى أنّ هذه القرارات «تأتي في ضوء المراجعة الشاملة للبرامج التي تخترق القوانين والأكواد الإعلامية»، لافتاً إلى صدور القرارات بعد التحقيق مع 3 من المسؤولين القانونيين في القنوات المعنيّة.

وتضمنّت القرارات وقف برنامج «تفاصيل» عبر قناة «صدى البلد» لـ3 أشهر، وتغريم القناة 100 ألف جنيه (الدولار يساوي 48.95 جنيه مصري)، لارتكاب مخالفات مهنيّة تتعلّق باستضافة أشخاص يروّجون للإثارة والخوض في السُّمعة الشخصية.

في حين تقرَّر وقف برنامج «صبايا» عبر قناة «هي» لشهرين مع غرامة مقدارها 100 ألف جنيه، وإنذار القناة بعدم الاستمرار في تقديم محتوى يحرّض على انتهاك الحياة الخاصة وتشويه صورة المجتمع، كما قرّر المجلس إغلاق قناة «الصحة والجمال» ومخاطبة مدينة الإنتاج الإعلامي لتنفيذ القرار لعدم حصولها على ترخيص.

في هذا السياق، رأى العميد الأسبق لكلية الإعلام في «جامعة القاهرة»، الدكتور حسن مكاوي، هذه القرارات «تطبيقاً فعلياً للأكواد والمعايير المهنية التي ينبغي التزام جميع القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية ومنصات ومواقع التواصل الاجتماعي الجماهيرية بها».

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «ثمة مجموعة معايير تؤدّي إلى ضبط المشهد الإعلامي، ونحن نحتاج إلى ذلك بشدّة. ربما لم تُطبَّق في أوقات سابقة شهدت خروقاً ومشكلات كثيرة، لكنّ استدراك الأمر وتطبيقها أمران يُحسبان للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وأرجو متابعة جميع القنوات ووسائل الإعلام لأنه السبيل الوحيد لضبط المشهد الإعلامي».

مبنى التلفزيون المصري في ماسبيرو (الهيئة الوطنية للإعلام)

وأكد المجلس حرصه على «تنفيذ القانون واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على القيم والمبادئ التي يضمنها الدستور، وعدم التعرُّض للحياة الخاصة للمواطنين». ووجّه كل وسيلة إعلامية لتعيين مدير للبرامج يكون مسؤولاً عن المحتوى ومتفرغاً لعمله.

بدوره، علَّق عميد الإعلام الأسبق على هذه القرارات بالقول: «بالإضافة إلى دورها في ردع المخالفين ومحاسبة المخطئين، فهي تنطوي أيضاً على حماية المجتمع من القنوات والمنصات والوسائل التي ترتكب تجاوزات»، مشدّداً على أنه «سبق للمجلس الأعلى للإعلام أن نشر الأكواد والقوانين المنظِّمة للعمل الإعلامي بشكل رسمي ومُعتَمد في الجريدة الرسمية لئلا تتذرَّع وسيلة ما بعدم المعرفة».

وأشار بيان المجلس إلى أنه «قانونياً المسؤول عن ضمان استقلال المؤسّسات الصحافية والإعلامية وحيادها وحماية المنافسة، وحقّ المواطن في التمتُّع بإعلام وصحافة حرّة ونزيهة، وكذلك الالتزام بمعايير المهنة وأصولها وأخلاقياتها».

وثمّن المتخصِّص بالإعلام في «جامعة القاهرة»، الدكتور عثمان فكري، قرارات المجلس، قائلاً لـ«الشرق الأوسط» إنها «قد تؤدّي إلى ضبط الأداء الإعلامي المنفلت في بعض البرامج الباحثة عن الإثارة و(الترند)، والبعيدة تماماً عن تقديم أي محتوى مفيد للمتلقّي».

وأضاف: «يجب أن تكون القرارات الصادرة رادعة بحقّ الإعلاميين الذين يتجاوزون أكواد المجلس، ويخرجون على الآداب والأخلاق العامة».

تأتي هذه القرارات بعد يومين من إصدار المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام قراراً بإيقاف برنامج «شاي بالياسمين»، الذي تقدّمه المذيعة المصرية ياسمين الخطيب عبر قناة «النهار» لمدّة 6 أشهر، وتغريمها (الأخيرة) 200 ألف جنيه لثبوت انتهاكها للمعايير المهنية، بعد استضافتها «البلوغر» هدير عبد الرازق التي اشتهرت بمقطع فيديو يتضمّن محتوى فاضحاً. وأشار المجلس، في قرار المنع، إلى أنّ الأكواد الإعلامية تحظر استضافة نماذج وصفها بـ«الفاشلة»، وتتنافى ثقافتها مع ثقافة المجتمع المصري.