كما توقّعنا في المقال الأخير المرسَل من مهرجان «ڤينيسيا»، أُهديت جائزة الأسد الذهبي للمخرج بيدرو ألمادوڤار، عن فيلمه الدرامي «الغرفة المجاورة» (The Room Next Door)، هل وجدت لجنة التحكيم أنه يستحقّها لباعه الطويل، أو لحسنات الفيلم المميّز بموضوع مُعالَج بهدوء وبعاطفة إنسانية؟ هذا لا يمكن البتّ فيه، لكن المحتمل أن تكون الجائزة أُسديت إليه للسببَين معاً.
فيلم إسكندر قبطي «عطلات سعيدة» نال جائزة أفضل سيناريو، الحكاية المؤلَّفة من 5 مقاطع، كلّ منها تروي جانباً من القصّة الواحدة، المضمون هنا غلب الوسيلة؛ كون الفيلم يبحث عن هويّات فلسطينية وإسرائيلية تعيش في حيفا بهويّتين مختلفتين.
مفاجأة
في حين لن يتوجه ألمادوڤار إلى مهرجان تورونتو الذي انطلق في 5 سبتمبر (أيلول) الحالي (قبل يومين من انتهاء دورة «ڤينيسيا» الـ81)، سيُعرض فيلم إسكندر قبطي في المهرجان الكندي جنباً إلى جنب عدد غير قليل من الأفلام التي شهِدت عروضَها العالمية الأولى في المهرجان الإيطالي، بيد أن الغالبية المعروضة في «تورونتو» هي بدورها أفلام تشهد عروضَها الأولى عالمياً، ومن بينها «كسّارات البندق» (Nutcrackers) لديفيد غوردون غرين، (سبق أن عُرض له أفلام سابقة في «ڤينيسيا»)، الذي كان واحداً من 3 أفلام افتتاح في «تورونتو».
كانت هناك مفاجأة بانتظار هذا الفيلم، حين تقدّمت قبل نحو رُبع ساعة من بدء عرضه، مجموعة شابّة إلى مقدّمة الصالة، وأخذت تصيح: «تحيا فلسطين»، لم يكن بطل الفيلم بن ستيلر قد وصل بعد، ولا المخرج، ففاتهما هذا الاستقبال، لكن رجال أمن الصالة سارعوا بعد نحو 5 دقائق، وقادوا الشبان والشابات الكنديين إلى خارج الصالة بسلام.
فيلم غرين (الذي شُوهِد بعد 36 ساعة من افتتاحه في عرض ثانٍ)، يسير على فورميلا معهودة، لكنه يتوصّل لنوع من التجديد في زوايا المواقف التقليدية. وهو يدور حول رجل أعمال من مدينة شيكاغو اسمه مايكل (ستيلر)، ويضطرّ لترك كل شيء وراءه والتوجه إلى بلدة في ولاية إيوا؛ للإشراف على انتقال أولاد شقيقته الراحلة إلى عهدة عائلة أخرى. يسبق ذلك تقديم شخصية مايكل بوصفه رجلاً منهمكاً أكثر ممّا يجب في عمله ببيع العقارات، لا روابط عائلية أو التزامات، هذا تمهيد لإظهار اتساع الهوّة بين ما هو عليه وبين ما ينتظره في إيوا.
مشاكله تبدأ من حين وصوله، عندما يجد أن عليه دفع فواتير كبيرة متأخرة وأضرار تسبّب الأولاد بها، وما أن هضم هذا الموقف حتى فوجئ بأن العائلة التي رغبت في استقبال الأولاد تراجعت وما عادت تريدهم، الآن صار لزاماً عليه البقاء ريثما يجد حلاً، وهذا لن يكون أمراً سهلاً.
هذا هو الموقف الذي سيحاول المخرج تطويعه في كوميديا من أحداث متوقعة، من البداية ندرك أن الرجل سيحاول جهده السيطرة على ما لا يستطيع السيطرة عليه، لكنه مع الوقت سينتقل من هذا الوضع إلى آخَر بات معه محبّاً لأولاد شقيقته، ما يكشف عن أن هذا الرابط سيتدخل لجعله إنساناً مختلفاً.
ممثلة مبدعة
في العروض الأولى شاهدنا الممثلة الرائعة ماريان جان باتيست في «حقائق قاسية» (Hard Truths)، دراما أفضل شأناً من الفيلم السابق، لا عجب في ذلك؛ لأن المخرج ليس سوى البريطاني مايك لي.
ليس أن باتيست تؤدي دوراً ستعشق النساء تقليدها فيه، على العكس هي هنا صورة نموذجية لامرأة متذمّرة لا تثق بأحد، ولا تعفي أحداً من لسانها، عدائية مع المقرَّبين إليها ومع من لا تعرفهم على حدّ سواء، وما احتاج المخرج إليه هو الاعتماد على أداء الممثلة وحده لكي يمنح المشاهد علاقة حب وكره معاً، وباتيست تؤدي الدور وتبعاته وتحوّلاته ببراعتها المعهودة. وكانت ماريان التحقت بأول فيلم حقّقه مايك لي في حياته المهنية، وهو «لحظات قاتمة» (Bleak Moments) قبل 50 عاماً، وظهرت كذلك في عدد من أفلامه اللاحقة، وكانت دوماً لامعة؛ لأنها ممثلة ممتازة صَغُر دورها أو كَبُر.
هذا الفيلم ليس من أفضل أعمال مايك لي، والتوفيق بين معالجته الرقيقة وبين شخصيّته الغاضبة ليس سهلاً، والغالب هو السبب الذي من أجله يغادر المُشاهد الفيلم وهو بين إعجاب وعكسه، وما يساعد المخرج في مهمّته الصّعبة هذه هو توفيره أسباب فهم لبطلته، يمنحها أعذاراً كون الحياة الاجتماعية اللندنية التي تعيشها لم تمنحها خيارات كافية، ناهيك عن سعادة ما، هذا من دون أن يتحوّل الفيلم إلى دراسة اجتماعية، وهذا هو حال كل أفلامه السابقة من النوع نفسه، حيث الشخصيات هي التي تنضح بالأوضاع حتى وإن لم تتحدّث عنها.
مفاتيح البيانو
ما أن يحُطّ المرء في أرجاء مهرجان تورونتو حتى يُدرك الفرق الكبير بين أيّ مهرجان أوروبي وبين هذا المهرجان، فهناك فروقات مهمّة؛ أولها أن تورونتو مدينة حافلة، مثلها مثل أي عاصمة كبيرة، في حين أن كثيراً من المهرجانات الأوروبية تجعلك تعشق أن تكون في عواصمها، وليس في بلدات مترامية على رأس جبل أو بجانب البحر.
كذلك لا يحفل المهرجان بالجوائز، وليس لديه لجنة تحكيم، بل لديه رهط كبير من الأفلام ولتكن أنت الحكم، ومانِح الجائزة التي تريد، لأيّ فيلم أو لأي مخرج أو ممثل أو سيناريست، هذا يمنح الجمهور والنقاد أشياء أخرى للتفكير غير دخول لعبة الاحتمالات، كذلك يمنح المهرجان الحرية في توجيه عروضه في أقسام قليلة ومحدّدة تعمل كما مفاتيح البيانو.
إنه ليس بحاجة إلى سوق للأفلام كما «كان» و«برلين» على الأخص؛ لأنه هو بنفسه مهرجان ما يُعرَض فيه قابلٌ سريعاً للبيع ودخول دهاليز التسويق، وعلى مدى 11 يوماً هناك مئات العروض لأفلام فنية وأخرى جيدة، لكنها موجَّهة للغالبية من المشاهدين.
الفئتان عادةً ما تُقبلان على «تورونتو» طمعاً في أن تجد منفذاً للسوق الأميركية.
هذا لم يَعُد سهلاً كما في السابق، فمنذ عام ولادة وباء «كورونا» تقهقرت سوق الأفلام الفنية، والأجنبية منها على وجه الخصوص، وبعد سنوات التعافي وجدنا أنّ توجّه الجمهور في الولايات المتحدة وكندا (وحول العالم) عمد إلى التهام المتوفر من أفلام (الكوميكس)، ما جعل الأفلام ذات الهموم الاجتماعية أو سواها تتراجع حتى عن النّطاق المحدود لها قبل 2019.
كيف يمكن لمهرجان آخر مواجهة «تورونتو» عندما يعرض هذا الأخير 38 فيلماً ما بين الساعة الثامنة و35 دقيقة والثانية بعد الظهر، ومن ثَمّ مثل هذا العدد في باقي ساعات اليوم، هذا من دون تعداد العروض المعادة.
في الحقيقة واجه المهرجان في العامين السابقين هبوطاً كان لا بدّ له من تجاوزه العام الحالي عبر الإصرار على تميّزه، والسّعي لاستقبال أفلام تجمع بين أنواع وأصناف ومستويات عدّة، فمن يريد سينما الفن لديه الكثير، ومن يريد سينما الترفيه لديه المزيد ما دام أنها ليست ركيكة القوام أو رديئة.
إن تعدُّد العروض ومستوياتها ميزة أخرى في مهرجان يقع في هذه المدينة الحاوية لكل شيء، وبأسعار أرخص من تلك الأوروبية، والصّفوف الطويلة نفسها مع جمهور ضخم ما زال - مثل معظم السنوات السابقة - يمتدّ من باب الدخول إلى جانب المبنى الكبير، ثم يلتف حوله.
أفلام لا تنتهي، وآخرها يُعرض عند منتصف الليل، ولا تنسَ «السينماتِك» الذي يعرض أفلامه الكلاسيكية بحضور «تورونتو» وقبله وبعده، تلك المؤسسة التي تريد أن تجد مَسكناً بالقرب منها لعام أو أكثر.