كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

بقصيدته موقظة المواجع وحفّارة الذكريات رَفَع إلى الغيم

صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)
صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)
TT

كاظم الساهر في بيروت: تكامُل التألُّق

صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)
صوتٌ يتيح التحليق والإبحار والتدفُّق (الشرق الأوسط)

تحضَّرت الهواتف لالتقاط لحظة الدخول المُنتَظرة لكاظم الساهر على وَقْع التصفيق. لم يتأخّر. التاسعة ليل الجمعة، أطلَّ على بيروت مُجنِّباً أحبّته التململ جراء الانتظار؛ وهو عادة فنانين ليس القيصر المُنضبط منهم. لساعتين، سافر بالحاضرين إلى الغيمات وألقاهم في الأعالي. شكَّل الثلاثية المتكاملة: الأداء المُتقَن، والحسّ العميق، وقوة القصيدة.

سافر بالحاضرين إلى الغيمات وألقاهم في الأعالي (الشرق الأوسط)

يحلو له الافتتاح بـ«عيد العشاق»، ووداع مَن هيّصوا له حدَّ بحِّ الحناجر بـ«قولي أحبّك». وما بين البداية والنهاية، نهرٌ من السحر. يحدُث التدفُّق والتحليق في آن. تتدفّق القصائد لتمنح متلقّيها ما يخوّله الارتفاع. لنقُلْ إنهما جناحان افتراضيان لإتاحة الانسلاخ عن أهوال الأرض من أجل التحليق. وهو من قلّةٍ تتيح أيضاً الإبحار. في حفلاته تتحقّق البهجة المثلَّثة: هذا الإبحار، مأخوذاً بالتحليق والتدفُّق. النتيجة حتمية: مُجاوَرة الغيم، والتحلّي بالأجنحة، والتشبُّه بالنهر المأخوذ بالعذوبة المطلقة.

يتحوّل كاظم إلى «كظّومة» في صرخات الأحبّة، وتنفلش على الملامح محبّة الجمهور اللبناني لفنان من الصنف المُقدَّر. وهي محبّةٌ كبرى تُكثّفها المهابة والاحترام. فكاظم الساهر يُهاب بفعل الصوت الشامخ والإحساس العالي والأغنية المُنتقاة مثل الذهب من بين المعادن. والهيبة مردُّها أيضاً أثر القصيدة الراقي. الشِّعر المُختار يُكثّف الهالة ويسمو بمُغنّيه في المراتب، فإذا بالساهر يُعلي الفنّ ويعلو به.

محبّة الجمهور اللبناني كبيرة للفنان المُقدَّر (الشرق الأوسط)

بدا أنّ الهواء تمايل أيضاً على وَقْع الجمال المُغنَّى، فواصل الهبوب على غير عادته في فضاء بيروت في أشهُر الحرّ. يحدُث «فيضُ» مشاعر النساء حين يغنّي لهنّ. ليست الأيدي المرتفعة إلى أقصاها وهي تُلوّح له وتتفاعل مع باقاته وحدها دليل هذا «الفيض» الساطع. وبينما يُغنّي «ليتني أقدر أن أغرق في حضنكِ أكثر»، يُصبن به. يملك قدرة جعلهنّ مُنجرفات، مُستَدعيات، ومُذعنات لما يتفجَّر في الداخل. وقد يمنحهنّ ما يتعذَّر حصولهنّ عليه، ليتيح بالعزاء والعوض غفران تمرُّد الإلحاح حيال ما ليس بالضرورة في المُتناوَل. قصيدته موقظة مواجع، وحفّارة ذكريات. تملك سُلطة، وقد تستبدّ بـ«ضحاياها» وتمارس غواية التنقُّل بين الحالات واحتمال الرسوّ على الجمر المُشتعل في أعماق مُشرَّعة للظروف وأشكال العلاقات.

أداء يبلغ مرتبة الإبهار (الشرق الأوسط)

إنْ شَرِب ماء، صرخت حنجرة أنثوية: «صحّة». لم تبلغه هتافات جميع معجباته. الصوت قدرُه التلاشي في الفضاءات الصاخبة. لكنَّ صوته وهو يغنّي «ليلى» قبض على الأثير. تهدأ الموسيقى ويعمُّ صمتٌ مأخوذ بمدى هذا الصوت العريق وتجلّيات انفلاشه. في تلك اللحظة، يُطرِب المسافرين نحو الغيمات: «خانتكِ عيناك/ في زيف وفي كذب/ أم غرَّكِ البهرج الخدّاع/ مولاتي». صوته فقط. تتنحّى الموسيقى. تستريح الآلات. تكفّ الأنامل عن مَنْح الجمال. صوته في فضاء بيروت، في الأرجاء، يتيح الثلاثية المُتفرِّد بها: التحليق والإبحار والتدفُّق.

تُظهر الشاشات العملاقة بريق عينيه حين يغنّي للراحل كريم العراقي. كأنه يستعيد مشوار وفاء. وبعد 20 عاماً على ولادة «كثُر الحديث»، يشاء الإنصاف. تمهّلت الموسيقى وهو يعلن أنّ كلمة «تحضّري» في القصيدة تعني «استعدّي»، ولا اشتقاق لها من «الحضارة». ذكَّر بحرص الشاعر على مفرداته وانتقائه الدقيق للمعنى. غنّاها كما غنّى «زيديني عشقاً»، و«هل عندكِ شكّ»، و«ها حبيبي»، و«كلّك على بعضك»، بأداء يتجاوز مجرَّد وصوله للجميع، ببلوغه مرتبة الإبهار. لساعتين لم يُقدّم دونه. في كل ما غنّاه كان «الفنان»؛ بالألف واللام وما يؤكّد الموقع.

قدَّم حفلاً يليق به وببيروت الحياة (الشرق الأوسط)

محطّته البيروتية واحدة من محطّات تشملها جولته في العالم بعد ألبومه الجديد. قال إنّ الفنان اللبناني ميشال فاضل وزَّع له 10 من 13 قصيدة، ودعاه للعزف على البيانو وهو يغنّي بعضها لآذان ذوّاقة. سأل صاحب الأنامل المتفوّقة الحضورَ: «هل تحبّون كاظم الساهر؟». حين تعالت الصرخات، وسُمِعت مُعجبة تصدَح «قدّ السما»، مُدركةً أنها وعاء الحبّ وملجأ الآهات المُعلَّقة؛ عقَّب أنه يُحبّه بالحجم نفسه. قدَّما «لليل» و«رقصة عُمر»، وجعلا من آلاف البشر في الواجهة البحرية للمدينة شهوداً على لقاء العظَمتين: الكلمة وهي تتفوّق بهذا الشكل؛ «آه على جرح برعتِ بوشمه/ آه على وجعٍ تركتِ ندوبه/ في كل زاويةٍ عشقتكِ فيها»، أو «مررتِ بصدري وحان البكاء/ فتبّاً لدمعي وهذا اللقاء»، والموسيقى وهي تُمجّد هذا الارتفاع وتُعظّمه.

كاظم الساهر يُهاب بفعل الصوت الشامخ (الشرق الأوسط)

بالحرص على الترويج للجديد، شكّل إرضاءُ الحضور العراقي الكبير همَّه. رسمت وجوهُ التعلُّق بالوطن وهي تستجيب لإيقاع الدبكة في أغنياته. غريبة الأوطان، يستحيل تجنّبها. ولم تُلمَح شرارة العيون بهذا الوهج إلا بما يُذكّر بها ويعيد إليها.

الاستعداد المُتقن لشركة «فنتشر لايف ستايل» بتعاونها مع «فالكون» و«مكس برودكشنز»، شمل حُسن التنظيم ومدَّ الحفل بالإمكانات الضخمة ليليق بالمُغنّي وبيروت الحياة. لا تموت مدينة أبناؤها يفرحون.


مقالات ذات صلة

رحلة أم كلثوم في باريس تثير «إعجاباً وشجناً»

يوميات الشرق أم كلثوم (أرشيفية)

رحلة أم كلثوم في باريس تثير «إعجاباً وشجناً»

تأرجحت مشاعر رواد «السوشيال ميديا» العربية، بعد إذاعة حلقة «أم كلثوم في باريس»، التي قدمها «اليوتيوبر» المصري أحمد الغندور، في برنامجه «الدحيح».

محمد عجم (القاهرة)
يوميات الشرق فريق «كولدبلاي» البريطاني في جولته الموسيقية الأخيرة (إنستغرام)

ألبوم مصنوع من النفايات... «كولدبلاي» يطلق إصداره الجديد

يصدر غداً الألبوم العاشر في مسيرة «كولدبلاي»، الفريق الموسيقي الأكثر جماهيريةً حول العالم. أما ما يميّز الألبوم فإنه مصنوع من نفايات جمعت من أنهار جنوب أميركا.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق النجمة الأميركية سيلينا غوميز (أ.ب)

بعد دخولها نادي المليارديرات... كيف علّقت سيلينا غوميز؟

بعد دخولها نادي المليارديرات... كيف علّقت سيلينا غوميز؟

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق الأوركسترا الملكي البريطاني (هيئة الموسيقى) play-circle 01:33

حفل الأوركسترا السعودي في لندن... احتفاء بالوطن وأرجائه

سرت الأنغام السعودية الآتية من قلب الجزيرة العربية في أرجاء إحدى أعرق قاعات لندن؛ وهي «سنترال ويستمنستر هول» لتطوف بالحاضرين، حاملةً معها روائح الوطن.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ النجمة تايلور سويفت والرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب (أ.ف.ب)

بين تايلور سويفت وترمب... من يتمتع بشعبية أكثر؟

أظهر استطلاع رأي أن عدد الأميركيين الذين ينظرون إلى نجمة البوب تايلور سويفت بشكل إيجابي أقل من أولئك الذي ينظرون بطريقة إيجابية للمرشح الجمهوري دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ملاهٍ وأماكن عرض تتحوَّل ملاجئ نزوح في لبنان

«سكاي بار» أمَّن جميع المستلزمات لحياة كريمة (الشرق الأوسط)
«سكاي بار» أمَّن جميع المستلزمات لحياة كريمة (الشرق الأوسط)
TT

ملاهٍ وأماكن عرض تتحوَّل ملاجئ نزوح في لبنان

«سكاي بار» أمَّن جميع المستلزمات لحياة كريمة (الشرق الأوسط)
«سكاي بار» أمَّن جميع المستلزمات لحياة كريمة (الشرق الأوسط)

لم يتردّد شفيق الخازن، صاحب أشهر محل للسهر في لبنان، «سكاي بار»، بتحويله حضناً دافئاً يستقبل النازحين اللبنانيين من مختلف المناطق.

لم يستطع إلا التعاطُف مع أحد العاملين لديه، عندما رآه يعاني نزوح عائلته وأقاربه، ففتح لهم أبواب محلّه في وسط بيروت، لتكرّ بعدها سبحة الوافدين. عندها، تحوَّل ملهى السهر مأوى لهم؛ دعاهم إلى دخوله من دون شرط.

يقع مبنى «سكاي بار» في وسط العاصمة اللبنانية. وشكّل منذ عام 2003 عنواناً لأفضل أماكن السهر في البلاد. ذاع صيته في الشرق والغرب، وعام 2009، صُنّف واحداً من أماكن السهر الأفضل والأشهر في العالم. تُشرف طبقته العليا، «روف توب»، على منظر عام للمدينة، وهو يتّسع لنحو 2000 شخص. شهد المكان أجمل الحفلات الموسيقية، كما استضاف أشهر لاعبي الموسيقى، «الدي جي»، فأحيوا سهرات قصدها السيّاح الأجانب والمغتربون اللبنانيون. وكان على مَن يرغب في إمضاء ليلة ساهرة فيه، أن يحجز مكاناً قبل أشهر من موعد السهرة.

اليوم تحوّل المبنى، وخصوصاً الطبقة الواقعة تحت «سكاي بار»، مكاناً يؤوي نحو 360 شخصاً. فهذه الطبقة شكّلت أيضاً مكاناً للسهر للشركة نفسها (أدمينز) بعنوان «سْكِن» في موسم الشتاء. ويعلّق شفيق الخازن لـ«الشرق الأوسط»: «جميع نجاحاتي التي حقّقتها في مجال (البزنس) كانت على علاقة مباشرة بلبنان. عندما رأيتُ معاناة الشعب اللبناني، لم أتردّد في فتح المكان أمام النازحين. لقد ساهمت في وضع لبنان على الخريطة العالمية، ولكن لو خُيّرت بين عملي ووطني لاخترتُ الأخير».

«سكاي بار» أمَّن جميع المستلزمات لحياة كريمة (الشرق الأوسط)

لبنان أولاً في أجندة الخازن الذي أمَّن خلال أسبوع جميع مستلزمات الحياة الكريمة لضيوفه: «يواكبني في عملي فريق رائع يتحمّس للعمل الإنساني. استقدمنا كل المستلزمات والحاجات بمبادرات فردية. ولم ننسَ تأمين الاتصال بالإنترنت. وإلى جانب مستلزمات النوم، نؤمّن بشكل يومي الطعام للجميع، من بينهم 160 طفلاً و120 امرأة. نشكّل معاً عائلة واحدة، وسعيد بما أفعله من أجل وطني».

مبادرة الخازن ألهمت كثيرين. وبعد أيام على فتح أبواب «سكاي بار» أمام النازحين، أُعلن عن فتح أماكن ترفيه وتسلية أخرى. فمركز المعارض الفنية، «فوروم دو بيروت»، قرّر القيام بالخطوة عينها. مساحته تتّسع لأكثر من 2000 شخص، سبق أن استضاف المعارض وحفلات الفنانين، وأحدث حفل أقيم في صالته الكبرى أحياه جورج وسوف وآدم ورحمة رياض.

«فوروم دو بيروت» يتّسع لأكثر من 2000 شخص (فيسبوك)

ينضمّ إلى هذا النوع من المبادرات مركز «البيال» في وسط بيروت. فقد أعلن عن نيّته فتح أبوابه للغاية عينها. ومن الأماكن التي ستتحوّل مأوى للنازحين؛ مدينة بيروت الرياضية، المعروفة باسم «مدينة كميل شمعون الرياضية». فقد دُشِّنت عام 1957، وتقع في منطقة الجناح؛ وتعدّ من أهم المنشآت الرياضية في العاصمة. يحتوي هذا المكان على أقسام عدة، إلى جانب الملعب الذي يتّسع لنحو 55 ألف متفرّج. من بين تلك الأقسام، قاعات مؤتمرات ونادٍ صحّي، وغرف لتغيير الملابس، وحمّامات، وغرف اتصالات وغيرها.

المباراة الافتتاحية فيها كانت ودّية ضدّ نادي بترولول الروماني؛ إذ فاز لبنان بهدف مقابل لا شيء، سجّله جوزيف أبو مراد. كان ذلك في افتتاح الدورة العربية الثانية بحضور رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك كميل شمعون وعاهل المملكة العربية السعودية سعود بن عبد العزيز آل سعود، ووفود رسمية من مختلف دول العالم، وشعبية من كافة المناطق اللبنانية.

المدينة الرياضية تستضيف النازحين (فيسبوك)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، يشير وزير الشباب والرياضة الدكتور جورج كلاس إلى أنه، وبالتنسيق مع وزير البيئة ناصر ياسين، جرى الترتيب لهذا الموضوع. ويتابع: «من موقع مسؤولية ياسين رئيساً لهيئة الطوارئ، اقترحنا وضع جميع المنشآت الرياضية بتصرّف الهيئة. اليوم، أصبحت المدينة الرياضية في بيروت جاهزة لاستقبال الضيوف».

ويشدّد كلاس على تسمية النازحين بالضيوف: «لا نعدّهم إلا ضيوفاً مُرحَّباً بهم. حالياً، أجول على منشآت رياضية للوقوف على مدى استيعابها وجهوزيتها لاستقبالهم؛ من بينها (مدينة سمار جبيل) الكشفية. فقد وجدناها صالحة لهذا الهدف الإنساني. وكذلك الملعب الأولمبي في طرابلس الذي سيفتح أبوابه أمام ضيوفنا. جميع تلك الأماكن تتمتّع بمعايير العيش المطلوبة للحفاظ على كرامة ضيوفنا من جميع المناطق اللبنانية».