حين تتزاوج الطبيعة مع الأعمال الفنية، في منطقة جبلية مهابة متجذرة في التاريخ، مثل بلدة حصرون (شمال لبنان) التي تعانق وادي قاديشا المدرج على قائمة «اليونيسكو للتراث العالمي»، يصبح للإبداع معنى آخر.
وفي مبادرة لافتة أعطى القيمون على «فيلا شمعون» التي شُيدت عام 1965 وسط طبيعة خلاّبة ليست بعيدة عن غابة الأرز، وأُعيد افتتاحها قبل سنوات لتكون بيت ضيافة، مكانة خاصة. إذ تستقبل حدائق الفيلا كل صيف، أعمالاً فنية، ويتحوّل المنزل العائلي الأنيق بشرفاته والمساحات المحيطة به، إلى معرض يستمر حتى 2 أكتوبر (تشرين الأول).
روني زيبارا القيم على «فيلا شمعون» هو الذي بادر بإطلاق «قاديشا»، قبل ثلاث سنوات، بهدف تعزيز المناقشات في الدور الذي يؤديه الفن المعاصر في عالمنا المعقد اليوم، حين يُتاح له الوجود وسط المناظر الطبيعية المليئة بالهدوء والإلهام شمال لبنان.
وكمن يضرب أكثر من هدف بحجر واحد، يصبح من يقصد حصرون القريبة من بشرّي، بلدة جبران خليل جبران، ببيوتها الحجرية القديمة الشامخة وقرميدها الأحمر، وموقعها الخلّاب على وادي قاديشا بمغاور نُسّاكه المغرقة في التاريخ، وروائح بخوره، قادراً على اكتشاف الأعمال الفنية في بيئة استثنائية.
يقام المعرض تحت عنوان «مشاوير»، ويأتي ضمن فعاليات «قاديشا»، برؤية القيّمة رانيا طبّارة التي ترى أن الصدى في الوادي المجاور بمهابته يعكس إرث جبران خليل جبران، ويعزز تبادل الأفكار. يقدّم هذا المعرض حواراً تعدّدياً بين الفنانين اللبنانيين والآتين من الخارج، بحيث تُبرز الأعمال رؤاهم المختلفة، وهم يتشاركون، حسب طبارة، «تلك العلاقة الحميمة مع الطبيعة، وحساسيتهم اتجاهها وتجاربهم معها».
هذه السنة يعرض كل من دانيل راي، وسمر مغربل، وهادي سي، وغسان زرد، 17 عملاً، ولكلٍّ منهم روحه وهمومه.
على مدخل الفيلا الفسيح يستقبل الزائرون تجهيز الفنان غسان زرد، المكون من جذوع أشجار، جاء بها النحات من حديقة عائلته بعد أن فقدت الحياة. بينها شجرة زيتون «حاولنا جاهدين إحياءها، لكن دون جدوى، ففكرتُ بإعادة الحياة إليها على طريقتي». عمل زرد، إذن، يتشكل من جذوع أشجار مختلفة الأنواع أدخَل عليها آذاناً معدنية كبيرة ليضفي على العمل روحاً طفولية. «أحب أن أُبقي هذه الطّرافة في أعمالي. أدخلت المعدن على الجذوع، كأنه الفطر الذي ينبت على الشجر في الشتاء، ويمكن أن ترونها صحوناً أو آذاناً صاغية لكم، تهمسون بها بما تريدون، لينتقل الكلام إلى مكان آخر». يرى زرد تجهيزه شبيهاً بـ«الغابة السحرية». الجذوع عالجها بطبقة خاصة، لتصمد أمام تغيّرات الطقس، وثمة جذع ضخم قرّر أن يضعه منفرداً، بشكل أفقي، في إحدى باحات الفيلا ليكتسب روحاً مختلفة. وفي مكان آخر، وزّع زرد سلاحفه الملونة التي يعمل عليها منذ أكثر من عشر سنوات. «عملت في البدء 70 سلحفاة تحت عنوان سفر. وهنا نسخة جديدة وُضعت خصيصاً لهذا المعرض تحت عنوان مشابه هو (مشوار). وأتخيّل أن هذه السلاحف جاءت من الوادي القريب لتستقر هنا. وللمصادفة فقد وجدت سلحفاة حقيقية تمرّ بقربهم، وكان هذا لطيفاً، خصوصاً أن ثمة مَن التقط صورة في تلك اللحظة».
الفنان هادي سي، الذي عرض من فترة قريبة في بيروت، سنغالي الأب، لبناني الأم، فرنسي الجنسية، عمِلَ في نيويورك. تعدديته، جعلت أعماله مثيرة للفضول. يقول إنه لا يقبل عادةً أن يشارك في عروض بفنادق، لكن الفكرة أغرته، والموقع الجغرافي سحره، عدا أنه حريص على الاستجابة لكل ما يجعل لبنان أجمل. اختار سي أربع منحوتات، من بين خمسين أخرى، كانت قد عُرضت مؤخراً في غاليري «صالح بركات» في بيروت. «هو مشروع أعمل عليه منذ سبع سنوات قائم، على الأرقام التي أصبحت تحكم حياتنا كلها بقسوة وميكانيكية. التحدي الأكبر بالنسبة لي هو أنسنة هذه الأرقام». العمل الفني الأول خريطة لبنان محاطة بأرقام لها دلالاتها بالنسبة للبنان. وهكذا هو العمل الفني الثاني المشكّل من أرقام مساحة لبنان بالكيلومتر المربع 10452 وعمل آخر يتشكل من الأرقام نفسها لكن العربية. أما العمل الأخير فهو مكون من صفر وواحد، ويمكن أن يكون رجلاً وامرأة أو «ين، يان»، بكل ما يعني ذلك من تداخل، وتوازن، في المفهوم الصيني.
ربما العمل الأكثر إثارة للفضول في موسم هذا الصيف من «مشاوير» هو الذي أنجزه الفنان الفنزويلي المقيم في بريطانيا دانيل راي. فقد استخدم مسبح «فيلا شمعون»، ليرسم على قاعه لوحة كبيرة بحجم حمام السباحة هي عبارة عن سبّاح مُحاط بعناصر مختلفة من الأدوات الرياضية المائية من ملابس السباحة ونظّارات واقية إلى عين منفردة مخيفة. بالنسبة لراي فإن المسبح حين يدخله العنصر الفني، يتجاوز دوره التقليدي بوصفه مساحةً ترفيهيّة أو رياضيّة ليصبح ملاذاً، وبوابةً تسمح لنا بالهروب من الأوقات الصاخبة والمتقلّبة. يقول راي: «كنت أشارك في مسابقات السباحة. ومن تجربتي لاحظت أنّ اللحظات التي نسترخي فيها في المسبح تفتح لنا أبواب الذكريات والحلم والعودة إلى الوراء. لهذا فإن العمل هو دعوة لعيش تجربة السباحة بطريقة مختلفة، بوصفها فرصة للهروب من الواقع.
كل سنة لهذا المسبح فنان يعنى بإعطائه طابعاً جديداً. فقد أطلقت رنا سلام النسخة الأولى، أمّا النسخة الثانية، العام الماضي فكانت من توقيع فنان كندي مقيم في لندن هو أوين غرانت إيناس. وهذا العام، العمل الفني في المسبح من توقيع دانيل راي.
في ركن خاص من الحديقة الخلفية للفيلا، عرضت الفنانة التشكيلية اللبنانية سمر مغربل، ثلاثة أعمال تجريدية تحت عنوان «منحوتات لا تحتمل خفتها». والاسم دالٌّ، إذ إنها من مواد مختلفة، من الطين أو الفلين لا يهم، فهي تتعاطى مع المادة، تبعاً للظرف. تتحدّث عن الانسجام الكامن بين قوى العالم المادي الأساسية والسعي الفني للأشكال التجريدية التي تحترم حدودها وتتحداها في آنٍ معاً. «إنها أعمال تتأقلم مع الصعوبات التي نعيشها من انقطاع الكهرباء إلى أزمة التنقل، وتقلبات الظروف». 17 عملاً فنياً في أجواء جبلية هادئة حدّ النسك، تنتظر زائريها هناك في أعالي القمم الشّمالية، في مكان هو نفسه عمل فني يستحق الزيارة.