«شو يا قشطة» مسرحية في بيروت لدسّ الملح في الجرح

التحرُّش ممنوع السكوت عنه وإلحاقه بالمُبرَّر والذريعة

الممثلات في أقفاصهنّ قبل الخروج لإعلان الرفض (الشرق الأوسط)
الممثلات في أقفاصهنّ قبل الخروج لإعلان الرفض (الشرق الأوسط)
TT

«شو يا قشطة» مسرحية في بيروت لدسّ الملح في الجرح

الممثلات في أقفاصهنّ قبل الخروج لإعلان الرفض (الشرق الأوسط)
الممثلات في أقفاصهنّ قبل الخروج لإعلان الرفض (الشرق الأوسط)

تحوّلت مُجسّمات تُشبه الصندوق، محاطةً بأضواء يمكن التحكّم بها، لتطويعها بين النور والعتمة، إلى ما يشبه الأقفاص. فيها تؤدّي ممثلات مسرحية «شو يا قشطة» أدوارهنّ المؤثّرة. يظلّ الصندوق رفيق نصّ مُحاك بالإبرة والخيط (كتابة وفاء حلاوي ورياض شيرازي)؛ يمرّ على الإشكالية بجرأة ومسؤولية. نصٌّ بصوتٍ عالٍ ولغة متمكّنة، يوقظ الصوت الآخر المُختنِق، أو المُصادَر، أو المُجبَر على السكوت لجهوزية التصنيف الاجتماعي، وانقضاضه فوراً على المرأة، لتحميلها الذنب والتهمة ولاعدالة العقاب.

ممثلات مسرحية «شو يا قشطة» يؤدّين أدوارهنّ المؤثّرة (الجهة المنظّمة)

في بيروت، لا يزال ثمة مسرح يُمرّر الوعي برتبة فنّية. مسرح يَقِظ، مثقّف، مهموم بقضايا الإنسان. يتجاوز الهمس إلى الصرخة، والتحايُل إلى تصويب الإصبع مباشرة على الجرح. هكذا هو «مسرح مونو»، مقدّماً عرضاً بطلاته 4 نساء، ونصّ، وإخراج (رياض شيرازي)، وواقع حمَّال أوجه، رخو حين يتعلّق بإنصاف المرأة.

مقاربة إشكالية التحرُّش تتّخذ هنا قالبها، وتُحدِث التماهي، والأهم، تُحذِّر، وتستبق الأحداث، وتمنح متلقّيها قوّة الردع. تتعامل مع الوعي بالدرجة الأولى، فحين تُحفّزه، وتُنهضه من سباته، وتُلحِقه بالواقع، تقطع نصف الطريق حيال التمادي المعزَّز بمرارة الإفلات من العقاب وهزلية القانون.

الممثلات الأربع اختزالات لقصص حدثت وآلام معاشة: سنتيا كرم، سلمى شلبي، وفاء حلاوي، وكايتي يونس؛ أداء ماهر وتلبُّس مقنع للأدوار ومؤثّر للحالة. تملك المسرحية (إنتاج ميشيل فينيانوس ووفاء حلاوي) ما يكفي من الملح لرشّه على الجرح رفضاً لتسكينه واللفّ حوله على طريقة الترقيع والطبطبة. مسائل منها العلاقة الزوجية حين تُحوّل المرأة إلى «شيء» (Object)، والخيبة، والتحطيم... تُقاربها سلمى شلبي بوجع الداخل المُهشَّم والكيل الطافح. أمام سنتيا كرم بدور المُعالِجة، تَحدُث اعترافات، فيُقال ما لا يجرؤ كثيرون على قوله خوفاً من الضريبة. لكلّ ممثلة قصة، والقصص مرايا. لا مفرّ من أن يلمح المرء نفسه، وإنْ تراءى الشكلُ ظلاً أو طيفاً أو خيالات مارَّة. لا التواء ولا مواربة، بل الأشياء بأسمائها، والإشارة إلى الفعل لا ترضى بأقل من حجمه الطبيعي: «التحرّش جريمة، وهو ليس ما يقتصر على اللمس، بل اللفظ والنظرة والغمزة، وكل ما لا تريده المرأة ويحصل رغماً عنها».

في بيروت لا يزال ثمة مسرح يُمرّر الوعي برتبة فنّية (الجهة المنظّمة)

تُعرّي كايتي يونس، بتميُّز أدائي، القانون اللبناني الفضفاض حيال لجم المتحرّش وعقابه. يبدو المشهد كاريكاتورياً، وهو يُبيّن ثقوبه ويفكك بؤسه. بحضور رئيسة «الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية» كلودين عون، التي شدّدت ميشيل فينيانوس على دورها في مَنْح النصّ «شرعية قانونية»، بعدما سجَّلت «عدم استجابة من جمعيات نسائية جرى التواصل معها من دون تلقّي ردّ»؛ مُلمِحةً، عبر مشهد في المسرحية، إلى «فشل» الثورة حين تهبُّ الحماسات في البداية، ثم تخفت، ولا تبقى في الساحة قبضةٌ مرفوعة.

ميشيل فينيانوس وجهدُ الإضاءة على الوجع (الجهة المنظّمة)

تُطرح علاقة المرأة بجسدها بجانبها التثقيفيّ، فلا يغدو هذا الجسد حبساً، ولا عقاباً، ولا حِملاً يُثقله القهر الاجتماعي، بل يَحدُث التصالح والتقبُّل واللملمة، بعد التشظّي، والدهس، والاستباحة. تتحقّق مواجهة المُغتصِب بجريمته، من دون أن يظهر رجلٌ بدورٍ مكتوبٍ على الخشبة. الرجل حاضر بكثافة، وإن لم يتجلَّ بجسد. يُواجَه، يوضع أمام الفعل - الجريمة، ويُنزَع عنه الستر، ليقف بفجاجة أمام الخراب الذي أحدث، والعطب التي ارتكب، حين اغتصب طفلة -وهو خالُها- وسلبها الأحلام والثقة بالذات والآخر، وإمكان أن تحبّ وتتقبّل الحبّ.

يتساقط المطر وتُفتح الشماسي لتردع شيئاً من وَقْعه البارد وهبوطه المثير للشوق. يستيقظ وحشٌ في داخل النساء، يرفض أن يُقتَل ليحلّ مكانه نموذج الوداعة والطاعة والرضوخ. تتراءى سلسلة شديدة الاتصال، تبدأ بالتربية الأولى حين يُدرَّب الطفل على تقبيل الآخرين من باب اللطافة، وتستمرّ بالنشأة حين يبني الأهل جدراناً تهدُم المصارحة لينمو الخوف. وتتواصل بالزواج المُحطِّم ومحو المرأة، إلى ما لا نهاية حلقاته المتعلّقة بالشارع والأمان المقتول، وبسيارات الأجرة، والأماكن المجهولة والمواعيد المشبوهة، وبيئة العمل واشتراط التنازُل، ونيل الفرص بحجم الاستعداد لدفع الثمن.

رياض شيرازي شارك في الكتابة وأخرج عملاً قيّماً (الجهة المنظّمة)

الممثلات في أقفاصهنّ - أقدارهنّ المكتوبة، يخرجن في اللحظة الأخيرة لإعلان الرفض. السكوت مرفوض، والتواطؤ، والتستُّر، وتحويل اللاعادي إلى عادي. ولا تمرير اللكمات بذريعة «المزاح»، والتنمُّر المبطَّن، والسخرية من أجساد النساء بعد الإنجاب، ونبذها، وزجِّها في إطار. ولا الذنب وقسوة معاقبة الذات لأنّ الآخرين أخطأوا وصوَّبوا الخطأ في الاتجاه المعاكس. النهاية إدانة لكل ما يُحدِث إهماله ضرراً هائلاً وخسائر لا تعوَّض. والمسرحية عزاء للناجيات وتحية لشجاعة المُجاهَرة بالمحظور.


مقالات ذات صلة

ريهام عبد الغفور تُحيي الذكرى الأولى لوفاة والدها بمشاعر الفقد

يوميات الشرق ريهام عبد الغفور مع والدها الفنان الراحل أشرف عبد الغفور (إنستغرام)

ريهام عبد الغفور تُحيي الذكرى الأولى لوفاة والدها بمشاعر الفقد

أحيت الفنانة المصرية ريهام عبد الغفور، الذكرى الأولى لرحيل والدها الفنان أشرف عبد الغفور، الذي رحل عن عالمنا في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2023، بكلمات مؤثرة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق أبطال أحد العروض المسرحية ضمن فعاليات مهرجان المسرح الكوميدي في بنغازي (وال)

بنغازي الليبية تبحث عن الضحكة الغائبة منذ 12 عاماً

بعد انقطاع 12 عاماً، عادت مدينة بنغازي (شرق ليبيا) للبحث عن الضحكة، عبر احتضان دورة جديدة من مهرجان المسرح الكوميدي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من العرض المسرحي (دار الأوبرا المصرية)

«رماد من زمن الفتونة» يُظهر قوة المرأة في مواجهة الضغوط

عبر تصميمات وتابلوهات حركية مبتكرة تحمل صبغة درامية شعبية وتاريخية، تستعيد مسرحية «رماد من زمن الفتونة» حقبة مميزة من التاريخ المصري.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق تدريبات منوعة على الأداء الفني (مسرح زقاق)

«زقاق» ينظم ورش عمل فنية لإحياء الدور الثقافي في زمن الحرب

كان من المفروض أن تحتفل خشبة «زقاق» بعيد تأسيسها الـ18 هذه السنة؛ ولكن مع نشوب الحرب في لبنان قرّرت تأجيلها بعد عام كامل من التحضير لها.

فيفيان حداد (بيروت)
يوميات الشرق مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

«مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس، موسيقى ونغمات وأمل».

فاطمة عبد الله (بيروت)

افتتاح باهر لـ«البحر الأحمر» السينمائي في جدة

النجمان السينمائيان مايكل دوغلاس وكاثرين زيتا جونز في افتتاح مهرجان جدة وفي الإطار جمانة الراشد وسبايك لي وشيفاني بانديا مالهوترا (تصوير عمار عبد ربه وبشير صالح)
النجمان السينمائيان مايكل دوغلاس وكاثرين زيتا جونز في افتتاح مهرجان جدة وفي الإطار جمانة الراشد وسبايك لي وشيفاني بانديا مالهوترا (تصوير عمار عبد ربه وبشير صالح)
TT

افتتاح باهر لـ«البحر الأحمر» السينمائي في جدة

النجمان السينمائيان مايكل دوغلاس وكاثرين زيتا جونز في افتتاح مهرجان جدة وفي الإطار جمانة الراشد وسبايك لي وشيفاني بانديا مالهوترا (تصوير عمار عبد ربه وبشير صالح)
النجمان السينمائيان مايكل دوغلاس وكاثرين زيتا جونز في افتتاح مهرجان جدة وفي الإطار جمانة الراشد وسبايك لي وشيفاني بانديا مالهوترا (تصوير عمار عبد ربه وبشير صالح)

في أجواء احتفالية باهرة، افتتحت الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، أمس (الخميس)، على ضفاف بحيرة الأربعين في «ميدان الثقافة» الواقع في قلب جدة التاريخية المدرجة ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي.

وعاد المهرجان تحت شعار «للسينما بيت جديد»، إلى المنطقة العريقة التي احتضنت دورته الأولى، ليؤكد التزامه إحياء التراث الثقافي وتعزيز مكانة جدة مركزاً ثقافياً وفنياً عالمياً.

وشهد حفل الافتتاح عرض الفيلم المصري «ضي»، الذي يروي قصة الطفل النوبي ألبينو البالغ من العمر 14 عاماً، ويتمتع بصوت استثنائي. وتضمنت ليلة الافتتاح تكريم عدد من أبرز نجوم السينما العالمية والعربية تقديراً لمسيرتهم الفنية المميزة. كما كشف المهرجان عن أسماء متحدثين إضافيين، سيشاركون في الجلسات الحوارية، وكذلك عن تكريم خاص للممثلة الأميركية الحائزة جائزة الأوسكار فيولا ديفيس، وذلك خلال حفل توزيع الجوائز في 12 ديسمبر (كانون الأول).

اقرأ أيضاً