عُرِف عن قاطني الجزيرة العربية منذ البدء، جودهم وكرمهم وشغفهم بمساعدة الآخرين رغم الظروف وشحّ الموارد في كثير من الأزمنة. وسجّل التاريخ في هذا السياق شخصيات عدّة من جميع أنحاء الجزيرة تميّزوا بفعل الخير في إطار العمل الفردي، حتى غيَّر مؤسِّس الدولة السعودية الملك عبد العزيز ما كان عليه مفهوم العمل الإنساني، إلى مؤسّسات اجتماعية ضمن هيكل ونظام يضمنان استمراريتها.
ودعم الملك القطاع غير الربحي ضمن الكيانات المؤسَّسية في وقت مبكر من تأسيس الدولة، وأصدر في عام 1928 نظاماً لتوزيع الصدقات والإعانات يُحدّد أهداف الرعاية الاجتماعية ومجالاتها. وبعد هذا القرار بعام، أُسِّست لجنة خيرية في مكة المكرَّمة باسم «لجنة الصدقات العليا»، لتنظيم عملية جمع الصدقات والزكاة من الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، ومن ثَمّ توالت هذه الجمعيات ضمن أنماط وأعمال مختلفة.
وفي عام 1951، أسَّست مجموعة من أعيان مكة أول «جمعية بِرّ» في السعودية باسم «هيئة صندوق البِرّ» لخدمة الفقراء المقيمين داخل حدود الحرم؛ اتّخذت لاحقاً اسم «جمعية البِرّ بمكة المكرَّمة»، وتعمل ضمن مسارات، منها برامج التأهيل والتمكين، والبرامج الموسمية (تشمل إطعام حاج)، وبرامج المساعدات الدائمة، وبرامج الحاجات اليومية، بالإضافة إلى خدمة زوّار بيت الله الحرام.
تاريخ بدايات العملَيْن المجتمعي والإنساني، اجتمع تحت قبّة المعرض الإثرائي الذي أطلقته «جمعية البِرّ»، بعنوان «بِرُكُم... التاريخ والمكانة»، المُقام في «أبراج الساعة» بجوار الحرم المكّي الشريف، وبالشراكة مع جامعة أم القرى، وكرسي الملك سلمان، وسدنة الكعبة المشرَّفة.
يرصد المعرض في محطاته الخمس شواهد لأعمال البِّر في مكة ضمن توثيق تاريخي لأكثر من 75 عاماً في خدمة المجتمع. كذلك يروي بدايات العملَيْن الخيري والإنساني منذ العهد السعودي الأول، حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وكيف تطوَّر على مدار عقود، وتوسَّعت إسهاماته في المجتمع.
في هذا السياق، قال رئيس مجلس إدارة الجمعية المهندس هشام شلي إنّ فكرة المعرض مردُّها «رصد تطوّر مسيرة أعمال البِر في السعودية، انطلاقاً من مواقف تاريخية للمؤسِّس، مروراً بملوكها حتى عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، إذ تروي كل محطة أبرز ملامح دعم القطاع الثالث غير الربحي منذ التأسيس إلى اليوم».
ويضمّ المعرض وثائق نادرة تتضمّن معلومات قيِّمة، بينها إنشاء أول جمعية في المملكة. وتابع شلي أنه يستهدف زوّار بيت الحرام، تعزيزاً لبرنامج خدمة ضيوف الرحمن لإثراء تجربتهم الثقافية. كما يقدّم صوراً نادرة ومميّزة لمكة المكرَّمة بمشاركة جامعة أم القرى ممثَّلةً بكرسي الملك سلمان، وأيضاً دراسات تاريخ مكة، وحكاية التطوُّر في كسوة الكعبة.
المعرض حالة فريدة لفهم التجربة السعودية في العملَيْن الاجتماعي والإنساني، وكيف نمت وتطوّرت خلال مسيرة تجاوزت 96 عاماً، نجح فيها هذا المشروع في تقديم العون من خلال منظّمات غير ربحية، تجاوزت في عهد الملك سلمان نحو 4656 منظّمة، بينما تجاوز عدد المتطوّعين هذا العام 113 ألفاً في مختلف المجالات، وأكثر من 4 ملايين ساعة تطوّعية، و43 ألف فرصة للتطوُّع.
هذه القصة الكاملة يتأمّلها الزائر بالوثائق والأرقام من البدايات وحتى عصر تولّي الحكومة تنمية قطاع تحوَّل قوّة اقتصادية غير ربحية على أرض الواقع، بإشراف المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، الذي ينظّم دور هذه المنظّمات ويُفعّله، بما يتناغم مع طبيعة المجتمع السعودي المبادِر في تقديم العمل الخيري ضمن إطار التكافل والتراحم.