«فصول من يوميات الأزمنة الراهنة»: قصص لبنان ورحلاته التاريخية

نديم كرم عاشق بيروت يُقيم معرضاً لتفريغ المكنونات

لوحات نديم كرم تكرّس وفاءه لبيروت (الشرق الأوسط)
لوحات نديم كرم تكرّس وفاءه لبيروت (الشرق الأوسط)
TT

«فصول من يوميات الأزمنة الراهنة»: قصص لبنان ورحلاته التاريخية

لوحات نديم كرم تكرّس وفاءه لبيروت (الشرق الأوسط)
لوحات نديم كرم تكرّس وفاءه لبيروت (الشرق الأوسط)

نديم كرم فنان ورسّام ونحّات ومعماري لبناني، يدمج في أعماله الفنية خلفيته في الهندسة المعمارية، فتولد مشاريع حضارية من فَلْش ريشته ومنحوتاته في فضاءات خارجة عن المألوف. لوحاته مثل رحّالة تجوب البلدان، ينقُل فيها قصصاً إنسانية، وأخرى تحمل أبعاداً اجتماعية وسياسية. في مصنع «أبرويان» بمنطقة برج حمود، أطلق معرضه للرسم «فصول من يوميات الأزمنة الراهنة».

يتألّف من 5 أقسام تعكس شغفه الفني، وتحمل رؤيته لحقبات تاريخية تسابق فيها مع الزمن، فباتت بمثابة أعمال مسرحية تصحّ شخصياتها وموضوعاتها لكل عصر.

مثل كتاب تاريخ، يُقلّب زائر المعرض صفحاته، فتأخذنا الأقسام في رحلة ذكريات.

يربط نديم كرم الأزمنة التي يمرّ عليها في معرضه بأحداث المنطقة (الشرق الأوسط)

يُبحر في أزمنة لبنان منذ حرب 2006، مروراً بجائحة «كورونا»، ووصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت. دموع ثقيلة ومجبولة بالدم حيناً، وبالأمل أحياناً؛ يرسمها نديم كرم بأسلوبه السوريالي، ويغوص معها مُشاهدها في عالم من الإبداع يبهر العين ويفرض صمتاً لا يأتي بنتيجة حِداد وحزن عميق نستشفّه من أزمنة عاشها اللبناني ولا يزال. فلوحات كرم لا تخلو من رسوم ورموز منمنمة، وزّعها على مساحات مصنع «أبرويان» الشاسعة في خدمة أفكاره. وهو ما يُلزم الزائر الغوص فيها ليُحلّل ويفكر.

ينطلق المعرض من قسم «التمهيد»، فنشهد تكوين أفكار الفنان التأسيسية لبقية أقسامه، ومنها نتنقل بين أخرى يُفهَم مضمونها من عنوانها: «السرب القديم»، و«ذارف الدموع»، و«أفكار متمدّدة»، و«العيش في آخر الزمان».

عند المدخل الرئيسي للمصنع، تنتصب منحوتة خشبية ضخمة تُصوّر دموع اللبناني العملاقة، فتستوقفك في بداية الزيارة ونهايتها. صراخها الصامت والموجع الذي حاكه كرم بأسلوبه الانسيابي، يُنبئ بطريق طويلة وشاقّة، قد تغسلها هذه الدموع ليُشرق غدٌ أفضل، وقد تُشكّل تجسيداً لمعاناة لا يزال ينتظرنا منها الكثير.

تقنية الفنان تتراوح بين الألوان المائية وقلم الرصاص والفحم والـ«غليتر»؛ يضعها على الورق أو الخشب، وضمن فيديوهات مسجَّلة. وفي كل مرّة استعان بها، أخبر مُشاهدها قصة حدث كبير استشفَّه عبر 30 عاماً من شغف المهنة.

معرض «فصول من يوميات الأزمنة الراهنة» يستمر حتى 2 مايو (الشرق الأوسط)

لماذا يُقدِم على مبادرة فنية ضخمة بهذا الحجم؟ يوضح لـ«الشرق الأوسط»: «لأنّ اللبناني يحتاج إلى متنفّس للأمل والفن والثقافة. كما أنّ بيروت تستحق مبادرات من هذا النوع تُوسّع آفاقها وتعيد إليها دورها الريادي».

تُكمل الزيارة، فتلاحظ تغييرات تشهدها شخصيات كرم. مرحلة التأسيس في قسم «التمهيد» تأخذ أبعاداً مختلفة، منها ما صوّرها بدايةً ظلالاً وأشباحاً، لتبدو ناضجة في مراحل متقدّمة من المعرض. وقد وضعها في قوالب لمّاعة مرات، أو تطوف على ألواح خشبية مرات ثانية، فتروي نزوحها من حقبة إلى أخرى.

وفي أحد الأقسام، تستوقفك مجموعة لوحات منمنمة تتناول انفجار المرفأ وتداعياته في ذاكرة اللبناني. يشرح الفنان: «هنا صوّرتُ أهراءات القمح في حقيبة يحملها اللبناني معه أينما ذهب. إنه حدث يسكننا، حُفِر في نفوسنا وقلوبنا».

منذ التسعينات، اشتهر نديم كرم بمنحوتاته الحديدية التي تأخذ أشكال كائنات وأشخاص مختلفة. يومها، وزّعها على جسور بيروت وساحاتها بأساليب مختلفة. أحدث تلك المنحوتات، «الإيماءة» المشهورة باسم «مارد من الرماد». فجسَّد فيها الألم الذي خلّفه عند اللبنانيين، والأمل الذي يُظهر إرادة شعب حديدي يتمسّك بالحياة والعدالة.

لا تغيب منحوتاته الحديدية المشهور بها عن لوحاته الفنية، فيستخدمها رموزاً لسرد تفاصيل قصة. يعلّق: «ترافقني دائماً وتُحلّق في سماء لوحاتي لتزوّدها بأبعاد فكرية وثقافية».

شخصيات نديم كرم في لوحاته، شعوبٌ رحالة نقل حالاتها من مَشاهد الحياة. فمعارضه الكثيرة في براغ، ودبي، وبيروت، وملبورن، وغيرها، شكّلت انطلاقة لقراءة مشواره: «أتحدّثُ في هذا المعرض عن زمن نعيشه يومياً. مشوار طويل خضتُه، هو اليوم على طريق الاكتمال. إنها أزمنة مختلفة مررتُ عليها لأعبّر عن مشاعري وأفكاري، قرأتْها منسِّقة المعرض نايلة تمرز بدقة لتزوّدها بتنظيم يوثّق هذه الأزمنة».

إحدى لوحاته التي يصوّر فيها انفجار المدينة (الشرق الأوسط)

التاريخ يلعب دوراً رئيسياً في معرض كرم، فيحمل كائناته وشخصياته عبر صفحاته لتتنقل بين حقباته. يلاحظ زائره تسلسل أفكار يؤلّف قصة محبوكة بولع المهنة، فيلحق به باحثاً عن نهاية طريق مجهولة، متسائلاً إلى أين ستُودي به؟

وفي حقبة أخرى تمتدّ بين 2006 و2009، تطلّ لوحات فنية تطغى عليها ألوان برّاقة استخدم فيها الـ«غليتر» لترجمة فكرتها: «تمدّنا بالغموض وبواقع مؤلم يحمل الألم في الوقت عينه. فرغم حضور معابر الحرب، والصواريخ المدفعية، ودخان القذائف، تبرُز الوردة والقلب. وفي هذه المجموعة التي سميتُها (الغيمة والدخان)، بينتُ تناقضاً نعيشه، ولكنه لا يفقد الرجاء».

بين الأمل والمعاناة تُطلق شخصياته مشاعر مكبوتة (الشرق الأوسط)

حتى الألوان يشير فيها إلى أزمنة حمراء بفعل حروب دامية، وأخرى خضراء تختلجها الأحلام الكبيرة، وتشعّ فرحاً.

يرى كرم أنّ الكبت يسود مشاعر اللبناني، فأراد في معرضه تفجيره والتخلُّص من ذيوله: «علينا التعبير عن حالاتنا اليائسة الممزوجة بالأمل. عشقي لبيروت دفعني لإقامة معرض ليُفرِّغ زائره مكنوناته».

يربط نديم كرم الأزمنة التي يمرّ عليها في معرضه بأحداث المنطقة اليوم: «اللوحات يمكن ربطها بالماضي والحاضر، بينها ما يذكّرنا بنار غزة وجنوب لبنان، مع أنّ تاريخ تنفيذها يعود إلى عام 2006 حتى 2009. فبعد 20 عاماً، لا نزال نعيش المعاناة عينها. أنا وتلك الأزمنة نؤلّف عالماً واحداً، أعبّر فيه عمّا يحدث اليوم ضمن قصص صغيرة».

وفي «أفكار متمدّدة»، يُحلّق في عالم الفكر بامتياز، مُستخدماً طبقات فنية للتعبير عن تمدُّد الفكر إيجابياً وسلبياً. تحمل شخصياته أفكارها الكثيفة كشجرة مرات، وكجذور مترسخة في الأرض مرات أخرى.

أما في قسم «ذارف الدموع»، فيعبّر كرم عن شاهد من أهله يبكي الإنسانية بحرقة، مما يذكّرنا بلوحة بول كلي «لوم أولارم»، والنظرة إلى أطلال تاريخ يبكي المذابح التي شاهدها بأُمّ العين.

وضمن القسم الأخير من المعرض المستمرّ حتى 2 مايو (أيار) المقبل، تلفتنا لوحتان لانفجار بيروت يقول كرم إنه لم يستطع إنجاز أكثر منهما لتأثّره بالمشهد. وفي لوحة ثالثة مليئة برسوم صغيرة لا يمكننا فهم معانيها بمجملها، يحكي عن مرحلة الانعزال خلال الجائحة.


مقالات ذات صلة

السعودية على درب التحضير لـ«إكسبو 2030»

إعلام الموضوع العام الذي سينعقد «إكسبو الرياض 2030» على ضوئه يحمل رؤية المملكة وهو «تخيل الغدّ» (موقع إكسبو الرياض 2030)

السعودية على درب التحضير لـ«إكسبو 2030»

السعودية تعرض بمناسبة الجمعية العمومية للمكتب الدولي للمعارض التقدم الذي أحرزته في تحضير «إكسبو 2030».

ميشال أبونجم (إيسي لي مولينو: باريس)
يوميات الشرق ملتقى الأقصر الدولي للتصوير (إدارة الملتقى)

ملتقى الأقصر الدولي للتصوير يتفاعل مع روح المدينة القديمة

مع انطلاق فعاليات الدورة الـ17 من «ملتقى الأقصر الدولي للتصوير» في مصر، الاثنين، بدأ الفنانون المشاركون في التفاعل مع فضاء مدينة الأقصر.

منى أبو النصر (القاهرة )
يوميات الشرق شخوص اللوحات تفترش الأرض من شدة المعاناة (الشرق الأوسط)

«المرايا» رؤية جديدة لمعاناة الإنسان وقدرته على الصمود

تُعدّ لوحات الفنان السوري ماهر البارودي بمنزلة «شهادة دائمة على معاناة الإنسان وقدرته على الصمود».

نادية عبد الحليم (القاهرة )
يوميات الشرق جانب من معرض أبوظبي للفنون (الشرق الأوسط)

القديم والحديث والجريء في فن أبو ظبي

احتفل فن أبوظبي بالنسخة الـ16 مستضيفاً 102 صالة عرض من 31 دولة حول العالم.

عبير مشخص (أبوظبي)
يوميات الشرق أبت أن تُرغم الحرب نهى وادي محرم على إغلاق الغاليري وتسليمه للعدمية (آرت أون 56)

غاليري «آرت أون 56» رسالةُ شارع الجمّيزة البيروتي ضدّ الحرب

عُمر الغاليري في الشارع الشهير نحو 12 عاماً. تدرك صاحبته ما مرَّ على لبنان خلال ذلك العقد والعامين، ولا تزال الأصوات تسكنها، الانفجار وعَصْفه، الناس والهلع...

فاطمة عبد الله (بيروت)

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
TT

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

بعيداً عن التكلس السياسي الذي تعانيه ليبيا، انطلق في العاصمة طرابلس مهرجان للفيلم الأوروبي تحت إشراف بعثة الاتحاد الأوروبي إلى البلاد، بالتعاون مع الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، في خطوة تستهدف توسيع الشراكة الثقافية وكسر حاجز الانقسام، من خلال تجميع الليبيين بالثقافة والفن.

وتشارك في النسخة الأولى من المهرجان، التي انطلق الأحد، 5 سفارات أوروبية عاملة في ليبيا، بأعمال يتم عرضها للجمهور مجاناً لمدة 5 أيام، تنتهي الخميس المقبل. وعبّر سفير بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا، نيكولا أورلاندو، عن سعادته لافتتاح أول مهرجان سينمائي ليبي - أوروبي في طرابلس، إلى جانب الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، وسفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا ومالطا وإسبانيا. وعدّ هذا الحدث «علامة فارقة في الشراكة الثقافية بين ليبيا والاتحاد».

ويعرض مساء اليوم (الاثنين) فيلم «راعي البقر من الحجر الجيري» المقدم من سفارة مالطا، بقاعة الهيئة العامة للسينما والمسرح في شارع الزاوية بطرابلس، التي دعت الجمهور للاستمتاع بمشاهدته.

البوستر الترويجي لفيلم «فتاة عادت» الإيطالي (إدارة المرجان)

وبجانب الفيلم المالطي، فإن العروض المفتوحة للجمهور تتضمن، وفق ما أعلنت إدارة المهرجان، ورئيس بعثة الاتحاد، «طفلة عادت» من إيطاليا، و«قصر الحمراء على المحك»، إسباني، ويعرض الثلاثاء، ثم «كليو» (ألمانيا) الذي يعرض للجمهور الأربعاء، على أن يختتم المهرجان بفيلم «عاصفة» الفرنسي.

ولوحظ أن الدول المشاركة في المهرجان حرصت على تروّج الأعمال المشاركة، من هذا المنطلق دعا المركز الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية في ليبيا الجمهور الليبي لحضور الفيلم الفرنسي الذي أخرجه كريستيان دوغواي، وقالا في رسالة للجمهور الليبي: «نحن في انتظاركم لتشاركونا هذه اللحظة السينمائية الاستثنائية».

جانب من افتتاح مهرجان الفيلم الأوروبي في طرابلس (البعثة الأوروبية إلى ليبيا)

وكان رئيس هيئة السينما والمسرح والفنون، عبد الباسط بوقندة، عدّ مبادرة الاتحاد لإقامة المهرجان «خطوة إيجابية في مسار الشراكة بين ليبيا، متمثلة في هيئة السينما والمسرح والفنون، والاتحاد الأوروبي والدول الخمس المشاركة».

وأضاف بوقندة، في كلمة الافتتاح، الذي بدأ الأحد بعرض الأفلام، أن المناسبة «تفتح آفاقاً واسعة في مجالات السينما كواحدة من أهم أنواع التواصل بين الشعوب ومرآة عاكسة لكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية التي تسهم بفاعلية في توعية الناس، وتدفع بهم تجاه الارتقاء والإحساس بالمسؤولية».

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي (السفارة الفرنسية لدى ليبيا)

وخلال مراسم الافتتاح، عُرض فيلم «شظية» الليبي الذي أنتج في الثمانينات، من تأليف الأديب الليبي المعروف إبراهيم الكوني، ويحكي قصة معاناة الليبيين مع الألغام التي زرعت في صحراء ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وراح ضحيتها كثير من المواطنين في مدن ومناطق مختلفة من البلاد.

وبجانب العروض السينمائية في ليبيا، تُجمّع الفنون في ليبيا عادةً من فرقت بينهم السياسة، ويحشد المسرح على خشبته ممثلين من أنحاء البلاد، كانت قد باعدت بينهم الآيديولوجيات في زمن ما، يحكون جميعاً أوجاعهم عبر نصوص ولوحات إبداعية، ويفتحون نوافذ جديدة للتلاقي والحوار بعيداً عن النزاع والانقسام السياسي.

وسبق أن تعطلت الحركة الفنية المسرحية في ليبيا، مُتأثرة بالفوضى الأمنية التي شهدتها ليبيا عقب اندلاع ثورة «17 فبراير» التي أسقطت نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011. لكن مع الاستقرار النسبي الذي تشهده ليبيا يظل الرهان على الفن في اختبار الانقسام السياسي، الذي ضرب البلاد، لتوحيد الليبيين.