يرتبط شهر رمضان الكريم، بعدد من التقاليد الاجتماعية والعادات التي تتفاوت في تفاصيلها وأشكالها بين مجتمع وآخر، ولكن تتفق جميعها على تعزيز قيم الترابط والتراحم الاجتماعي، ومع إطلالة الشهر الكريم بروحانيته الآسرة في كل عام، تتحفز النفوس إلى اللقاءات الاجتماعية التي تجدد الصلات بين الأحباب وأفراد المجتمع، وتجمعهم بمن انقطعت بهم أسباب الوصال والاتصال في وجوه الحياة والانشغالات المختلفة.
وتعدّ «الغبقة» (العشاء الرمضاني المتأخر) واحدة من أشكال الاجتماع على موائد الكلام والطعام في رمضان، وانطلقت أول الأمر من الكويت والبحرين ومدن شرق السعودية التي تقترب عاداتها الاجتماعية كما تقترب المسافات بينها، وفي السعودية بدأت تتداول غالباً في المنطقة الشرقية، لا سيما في مدينة الأحساء. ومثل كل الأشكال الاجتماعية التي تنتشر وتشيع بالتأثير والانتقال، قدمت مواقع ووسائل التواصل الاجتماعي جسراً لتمرير هذه العادة حتى أضحت تقام في كل مدن ومناطق الخليج والسعودية. و«الغبقة» في لهجة أهل الخليج، هي الوجبة، التي تسبق السحور وعادة ما تكون وليمة تؤكل عند منتصف الليل، وهي في الأصل كلمة عربية صحيحة جاءت من «الغبوق»، وهو حليب الناقة الذي يشرب ليلاً، وعكسه الصبوح، وهو ما يشرب من حليب الناقة صباحاً.
واكتسبت «الغبقة» مثل كل العادات الاجتماعية التي تتأثر بالزمن الذي تعاصره، تحولات في طبيعتها وتفاصيلها، وانتقلت من تقليد بسيط غير مكلف، إلى تقليد متطور يقتضي مجموعة من الاستعدادات التي قد تكون مكلفة أحياناً، في حين دخلت على الخط مؤسسات تجارية وفنادق تسابق إلى الاستثمار في المردود المتوقع من إقامة وتنظيم الغبقات التي يتسع عددها وتزيد تكاليفها.
تقاليد تنظيم «الغبقة»
وفي الخليج، تأخذ أشكال اللقاءات الاجتماعية الدورية أسماء وصفات مختلفة، والمجتمعات الخليجية على نحو ما اشتهر به العرب عموماً، يتمتعون بقوة حضور البعد الاجتماعي في حياتهم، وتتصف حياتهم بالترابط الاجتماعي والتواصل الوثيق داخل المجتمع الواحد، ويحل رمضان في كل عام ليضاعف من قيم الترابط الاجتماعي ويعزز من تواصل الأفراد والعائلات مع بعضهم.
تقول سماهر ناصر، التي تدير محلاً لتقديم أدوات وبضائع لتزيين البيوت في المناسبات، إن «الغبقة» فتحت سوقاً كبيرة لرواد الأعمال؛ إذ يتم استيراد قطع وبضائع مخصصة، يستخدمها الناس عادة لتزيين البيوت، سروراً برمضان وزيادة في الحفاوة بالضيوف، وتضيف: «ترتكز الغبقة عادة على وجبة يتم تناولها بين الفطور والسحور، حيث أريحية الالتزام في الوقت والمظهر، وغالباً ما يستعد المستضيف للغبقة بتزيين المنزل بتفاصيل فرائحية، وكلما كان ضيوف الغبقة أكثر تقارباً، يتم الاتفاق على شكل الأزياء، حتى تكتمل تفاصيل الليلة على نحو مريح وممتع للجميع، وعادة ما يفضل النساء ارتداء الأزياء التقليدية التي تضفي طابعاً اجتماعياً زاهياً في المكان والنفوس».
من بساطة الموائد إلى القاعات الفخمة
وكانت «الغبقة» موائد بسيطة في معظم البيوت الخليجية، باعتبارها واحدة من العادات الاجتماعية الأثيرة التي تُميز الأمسيات الرمضانية لدى المجتمع الخليجي، وما زالت تحتفظ بعبق ماضيها وحيويتها حتى اليوم، وعادة تتضمن السفرة مجموعة من المأكولات المحلية البسيطة والوجبات المالحة والحلويات التقليدية، ومع الوقت أضحى التنافس في تقديم «الغبقة» حاضراً بين البيوت والمؤسسات على حد سواء؛ إذ أخذت بعض الجهات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص في تنظيم غبقة رمضانية لتعزيز الأبعاد الاجتماعية في أدائها وتحقيق مستوى من التواصل والترابط بين موظفيها، لأثر ذلك في دعم نجاح الأعمال وتطوير الأداء وتحقيق بيئة عمل جاذبة ومشجعة في المؤسسات. وعادة ما تنظم المؤسسات الخاصة غبقاتها الرمضانية في القاعات الفخمة للفنادق أو حجز طاولات ممتدة في المطاعم الملائمة لتنظيم ما يشبه لقاء عمل بطابع اجتماعي خاص، وأضحت الفنادق والمطاعم تتنافس في تقديم العروض والخدمات لاستقطاب اهتمام الشركات والمؤسسات والجمعيات والشخصيات العامة.