الشاب السوري أحمد الحرك، مُوثِّق رحلة ولادة مسلسلات، وصيّاد مجريات الكواليس، بدأ مشواره من الدهشة. لفتته النباتات والألوان وورود الشوارع. وشدّته التفاصيل نحو المهنة. يحمل كاميرته ليرى ما لا يراه سواه، ويصوِّر المشهد بمخيّلته قبل الضغط على الزرّ.
سبقت الاحتراف سنواتٌ أمضاها يُصوّر أقرباء وروائع الطبيعة. اليوم، هو مصوِّر درامي ويصحّ فيه أيضاً وصفُ مصوِّر مشاهير. يقول إنّ الألقاب يُطلقها آخرون لإنصاف عمله، ويروي لـ«الشرق الأوسط» قصة وصوله الصعب.
الكاميرا جدوى حياته. يراها «حلماً يواسيني دائماً. والسند والطريق والهدف». إنها حبل يوصله إلى أماكن أعلى، ويرفعه إلى الطبقات الثانية للأشياء. وفي لحظة انخطاف، يخالها طفله: «أنا الأب وهي المولودة مني». بها يُوقف الزمن ويخلِّد الذكرى الحلوة. يستوقفه تعليق يقول: «أوف! كنتُ صغيراً هنا»، أو «انظروا إلى هذا البيت كيف كان في الماضي». تحدُث الدهشة أمام الصورة مؤكدةً عظمتها.
أي فارق لدى المصوِّر إن التقط وجوهاً معروفة أو مجهولة؟ وإن صوَّر جماليات الطبيعة أو زوايا الحياة؟ يردّ أنّ التصوير عموماً مسألة واحدة لكونه «يأكل من أعصابي ويلتهمني». ثم يبدأ بإبراز الاختلاف: «للمشاهير أمزجة وخصوصية ولحظة مناسبة. في (اللوكيشن) أبحث عن تصوير تيم حسن مثلاً، إلى جانب تصوير عامل (البوفيه). طوال 15 عاماً، استطعتُ استيعاب النجم. أعلم متى يبدو منهمكاً ومتى أستطيع الاقتراب منه. لا يمكن اقتحامه في أي وقت بذريعة رغبتي في تصويره. ولا يمكن طلب إعادة الصورة بشكل مزعج. إنها مسألة اقتناص اللحظة الواقعة بين مراجعته النصّ، وتبديله ملابسه، وانتهاء عملية المكياج، وتحلّيه بمزاج معتدل».
يتحفّظ على تعريف الأقل شهرة بالناس «العاديين»، قبل التأكيد أنّ التعامل معهم «أسهل». فبعضٌ يأتيه مستعداً للتصوير، مع فارق أنّ خبرة الممثل تجعله معتاداً على الكاميرا، فلا يتطلّب الأمر تعدُّد المحاولات لالتقاط «الإحساس الصح». يشرح أحمد الحرك: «كثيرون ممَن لم يعتادوا الضوء، يقفون أمامي بخجل. عليَّ إحاطتهم بالراحة لتنجح الصورة. المشهور يألف الأضواء، وقلّما يخجل أمامها. هذا الجانب يُسهِّل تصوير النجوم. لكنّ المزاجية والخصوصية تترصّدان لتُحوّلا السهل إلى صعب؛ على عكس تصوير الناس الذي يُصعّبه الخجل ويُسهّله غياب حسابات أخرى».
ويكنُّ للطبيعة نظرة مغايرة، نافياً فَضْل المُصوِّر عليها، فهو ليس سوى ناقل للروعة، لا صانعها: «الجميع يصوّر البحر والشمس، ولا احتراف في ذلك. بعض التفاصيل تُبيّن براعة، كأنْ يلتقط صخرة أو شجرة أو طريقاً لها شكل خاص، أو تركيبة مختلفة لسلسلة جبال. للمشهد الطبيعي ترتيبات قد تكون مُعذِّبة، كأن يسافر المصوِّر بحثاً عنها ويعاني للوصول إلى لقطة. عدا ذلك، الفضل للخالق مبدع المشهد. يصبح مبالغاً القول (ما شاء الله، يا لجمال هذه الصورة يا أحمد!). الأدقّ هو اختصار هذه كلّه بـ(سبحان الله)».
وزوايا الحياة؟ بشرُها المساكين مثلاً؟ ويلات الأوطان؟ ردُّه أنه يهوى تصوير عروق الأيدي ولمعان العيون، ولا يناصر مصوِّري الويلات الإنسانية لشحذ الاستعطاف. يدرك أنّ البعض صادق، همُّه الرسالة والمساعدة، ويصوِّب سخطه على المُستغلّين لغاياتهم أو لكسب مادي: «لا يحقّ لي تصوير متسوّل لجعل الآخرين يشفقون عليه. مرارات الحرب ونتاج الأزمة ووجع الناس، في كل زاوية. نشرُ الانكسارات بهذا الشكل إهانة للمهنة. التصوير خطير، ونحن السوريين ندرك خطورته. يمكن التقاط صورة لإظهار صمود الشعب، بدل التقاطها لاستغلال المأساة وتمجيد العتمة. هذا يزعجني وأتمنّى محاربته. على الصورة أن تحفّز وتقدّم مساعدة حقيقية».
برز اسم أحمد الحرك بالتقاط كواليس مسلسل «تاج» ووجوهه، بعد مسلسلات «الزند»، و«وردة شامية»، و«خاتون»، و«على صفيح ساخن»، وغيرها في أعوام ماضية. صوَّر أيضاً مسرحيات وأفلاماً؛ ومن بين الوجوه، تستوقفه ملامح الممثل السوري غسان مسعود، وبروفايل سلوم حداد؛ ليبرز اسم شكران مرتجى بين النساء، ويبقى تصوير كريستيانو رونالدو أمنية يأمل أن تحقّق.
يذكُر إحباطاً سبق بناء الثقة، حين لم يلقَ التجاوب طوال الوقت، واضطر أحياناً للمسايرة والعمل بلا أجر: «إنني مُخلص لهذا الحلم، والوصول كلَّف سكوتاً وتحمُّلاً وتعباً، حتى بنيتُ اسماً يخوّلني فرض شروطي. يكفيني أنني لم أستخدم الكاميرا لغايات ملتوية».
لا ينسى مرات سأله فيها المشهور التأكُّد من الصورة قبل نشرها. مرات، قوبل بالشك وسوء الظنّ. هذه المعاناة صنعته. اليوم يتجنّب لحظةً أو حركة أو إيماء قد تُورّط المشهور عبر مواقع التواصل. يحسب الحسابات، ويستبق الصدى. ولا ينشر صوراً قبل اتفاق الطرفين عليها. سنوات الماضي حملت ارتباكاً حين تردّدت مراراً هذه الجمل: «امسحها! إياك والنشر. عدِّل هنا. حسِّن هناك». اليوم، يرتاح. بات معروفاً بين الأسماء، ولكاميرته مكانتها في توثيق ما تصنعه عين المخرج، والإكسسوار، والديكور، والملابس، والإضاءة؛ بلقطات تتألّق.
بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس «الصحّ»، منبّهاً الواقف أمام كاميرته إلى الملامح المطلوبة لتميُّز اللقطة. معادلته: الإحساس، والضوء، وشطارة المصوِّر، ونوع الكاميرا، والكادر. مُداراة الأمزجة قبل هذا كلّه.