إفطار البحر في جدة حالة جمالية بطابع اجتماعي

لا تقتصر على الأسرة الواحدة

تشهد منطقة البحر تدفقاً كبيراً من الناس (الشرق الأوسط)
تشهد منطقة البحر تدفقاً كبيراً من الناس (الشرق الأوسط)
TT

إفطار البحر في جدة حالة جمالية بطابع اجتماعي

تشهد منطقة البحر تدفقاً كبيراً من الناس (الشرق الأوسط)
تشهد منطقة البحر تدفقاً كبيراً من الناس (الشرق الأوسط)

للبحر جمال خلاب ومميّز في جدة، خلال الشهر الفضيل، حين يخرج سكان المدينة متّجهين نحو شاطئ الساحل الغربي من السعودية، الذي يمتد طوله نحو 110 كيلومترات، وهم طواقون لمعانقة نسائم البحر، بما حملوا معهم من طعام ليتناولوه ساعة الإفطار مع هبوط الليل.

وهذا ما ترصده العين بعد صلاة العصر وقبيل المغرب بدقائق، حيث تمتلأ جميع الساحات المخصصة للجلوس على امتداد الساحل، وهم محمّلون بما جهّزوا من إفطار في منازلهم، وآخرون يعتمدون على منافذ البيع المخصصة لتحضير الأطعمة، وهناك تجمعات أسرية لعوائل يكون فيها إحضار الطعام مناصفة، على أن يأتوا بالطعام جاهزاً من المنازل، ويكون ذلك باتفاق مسبق قبل موعد الخروج، وهو ما يراه مختصّون في الطب النفسي، تجسيداً للحالة الاجتماعية والترابط بين الأسر في أهم شهر لدى المسلمين.

لا يحلو رمضان في جدة إلا بإفطار على البحر (الشرق الأوسط)

وقد لا يحلو رمضان في جدة إلا بليلة إفطار جماعية أو فردية بشكل «تجمّعات عائلية، أو شبابية»، وهو ما أشار إليه خالد سلوم الذي التقته «الشرق الأوسط»، وشدّد خلال حديثه على أن إفطار البحر يُعدّ من الأساسيات بين قاطني المدينة ومن يفد إليها من زائرين ومعتمرين، مرجعاً أهمية ذلك للحالة النفسية والهدوء الذي تشعر به بعيداً عن الأماكن المغلقة كالمنزل، كما أنه يعطي للشخص فرصة للتأمل والتفكير بعيداً، وهو ينتظر رفع آذان المغرب.

وعلى ما يبدو، فإن هذه الحالة ليست موغلة في التاريخ، بحكم أن جدة بقيت داخل سورها العتيق حتى 1947، الذي كان في وقت مضى، قبل توحيد المملكة، يحميها من الهجمات الخارجية، كما أنه لا يوجد من وثّق لهذه المرحلة وأسباب تدفق سكان المدينة في هذه الأيام نحو البحر، إلا أن عدداً من الذين التقتهم «الشرق الأوسط» ذهبوا إلى القول إن إفطار البحر جاء مع توسّع المدينة وخروجها عن الأحياء القديمة داخل السور، وهي لا تزيد عن 4 أحياء.

حالة تلاحم وترابط يرسمها سكان جدة (الشرق الأوسط)

ويدلّل على هذا التوجه ما تعيشه مدينة جدة من طفرة نوعية منذ سنوات، أهّلتها لتكون على خريطة الاقتصاد المحلي والعالمي، كما أنها تستحوذ على 21 في المائة من إجمالي الأسواق والمراكز التجارية في المملكة، بخلاف مينائها الرئيسي «ميناء جدة الإسلامي»، الذي يشكل العمود الفقري للتجارة العالمية لموقعه الاستراتيجي، إلا أن كثيرين أكدوا على أن التجمعات في مضمونها كانت منذ مئات السنين بين سكان جدة القديمة، لكنها تكثر في شهر رمضان، ولم يتغير شكل هذا التجمع ومكانه ونوعية المائدة المقدمة، سواء أكانت على البحر أم في الحدائق العامة.

وقال هاني الغامدي، المحلّل النفسي، والمتخصص في القضايا الأُسرية والمجتمعية لـ«الشرق الأوسط»، إن «الإفطار بجوار البحر هو عامل اجتماعي طبيعي مع وجود الممكنات التي لم تكن في وقت سابق لأسباب مختلفة ومتعددة، إضافة إلى ما يحدث من طفرة نوعية وتوفير أماكن مختلفة، سواء على البحر أو في الحدائق بمواصفات عالية الجودة، وهنا يكون السؤال؛ لماذا لا تُستخدم هذه المواقع بشكل سلس، وتكون إضافة ترفيهية للنّفس في رمضان، وتجديداً مقنّناً ومقبولاً يتفق عليه العامة؟».

يتسابق سكان جدة لحجز مواقعهم قبل صلاة المغرب (الشرق الأوسط)

وعن تأثير الوضع الاقتصادي سابقاً وحالياً، أكّد الغامدي، أنه عامل مهم ومؤثر بلا شك في نمط حياة الفرد وتفكيره. فالحالة الاقتصادية في السابق تختلف تماماً عمّا هي عليه اليوم وما تعيشه جميع المدن السعودية من طفرة نوعية في المجالات كافة، إضافة إلى توفّر الأماكن في الوقت الراهن، ضمن المستويات الاقتصادية المختلفة، ما يشجع الفرد والأسرة على ممارسة ما يستطيعون ضمن الإمكانات الاقتصادية لشرائح المجتمع.

يُذكر أن مدينة جدة، بحكم موقعها الجغرافي المهم على البحر الأحمر وقربها من مكة المكرمة، زادت قيمتها الاقتصادية والاجتماعية، إذ تسجل كل يوم تدفق آلاف المعتمرين للاستمتاع بما تحتضنه المدينة من تنمية وإرث تاريخي، ومن خلال ممارسة سكانها نشاطات متنوعة للاستمتاع بكل ما فيها، وهذا ما يحدث فعلياً لدى رؤية تدفق المعتمرين إلى شواطئ المدينة للاستماع بأجواء جميلة، حيث تصل الحرارة إلى نحو 29 درجة مئوية.


مقالات ذات صلة

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

يوميات الشرق وحدها الثقة بمَن يعمل معهم تُخفّف الحِمْل (صور المخرج)

سامر البرقاوي لـ«الشرق الأوسط»: هاجسي فكريّ قبل أن يكون إنتاجياً

ينظر المخرج السوري سامر البرقاوي إلى ما قدَّم برضا، ولا يفسح المجال لغصّة من نوع «ماذا لو أنجرتُ بغير هذا الشكل في الماضي؟»... يطرح أسئلة المستقبل.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق تعبُ مصطفى المصطفى تجاه أن يكون الدور حقيقياً تسبَّب في نجاحه (صور الفنان)

مصطفى المصطفى: ننجح حين نؤدّي الدور لا وجهات نظرنا

اكتسبت الشخصية خصوصية حين وضعها النصّ في معترك صراع الديوك. بمهارة، حضن الديك ومنحه الدفء. صوَّره مخلوقاً له وجوده، ومنحه حيّزاً خاصاً ضمن المشهد.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

كاميرا السوري أحمد الحرك تألّقت في «تاج» وتحلم برونالدو

بين الوجوه ما يُنجِح الصورة من المحاولة الأولى، وبينها غير المهيّأ للتصوير. يتدخّل أحمد الحرك لالتقاط الإحساس الصحيح والملامح المطلوبة.

فاطمة عبد الله (بيروت)
يوميات الشرق الفنان المصري دياب حمل السلاح من أجل «مليحة» (الشرق الأوسط)

دياب: لن أجامل أحداً في اختيار أدواري

أكد الفنان المصري دياب أنه وافق على مسلسل «مليحة» ليكون بطولته الأولى في الدراما التلفزيونية من دون قراءة السيناريو، وذكر أنه تعلّم حمل السلاح من أجل الدور.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق استلهمت الكثير من نجمي العمل بسام كوسا وتيم حسن (إنستغرام)

فايا يونان لـ«الشرق الأوسط»: الشهرة بمثابة عوارض جانبية لا تؤثر عليّ

تابعت فايا يونان دورها على الشاشة الصغيرة في مسلسل «تاج» طيلة شهر رمضان. فكانت تنتظر موعد عرضه كغيرها من مشاهديه.

فيفيان حداد (بيروت)

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)
مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)
TT

موسيقى تحت النار تصدح في «مترو المدينة» لإعلان الحياة

مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)
مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس... موسيقى ونغمات وأمل (مترو المدينة)

وصلتْ إلى هاتف صاحبة السطور رسالة تعلن عودة أمسيات «مترو المدينة». كان كلُّ ما حول المتلقّية هولاً وأحزاناً، فبدا المُرسَل أشبه بشعاع. يبدأ أحد مؤسّسي «مترو» ومديره الفنّي، هشام جابر، حديثه مع «الشرق الأوسط» بترسيخ الفنون بوصفها احتمالاً للنجاة. ينفض عنها «مفهوماً قديماً» حصر دورها بالترفيه وتمضية الوقت، ليحيلها على ما هو عميق وشامل، بجَعْلها، بأصنافها وجمالياتها، مطلباً مُلحّاً لعيش أفضل، وحاجة لتحقيق التوازن النفسي حين يختلّ العالم وتتهدَّد الروح.

موسيقيون عزفوا للمحاربين في هذه الاستراحة (مترو المدينة)

في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، أنار المسرح البيروتي أضواءه واستقبل آتين إلى سهراته المميّزة بفرادة الطابع والمزاج. أُريد للموسيقى خَلْق فسحة تعبيرية لاحتواء المَعيش، فتُجسّد أرضية للبوح؛ مُنجزةً إحدى وظائفها. تُضاف الوظيفة الأخرى المُمثَّلة بالإصرار على النجاة لمَنْح الآتي إلى الأمسية المُسمَّاة «موسيقى تحت النار» لحظات حياة. موسيقيون على البزق والدرامز والإيقاع والكمنجة... عزفوا للمحاربين في هذه الاستراحة. يُعلّق هشام جابر: «لم يكن ينقصنا سوى الغبار. جميعنا في معركة».

لشهر ونصف شهر، أُغلق «مترو». شمَلَه شلل الحياة وأصابته مباغتات هذه المرارة: «ألغينا برنامجاً افترضنا أنه سيمتدّ إلى نهاية السنة. أدّينا ما استطعنا حيال النازحين، ولمّا لمسنا تدهور الصحّة النفسية لدى المعتادين على ارتياد أمسيات المسرح، خطرت العودة. أردنا فسحة للفضفضة بالموسيقى».

لم يَسْلم تاريخ لبنان من الويل مما لقَّن أبناءه فنّ التجاوُز (مترو المدينة)

يُشبّه المساحة الفنية التي يتيحها «مترو» بـ«علبة خارج الزمن». ذلك لإدراكه أنّ لبنان امتهن الصعاب ولم يَسْلم تاريخه من الويل، مما لقَّن أبناءه فنّ التجاوُز. وامتهن اجتراح «العُلب»، وهي الفسحات الرقيقة. منها يُواجه أقداره ويُرمّم العطب.

استمرّت الحفلات يومَي 20 و21 الحالي، وسلّمت «موسيقى تحت النار» أنغامها لعرض سُمِّي «قعدة تحت القمر»، لا يزال يتواصل. «هذا ما نجيده. نعمل في الفنّ»، يقول هشام جابر؛ وقد وجد أنّ الوقت لا ينتظر والنفوس مثقلة، فأضاء ما انطفأ، وحلَّ العزفُ بدل الخوف.

يُذكِّر بتاريخ البشرية المضرَّج بالدماء، وتستوقفه الأغنيات المولودة من ركام التقاتُل الأهلي اللبناني، ليقول إنّ الحروب على مرّ العصور ترافقت مع الموسيقى، ونتاج الفنّ في الحرب اللبنانية تضاعف عمّا هو في السلم. يصوغ المعادلة: «مقابل الصدمة والاهتزاز واليأس، موسيقى ونغمات وأمل». ذلك يوازي «تدليك الحالة»، ويقصد تليينها ومدّها بالاسترخاء، بما يُشبه أيضاً إخضاع جهاز لـ«الفرمتة»، فيستعيد ما تعثَّر ويستردّ قوةً بعد وهن.

أنار المسرح البيروتي أضواءه واستقبل آتين إلى سهراته المميّزة (مترو المدينة)

يتمسّك «مترو المدينة» بحقيقة أنّ الوقت الصعب يمضي والزمن دولاب. أحوالٌ في الأعلى وأحوال في الأسفل. هذه أوقات الشدائد، فيشعر الباحثون عن حياة بالحاجة إلى يد تقول «تمسّك بها»، ولسان يهمس «لا تستسلم». أتاح المسرح هذا القول والهَمْس، ففوجئ هشام جابر بالإقبال، بعد الظنّ أنه سيقتصر على معارف وروّاد أوفياء. يقول: «يحضر الناس لكسر الشعور بالعزلة. يريدون مساحة لقاء. بعضهم آلمته الجدران الأربعة وضخّ الأخبار. يهرعون إلى المسرح لإيجاد حيّز أوسع. ذلك منطلقه أنّ الفنّ لم يعد مجرّد أداة ترفيهية. بطُل هذا الدور منذ زمن. الفنون للتعافي وللبقاء على قيد الحياة. أسوةً بالطعام والشراب، تُغذّي وتُنقذ».

كفَّ عن متابعة المسار السياسي للحرب. بالنسبة إليه، المسرح أمام خيارَيْن: «وضع خطّة للمرحلة المقبلة وإكمال الطريق إن توقّف النار، أو الصمود وإيجاد مَخرج إن تعثَّر الاتفاق. في النهاية، المسارح إيجارات وموظّفون وكهرباء وتكاليف. نحاول أن يكون لنا دور. قدّمنا عروضاً أونلاين سمّيناها (طمنونا عنكم) ترافقت مع عرض (السيرك السياسي) ذائع الصيت على مسرحنا. جولته تشمل سويسرا والدنمارك وكندا...».

ترسيخ الفنون بوصفها احتمالاً للنجاة (مترو المدينة)

ويذكُر طفولة تعمَّدت بالنار والدخان. كان في بدايات تفتُّح الوعي حين رافق والده لحضور حفل في الثمانينات المُشتعلة بالحرب الأهلية. «دخلنا من جدار خرقته قذيفة، لنصل إلى القاعة. اشتدّ عودنا منذ تلك السنّ. تعلّقنا بالحياة من عزّ الموت. لبنان حضارة وثقافة ومدينة وفنّ. فناء تركيبته التاريخية ليست بهذه البساطة».

يرى في هذه المحاولات «عملاً بلا أمل». لا يعني إعلان اليأس، وإنما لشعورٍ بقسوة المرحلة: «يخذلني الضوء حيال الكوكب بأسره، ولم يعُد يقتصر غيابه على آخر النفق. حين أردّد أنني أعمل بلا أمل، فذلك للإشارة إلى الصعوبة. نقبع في مربّع وتضيق بنا المساحة. بالفنّ نخرج من البُعد الأول نحو الأبعاد الثلاثة. ومن الفكرة الواحدة إلى تعدّدية الأفكار لنرى العالم بالألوان. كما يُحدِث الطبيب في الأبدان من راحة وعناية، يحتضن الفنّ الروح ويُغادر بها إلى حيث تليق الإقامة».