«مايسترو»... أداءٌ ساحر وحبكةٌ مترنّحة وسجالٌ حول الأنف المركّب

فيلم برادلي كوبر يعيد إحياء سيرة قائد الأوركسترا ليونارد برنستاين

برادلي كوبر وكاري موليغان في شخصيتَي ليونارد برنستاين وزوجته فيليسيا (نتفليكس)
برادلي كوبر وكاري موليغان في شخصيتَي ليونارد برنستاين وزوجته فيليسيا (نتفليكس)
TT

«مايسترو»... أداءٌ ساحر وحبكةٌ مترنّحة وسجالٌ حول الأنف المركّب

برادلي كوبر وكاري موليغان في شخصيتَي ليونارد برنستاين وزوجته فيليسيا (نتفليكس)
برادلي كوبر وكاري موليغان في شخصيتَي ليونارد برنستاين وزوجته فيليسيا (نتفليكس)

راقت لعبة الإخراج للممثل الأميركي برادلي كوبر. فبعد النجاح المدوّي لتجربته السينمائية الإخراجية الأولى في فيلم «A Star is Born»، إلى جانب «ليدي غاغا» عام 2018، ها هو يعود منتِجاً وكاتباً ومخرجاً وممثلاً في فيلم «مايسترو» (Maestro) الذي تعرضه منصة «نتفليكس».

يساند كوبر جيشٌ من المنتجين يتصدّرهم اسمان لامعان في عالم السينما، هما مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلرغ. الفيلم الذي صفّق له الحضور 7 دقائق وقوفاً بعد عرضه الأوّل في مهرجان البندقيّة في سبتمبر (أيلول) الماضي، يستعرض جزءاً من سيرة قائد الأوركسترا والمؤلف الموسيقي الأميركي ليونارد برنستاين، الذي يؤدّي كوبر دوره بشغف.

إلى جانب ميله المتجدّد للإخراج، يتّجه كوبر مرةً أخرى إلى الحكايات المرتبطة بالموسيقى. وفي أجزاء عدة منه، خصوصاً في قسمه الأول، يتأرجح الفيلم بين «الدراما» و«الميوزيكال». الأمر منطقيّ، بما أن القصة تتمحور حول إحدى أهم الشخصيات في عالم الموسيقى الأميركية؛ برنستاين الذي قرّب الموسيقى الكلاسيكيّة من الأجيال الشابة، فحفر اسمَه على إنجازات عدة، في طليعتها المسرحية الموسيقية «وست سايد ستوري» (West Side Story).

بموازاة عبقريّته وشهرته وشعبيّته، شابت التناقضات حياة برنستاين الخاصة. هو المايسترو عاشق الأضواء، وهو المؤلّف الذي يهوى الظلّ. لكن أهمّ زاوية يركّز عليها الفيلم، هي علاقته الاستثنائية بزوجته فيليسيا مونتيليغري، التي استمرت 32 عاماً. من دون أن تكون امرأةً خانعةً، احتوَت فيليسيا صراعات ليونارد النفسية، كما أنها تعايشت مع ازدواجية هويته الجنسية. ففي مقابل قصة حبهما الفريدة والصلبة، لم يُخفِ برنستاين مثليّته وعلاقاته المتعدّدة مع الرجال.

ملصق فيلم «مايسترو» الذي يُعرض على «نتفليكس»

يتّخذ هذا الموضوع حيّزاً أساسياً من الفيلم وتُمتحَن به صلابةُ العلاقة بين «المايسترو» وزوجته. تقدّم الممثلة كاري موليغان في هذا الإطار أداءً ساحراً، فتتنقّل بسلاسة بين شخصيات الزوجة العاشقة، والمرأة الواقعيّة، وتلك الغاضبة المتسلّطة، وصولاً إلى الإنسانة الضعيفة التي غلبها المرض.

بالشخصيات التي تتقمّصها وبأدائها الأكثر من مقنِع، تشكّل موليغان العمود الفقري للفيلم؛ تمنحه عمقه الإنساني والعاطفي، بعيداً عن بهرجة المسارح والعروض الموسيقية. هي ليست شريكة في القصة فحسب، بل ممثلة تكاد تنافس برادلي كوبر على صدارة الشاشة وتسبقه إلى قلوب المشاهدين. تسير الأحداث على وقع تطوّر مشاعرها ومواقفها. ولا تتّضح معالم الحكاية وتتسارع أحداثها، إلا بعد أن ينجلي صراع فيليسيا الصامت وغيرتُها على زوجها. ما إن يتظهّر هذا الخلاف وتبدأ المواجهة بين الزوجَين، حتى يسود شعور عام وكأنّ الفيلم قد بدأ للتوّ، أي بعد ساعة من انطلاقته البطيئة وغير المتماسكة سردياً.

تقدّم الممثلة كاري موليغان أداءً مميّزاً استحقت عنه ترشيحاً إلى جوائز «غولدن غلوب» (نتفليكس)

قد يغلب انطباع بأن الفيلم كلاسيكيّ، ونخبويّ، وموجّه حصراً إلى جمهور معنيّ بسيرة الموسيقار برنستاين، لكن العناصر الإنسانية في الحكاية تأتي لتخفّف من وطأة النخبويّة. إلّا أن تلك التفاصيل الإنسانية لا تُستثمر كما يجب وبما يكفي، فتبدو السرديّة جوفاء، وناقصة من سياقٍ صلب ومن ركيزة واضحة. فرغم حياة برنستاين الشائكة، تبقى المعالجة الدراميّة هامشيّة وسطحيّة، لا سيّما في القسم الأول من الفيلم. لا حبكة جليّة ولا حتى إشكاليّة، بل بنية متقطّعة وغير متجانسة لأحداثٍ فنيةٍ وشخصيةٍ متفرقة في حياة الثنائي ليونارد وفيليسيا.

لا يدّعي برادلي كوبر أنه أحاط بمراحل حياة برنستاين كلها، لكنّ ذلك لم يعفِه من الانتقاد، لناحية أنه لم يضئ بما يكفي على أجزاء أساسية من السيرة. ومن أبرز ما همّشه الفيلم، خلفيّة «المايسترو» اليهوديّة، حيث يقتصر التلميح إليها على مشهدٍ خاطفٍ يقترح فيه أحد أصدقاء برنستاين عليه تغيير اسمه، كي يبدو أقلّ يهوديّةً ويتمكّن من أن يصبح «أعظم وأول قائد أوركسترا أميركي».

«مايسترو» هو التجربة الإخراجية الثانية لكوبر بعد فيلم «A Star is Born» (نتفليكس)

ومع أن هذه الجزئية بقيت هامشيّة، إلا أن أعضاء بارزين في المجتمع اليهودي الأميركي، امتعضوا من أنف ليونارد برنستاين المركّب النافر. وقد اتّهم هؤلاء كوبر بأنه يسخر من «السحنة اليهودية» (Jewface). وفيما نفى كوبر أن يكون ذلك متعمّداً، أكد أنه وفريق العمل قاما بكلّ ما في وسعهما للحصول على النسخة الأقرب والأشبَه ببرنستاين؛ ولا بدّ من الاعتراف بأنهم نجحوا في ذلك.

يقف خلف هذا النجاح أخصائي الماكياج والمؤثرات الخاصة، كازو هيرو، الحائز على جائزة «أوسكار». منذ المشهد الأوّل، يشكّل مظهر برادلي كوبر صدمةً للعين، فيصعب التصديق أنه ذلك الرجل المسنّ ذات الشعر الأبيض والملامح المتعَبة، الجالس دامعاً خلف البيانو. ووفق هيرو، فإنّ هذا التحوّل في شكل كوبر استغرق إنجازه 5 ساعات.

استغرق إنجاز ماكياج برادلي كوبر 5 ساعات على يد الفنان كازو هيرو (نتفليكس)

يسير الفيلم على وقع الاسترجاع الزمني (flashback)، فيتنقّل من الأسود والأبيض إلى الألوان. يُرافق المُشاهد بالتالي ليونارد وفيليسيا في مختلف مراحلهما العمريّة، ما بين سنة 1943 وأواخر ثمانينات القرن الماضي. وفيما تبدأ الأحداث بالأسود والأبيض في لحظة مصيريّة من مسيرة برنستاين وهو في الـ25 من عمره، تبلغ المشاعر الإنسانية ذروتها في القسم الأخير من الفيلم، وسط أداء تصاعديّ للبطلَين.

ليس مستغرَباً إذن أن يكون «مايسترو» مرشحاً إلى مجموعة من الجوائز السينمائية العالمية، على رأسها 4 ترشيحات إلى جوائز «غولدن غلوب» عن فئات: أفضل ممثل، وممثلة، ودراما، وإخراج.


مقالات ذات صلة

عصابة آل شلبي عائدة... من باب السينما هذه المرة

يوميات الشرق الممثل كيليان مورفي يعود إلى شخصية تومي شلبي في فيلم «The Immortal Man» (نتفليكس)

عصابة آل شلبي عائدة... من باب السينما هذه المرة

يعود المسلسل المحبوب «Peaky Blinders» بعد 6 مواسم ناجحة، إنما هذه المرة على هيئة فيلم من بطولة كيليان مورفي المعروف بشخصية تومي شلبي.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق مسلسل «Monsters» يعيد إلى الضوء جريمة قتل جوزيه وكيتي مينينديز على يد ابنَيهما لايل وإريك (نتفليكس)

قتلا والدَيهما... هل يُطلق مسلسل «نتفليكس» سراح الأخوين مينينديز؟

أطلق الشقيقان مينينديز النار على والدَيهما حتى الموت عام 1989 في جريمة هزت الرأي العام الأميركي، وها هي القصة تعود إلى الضوء مع مسلسل «وحوش» على «نتفليكس».

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق ليلي كولينز بطلة مسلسل «إميلي في باريس» (رويترز)

لماذا تفجر «إميلي في باريس» مواجهة دبلوماسية بين فرنسا وإيطاليا؟

انفتحت جبهة جديدة في التاريخ الطويل والمتشابك والمثير للحقد في بعض الأحيان للعلاقات بين إيطاليا وفرنسا، والأمر يدور هذه المرة حول مسلسل «إميلي في باريس».

«الشرق الأوسط» (باريس- روما)
يوميات الشرق His Three Daughters فيلم درامي عائلي تميّزه بطلاته الثلاث (نتفليكس)

عندما يُطبخ موت الأب على نار صراعات بناته

يخرج فيلم «His Three Daughters» عن المألوف على مستوى المعالجة الدرامية، وبساطة التصوير، والسرد العالي الواقعية. أما أبرز نفاط قوته فنجماته الثلاث.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق نيكول كيدمان متوسّطةً فريق مسلسل «The Perfect Couple» (نتفليكس)

«The Perfect Couple»... عندما يسقط القناع عن المنافقين والقتَلة

مسلسل «نتفليكس» الجديد The Perfect Couple يتصدّر المُشاهدات لا سيّما أن نيكول كيدمان تتصدّر أبطاله.

كريستين حبيب (بيروت)

مصريون يتذكرون أعمال «الساحر» محمود عبد العزيز في ذكرى رحيله الثامنة

الفنان المصري محمود عبد العزيز (فيسبوك)
الفنان المصري محمود عبد العزيز (فيسبوك)
TT

مصريون يتذكرون أعمال «الساحر» محمود عبد العزيز في ذكرى رحيله الثامنة

الفنان المصري محمود عبد العزيز (فيسبوك)
الفنان المصري محمود عبد العزيز (فيسبوك)

مع حلول الذكرى الثامنة لرحيل الفنان المصري محمود عبد العزيز الشهير بـ«الساحر»، احتفل محبوه على «السوشيال ميديا»، الثلاثاء، بتداول مشاهد من أعماله الفنية التي قدّمها على مدى نصف قرن تقريباً، وكان من بينها لقطات وأدوار وصفها نقاد بأنها «أيقونية».

واستعاد مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي العديد من مقاطع الفيديو الشهيرة لمحمود عبد العزيز، مثل مشاهد كواليس الغناء التي اشتهر بها ومقاطع لحوارات مع مؤلفي وملحني فيلم «الكيف»، إنتاج 1985، الذي يعدونه بمثابة «نبوءة» لما يشهده الوسط الفني حالياً من «غزو لنجوم المهرجانات»، على حد تعبير الكثير منهم.

ونشر الفنان كريم محمود عبد العزيز صورة لوالده عبر حسابه على «إنستغرام»، كتب تحتها: «8 سنين على أكثر يوم فارق في حياتي، الله يرحمك يا أبو الرجولة كلها»، فيما حصدت رسالة وجهها شقيقه الفنان محمد محمود عبد العزيز إلى روح والده تفاعلاً لافتاً لتطرقه إلى تفاصيل إنسانية في علاقته بأبيه مثل تزامن ذكرى رحيل الفنان مع ميلاد حفيدته بفارق يوم واحد.

محمود عبد العزيز وكريم عبد العزيز (فيسبوك)

من جانبه عدّ الناقد الفني المصري طارق الشناوي الفنان محمود عبد العزيز «موهبة فريدة في تاريخ الفن المصري؛ لأنه كان متعدد الأوجه ما بين الكوميدي والتراجيدي والرومانسي بل والأكشن، وهي أنماط كان يؤديها بشكل مقنع للغاية»، وأشار لـ«الشرق الأوسط» إلى «ذكاء ونضج اختيارات عبد العزيز، حين وافق على المشاركة في فيلم (البريء)، إنتاج 1986، لأحمد زكي، رغم أنه لم يلعب دور البطولة الأولى وكان وقتها أكثر نجوميةً وشهرةً من زكي».

ويرى الناقد الفني المصري، محمد عبد الرحمن، أن الفنان الراحل محمود عبد العزيز يُعد «أيقونة من أيقونات الفن المصري في النصف الثاني من القرن العشرين؛ حيث قدّم أدواراً أيقونية، ويمتلك حضوراً طاغياً ولديه القدرة على الوصول إلى قلوب الناس»، وأضاف، لـ«الشرق الأوسط»، أن «محمود عبد العزيز تمرّد على ملامحه شبه الأوروبية، لا سيما في مرحلة الشباب وأواسط العمر، وانخرط بأدوار شديدة المصرية، تعكس واقع مختلف المستويات الاجتماعية والاقتصادية على نحوٍ بارع وآسر».

وفي الدراما، قدّم عبد العزيز عدداً من المسلسلات التي نالت شهرة واسعة، منها مسلسل «رأفت الهجان» بأجزائه المختلفة، الذي ينتمي إلى نوعية التشويق والجاسوسية، كما لقّب بـ«الساحر» نسبةً إلى فيلم «الساحر» الذي قدّمه في 2002 مع المخرج رضوان الكاشف، ويتناول فيه قضايا الحب في الكهولة ومشكلات تربية البنات في مرحلة المراهقة.

 

محمود عبد العزيز (فيسبوك)

وأكد الناقد الفني محمد عبد الخالق أن «محمود عبد العزيز فنان أحبه الجمهور من أول إطلالة له، بعيداً عن موهبته الفنية التي فرضت نفسها، فقد كان صاحب طلة مريحة يدخل القلب، وكاريزما قوية وخفة دم»، وتابع لـ«الشرق الأوسط» أن «الجمهور عاطفي بطبيعته ويحكم بقلبه أولاً، فضلاً عن جرأة عبد العزيز في تقديم موضوعات قوية وشخصيات غير تقليدية حجزت له مكانة شديدة الخصوصية».

يشار إلى أن محمود عبد العزيز ولد بمدينة الإسكندرية عام 1946 وتخرج في كلية الزراعة، جامعة الإسكندرية، وهي الكلية نفسها التي تخرّج فيها عدد من رموز الفن مثل سمير غانم والمخرج محمد فاضل. وجاءت مشاركاته الفنية الأولى بسيطة للغاية عبر عدد من المسلسلات، إلى أن شارك في مسلسل «الدوامة» مع محمود ياسين عام 1974 وكانت هذه المشاركة بمثابة «نقطة تحول» في معرفة الجمهور به على نحوٍ مهّد لدخوله السينما من خلال فيلم «الحفيد» مع عبد المنعم مدبولي وكريمة مختار ونور الشريف وميرفت أمين، الذي كان بداية موعده مع النجومية.

وبلغ رصيد «الساحر» في السينما نحو 84 فيلماً، من أبرزها «الكيت كات» الذي جسّد فيه شخصية المكفوف خفيف الظل الباحث عن مغامرة، و«الشقة من حق الزوجة» الذي يُعد وثيقةً فنية على حالة المجتمع المصري في حقبة الثمانينات، فضلاً عن أفلام «العذراء والشعر الأبيض»، و«تزوير في أوراق رسمية»، و«العار»، و«الكيف»، و«جري الوحوش»، و«ليلة البيبي دول»، و«سوق المتعة»، و«إبراهيم الأبيض».