من مديرة مصرف إلى «فرّانة»... موظّفاتُها إناثٌ حصراً

«نسوان الفرن» مخبزٌ لبنانيّ فريد يكسر ذكوريّة المهنة

TT

من مديرة مصرف إلى «فرّانة»... موظّفاتُها إناثٌ حصراً

من مديرة مصرف إلى خبّازة، جِنان حايك مؤسِسة وصاحبة «نسوان الفرن» (الشرق الأوسط)
من مديرة مصرف إلى خبّازة، جِنان حايك مؤسِسة وصاحبة «نسوان الفرن» (الشرق الأوسط)

في اللهجة اللبنانية العامّية، تُستخدم عبارة «نسوان الفرن» لتعيير كل مَن يضيّع وقته في الثرثرة أو النميمة أو كثرة الكلام الفارغ. لكنّ ذلك كان قبل أن يفتح «نسوان الفرن» الفعليّ أبوابه في بلدة بكفيّا اللبنانية، ليطحن تلك المقولة، ويحوّلها إلى «منقوشة» مكوّناتُها طحين، وخميرة، وكثيرٌ من الإرادة النسائيّة الصلبة، والطاقة الإيجابيّة.

تنتقل جِنان من أمام نار الفرن المتّقدة إلى طاولات الزبائن، مروراً بآلة تحضير العجين وصندوق المحاسبة. توزّع المناقيش والفطائر والضحكات والعبارات اللطيفة. «السنوات الأخيرة في المصرف كانت عبارة عن ضغط وتوتّر متواصلَين، بسبب الأزمة الماليّة في لبنان وخسارة المودعين أموالهم»، تخبر «الشرق الأوسط».

فنّ خَبز الفرح

قبل أن ترتدي مئزر «الفرّانة» وتنتقل إلى صناعة المناقيش، كانت جنان حايك مديرة فرع أحد المصارف في لبنان. هي المعتادة على توزيع الفرح من حولها، أتعبَتها وجوه المودعين الخائبة، وأرهقتها خسائرهم المُحزنة، فاختارت بعد 28 سنة من الخدمة، تقاعُداً مبكراً يتيح أمامها اختراع سعادةٍ جديدة.

من مديرة مصرف إلى خبّازة، جِنان حايك مؤسِسة وصاحبة «نسوان الفرن» (الشرق الأوسط)

ليست الحاجة ما دفعت بها إلى الانتقال من منصب مديرة إلى «فرّانة»، بل رغبتها في التطوّر والاكتشاف. كانت لا تزال في وظيفتها، عندما بدأت ترافق ابنَها إلى الجامعة ليأخذا معاً دروساً في ريادة الأعمال. هناك تبلورت فكرة المخبز التي شكّلت مشروع التخرّج، قبل أن تتحوّل إلى حقيقة وتفتتح جنان «نسوان الفرن» خلال صيف 2021.

في البداية، كان إذا مرّ أحد عملاء جنان في المصرف أمام الفرن ورآها تخبز المناقيش، يُصاب بالصدمة صارخاً: «مدام حايك، شو عم تعملي هون؟». تؤكّد أنّ الأمر لم يتسبّب لها بأي عقدة؛ «كلّه شغل... كلّه إنتاج»، تقول. أما من انتقدوها على «النقلة» تلك، فتضعهم «في خانة ضعفاء الشخصية الذين ينتقدون لأنهم ما استطاعوا إنجاز شيء في حياتهم».

واجهة مخبز «نسوان الفرن» في بلدة بكفيّا بلبنان (الشرق الأوسط)

وظائف بالمؤنّث

«الانتقال من المنصب الرفيع إلى العمل وسط غبار الطحين الأبيض هو قصة نجاحي الحقيقيّة»، هكذا تنظر جنان حايك إلى السنتَين الماضيتَين، من دون أن تستخفّ بخبرتها المصرفيّة. وهي لم تُظهر أنانيةً في التعامل مع نجاحها، بل تَشاركته مع رفيقاتٍ كنّ السنَد واليد اليُمنى. فقد أصرّت على أن توظّف الإناث حصراً في فرنها، أوّلاً «كي نكذّب مقولة إن نسوان الفرن غير نافعات إلا للثرثرة ومضيعة الوقت، بل هنّ بطلات وعاملات كادحات»، توضح مبتسمةً.

أما السبب الثاني الذي دفع بجنان إلى إحاطة نفسها بفريقٍ من السيّدات، فهو أنها لا تطيق «رؤية امرأة تجلس وهي تندب حظّها من البطالة أو الملل أو من قلّة المال». سعت من خلال مشروعها المتواضع، بل الطموح، إلى تمكين النساء وإلى تحويل مفهوم التضامن النسائي إلى حقيقة ملموسة.

وهكذا صار، فاستقطب الفرن ربّات منازل وطالبات جامعيّات. واحدة تحضّر العجين وثانيةٌ تعدّ خلطة «الزعتر» أو «السلق» أو «الكشك»، وأخرى توزّع طلبات الزبائن. أما صاحبة الفرن فتشرف على كل تفصيل.

يقدّم «نسوان الفرن» كل أصناف المناقيش والمعجّنات والبيتزا (الشرق الأوسط)

عمّو داوود

هذا الشغف بالخَبز لم يولد خلف المكتب في المصرف، بل يعود إلى أعوام الطفولة. تسرد جنان الحكاية: «كنت في العاشرة من عمري يوم استأجر شخص كنّا نناديه (عمّو داوود) هذا المحلّ من أهلي. فتح فرناً كنت أستيقظ على رائحة منقوشته كل صباح وآكل واحدة يومياً، كما كنت أستمتع بمراقبته وهو يعمل». هاجر «عمّو داود» إلى كندا منذ سنوات طويلة، وأقفل الفرن بابه إلى أن عادت جنان وفتحته مسترجعةً رائحة الطفولة ومذاقها.

تقرّ بأنّها ليست طبّاخة ماهرة في البيت، لكن من أجل «نسوان الفرن» كانت مستعدّة لإلغاء كل مستحيل. «هنا تعلّمتُ المصلحة من الصفر. قرأتُ كثيراً وأخذت دروساً في صناعة المخبوزات. لازمتُ الفرن أسبوعين قبل تحديد موعد الافتتاح، وأنا أحاول صناعة عجينةٍ تُرضيني وتُرضي الزبائن».

تَوافُد الزبائن إلى الفرن يوحي بأنّ الخلطة نجحت. هذا يطلب منقوشة الجبن مع الخضراوات المشكّلة، وتلك تفضّل فطيرة الكوسى، وما بينهما ثمّة دائماً متّسعٌ من الوقت والمساحة لنكتةٍ، أو لالتقاط فيديو مع طفلٍ أحبّ أن يسكب اللبنة بنفسه على منقوشته الساخنة. «لا نكتفي بأفضل المكوّنات من طحين وخميرة وزعتر وما إلى ذلك»، تقول جنان: «نحن نعمل بحبٍ ونظافة والمكوّن الأساسي هنا هو اللطف».

تقول جنان حايك إن المكوّن الأساسي في منقوشتها هو اللطف (الشرق الأوسط)

الفرن مش بس للرجال

تتعب جنان أحياناً، فالاستيقاظ اليوميّ عند الخامسة فجراً ليس بالأمر السهل، والوقوف أمام لهيب النار مضنٍ، وإدخال الألواح الخشبيّة الثقيلة إلى الفرن وإخراجها منه مرهق كذلك. لكنها لا تصبّ تركيزها على العثرات، إذ «لا وقت للتذمّر من التعب ولا للجلوس». ثم إنها لا تعترف بالنظريّة التي تقول إنّ «الفرن بدّو رجال». بالنسبة إليها، الاثنان سواسية في هذه المهنة؛ «ما دام هناك يدان تعملان بشغف فهذا يكفي، بغضّ النظر أكان الفرّان رجُلاً أو امرأة».

لا يتوقّف طموح جنان حايك عند حدود المنقوشة والفطيرة والبيتزا، فهي تستعدّ لتوسيع الفرن كي يصبح مساحةً للتلاقي الاجتماعي. قريباً يتمدّد «نسوان الفرن» ليصبح مقهىً يستضيف أنشطة تثقيفيّة وترفيهيّة، لأنّ أكثر لقبٍ تحب جنان أن تُنادى به هو، «الفرّانة التي تجمع ما بين الناس».


مقالات ذات صلة

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

شؤون إقليمية امرأتان تشربان الشاي في الهواء الطلق بمقهى شمال طهران (أ.ب)

إيران: عيادة للصحة العقلية لعلاج النساء الرافضات للحجاب

ستتلقى النساء الإيرانيات اللاتي يقاومن ارتداء الحجاب، العلاجَ في عيادة متخصصة للصحة العقلية في طهران.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شمال افريقيا صورة جرى توزيعها في يناير 2024 لنساء وأطفال بمخيم زمزم للنازحين بالقرب من الفاشر شمال دارفور (رويترز)

شهادات «مروعة» لناجيات فررن من الحرب في السودان

نشرت «الأمم المتحدة»، الثلاثاء، سلسلة من شهادات «مروعة» لنساء وفتيات فررن من عمليات القتال بالسودان الذي يشهد حرباً منذ أكثر من عام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
آسيا صورة من معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس للتعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات (أ.ف.ب)

معرض صور في باريس يلقي نظرة على حال الأفغانيات

يتيح معرض الصور الفوتوغرافية «نو وومنز لاند» في باريس التعرُّف إلى العالم الخاص للنساء الأفغانيات، ومعاينة يأسهن وما ندر من أفراحهنّ.

«الشرق الأوسط» (باريس)
آسيا امرأة يابانية مرتدية الزي التقليدي «الكيمونو» تعبر طريقاً وسط العاصمة طوكيو (أ.ب)

نساء الريف الياباني يرفضن تحميلهنّ وزر التراجع الديموغرافي

يعتزم رئيس الوزراء الياباني شيغيرو إيشيبا إعادة تنشيط الريف الياباني الذي انعكست هجرة السكان سلباً عليه.

«الشرق الأوسط» (هيتاشي (اليابان))
الولايات المتحدة​ صورة للصحافية الأميركية - الإيرانية مسيح علي نجاد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (صفحتها على موقع «إكس»)

واشنطن تتهم مسؤولاً في الحرس الثوري الإيراني بالتخطيط لاغتيال صحافية في نيويورك

وجّهت الولايات المتحدة اتهامات جديدة إلى مسؤول في الحرس الثوري الإيراني وآخرين بمحاولة خطف صحافية أميركية من أصل إيراني في نيويورك واغتيالها.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
TT

«دماغ السحلية»... أسباب انشغالنا بآراء الآخرين عنا

صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)
صورة لمسح الدماغ أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي (جامعة نورث وسترن)

وجدت دراسة جديدة، أجراها فريق من الباحثين في كلية الطب بجامعة نورث وسترن الأميركية، أن الأجزاء الأكثر تطوراً وتقدماً في الدماغ البشري الداعمة للتفاعلات الاجتماعية -تسمى بالشبكة المعرفية الاجتماعية- متصلة بجزء قديم من الدماغ يسمى اللوزة، وهي على اتصال باستمرار مع تلك الشبكة.

يشار إلى اللوزة تُعرف أيضاً باسم «دماغ السحلية»، ومن الأمثلة الكلاسيكية لنشاطها الاستجابة الفسيولوجية والعاطفية لشخص يرى أفعى؛ حيث يصاب بالذعر، ويشعر بتسارع ضربات القلب، وتعرّق راحة اليد.

لكن الباحثين قالوا إن اللوزة تفعل أشياء أخرى أكثر تأثيراً في حياتنا.

ومن ذلك ما نمر به أحياناً عند لقاء بعض الأصدقاء، فبعد لحظات من مغادرة لقاء مع الأصدقاء، يمتلئ دماغك فجأة بأفكار تتداخل معاً حول ما كان يُفكر فيه الآخرون عنك: «هل يعتقدون أنني تحدثت كثيراً؟»، «هل أزعجتهم نكاتي؟»، «هل كانوا يقضون وقتاً ممتعاً من غيري؟»، إنها مشاعر القلق والمخاوف نفسها، ولكن في إطار اجتماعي.

وهو ما علّق عليه رودريغو براغا، الأستاذ المساعد في علم الأعصاب بكلية فاينبرغ للطب، جامعة نورث وسترن، قائلاً: «نقضي كثيراً من الوقت في التساؤل، ما الذي يشعر به هذا الشخص، أو يفكر فيه؟ هل قلت شيئاً أزعجه؟».

وأوضح في بيان صحافي صادر الجمعة: «أن الأجزاء التي تسمح لنا بالقيام بذلك توجد في مناطق الدماغ البشري، التي توسعت مؤخراً عبر مسيرة تطورنا البشري. في الأساس، أنت تضع نفسك في عقل شخص آخر، وتستنتج ما يفكر فيه، في حين لا يمكنك معرفة ذلك حقّاً».

ووفق نتائج الدراسة الجديدة، التي نُشرت الجمعة في مجلة «ساينس أدفانسز»، فإن اللوزة الدماغية، بداخلها جزء محدد يُسمى النواة الوسطى، وهو مهم جدّاً للسلوكيات الاجتماعية.

كانت هذه الدراسة هي الأولى التي أظهرت أن النواة الوسطى للوزة الدماغية متصلة بمناطق الشبكة المعرفية الاجتماعية التي تشارك في التفكير في الآخرين.

لم يكن هذا ممكناً إلا بفضل التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وهي تقنية تصوير دماغ غير جراحية، تقيس نشاط الدماغ من خلال اكتشاف التغيرات في مستويات الأكسجين في الدم.

وقد مكّنت هذه المسوحات عالية الدقة العلماء من رؤية تفاصيل الشبكة المعرفية الاجتماعية التي لم يتم اكتشافها مطلقاً في مسوحات الدماغ ذات الدقة المنخفضة.

ويساعد هذا الارتباط باللوزة الدماغية في تشكيل وظيفة الشبكة المعرفية الاجتماعية من خلال منحها إمكانية الوصول إلى دور اللوزة الدماغية في معالجة مشاعرنا ومخاوفنا عاطفياً.

قالت دونيسا إدموندز، مرشح الدكتوراه في علم الأعصاب بمختبر «براغا» في نورث وسترن: «من أكثر الأشياء إثارة هو أننا تمكنا من تحديد مناطق الشبكة التي لم نتمكن من رؤيتها من قبل».

وأضافت أن «القلق والاكتئاب ينطويان على فرط نشاط اللوزة الدماغية، الذي يمكن أن يسهم في الاستجابات العاطفية المفرطة وضعف التنظيم العاطفي».

وأوضحت: «من خلال معرفتنا بأن اللوزة الدماغية متصلة بمناطق أخرى من الدماغ، ربما بعضها أقرب إلى الجمجمة، ما يسهل معه استهدافها، يمكن لتقنيات التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة استهداف اللوزة الدماغية، ومن ثم الحد من هذا النشاط وإحداث تأثير إيجابي فيما يتعلق بالاستجابات المفرطة لمشاعر الخوف والقلق».