يحلّ صمتٌ تاركاً للنغمات الانفلاش على المساحة كاملة، فلا يعترضها شيء، لأنها وحدها سيدة المكان. يتناوب طلاب لبنانيون الجلوس إلى بيانو يتوسّط خشبة قاعة «الأسمبلي هول» في الجامعة الأميركية ببيروت، بأسودٍ ترتديه الشابات، يُضاف إليه الأبيض في وضعية الشباب، يحرّكون الأنامل بطلاقة ويعزفون ما سلّمه كبار للتاريخ. موسيقى من دون كلمات، تسبح في الفضاء، وتراقص الروح.
يقدّم الريسيتال العاشر لـ«نادي الموسيقى الكلاسيكية في الجامعة الأميركية»، طلابٌ تعلّموا العزف في الكونسرفتوار أو الجامعة الأنطونية، كما يقول رئيسه وئام حداد. يفردون الأنامل على المفاتيح البيضاء والسوداء؛ ولدقائق، يعزف كل منهم مقطوعة من اختياره أمام حضور تطربه الأناقة.
يدخل جاد توما ببعض الخجل لافتتاح العرض بمقطوعة ليوهان سيباستيان باخ (1685-1750). تتمايل الموسيقى لتوحي بالبساطة المُخادعة، ويتناثر اللحن في الأجواء، بينما يد العازف اليسرى في حالة تأهّب. يحدُث التدفُّق أمام استمرار تصاعُد الصوت، فيتوجّه اللحن بلطف وسرعة إلى ملاذ آمن. الموضوع قوي، تتصدّى له القدرة على خلق ارتداد مبهج. موسيقى باخ تغمر الحضور بوَقْع الشرود الجيّد المزاج.
يعزف الطالب كريم بحر سوناتا «ضوء القمر» للودفيغ فان بيتهوفن (1770-1827) بحركتها الأولى. اللحن جنائزي، يتيح الشعور بالتنافر الإيقاعي. مع تقدّم الحركة، يتفكك التنافر. النَفَس هادئ ورهيب، مع تصعيد عرضي لا يبلغ اندفاعه الذروة.
بعد التصفيق، يؤدّي 4 طلاب معزوفات لفريديريك شوبان (1810-1849). تعزف أنامل سارة فارس مقطوعة من عام 1830، ألّفها الموسيقي البولندي لأخته الكبرى. ظلّت هذه المقطوعة الهادئة غير منشورة خلال حياة الملحّن، يتميّز هيكلها بمقدّمة حزينة، يتبعها موضوع رئيسي مؤرق تبرزه أوتار اليد اليسرى. قطعة مثيرة للذكريات؛ يليها عزف الشاب مالك بحر رقصةَ الفالس التي صمّمها شوبان بثلاثة موضوعات رئيسية تقدّم مجموعة أنسجة موسيقية. يحلّ شعور بمتعة النزهة وسط نغمات مفعمة بالحيوية تسبق ظهور الموضوع الدرامي. تتصاعد من البيانو انطباعات بالحزن والتناغم والعذوبة، قبل أن يُصاب اللحن بالبطء التدريجي وتغيُّر النغمة.
لشوبان أيضاً، يعزف الطالب تيودور الحاج مقطوعة مؤلَّفة في الفترة ما بين 1830 و1832. تحفة رائعة بأناقتها وعمقها العاطفي. يبدأ اللحن مؤثراً وبسيطاً، ويتلوّن تدريجياً. توفر النهاية ذروة عاطفية، اختزالاً لقدرة شوبان على نقل المشاعر القوية بفترة وجيزة. أما إيلينا خوري، فتختم روائع شوبان بمقطوعة «شيرزو» الفريدة ببلاغتها. الافتتاحية سريعة، مثل برق قدره الاختفاء، ثم تنمو النغمات بقوة، مُحدثة شيئاً من القلق والتهديد والعاطفة النارية. تهدأ المشاعر العاصفة، لتبلغ الموسيقى ذروتها، وصولاً إلى نهاية متفجّرة.
4 مقطوعات تسبق نهاية الريسيتال، فيعزف كريم ناصر مقطوعة ألّفها المجري فرانز ليزت (1811-1886) عام 1850، تحمل إشارة إلى قصائد تحاكي الحب والموت، وتعكس الاضطراب الداخلي. تغمر النغمات المستمع بحالة شبيهة بإمكان لمّ الشمل مع الشريك، مؤكدة على التحولات بين الحلم والواقع، والرغبة والوفاء.
على البيانو أيضاً، تعزف نجلاء صادق مقطوعة للفرنسي كلود ديبوسي (1862-1918)، بدأ في تأليفها عام 1890 عندما كان طالباً. لحنٌ متناغمٌ يذكّر بنزهة عاطفية قد لا تكون طويلة. تنضمّ آلة «اليراعة» إلى العرض، فيعزف يامن المختار مقطوعة للمجري بيلا كوفاكس (1937-2021)، انتقاها من مقطوعات كتبها بأسلوب ملحّنين من بينهم باخ، تحية إليهم. تمنح هذه الآلة، الموسيقى، بُعداً صوتياً آخر لجهَتي الأسلوب والشخصية. العازف نفسه يقدّم مع رئيس «نادي الموسيقى الكلاسيكية في الجامعة الأميركية» وئام حداد مقطوعة من تأليف الأخير، مقتبسة من الحركة الثانية من سوناتا التشيللو لحداد، فيُحدث لقاء الـ«كلارينيت» (اليراعة) مع البيانو إيماءات إيقاعية مختلفة. يعلو التصفيق. نهاية العرض.
وُلد النادي عام 2019 بمبادرة من عازفين وعشاق موسيقى من داخل الجامعة وخارجها، أدركوا أهمية أن يثمر الاهتمام المشترك فسحة جمالية. يتحدّث حداد لـ«الشرق الأوسط» عن نقص على مستوى العروض الجماهيرية في داخل المؤسّسات التعليمية الجامعية المهتمّة بالموسيقى، «فالعزف جماعي، لا نصنعه للاحتفاظ به لأنفسنا». يقدّم النادي عروضه في حرم الجامعة وخارجها؛ مرة في بسكتنا وأخرى في بعقلين الجبلية، كما في الأشرفية؛ وهي نوعان، الحفل الموسيقى والريسيتال. لا تخصُّص بالموسيقى في «الجامعة الأميركية»، فيعوّض النادي احتضان مواهب طلابها وإتاحة تجلّيها أمام الجمهور.
يفضّل حداد عدَّ الموسيقى «أداة تعبير»، عوض تصنيفها «لغة كونية»، «فهي خليطُ الغضب والسلام الداخلي وكل شعور ممكن، بصرف النظر عن الإفادة منها والغاية من وراءها». يقول: «للموسيقى مقاربات عدّة، ما يهمّني هو عدم الاستخفاف بهذه المقاربة، سواء أكانت الموسيقى جيدة أم سيئة. فكرة المقاربة واحدة، وهي بمنتهى الجدّية، أشبه بالنظر إلى تحفة فنية. وهذه المقاربة الجدّية لا تشترط بالضرورة صنفَ موسيقى رصيناً وجدّياً. المهم ألا تُهمَّش الموسيقى وتُستَبعد إلى الخلفية».
تخصَّص في الهندسة المعمارية والتصميم المدني، لكنّ الموسيقى تشكل نداء الحياة. يعزف على البيانو منذ 20 عاماً، ويؤلّف مقطوعات. جوّ النادي، وهو أيضاً أحد مؤسِّسيه، «نقاشي ونقدي، نُخرج من الطالب أقصى الطاقات الفنية».