مثلّجات تخطّى عمرها القرن تُحرّك ذاكرة متذوّقيها

على ضفاف البردوني في زحلة بدأت الحكاية وتستمرّ

حَمْل الإرث من جيل إلى جيل (صور كلود قريطم)
حَمْل الإرث من جيل إلى جيل (صور كلود قريطم)
TT

مثلّجات تخطّى عمرها القرن تُحرّك ذاكرة متذوّقيها

حَمْل الإرث من جيل إلى جيل (صور كلود قريطم)
حَمْل الإرث من جيل إلى جيل (صور كلود قريطم)

قبل عامين، تسلَّمت والدة كلود قريطم جائزة المائة عام على نشأة «بوظة قريطم» الشهيرة في زحلة. كانت أيام الأجداد، ولم تكن الثلاجات مألوفة في المطابخ والمحال، ولا الكهرباء وأصناف الراحة. تولَّت برودة الطقس في البقاع اللبناني حفظ ما يؤكل، لتُضيف ابتكارات الإنسان، وفق مبدأ «الحاجة أم الاختراع»، ما يُسهِّل العيش ويُدرِّب على التكيُّف.

بدأت الحكاية من حُبّ الجدّ للحلويات والأطايب، فأكمل ابنه إيلي قريطم دربه. تروي الحفيدة كلود لـ«الشرق الأوسط»: «اعتاد جدّي الصعود إلى جبل صنين القريب من زحلة لجَمْع الثلج وخَلْطه مع الدبس. تذوّق وأحبَّ الطعم. كرّر الخلطة، ووجد أنها ألذّ من الدبس غير المُبرَّد. ثم جرَّب الحامض، وراحت تحلو له النكهات. حينها تساءل: ماذا لو جرَّبتُ الحليب مع الثلج، وكرَّت التساؤلات التي تولّى والدي أمرها لاحقاً حين وضع حجر الأساس لبداية فعلية، بعدما لمعت في باله فكرة أبعد من مجرّد دَمْج الثلج مع المكوِّن الآخر بغرض الالتهام الشخصي».

مائة عام على نشأة «بوظة قريطم» الشهيرة (صور كلود قريطم)

أحضر جدّها وعاء من خشب لوَضْع خليط الثلج والملح مع مكوّنات المثّلجات (البوظة). في الماضي، لم تتّخذ هذه التسمية. كانت لذّة فقط وطعماً شهياً. ثم خطر له دَقّ المكوّنات معاً بواسطة مدّقة خشبية عُرِفت بها تلك الأيام. نجحت الخطوة الأولى، فأكمل والدي الخطوات. أسَّس وُجهة لمَن راحوا يُعجَبون بالطَّعم ويترقّبون الخلطة.

الوعاء الخشبي مع الجدّ أصبح نحاسياً مع الأب، لكنّ المدقّة ظلَّت من خشب. مدّة الدَّقّ امتدّت لساعة للتأكُّد من أنّ المكوِّن بدأ يقسو و«يمغط». تتابع كلود إيلي قريطم: «عُرِف والدي، فقصده الناس لتذوّق خلطاته الباردة. ولمّا تأكّد من أنها تنال الإعجاب، اجتهد ليُطوِّر. أدخل لمسته على مكوّنات الحليب والسكّر والسحلب والمستكة وماء الورد، وتميّز بخلطة بوظة القشطة. آنذاك، كان نهر البردوني يقتصر على الضفاف والأشجار من حوله. لم تتعدَّد المحلات ولا مطاعم كما اليوم. اتّخذ أبي زاويته، وبدأ يبيع المثلّجات وسط صوت الخرير وحفيف الأوراق المتمايلة مع النسائم المنعشة».

مثلّجات على ضفاف النهر بمدينة زحلة البقاعية (صور كلود قريطم)

تذكُر أنها كانت صغيرة حين أيقظها والدها عند الثالثة فجراً لدَقّ «البوظة». ورث هذه العادة من والده الذي اعتاد الاستيقاظ قبل الفجر وارتياد الجبال القريبة والمغاور المنتشرة لإنجاز الخلطة. تقول: «كنتُ أسأل أبي؛ (ولكن أليس من المبكر أن نبدأ العمل في هذه الساعة من الليل؟). ردَّ بجواب حفظه عن أبيه: علينا الاستعجال لتجهز النكهات قبل شروق الشمس، تفادياً للحرارة رغم حفظها بالثلج».

لا تزال «بوظة قريطم» تستعمل المدقّة حتى اليوم لتحضير القشطة. «أما النكهات الأخرى، فتتولّاها الآلات»، تقول الابنة من الجيل الثالث المُحافظة على الإرث لأنه بوصفها «غالٍ جداً، ولن نفرِّط به». سافرتْ إلى إيطاليا وأتت ببعض الوصفات، «لكنني طوّرتها على طريقتي لتصبح خاصة بنا». وبين العربي والإيطالي، «ثمة لمسة لم تتغيَّر، منذ ما يتخطّى الـ100 عام إلى اليوم».

نوستالجيا المكان تُراود الآتين إليه (صور كلود قريطم)

ليس الطَّعم وحده ما تصرُّ كلود قريطم على ألا يفقد خصوصيته من جيل إلى جيل، بل أيضاً العلاقة بالمكان. تتحدّث عن البردوني حيث لا تعبُره سيارة ولا يزال مقصداً لمحبّي الجلسة الحلوة والجوّ الفَرِح. لكنّ المؤثّر في الحكاية هو مرور الزمن على مَن كانوا أطفالاً حين قصدوا النهر لتناوُل المثلّجات مع آبائهم وأمهاتهم، وها هم كبِروا وتزوّجوا وأنجبوا، ومنهم فَقَد السند والدفء بوداع الأهل. تُكمل: «نوستالجيا المكان تُراود الآتين إليه. كثر يتطلّعون إلى المقاعد ويردّدون: هنا جلسنا قبل 20 عاماً. قبل 30. قبل 50... ومنهم مَن تغرّبوا في الأصقاع، ولمّا عادوا في الصيف قصدوا البردوني وقصدونا لاستعادة الذكريات».

عائلة قريطم من مدينة زحلة المُسمَّاة «عروس البقاع». ولمّا شاء المؤسِّس اختيار المكان الأفضل ليُشارك خلطاته الباردة مع المتذوّقين، وجد في ضفاف البردوني وُجهته: «حافظنا على الديكور القديم مع تعديلات طفيفة. فالحجارة أصلها من الجبال الصلبة»، تُنهي كلود قريطم التي تُكمل طريق جدّها ووالدها مع شقيقتها، مُتجاوزةً تحدّيات لبنان الاقتصادية والأمنية، بالإصرار على الصمود والجودة وأمانة حَمْل الإرث.


مقالات ذات صلة

وصفات « تيك توك» و«إنستغرام» تنافس كتب وبرامج الطهي

مذاقات وصفات لذيذة تنشر بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي (الشرق الأوسط)

وصفات « تيك توك» و«إنستغرام» تنافس كتب وبرامج الطهي

إذا أردت أن تتقني صنع «طاجن بامية باللحم»، فسوف تخبرك مُدونة «مطبخ ريتا» بأسرار طهيه على أصوله، وإذا رغبتِ في إعداد طبق أرز بجواره، فيمكن اختيار «أرز مبهّر

محمد عجم (القاهرة)
مذاقات الشيف حديد في مطبخه يحضّر أطباقه اللذيذة (الشيف حديد - «إنستغرام»)

الشيف حسين حديد لـ«الشرق الأوسط»: «منطقتنا بحاجة إلى التطور في عالم الغذاء»

منذ صغره أدرك الشيف حسين حديد أنه يهوى الطعام، كان يرافق جدَّته إلى بعلبك، وكانت رئيسة مهرجاناتها في تلك الفترة. غالباً ما كان يُمضي أيام الصيف بمنزل العائلة

فيفيان حداد (بيروت )
مذاقات منظر رائع لغروب الشمس من شرفة «ييفو» ميكونوس (الشرق الأوسط)

«ييفو» مطعم يعتمد على مبدأ «من المزرعة إلى الطاولة»

ميكونوس جزيرة يونانية حفرت لنفسها مكاناً على خريطة السياحة من خلال الطعام والمطابخ المتوفرة فيها. فهي تضم المطاعم العالمية التي تجدها في عواصم، مثل لندن وباريس.

جوسلين إيليا (ميكونوس)
مذاقات يتم تسوية الدجاج بتتبيلة برتغالية على حطب أشجار البرتقال في نيكوس (الشرق الأوسط)

«نيكوس» نكهة الدجاج البرتغالي في مصر

حين بدأ رجل الأعمال المصري أحمد توفيق التخطيط لإطلاق سلسلة مطاعم تحمل مفهوماً مختلفاً بالنسبة للمصريين رأى في المطبخ البرتغالي التقليدي الخيار المثالي

نادية عبد الحليم (القاهرة)
مذاقات البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات.

إيمان مبروك (القاهرة)

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)
البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)
TT

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)
البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات، في حين عُرف بالاعتماد على مذاق المكونات الأساسية، مع لمسة محدودة لم تتخطَّ صنفين أو ثلاثة من التوابل.

غير أن الوضع تبدّل الآن، وباتت الأكلات المصرية غارقة في توليفات التوابل، فدخل السماق والزعتر البري والكاري والبابريكا على الوصفات التقليدية. وعلى مدار سنوات عدة قريبة تطوّر المطبخ المصري، وبات أكثر زخماً من حيث النكهات، ليطرح السؤال عن مدى تأثره أو تأثيره في الجاليات التي توجد بالبلاد.

ويرى خبراء الطهي، أن معادلة التوابل لدى المصريين اختلفت بفضل الاندماج الثقافي وتأثير الجاليات العربية التي دفعتهم ظروف الحروب لدخول مصر والاستقرار بها، أيضاً منصات التواصل الاجتماعي التي أزاحت الحدود، ودفعت بمفهوم «المطبخ العالمي»، فنتج خليط من النكهات والثقافات استقبلته المائدة المصرية بانفتاح.

البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

ورأت الطاهية المصرية أسماء فوزي، في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن المطبخ المصري الآن «بات مزيجاً من ثقافات عربية»، وقالت: «عندما بدأت أتعلَّم الطهي من والدتي وجدتي، كانت توليفة التوابل الأشهر تشمل الملح والفلفل، وفي وصفات شديدة الخصوصية قد نستعين بالكمون والحبّهان على أقصى تقدير، أما الكزبرة المجففة فكانت حاضرة في طبق (الملوخية) فقط».

لكنها أشارت إلى أنه قبل سنوات معدودة لاحظت تغييراً واضحاً في تعاطي المطبخ المصري التوابل، و«بدأتُ للمرة الأولى أستعين بنكهات من شتى بقاع الأرض لتقديم مطبخ عصري منفتح على الآخر».

التوابل والأعشاب المصرية مرت برحلة مثيرة عبر قرون من التاريخ والثقافة، واشتهر المطبخ المصري قديماً بمجموعة من الكنوز العطرية، تشمل الكمون بنكهته العميقة التي ارتبطت بطبق «الكشري»، والكزبرة، تلك الأوراق الخضراء المجففة التي تضيف لطبق «الملوخية» نكهته الفريدة، كما عرف الشبت ذو النكهة العشبية المميزة الذي ارتبط ارتباطاً وثيقاً بوصفات التمليح (التخليل) والسلطات.

يتفق محمود عادل، بائع بأحد محال التوابل الشهيرة في مصر، يسمى «حاج عرفة»، مع القول بأن المطبخ المصري تحوّل من محدودية النكهات إلى الزخم والانفتاح، ويقول: «المصريون باتوا يميلون إلى إضافة النكهات، وأصبح أنواع مثل السماق، والأوريجانو، والبابريكا، والكاري، والكركم، وورق الغار، وجوزة الطيب والزعتر البري، مطالب متكررة للزبائن». ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «ثمة انفتاح على المطابخ العالمية بسبب منصات التواصل الاجتماعي انعكس على سوق التوابل، وهو ما يعتبره (اتجاهاً إيجابياً)».

ويرى عادل أن «متجر التوابل الآن أصبح أكثر تنوعاً، وطلبات الزبائن تخطت الحدود المعروفة، وظهرت وصفات تعكس الاندماج بين المطابخ، مثل الهندي الذي تسبب في رواج الكركم وأنواع المساحيق الحارة، فضلاً عن الزعفران»، منوهاً كذلك إلى المطبخ السوري، أو الشامي عموماً، الذي حضر على المائدة المصرية بوصفات اعتمدت نكهات الزعتر والسماق ودبس الرمان، ووضعت ورق الغار في أطباق غير معتادة.

وتعتقد الطاهية أسماء فوزي، أن سبب زخم التوابل وتنوعها الآن في مصر، يرجع إلى «الجاليات العربية التي دخلت البلاد عقب (ثورة) 25 يناير (كانون الثاني) عام 2011، أي قبل أكثر من عقد». وتقول: «بصمة المطبخ السوري بمصر كانت واضحة، فالجالية السورية اندمجت سريعاً، وقدمت مهارات الطهي من خلال المطاعم و(المدونين)، وانعكس ذلك على اختيارات التوابل، وبات ملاحظاً إضافة توليفات التوابل السوري، مثل السبع بهارات لوصفات مصرية تقليدية».

بهارات متنوعة (صفحة محال رجب العطار على «فيسبوك»)

كما أشارت إلى أن «المطبخ العراقي ظهر، ولكن على نحو محدود، وكذلك الليبي»، وتقول: «ما أتوقعه قريباً هو رواج التوابل السودانية، مع تزايد أعدادهم في مصر بعد الحرب، لا سيما أن المطبخ السوداني يشتهر بالتوابل والنكهات».

انفتاح أم أزمة هوية؟

كلما انعكست مظاهر الانفتاح الثقافي على المطبخ المصري، ازدادت معه مخاوف الهوية، وفي هذا الصدد تقول سميرة عبد القادر، باحثة في التراث المصري، ومؤسسة مبادرة «توثيق المطبخ المصري»: «إنه (المطبخ المصري) لم يعتمد في أصوله على النكهات المُعززة بالتوابل المختلطة»، وترى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن تفرّد المطبخ المصري القديم يرجع إلى اعتداله في إضافة التوابل... «هذا لا يعني إهماله لسحر مذاق البهارات والتوابل، غير أنه كانت له معادلة شديدة الدقة، كما أن علاقة المصري بالتوابل ذهبت قديماً إلى ما هو أبعد من فنون الطهي».

وأرجعت الباحثة في التراث المصري زيادة الاهتمام بالتوابل إلى (المؤثرين) وطُهاة «السوشيال ميديا»، وتقول: «المطبخ المصري لا يعتمد على التوابل بهذا القدر، في حين هناك عوامل كانت وراء هذا الزخم، أهمها (المؤثرون) و(مدونو) الطعام؛ غير أن إضافة التوابل بهذا الشكل ربما تُفقد المطبخ المصري هويته».

ولفتت إلى أن «المطبخ المصري القديم اعتمد على الملح والفلفل والكمون فقط، أما بقية التوابل فكانت تستخدم لأغراض مثل العلاج والتحنيط؛ وفي العصور الوسطى شهد بعض الاندماج بعد فتح قنوات التواصل مع الدول المحيطة، ولكن على نحو محدود لا يُقارن بالزخم الحالي».