العرض الذي قدمه الأميركي ماثيو م. ويليامز لدار «جيفنشي»، خلال أسبوع باريس الأخير لربيع وصيف 2024، كان أكبر مثال أن الإرث عندما يكون غنياً يُصبح عبئاً على المصمم مهما كانت قدراته.
فالفرق بين المؤسسين في القرن الماضي، مثل كريستيان ديور، وإيف سان لوران، وجيورجيو أرماني، وهيبار جينفشي وغيرهم، وبين المصممين اليوم أن هؤلاء رسموا أفكارهم وأسلوبهم على صفحة بيضاء، وبالتالي كانت مساحة الإبداع أمامهم شاسعة يجولون ويصولون فيها كما شاءوا.
الجيل الجديد من المصممين في المقابل، يُقيدهم هذا الإرث، والمساحة البيضاء المتبقية من الصفحة لا تُتيح لهم الكثير من الحركة. وهنا تكمن صعوبة تحقيق التوازن بين جموحهم للإبداع وفرض رؤيتهم الفنية واحترامهم لأساسيات الماضي. والمسألة هنا ليست صراعاً بين جيلين بقدر ما هي أيضاً صراع بين زمنين. وهذا ما رأينا في الكثير من عروض باريس الأخيرة، ونذكر منها على سبيل المثال عرض «سان لوران» التي عاد فيه مصممها الحالي أنطوني فاكاريللو إلى سترة السافاري التي قدمها الراحل إيف سان لوران في القرن الماضي ليستوحي منها.
في عام 1967، وهو العام الذي قُدِمت فيه، كانت ثورية، بحيث استقبلتها أوساط الموضة بإعجاب وانبهار. كانت قوية بحيث يصعب زعزعة صورتها الأيقونية. وهذا ما جعل أنطوني فاكاريللو يكتفي بإعادتها إلى الواجهة وترجمتها في قطعة واحدة تكررت في كل العرض، ألا وهي «الجامبسوت» الذي ظهر أيضاً بألوان ترابية تستحضر الرمال الذهبية ودفء مدينة مراكش، معشوقة المؤسس الراحل.
التحدي نفسه واجهه ماثيو ويليامز مصمم دار «جيڤنشي» في تشكيلته الأخيرة. كانت الأناقة حاضرة فيها، لكن الجديد بمعنى الثوري غائب باستثناء الإكسسوارات، إلى حد جعل ناقدة الموضة الأميركية كاثي هورين تُندِد «بافتقار الخيال»، وتتساءل: «أين ألوانك؟ أين أفكارك؟». من جهته، كتب ناقد الموضة غودفري ديني أن البدلات المكونة من جاكيتات وتنورات والفساتين بألوانها الداكنة أوحت بـ«أجواء جنائزية بعض الشيء».
لكن لم يكن كل شيء مثيراً للتشاؤم، وإن أكد أن النبش في أرشيف الأوائل والاحترام الزائد، هو نعمة كما قد يكون نقمة. نقمة لأنه يُكبِل خيال المصممين كما يضعهم في مقارنات غير عادلة أحياناً. فمصمم «جيفنشي» نجح في تقديم تشكيلة تتوفر على كل عناصر الأناقة المعاصرة لكن تفتقد إلى الجديد.
لم تُخف الدار أن تشكيلته عكست مفهوم الأناقة من منظور مشترك يستند إلى إرثها العريق وسعيها الحالي إلى تجسيد البساطة. ونوَهت في بيانها الصحافي بأنه «على هذا الأساس اجتهد المدير الإبداعي في ابتكار سيمفونية يتناغم فيها التصميم مع الأناقة العصرية، ويترجم هذا المزيج على أرض الواقع في سهولة تنسيق الملابس».
والحقيقة أنها لم تبالغ في الوصف. فكثير من العناصر المستعملة ضاعف المصمم من رومانسيتها وسهولة تنسيقها، من فساتين الشيفون التي تنسدل على الجسم إلى الياقات التي تستوحي تقوساتها من منحوتات مروراً بالأزهار المرسومة باليد وبتقنيات جديدة.
المتابع للعرض لا بد وأن تشُدَّه أيضاً الطريقة التي تتأرجح فيها التصاميم بين الضيقة والفضفاضة، بين المنحوتة على شكل ساعة رملية هندسية، والمنسوجة من الصوف المستخدم للبدلات الرجالية بهندسية، مع تقوسات نصف دائرية في الياقة والأطراف السفلية. جاكيتات وفساتين أخرى تتمتّع بتصميم خلفي مفتوح على شكل مقوّس أو مجنّح، بينما تبرز سترات البلايزر ناعمة بصفّين من الأزرار.
من الرموز القديمة التي عاد إليها ويليامز الوردة التي ظهرت في مجموعة من القطع على شكل تطريزات وأشكال مرسومة يدوياً على الشيفون والتافتا والأورغنزا. لم تضاهها رومانسية سوى الدانتيل، وهو رمز آخر من الرموز القديمة استعمل هنا في عدة فساتين بجرعات متباينة. فأحياناً يظهر فقط في منطقة الصدر على شكل مروحة.
المساحة الإبداعية للمصمم تجلّت أكثر في أحجام السترات والمعاطف، التي جاءت أكثر هندسيةً من ناحية الأكتاف واتساعها، كذلك في تقنية صبغ الحرير بالطين. تقنية اشتهرت خلال عهد سلالة مينغ في الصين، وكما تشرح الدار: «تقضي بغمر الحرير في طين النهر ليفضي عن تأثير متموّج شبيه بالجلد». تمّ تنسيق بعض من هذه الفساتين مع جاكيت بوليرو أو بتصميم هندسي.
ربما تكون التفاصيل والإكسسوارات المتنفس الواسع للإبداع، الأمر الذي تؤكده اقتراحات الدار الجريئة والمتنوعة من خلال مجموعة سخية من عقود الشوكر الكريستالية والأقراط وأقراط الأنف والخواتم جميعها بلؤلؤة أو بورود معدنية إلى جانب أطواق الرأس الرفيعة باللون الذهبي أو الفضي.
من الإكسسوارات التي وضعتها معظم بيوت الأزياء ضمن أولوياتها هذا الموسم، الأحذية. ولم يختلف الأمر بالنسبة لـ«جيفنشي»، إذ جاءت بكعوب عالية ومدببة تتغلف بطبقة من القماش الشبكي تمتّد نحو أعلى الساق مع حزام رفيع يثبّتها عند الكاحل.
وتأتي هذه الأحذية مصنوعة من الجلد ومزينة بالكريستال، كما تزدان بالقماش الشبكي الأسود. بجوارها، تظهر أحذية مدببة أيضاً تلتفّ حولها أقمشة من الحرير المطلي بالطين، وأقمشة شفافة، تلتفّ عند منطقة أصابع القدم لتحاكي شكل زهرة. أضف إلى ذلك أحذية مفتوحة من الأمام تغطيها كشاكش.