تفجير مطار الجزائر... «قراءة» في اعترافات المنفّذين

دبلوماسيون بريطانيون: الهجوم يؤكد التحول المتنامي نحو الراديكالية في «جبهة الإنقاذ» وكسوف فرع الجزأرة (2 من 3)

قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)
قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)
TT

تفجير مطار الجزائر... «قراءة» في اعترافات المنفّذين

قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)
قاعة مطار الجزائر الدولي بعد تفجيرها في أغسطس 1992 (غيتي)

في 26 أغسطس (آب) 1992، شهدت العاصمة الجزائرية تفجيراً كبيراً استهدف مطار الجزائر الدولي، مطار هواري بومدين، وكان مؤشراً واضحاً إلى أن البلاد تتجه نحو مرحلة جديدة من المواجهة بين قوات الأمن والإسلاميين المتشددين. لم يكن تفجير المطار أول هجوم يقوم به مناصرو «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» منذ إلغاء الانتخابات التي كان حزبهم على وشك الفوز بها قبل إلغاء نتائج دورة الاقتراع الأولى في يناير (كانون الثاني) 1992. لكنه مثّل بالتأكيد البداية الفعلية لما بات يُعرف في الجزائر بـ«العشرية السوداء» أو «العشرية الدموية» التي استمرت طوال حقبة تسعينات القرن الماضي وأسفرت على آلاف الضحايا.

لم يكد يمرّ شهر على تفجير المطار الذي تسبب في مقتل 9 أشخاص وجرح أكثر من 118 آخرين، حتى تمكنت أجهزة الأمن من كشف الخلية المتورطة به. كان المسؤول الأساسي في الخلية هو حسين عبد الرحيم، الرئيس السابق لمكتب عباسي مدني رئيس «جبهة الإنقاذ» والنائب السابق عن هذا الحزب الذي تم حظره بعد إلغاء المسار الانتخابي. اعتُقل عبد الرحيم مع مجموعته التي ضمت رشيد حشايشي، وهو قائد طائرة في الخطوط الجوية الجزائرية ومسؤول «النقابة الإسلامية» والسعيد شوشان وهو نائب رئيس إحدى بلديات العاصمة. بث التلفزيون الجزائري اعترافاتهم، كما فعلت الصحف الجزائرية. نال عبد الرحيم نفسه حكماً بالإعدام في مايو (أيار) 1993 - وتم تنفيذ الحكم به مع أربعة آخرين من المدانين معه.

في هذا الإطار، تكشف الوثائق الحكومية البريطانية التي تنشرها «الشرق الأوسط» عن نظرة الجانب البريطاني في خصوص قضية تفجير المطار بناءً على تقرير من سفارة المملكة المتحدة في العاصمة الجزائرية كتبه القائم بالأعمال كيث بلومفيلد الذي تولى لاحقاً منصب رئيس قسم سياسة مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية في لندن قبل الانتقال للعمل سفيراً في نيبال. قدّم التقرير الذي كُتب عقب بث اعترافات المتهمين على التلفزيون وقبل تنفيذ الحكم بهم، عرضاً لأبرز ما قالوه وتحليلاً لإمكان أن يكون ما جاء على لسانهم تم بناءً على التعذيب. ويخلص التقرير إلى أن هناك «تحولاً متنامياً نحو الراديكالية» في «جبهة الإنقاذ» و«كسوفاً لفرع الجزأرة الأكثر اعتدالاً»، بحسب التوصيف البريطاني للتيارات التي يتألف منها هذا الحزب الإسلامي. ويضيف أن الاعترافات تؤكد «خطورة الحديث عن (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وكأنها كل متجانس».

ناشطون في النقابة الإسلامية للعمل القريبة من الجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال تجمع في العاصمة الجزائرية عام 1991 (غيتي)

وفي هذا الإطار، يسلّط التقرير الضوء على بعض مكونات «جبهة الإنقاذ»؛ بناءً على ما ورد في «اعترافات» منفّذي تفجير المطار، محاولاً تحديداً تفسير سبب «توريط» قادة في الجبهة تم طردهم منها أو تجميد عضويتهم فيها خلال «مؤتمر باتنة» في صيف عام 1991. فقد تضمنت «الاعترافات» المزعومة التي بثّتها الحكومة الجزائرية اسمَي قياديَين في «الإنقاذ»، هما الهاشمي السحنوني وعزوز الزبدة، على رغم أنهما أُبعدا من هذا الحزب بزعم أنهما من «الخونة» الذين يتعاملون مع الحكم الجزائري. كما تضمنت المزاعم نفسها اسمي قياديين آخرين، هما سعيد مخلوفي و(أكس) (تم تعريفه بالاسم في الوثيقة البريطانية). وفي حين أن مخلوفي، الذي توفي على الأرجح عام 1993، كان معروفاً بدعمه تياراً متشدداً في «الإنقاذ» ينادي بالمواجهة مع السلطة الجزائرية وشكّل (مع آخرين) جماعة «حركة الدولة الإسلامية»، فإن الآخر (أكس)، فيُعرف أنه ذهب إلى باكستان وأقام علاقات مع إسلاميين جزائريين شاركوا في الجهاد الأفغاني، ولجأ لاحقاً إلى دولة أوروبية. والمزاعم في شأنه التي وردت في اعترافات منفذي هجوم المطار والتي حللها تقرير السفارة البريطانية، لا تعني بالطبع أنها صحيحة أو تُشكّل دليلاً ضده أمام القضاء في الدولة التي يقيم فيها.

في أي حال، استبق التقرير البريطاني، في واقع الأمر، ما سيحصل مع «جبهة الإنقاذ» في السنوات اللاحقة. فقط تشظّت هذه الجبهة إلى جبهات. فقادتها السياسيون، الذين تمثّلوا على وجه الخصوص بعباسي مدني ونائبه علي بن حاج، كانوا يقضون عقوبات بالسجن (أو الإقامة الجبرية). في غياب هؤلاء، انقسم حزبهم إلى أكثر من تيار. منهم من شكّل «الجيش الإسلامي للإنقاذ» وتحوّل إلى العمل المسلح. ومنهم من انخرط في جماعة مسلحة تُطلق على نفسها «حركة الدولة الإسلامية»، في حين التحق آخرون بـ«الجماعة الإسلامية المسلحة». فرضت هذه الجماعة الأخيرة نفسها، بحلول عام 1994، القوة المسلحة الأكبر بين الجماعات الجزائرية. لم تكن الأكبر فقط، بل كانت أيضاً الأكثر دموية والأكثر تطرفاً.

تحليل بريطاني لاعترافات منفذي هجوم مطار العاصمة الجزائرية عام 1992 (الشرق الأوسط)

فماذا جاء في التقرير البريطاني بخصوص اعترافات المتهمين بتفجير المطار؟

مطار هواري بومدين... اعترافات المتهمين

في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 1992، كتب القائم بالأعمال البريطاني في الجزائر ك. ج. بلومفيلد تقريراً إلى آر. جينر في قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا بوزارة الخارجية جاء فيه:

اعترافات قنبلة المطار

1- ربما ستجدون من المفيد الحصول على تحليل أكثر تفصيلاً للاكتشافات المختلفة (التي عُرضت) على التلفزيون أخيراً في خصوص الإرهاب الإسلامي في الجزائر.

2 - قبل النظر إلى ماذا تقول فعلاً هذه الاكتشافات، من المجدي التساؤل عما إذا كانوا الإرهابيين الحقيقيين، وما إذا كانت اعترافاتهم حقيقية. في العالم العربي (وفي أماكن أخرى) «الاعترافات» التي يتم تنظيمها هي سلاح دعائي شائع، وفي حالة مفجّري مطار الجزائر، الروابط المتعددة بين «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» والإرهابيين تبدو ملائمة جداً لأغراض النظام كي تكون موثوقة كلياً. وعلى رغم محاولات «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» لتشويش الصورة (مثلاً من خلال إشاعات تفيد بأن أحد الذين ظهروا على التلفزيون إنما هو ميّت منذ أسابيع عدة نتيجة التعذيب)، فإن الشعور هنا - على رغم ذلك - أن حسين عبد الرحيم والمتآمرين معه حقيقيون. نعرف على سبيل المثال أن عبد الرحيم انتُخب نائباً عن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» عن (دائرة) بوزريعة في 26 ديسمبر (كانون الأول) 1991، واستطعنا أن نؤكد أنه كان حقاً في ديوان (عباسي) مدني.

3- أما في خصوص هل الاعترافات تم التلاعب بها، فإن الجواب هو «نعم» مشددة. على رغم مزاعم التعذيب، الطريقة التي تحدث بها الأشخاص لم تظهر وكأنها أداء كلاسيكي ناتج من التعذيب. ولكن الاعترافات، على رغم ذلك، يمكن أن تكون انتُزعت في مقابل وعود بالرأفة، وهناك من يعتقد أنهم صُوّروا بكاميرات مخفية. ومن الغريب أيضاً أنهم في حين زعموا مسؤوليتهم عن تفجيرات سابقة، لم تكن هناك إشارة إلى الموجة الثانية من تفجير الطائرات في 23 سبتمبر (أيلول) - والتفسير المحتمل لذلك، أن الاعترافات التي بثها التلفزيون تم تصويرها قبل 23 سبتمبر. أما لجهة طريقة تقديم الاعترافات، سواء عبر التلفزيون أو لاحقاً عبر الصحف، فإن ذلك بلا شك كان منظماً من وراء الستار. كل أنواع الخلاصات تم استنتاجها، وكثير منها غير مبرر كلياً من خلال ما قيل حقاً (في الاعترافات). ومن الجدير الإشارة إلى أنه لم يكن في أي مكان من نص الاعترافات التالي: أولاً: أي إشارة إلى أن (قنبلة) المطار أو تفجيرات أخرى تمت بأمر من «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (عبد الرحيم قال إن الفكرة فكرته هو). ثانياً، أي إشارة إلى أن «التيار الأساسي» في قيادة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (أي في مقابل القادة السابقين الذي تشوّهت صورتهم) كان له أي اتصال بمجموعات عنيفة قبل انقلاب يناير. ثالثاً، أي إشارة إلى حكومات أجنبية، أي على عكس أشخاص أو جماعات تعمل على أرض أجنبية، ضالعة في تزويد (المفجّرين) بالمال أو الأسلحة.

طالبات في العاصمة الجزائرية في ظل تصاعد أعمال العنف في بدايات تسعينات القرن الماضي (سيغما - غيتي)

4- ما تم زعمه في الاعترافات هو أن مجموعات إسلامية مسلحة عدة ظهرت خلال فترة تمتع «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» بالشرعية، وأنه كان هناك تنسيق في ما بينها، وأن أربعة من القادة السابقين في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» تم تجميد عضويتهم في مؤتمر باتنة في يوليو (تموز) 1991 (سحنوني (الهاشمي سحنوني)، زبدة (عزوز زبدة)، مخلوفي (سعيد مخلوفي) وأكس) كانوا منخرطين مباشرة في هذه المجموعات، وأن إحداها كانت برئاسة سحنوني نفسه. بعد إلغاء الانتخابات في يناير 1992، قامت قيادة التيار الرئيسي في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، ممثلة بشراطي (يخلف شراطي) ورجام (عبد الرزاق رجام رئيس ديوان عباسي مدني)، والعاملة باسم محمد السعيد، بالاتصال، كما يُزعم، بمجموعة عبد الرحيم وعرضت عليها دعماً مادياً ومالياً ومعنوياً. تم لاحقاً تقديم 200 ألف دينار جزائري من أجل شراء أسلحة. (أكس)، صلة الوصل في فرنسا، كتب أيضاً لعبد الرحيم عارضاً عليه دعم مجموعات في أفغانستان والسودان كانت جاهزة لتزويده أسلحة عبر ليبيا. تمت أيضاً محاولات لشراء أسلحة من المجموعة المسؤولة عن هجوم قمار في نوفمبر 1991 (هجوم قمّار شنه متشددون ضد جنود في الجيش الجزائري في ولاية الوادي الحدودية مع تونس في نوفمبر 1991، أي قبل إلغاء الانتخابات) وفي شكل مباشر من السودان وليبيا.

5- هل هذه الاعترافات جديرة بالتصديق؟ سحنوني وزبدة كلاهما ظهر أخيراً لإعطاء أدلة في المحكمة، في قضية مختلفة، وكلاهما تحدث للصحف. من المثير للفضول أن أياً منهما لم يتم اعتقاله على رغم القوانين الجديدة الشاملة في شكل واسع لمكافحة الإرهاب. في مقابلاتهما الصحافية، نفى كل منهما اتهامات عبد الرحيم. سحنوني، في الوقت الذي رفض فيه أي صلة له بجماعات مسلحة، أوحى بأن مثل هذه الجماعات كانت بالفعل موجودة منذ ما قبل انتخابات 26 ديسمبر بفترة طويلة وأن قيادة «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» التي تولت القيادة بعد يوليو (أي بعد مؤتمر باتنة) فقدت كلياً أي سيطرة عليها. وفي إشارة معبّرة (ذات دلالة)، يسأل لماذا يجب أن تعطيه «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» أي نوع من الأدوار المتعلقة بالكفاح المسلح بعدما تبرأت منه على أساس أنه خائن عقب ظهوره هو نفسه على التلفزيون في يوليو 1991؟ فكيف يمكن أن يكون منسقاً (للتفجيرات) كما زعم عبد الرحيم؟ الزبدة، في حين أنه أقرّ بمعرفته بعبد الرحيم عندما كانا سوياً أعضاء في المكتب التنفيذي لمدني، فإنه ادّعى مسؤوليته عن تنزيل مرتبة عبد الرحيم من «رئيس الديوان» إلى إعطائه مسؤولية النقابات التجارية الإسلامية. وبحسب ما يقول الزبدة، فإن عبد الرحيم كان شاباً لا يتمتع بالخبرة وراديكالياً متشدداً. وهكذا يبدو من المعقول أن عبد الرحيم، تحت ضغط لتسمية أسماء (ضالعة معه) وتوريط «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، اختار كضحايا له أربعة من القادة السابقين الذين تم تجميد عضويتهم في الجبهة، وبينهم اثنان تم توصيفهما بأنهما «خائنان» وواحد منهما على الأقل كان له دور في تنزيل مرتبته (في الجبهة).

تجمع لقادة جبهة الإنقاذ في العاصمة الجزائرية عام 1990 (أ.ف.ب.غيتي)

6- هذه النظرية لا تفسر بالطبع لماذا ورّط عبد الرحيم أيضاً فرع الجزأرة في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» (رجام وشراطي) باتهامهما بتمويل جماعات مسلحة بعد إلغاء الانتخابات. أحد الدوافع المحتملة قد يكون شخصياً - فرجام تولى مسؤولية رئيس ديوان مدني عقب تنزيل مرتبة عبد الرحيم - ولكن الأكثر احتمالاً أن عبد الرحيم أراد ببساطة أن يجعل من المستحيل حصول أي نوع من الحوار مع الجناح المعتدل في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ». ومن الممكن حقاً أيضاً أن يكون هذا هو الدافع لتفجير المطار كذلك.

7- لا أريد أن أفترض ضمناً (تلميحاً)، من خلال تقديم هذه النظريات، أن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» ليس لها صلة بحملة الإرهاب الحالية. في الحقيقة، رسالتي بتاريخ 7 سبتمبر أشارت إلى التحول المتنامي نحو الراديكالية في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وكسوف فرع الجزأرة الأكثر اعتدالاً منذ يناير. ولكن من الواضح أن علينا أن نكون واعين لعدم أخذ الاعترافات التلفزيونية على قيمتها الظاهرية. إنها فقط عنصر واحد من صورة معقدة إلى حد ما، ولضرورة التأكيد مرة أخرى على خطورة الحديث عن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» وكأنها كل متجانس.

8- أحد المتفرعات من الاعترافات والشهرة التي تبعتها كان ظهور كمية لا بأس بها من المعلومات الجديدة عن أشخاص في الحركة الإسلامية الجزائرية. نسجّل حالياً بشكل منهجي مثل هذه المعلومات على فهرس بطاقات. سنرسل لكم نسخة عنها في الحقيبة (الدبلوماسية) المقبلة، كما آمل، في حال وجدتم أنها قد تكون مفيدة لكم ولقسم الأبحاث والتحليل في متابعة هذه المسألة الغامضة».

رئيس حكومة سابق في لندن... ماذا لو طلبت الجزائر تسليمه؟

وثيقة بريطانية عن رئيس الوزراء الجزائري السابق عبدالحميد براهيمي

لم يكن استقبال بريطانيا للقيادي في «جبهة الإنقاذ» أنور هدام الإشكالية الوحيدة التي سلّطت الوثائق البريطانية السرية الضوء عليها (راجع الحلقة السابقة). فقد كان هناك «ضيف» آخر على الأراضي البريطانية تخشى الحكومة أن يسبب مشكلة لها مع نظيرتها الجزائرية. إنه عبد الحميد براهيمي، رئيس الحكومة الجزائرية السابق (بين 1984 و1988)، الذي كان محور مراسلات دبلوماسية بين السفارة البريطانية في الجزائر ووزارة الخارجية في لندن.
كانت بريطانيا تخشى أن تقدّم الحكومة الجزائرية طلباً لترحيل براهيمي إليها لمساءلته في قضية المزاعم التي أطلقها عن «اختلاس» 26 مليار دولار من خزائن الدولة الجزائرية نتيجة الفساد خلال حقبة الثمانينات. انشغلت الجزائر في الواقع لفترة طويلة بـ«قنبلة» المليارات المختلسة، وصار اسم براهيمي مرتبطاً بها إلى حين وفاته في أغسطس (آب) 2021 بمستشفى عين النعجة العسكري في الجزائر التي عاد إليها بعدما عاش لسنوات طويلة في منفاه البريطاني. فما قصة عبد الحميد براهيمي ولجوئه إلى بريطانيا في تسعينات القرن الماضي؟
تناول هذه القضية السفير البريطاني لدى الجزائر كريستوفر باتيسكوم الذي كتب، في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، مراسلة (محفوظة في الأرشيف الوطني) موجهة إلى د. ريتشموند، في قسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية، مثيراً قضية ناشطي «جبهة الإنقاذ» في أوروبا.

وثيقة بريطانية عن رئيس الوزراء الجزائري السابق عبدالحميد براهيمي

جاء في الرسالة:
«ناشطو الجبهة الإسلامية للإنقاذ في أوروبا: عبد الحميد براهيمي
1 - نشر الإعلام الجزائري تكراراً مواضيع على مدى الأيام القليلة الماضية عن رئيس الحكومة الأسبق، عبد الحميد براهيمي، الذي صدر في حقه استدعاء لتقديم أدلته بخصوص مزاعمه العلنية في مارس (آذار) 1990 بأن 26 مليار (دولار) اختُلست من خزائن الدولة من خلال الفساد. وربما تعلم أن براهيمي يعيش منذ بعض الوقت في إنجلترا، حيث يحاضر في الاقتصاد الإسلامي بجامعة ليستر. لقد تقدمت أسرته أمس في السفارة بطلبات للحصول على تأشيرة (ابنته، كما يبدو، حصلت على فرصة عمل في ليستر)، لذلك يبدو أنه يخطط للبقاء (في بريطانيا). أخفق براهيمي، كما يبدو حتى الآن، في الرد على طلب الاستدعاء، رغم – كما تقول وسائل الإعلام – الإعلان الأخير الذي أدلى به رئيس الحكومة (الجزائرية) أمام المجلس الاستشاري الوطني أن الحكومة مستعدة لمنحه كل الضمانات الضرورية. تتكهن الصحف حول ما إذا كانت المحاكم ستصدر استدعاءً جديداً لبراهيمي، وحول ما إذا كانوا سيتركون المسألة تسقط ببساطة، أو ما إذا كانوا سيلجأون إلى الإنتربول (في ظل غياب معاهدة تسليم بين بريطانيا والجزائر).
2 - هذا السؤال كان فعلاً محور نقاش عندما تقابلت مع الوزيرة الجديدة المستشارة للشؤون القانونية والإدارية السيدة بلميهوب - زيداني (مريم بلميهوب) خلال حفلة استقبال أمس. السيدة زيداني لم تطلب شيئاً محدداً مني، وليس من أي أحد آخر حتى الآن، لكنها قالت إنه بما أنه أدلى بهذه المزاعم فإن براهيمي عليه استحقاق أمام الجميع كي يعود ويكشف ما هي الأدلة التي يملكها. واصلت (حديثها) موجهة اتهاماً لبراهيمي بأنه مؤيد بوضوح للجبهة الإسلامية للإنقاذ، معتبرة أن هدف إطلاق مزاعمه عام 1990 كان مساعدة الجبهة الإسلامية للإنقاذ على الفوز بالانتخابات البلدية في يونيو (حزيران). لقد كشف عن لونه الحقيقي أكثر العام الماضي عندما انضم (مع وزير الخارجية السابق الذي يحمل اسم الشهرة ذاته أحمد طالب الإبراهيمي) عضواً في لجنة الدفاع عن حقوق قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ المسجونين. شخصياً، لدي بعض الشكوك حيال تفسيرات السيدة زيداني بما أنني أعربت عن اعتقادي في ذلك الوقت، وما زلت أعتقد، أن المزاعم التي أدلى بها براهيمي لها علاقة بالصراعات الداخلية في جبهة التحرير الوطني أكثر مما هي للترويج للجبهة الإسلامية للإنقاذ. ولكن ليس لدي شك في أنها تعكس وجهة نظر كثيرين من النظام الحالي. ما قالته (الوزيرة الجزائرية) ينسجم مع إيحاءات أخرى صدرت أخيراً في وسائل الإعلام أن الشاذلي (بن جديد) نفسه كان لفترة طويلة يروج سراً للجبهة الإسلامية للإنقاذ بوصفها وسيلة لإبقاء نفسه في السلطة.

الشاذلي بن جديد (غيتي)

3 - إن مثل هذا الكلام لن يشجع بالطبع براهيمي على العودة وربما يفسر لماذا تسعى عائلته بتلهف للحاق به في المملكة المتحدة. آمل ألا تكبر هذه المسألة إلى صراع قضائي من أجل إعادة براهيمي (إلى الجزائر)، ولكن بما أنه ليست هناك حالياً اتهامات حقيقية ضده، فإن هذه المسألة تبدو، في الأسوأ، ما زالت بعيدة حالياً.
4 - ولكن هذا يقود إلى موضوع ربما يكون له اهتمام أوسع (ومن هذا المنطلق تأتي الجهات التي يتم توجيه هذه البرقية لها) – الانتقاد المتصاعد الذي يصدر هنا حيال الدول الأوروبية لإيوائها أعضاء في الجبهة الإسلامية للإنقاذ المعارضة. زميلي السفير الألماني الجديد أخبرني أنه في كل زيارات اللقاءات التعارفية التي يقوم بها يتم الهجوم عليه من وزراء جزائريين بسبب وجود القادة السابقين للجبهة الإسلامية للإنقاذ في ألمانيا ونشاطاتهم. وسائل الإعلام كانت أيضاً فتاكة في خصوص السهولة التي يحصل فيها ناشطو جبهة الإنقاذ على تصاريح إقامة في فرنسا أو لحصولهم على اللجوء السياسي في بلجيكا. نجت المملكة المتحدة حتى الآن من هذا (الهجوم)، لكنني أتوقع أنها مسألة وقت فقط قبل أن يظهر واحد أو أكثر من القادة السابقين للجبهة الإسلامية للإنقاذ في لندن. بحسب يومية الوطن، قام أصوليون جزائريون بمهاجمة إمام مسجد ريجينت بارك لرفضه أن يخطب عن الوضع السياسي في الجزائر وانتزعوا الميكروفون من يديه كي يتحدثوا عن هذه المسألة بأنفسهم. (هذا يتوافق مع معلومات رأيناها من مصادر أخرى عن نشاطات سياسية تتركز حول المسجد). أوحى السفير الألماني بأن علينا أن نناقش في اجتماع مقبل لسفراء المجموعة الأوروبية سياستنا تجاه إصدار تأشيرات لأصوليين، وأتصور أن هذه المسألة ستثار بين العواصم (الأوروبية) أو من خلال التعاون السياسي في المجموعة الأوروبية.
5 - كما تعرفون، سياستنا بخصوص التأشيرات تختلف عن بعض زملائنا في المجموعة (الأوروبية)، مثلاً الفرنسيون والبلجيكيون، الذين رغم الانتقادات التي توجه لهم يجدون عملياً من السهولة أن يمنعوا ناشطي الجبهة الإسلامية للإنقاذ على أسس سياسية. عندما كتبت عن تبادل سابق بين سفراء المجموعة الأوروبية حول هذه المسألة (المحضر الداخلي بتاريخ 24 مارس، الذي أرسلنا نسخة منه لقسم الشرق الأدنى وشمال أفريقيا)، رد ألان مونتغمري (قسم الهجرة واللجوء بوزارة الخارجية) برسالة بتاريخ 28 أبريل (نيسان) موجهة لي، باستبعاد حتى تبادل المعلومات بخصوص ناشطي جبهة الإنقاذ الذين يتقدمون بطلبات تأشيرة. ربما يكون من الحصافة (الحكمة) أن يتم النظر في إمكانية استحداث بعض المرونة في خصوص هذه المسألة في حال أثيرت هذه القضية من جديد. وبما يتعلق بسياستنا الخاصة، يمكنني فقط أن أقترح أنه يجب علينا أن ننظر بعناية كبيرة لأي طلبات للحصول على تأشيرات من ناشطين معروفين من الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وسنناقش معكم ومع قسم الهجرة واللجوء بخصوصهم متى ما كان ذلك ملائماً، مع الأخذ في الاعتبار احتمال أنه (طلب التأشيرة) ربما يكون الخطوة الأولى في طريق طلب الإقامة أو اللجوء السياسي».
التوقيع باتيسكوم


مقالات ذات صلة

العراق لمجلس الأمن: إسرائيل تخلق مزاعم وذرائع لتوسيع رقعة الصراع

المشرق العربي جانب من الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية في بيروت (رويترز)

العراق لمجلس الأمن: إسرائيل تخلق مزاعم وذرائع لتوسيع رقعة الصراع

قالت وزارة الخارجية العراقية إن بغداد وجهت رسائل لمجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة والجامعة العربية و«التعاون الإسلامي» بشأن «التهديدات» الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
الاقتصاد جانب من جلسات غرفة جدة حول ريادة الأعمال (الشرق الأوسط)

القطاعات الاقتصادية واللوجيستيات تدفع جدة السعودية لمنافسة المدن العالمية

تشهد مدينة جدة، غرب السعودية، حراكاً كبيراً في القطاعات الاقتصادية والسياحية كافة، فيما يدفع قطاع اللوجيستيات المدينة للوصول لمستويات عالية في تقديم هذه الخدمة.

سعيد الأبيض (جدة)
الخليج الأمير عبد العزيز بن سعود خلال مشاركته في الاجتماع الـ41 لوزراء الداخلية بدول الخليج في قطر (واس)

تأكيد سعودي على التكامل الأمني الخليجي

أكد الأمير عبد العزيز بن سعود وزير الداخلية السعودي، الأربعاء، موقف بلاده الراسخ في تعزيز التواصل والتنسيق والتكامل بين دول الخليج، خصوصاً في الشأن الأمني.

«الشرق الأوسط» (الدوحة)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي خلال إلقائه كلمته في الجلسة الثالثة لقمة دول مجموعة العشرين (واس)

السعودية تدعو إلى تبني نهج متوازن وشامل في خطط التحول بـ«قطاع الطاقة»

أكدت السعودية، الثلاثاء، أن أمن الطاقة يمثل تحدياً عالمياً وعائقاً أمام التنمية والقضاء على الفقر، مشددة على أهمية مراعاة الظروف الخاصة لكل دولة.

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)
يوميات الشرق التنوع البيئي وجماليات الشعب المرجانية في البحر الأحمر (واس)

ابيضاض الشعب المرجانية يضرب العالم... والبحر الأحمر الأقل تضرراً

تعدّ الشُّعَب المرجانية رافداً بيئياً واقتصادياً لكثير من الدول؛ فقد نمت فيها عوائدها لمليارات الدولارات؛ بسبب تدفّق السياح للاستمتاع بسواحلها وبتنوع شعبها.

سعيد الأبيض (جدة)

الموت يغيب «رائد فن العرائس» التونسي لسعد المحواشي

الفنان التونسي لسعد المحواشي... صفحته على «فيسبوك»
الفنان التونسي لسعد المحواشي... صفحته على «فيسبوك»
TT

الموت يغيب «رائد فن العرائس» التونسي لسعد المحواشي

الفنان التونسي لسعد المحواشي... صفحته على «فيسبوك»
الفنان التونسي لسعد المحواشي... صفحته على «فيسبوك»

غيّب الموت رائد فن العرائس التونسي لسعد المحواشي، في مصر، وخيم الحزن على اليوم الأخير من فعاليات مهرجان «القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» إثر الوفاة المفاجئة للمحواشي (الجمعة) بعد ساعات من عرض مسرحية «ما يراوش» ضمن عروض المهرجان.

ويعد المحواشي أحد مؤسسي «المركز الوطني لفن العرائس» بتونس، ويعمل أستاذاً لتصميم العرائس بالمعهد العالي للفن المسرحي بتونس. وتتنوع أعماله بين مسرح الصغار والكبار، ومن أبرزها «طبيب الضيعة»، و«الكسوة»، و«العرائسي». ونال العديد من الجوائز منها فوز عرضه «لقاء» بالجائزة الأولى لأحسن عمل مسرحي موجه للأطفال ضمن فعاليات «المهرجان العالمي لفن العرائس» في ماليزيا عام 2017.

ونعت اللجنة العليا لمهرجان «القاهرة الدولي للمسرح التجريبي» برئاسة الدكتور سامح مهران، الراحل، الذي وصفته في بيان لها بـ«إحدى علامات فن العرائس في تونس والعالم العربي»، بينما تقدمت وزارة الثقافة التونسية في بيان آخر بـ«خالص التعازي إلى كل مبدعي الساحة الثقافية وفنانيها ولكل مؤسسات العمل الثقافي» إثر وفاة الفقيد.

منسق عام المهرجان، الدكتور محمد الشافعي، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن «المشكلات الصحية للراحل بدأت في مقر إقامته بالفندق، وتم نقله إلى المستشفى على الفور، حيث أثبتت الفحوصات ارتفاع نسبة السكر لديه، ووجود جلطة على المخ منذ 24 ساعة، وتم إبلاغ السفارة التونسية التي نقلته إلى مستشفى آخر، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة». وأضاف أن «وفاة مبدع ورائد في مجال تصميم العرائس، هو مصاب جلل لصُناع الحركة المسرحية في تونس ومصر والعالم العربي، ومشاعر الحزن والصدمة التي شعر بها الجميع تؤكد عمق الروابط الفنية بين دولنا العربية».

لسعد المحواشي... صفحته على «فيسبوك»

ومسرحية المحواشي الأخيرة «ما يراوش» هي من إنتاج المركز الوطني التونسي لفن العرائس، دراماتورجيا وإخراج محمد منير العرقي، وبطولة هيثم وناسي، وفاطمة الزهراء المرواني، وأسامة الماكني. ويدور العرض في أجواء من الفانتازيا حول مجموعة من فاقدي البصر يتوهون في الغابة، ويطرح العمل أسئلة حول معنى الحياة وفقد البصر.

المخرج المسرحي عبد الله الشحي، مدير مسرح عجمان الوطني بالإمارات، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن «المحواشي قدم خدمات كبيرة لمسرح الدمى في تونس والعالم العربي، وتخرجت أجيال في هذا التخصص على يديه».

في حين أوضح الناقد والباحث الدكتور عبد الكريم الحجراوي، أن «المحواشي بدأ تجربة فريدة من نوعها منذ الثمانينات من القرن الماضي، تتمثل في تبني ثقافة العرائس والدمى ونشرها على امتداد الوطن العربي وليس تونس فقط»، مؤكداً لـ«الشرق الأوسط» أن «الراحل كان يمرر رسائل تتعلق بالوعي وإشاعة البهجة عبر أعماله، سواء تلك التي تخاطب الكبار أو الصغار».