«سقوط الفاشر»... هل يعيد تشكيل السودان؟

بين الثأر والسلام... مستقبل البلاد في «كف عفريت» مسلح بالمسيّرات


النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)
النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)
TT

«سقوط الفاشر»... هل يعيد تشكيل السودان؟


النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)
النيران تلتهم سوقاً في الفاشر أكبر مدن إقليم دارفور نتيجة المعارك (أ.ف.ب)

لا يمكن النظر إلى «سقوط» مدينة الفاشر بيد «قوات الدعم السريع»، كأنه مجرد حدث «عسكري عابر» فقط، يُصنَّف ضمن عمليات «الكر والفر» بين طرفَي القتال في السودان، لكنه في نظر كثير من المحللين «انعطافة حادة» في الحرب بين الطرفين.

ولا تعدّ الفاشر مجرد عاصمة لولاية شمال دارفور، أو مركز ثقل الإقليم كله، بل تتعدى ذلك، لأهميتها التاريخية، وربما يعدّ «صمودها» الذي استمرّ أكثر من عام ونصف العام بوجه حصار «قوات الدعم السريع»، دليلاً لأهميتها القصوى بالنسبة للسودان ولطرفَي النزاع، ورمزاً لطبيعة الحرب المستمرة منذ أكثر من 18 شهراً، وتعبيراً عن فشل «الدولة المركزية». لقد فتح سقوط المدينة بوابات لأسئلة عدة ومعقّدة، تتعلق بوحدة البلاد، وإعادة توزيع موازين القوى، واحتمالات ولادة نظام جديد، ترسمه الخطابات الموالية للطرفين، التي تفوح من بعضها رائحة الانتصار، ورائحة الهزيمة من الآخر. فخريطة السودان الجديدة، بحسب تصريحات الطرفين، تحدِّدها فوهات البنادق.

تقول الصحافية المتابعة لتطور «أهوال الحرب»، شمائل النور، بحسب صفحتها على منصة «فيسبوك»، إن سيطرة «قوات الدعم السريع» على الفاشر، وبالتالي «كامل إقليم دارفور» تتيح لها موقفاً تفاوضياً أقوى، «يراعي ميزان القوة الجديد على الأرض». وتحذِّر من دخول البلاد في حرب استنزاف طويلة، ومن تقسيم للبلاد على غرار «السيناريو الليبي».

وتقول: «قد يُفتَح الباب لتطبيق السيناريو الليبي، أو إدخال السودان في حرب استنزاف طويلة المدى، إذا تمسّك الطرفان بالحل العسكري».

ويتشابه ما ذهبت إليه شمائل النور، مع ما ذهبت إليه الباحثة المصرية د. أماني الطويل، في مقال نشرته على موقع «مصر 360»، حيث عدّت سقوط الفاشر «تحولاً حاسماً في الحرب السودانية». وقالت إنه لا يقتصر على رمزية الفاشر أو موقعها الجغرافي، بل «يعبِّر عن تغيُّر عميق في موازين القوى»، وتضيف: «الفاشر لم تعد مجرد مدينة، بل تعد مؤشراً على تفكك الدولة المركزية وتحول السودان إلى أقاليم متنازعة».

صورة للأقمار الاصطناعية لجثث في شوارع مدينة الفاشر (أ.ب)

دفاع وهجوم

في خطابه الجماهيري، يوم الاثنين الماضي، أي بعد 3 أيام من سقوط المدينة، عمل قائد الجيش رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان، على رسم صورة لقواته بأنها «درع للدولة وممثلة الشعب» بقوله: «هذه محطة من محطات العمليات العسكرية، التي فُرضت علينا كشعب سوداني، وسننتصر لأننا نقاتل من أجل الوطن».

وقال إن قواته انسحبت من المدينة «تجنباً للدمار، والقتل الممنهج للمدنيين». وشدَّد على عدم انتهاء المعركة، «بل هي مرحلة من الحرب، ستُحسم لصالح الشعب السوداني». وجدَّد البرهان وصفه القديم لـ«قوات الدعم السريع» بأنها «ميليشيا مرتزقة»، واتهمها بارتكاب «جرائم على مرأى العالم»، وتوعَّد بـ«القصاص وتطهير الأرض من الدنس».

وحملت لغة البرهان «نبرة دينية - عسكرية»، استدعى فيها قيم الفداء والصبر، لكنها بحسب المحللين تتضمَّن اعترافاً ضمنياً بـ«خلل ميداني» أدى لعجز الجيش عن حماية آخر معاقله في غرب البلاد.

لقد بدا خطاب البرهان دفاعياً وتعبوياً معاً، استند إلى استثارة عواطف «المظلومية، والوحدة الوطنية، والثأر»، وذلك من أجل استعادة روح الصمود، وثقة القواعد الموالية له.

حميدتي والبحث عن الشرعية

وبحثاً عن الشرعية، حاول محمد حمدان دقلو «حميدتي» في خطابه، الأربعاء، عقب سقوط الفاشر، أن يحمل خطابه «لغة المنتصر الواثق»، الذي يحدِّد الأجندة بقوله: «تحرير الفاشر ليس انقساماً للسودان، بل تحول نحو وحدته»، قاطعاً بأن قواته «لا تسعى للسلطة، بل للسلام، وأن مرحلة الحرب انتهت لتبدأ مرحلة السلم».

وركز حميدتي على إظهار قواته بوصفها قوة منضبطة ومؤسسة، وتلتزم بأخلاق الحرب في مواجهة الاتهامات التي وُجِّهت لها بارتكاب فظائع بعد الاستيلاء على المدينة: بقوله: «ممنوع قتل الأسرى، ممنوع الاعتداء على المدنيين... أي جندي يتجاوز سيُحاسب فوراً».

ودعا المنظمات الإنسانية لإغاثة المواطنين، الذين دعاهم للعودة لمساكنهم بعد إزالة الألغام، وتحت تأمين «الشرطة الفيدرالية». ومستعلياً على خصمه، وصف حميدتي ضباط الجيش الذين تدرَّبوا في الكلية العسكرية بأنهم «أبناء كلية العنصرية والكيزان»، وحمَّل الحركة الإسلامية المسؤولية عن إشعال الحرب، ضمن سردية تتأرجح بين البحث عن الشرعية، والخلاص من نظام الإسلاميين.

وأعاد حميدتي تقديم نفسه بوصفه قائدَ دولة وليس قائد قوات متمردة، وتحدَّث عن الحكومة الموازية، الموالية له، حكومة «تحالف تأسيس» التي تتخذ من مدينة نيالا بولاية جنوب دارفور مقراً لها، وإلى سعيها لتأسيس «جيش جديد ودولة مدنية ديمقراطية» بوصف حكومته مشروعاً بديلاً لتلك الحكومة التي يترأسها البرهان، وتتخذ من بورتسودان الساحلية عاصمة مؤقتة.

«حَيَّ على الجهاد»

على الضفة الأخرى من نهر الحرب الموار، حاول علي أحمد كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، الانتقال بالمعركة من معركة سياسية إلى معركة دينية. ففي خطاب بثَّته منصات الحركة بعد سقوط الفاشر، خاطب كرتي مَن أسماهم «الشهداء الذين صمدوا في الفاشر وبارا»، ودعا إلى «الثأر» ممن أسماهم «الميليشيات السفاكة، ودولة الشر وداعميها»، مؤكداً أن الحركة الإسلامية التي يترأسها «ستظل سداً منيعاً خلف القوات المسلحة».

صورة التقطت بالقمر الاصطناعي قبل أيام لدخان يتصاعد من مدينة الفاشر السودانية (أ.ف.ب)

أعاد كرتي الحرب إلى سياقها العقائدي القديم، عادّاً الجيش «جند الكرامة، وحامي الأرض والعقيدة»، بمواجهة «متآمرين على الإسلام، إقليميين ودوليين»، وهو ما أعاد إلى ذاكرة المراقبين «لغة الجهاد السياسي» التي سادت في البلاد إبان الحرب مع جنوب السودان، والتي جيشت لها حركته تحت الشعارات الجهادية.

المحلل السياسي السوداني محمد لطيف حاول في إفادته لـ«الشرق الأوسط» النظر لمترتبات سقوط الفاشر من زاوية مختلفة، استبعد من خلالها سيناريوهات التقسيم إلى دولتين في الوقت الحالي، لكنه حذَّر من «اللبننة»، بقوله: «قوات الدعم السريع كانت الأكثر ميلاً لإنهاء الحرب، بينما ظل الجيش يعرقل أي هدنة، ما يعني أن التمسك بوحدة السودان في خطاب الجيش للاستهلاك السياسي».

لطيف حذَّر من أن يقود استمرار الحرب إلى تحويل البلاد إلى «كانتونات مسلحة، لا إلى دولتين فقط»، لأن السلاح بات مشرعاً في أيدي الجميع. وهكذا تتسع الفجوة بين موقف كرتي ورؤية لطيف، فجوة بين خطاب الدولة الدينية الذي «يقدس الحرب»، والتحليل السياسي الذي يرى في استمرار الحرب الخطر المحدق الذي يهدد بتفكك الدولة.

صورة للأقمار الاصطناعية لجثث في شوارع مدينة الفاشر (أ.ب)

السودان لن يعود

رسم الصحافي المصري الشهير إبراهيم عيسى في مقطع فيديو تناول فيه تطور الأوضاع في السودان، صورةً قاتمةً للأوضاع في السودان بعد سقوط الفاشر، بقوله: «سقوط الفاشر ليس إلا محطة في طريق تفكك السودان»، وتابع: «السودان لن يعود كما كان، لأن عوامل التمزق كلها قائمة: الإسلام السياسي، والتنوع القبلي، والاستبداد». وعدّ ما حدث ويحدث في دارفور امتداداً لسياسات «الإخوان المسلمين» الذين صنعوا الجنجويد وشرعنوا وجودهم كقوات دعم سريع. وتابع: «لا فرق بين البرهان وحميدتي إلا في موقع السلطة، فكلاهما نتاج لنظام واحد، هو النظام الإسلامي العسكري الذي دمَّر السودان».

المحامي والقيادي في «تحالف تأسيس» حاتم إلياس، قدَّم رؤيةً من داخل تحالفه، بشأن التوازنات الجديدة التي ترتبت على سيطرة «الدعم السريع» على الفاشر، بقوله: «الجيش يعاني حالة ضعف هيكلية منذ سنوات طويلة، نتيجة لتخريبه من قبل نظام الإنقاذ، الذي حوله إلى مؤسسة حزبية تابعة للحركة الإسلامية». وأضاف إلياس: «ما يحدث اليوم، قد يفتح الباب أمام سيناريو أفريقي للتغيير، كما حدث في تشاد وأوغندا وإثيوبيا، حين تصل حركة مسلحة إلى السلطة بالقوة». وحذَّر من نفاد صبر المجتمع الدولي بالقول: «المجتمع الدولي لن ينتظر البرهان، الواقع تحت أجندة الإسلاميين، طويلاً».

وتلمح إفادة إلياس إلى أن سقوط الفاشر ليس مجرد نصر عسكري في معركة ضمن حرب، بل إلى أنه يصنع مساراً أوسع، يتمثل في انهيار المؤسسة العسكرية التقليدية، وصعود «قوات الدعم السريع» بوصفها أداة انتقال سياسي، لا مجرد طرف في حرب.

صورة بالأقمار الاصطناعية تظهر تجمعاً لأشخاص خارج إحدى القرى في شمال شرقي الفاشر بعد سيطرة «الدعم السريع» على المدينة (أ.ف.ب)

تداعيات عسكرية وسياسية

تقول د. أماني الطويل إن سقوط الفاشر، نقل الصراع إلى «حرب استنزاف طويلة المدى»، لم تعد السيطرة المكانية فيها هي معيار القوة. وتتابع: «يصبح السؤال عمّن يملك الأرض، أقل أهمية ممن يملك الحركة والمعلومة».

موقف د. أماني الطويل يقع قريباً من توقعات الخبير العسكري المقدم متقاعد عمر أرباب في إفادته لـ«الشرق الأوسط»، الذي يستبعد إمكانية بسط «قوات الدعم السريع» سيطرتها على كامل ولاية شمال كردفان، وقال: «من الناحية العسكرية، فإن بسط سيطرة (الدعم السريع) على كردفان وارد». لكنه رأى أن استيلاء «الدعم السريع» على عاصمة الولاية، مدينة الأبيض، سيكون مكلفاً للدعم السريع في المرحلة الحالية. وقال: «خطوط الإمداد بين ولاية النيل الأبيض وشمال كردفان، لا تزال متصلة عبر مسار مدينتي كوستي إلى الأبيض، وقطعه شرط أساسي لتقدم الدعم السريع في شمال كردفان».

كردفان في خطر

وتنبأ أرباب بشروع «الدعم السريع» بمحاصرة مدينة الأبيض، عاصمة شمال كردفان وعاصمة الإقليم التاريخية، أو مهاجمتها بالمسيّرات والضربات الخاطفة؛ لزعزعة استقرارها، والحيلولة دون تقديمها الإسناد للقوات الأخرى، مع تكثيف الضغوط على مناطق محاصَرة أخرى في ولايتي جنوب كردفان وغرب كردفان: مدن بابنوسة، والدلنج، وكادوقلي؛ من أجل بسط السيطرة عليها تدريجياً.

وتوافَقَ أرباب مع رصفائه، بأن الحرب ستتحول إلى «حرب استنزاف طويلة»، سيكون عنوانها الأكبر «مسيّرات وضربات خاطفة»، بيد أنه استبعد توجه «قوات الدعم السريع» شرقاً لاستعادة الخرطوم، أو ولايات وسط وشمال البلاد بقوله: «عمليات التوسع شرقاً، ستكون مكلفة، لأن القوات المهاجمة ستبتعد عن خطوط الإمداد، والانتشار في مساحات واسعة سيضعفها».

أفراد من «قوات الدعم السريع» يسيرون وسط جثث أشخاص عُزّل ومركبات محترقة في أثناء هجوم بالقرب من الفاشر (رويترز)

من الناحية الأخرى، لم يستبعد أرباب استغلال الجيش لوجود قوات تابعة لـ«القوة المشتركة» في الصحراء الشمالية، في توجيه ضربات خاطفة ضد مناطق سيطرة «قوات الدعم السريع»، لزيادة العبء عليها ومنعها من التحرك شرقاً أو شمالاً. ولصعوبة تحقيق أي من الطرفين لانتصار حاسم، أو هزيمة ساحقة، قال أرباب: «الطرفان يبحثان عن موقف تفاوضي أفضل». وأضاف: «سقوف الجيش التفاوضية أعلى من الدعم السريع، لذلك لا أتوقع ذهابه إلى عملية تفاوضية في هذه المرحلة»، وتابع: «الجيش رفض التفاوض في واقع ميداني أفضل من هذا، لذلك لا يُتوقع أن يدخل في تفاوض في ظل الوضع الذي ترتب على سقوط الفاشر».

التدخلات الخارجية

واستبعد الخبير العسكري حدوث تدخل خارجي مباشر لصالح الطرفين، بقوله: «لا يتوقع حدوث تدخل عسكري خارجي مباشر، بل سيكون هناك دعم لوجيستي أو سياسي، والاجتماعات التي تدور في دول الجوار هذه الأيام تشير لذلك».

لكن أرباب يرى فيما أسماه «تقاطع تحالفات الجيش مع بعضها بعضاً»، عائقاً لدعمه، بقوله: «قد يكون دعم بعض التحالفات، خصماً على تحالفات أخرى، ما يقلل الدعم المتوقع للجيش، بل يفتح ذلك الباب لأطراف أخرى لدعم الطرف الآخر، فيتعقَّد المشهد بصورة أكبر».

وهكذا يبدو أن هناك «وطناً يتشظى»، بين أيدي الذين يرون في سقوط الفاشر نهاية للدولة القديمة وبناء دولة جديدة على أنقاضها، والذين يرون أن استمرار الحرب يملك شرعية ماضوية وعقدية. لكن ما يجمعهم جميعاً أن الحرب لم تعد حرباً بين جيش وميليشيا، بل صارت حرباً بين رؤيتين متقاطعتين، أدى حدث سقوط الفاشر ليس فقط إلى «سقوط رمزية مدينة»، بل إلى حرب «الكل ضد الكل، وحوَّلها لمجرد معركة بلا نهاية قريبة».


مقالات ذات صلة

تقارير: «الدعم السريع» تحتجز ناجين من الفاشر للحصول على فِدى

شمال افريقيا نازحون سودانيون فروا من الفاشر بعد سقوط المدينة في قبضة «قوات الدعم السريع» في 26 أكتوبر (أ.ف.ب) play-circle

تقارير: «الدعم السريع» تحتجز ناجين من الفاشر للحصول على فِدى

قال شهود لـ«رويترز» إن «قوات الدعم السريع»، التي حاصرت مدينة الفاشر في دارفور قبل اجتياحها، تحتجز ناجين من الحصار، وتطلب فدى لإطلاق سراحهم.

«الشرق الأوسط» (الطينة (تشاد))
شمال افريقيا 
صورة متداولة تبيّن جانباً من الدمار الذي ألحقته مسيَّرات «الدعم السريع» بمدينة الأُبيّض في إقليم كردفان play-circle

بعد بابنوسة «النفطية»... ما الهدف التالي لـ«الدعم السريع»؟

بعد قتال شرس استمر لأكثر من عامين، أعلنت «قوات الدعم السريع» الاثنين الماضي، سيطرتها «بشكل كامل» على مدينة بابنوسة... فما الهدف التالي؟

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا سودانيات نزحن من الفاشر يتلقين مساعدات داخل مخيم في بلدة العفاض شمال السودان (أ.ف.ب) play-circle

«الدعم السريع» تعلن السيطرة على «بابنوسة» غرب كردفان والجيش ينفي

أعلنت «قوات الدعم السريع» السيطرة على الفرقة 22 مشاة بابنوسة بغرب كردفان أكبر معاقل الجيش الكبرى غربي البلاد.

أحمد يونس (كمبالا)
شمال افريقيا رئيس مجلس السيادة القائد العام للجيش السوداني عبد الفتاح البرهان (أرشيفية - رويترز)

البرهان: لن نقبل بأي حل دون تفكيك «الدعم السريع»

قال رئيس «مجلس السيادة» القائد العام للجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، الاثنين، إن أي حل لا يفكك «قوات الدعم السريع» ويجردها من السلاح «لن نقبل به».

محمد أمين ياسين (نيروبي)
شمال افريقيا صورة متداولة تبيّن جانباً من الدمار الذي ألحقته مسيَّرات «الدعم السريع» بمدينة الأُبيّض بإقليم كردفان في وقت سابق

رغم الهدنة... معارك كردفان تتصاعد في السودان

أعلنت «الحركة الشعبية لتحرير السودان» و«قوات الدعم السريع» أن 45 مدنياً لقوا مصرعهم في هجوم شنّته طائرة مسيّرة تابعة للجيش على منطقة كُمو في جنوب إقليم كردفان.

أحمد يونس (كمبالا)

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)
TT

كيف يتعامل اليمين الإسرائيلي مع جيشه؟

الدمار في غزة (أ ب)
الدمار في غزة (أ ب)

استقبل الجيش الإسرائيلي أخيراً وفداً من قادة جيوش دول عدة، «لكي يدرسوا تجربة الحرب الأخيرة، في سبع جبهات (غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن)»، كما قال الناطق بلسان الجيش. وخلال الشرح المتحمس عن هذه الزيارة، سمح الناطق لنفسه بأن يقول إنهم جاؤوا لكي يتعلموا منه العديد من العمليات الحربية. وقال إن بين هذه الجيوش حضر مندوبون من كل من الجيوش؛ الأميركي والألماني والهندي والكندي والتشيكي والبولندي، وغيرها. وعرض عدة مجالات، قال إن جيشه أبدع فيها واستحدث طرقاً حربية سيصار إلى تدريسها في الكليات الحربية في العالم، خصوصاً المعركة ضد الأنفاق والتدمير ومسح الأبنية في قطاع غزة وتخريب الحقول الزراعية والسيطرة التامة على سماء إيران والاغتيال الجماعي لقادة «حماس» و«حزب الله» وقيادة سلاح الجو الإيرانية وعملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي في لبنان لقادة «حزب الله» (البيجر والوكي توكي) وغيرها.

لأول وهلة، يُحسب أن الرسالة - أعلاه - موجهة إلى العالم، لكن من يتابع الأوضاع في إسرائيل خلال العقدين الأخيرين، يدرك أن هذا النشر هو جزء من الحرب التي يخوضها الجيش الإسرائيلي على «الجبهة الثامنة».

إنها الحرب التي تعدّ الأكثر إيلاماً للجيش، لأن «العدو» فيها للجيش الإسرائيلي هو الحكومة واليمين العقائدي الذي يقودها.

يخوض اليمين هذه الحرب منذ عودة بنيامين نتنياهو إلى الحكم عام 2009، وفي حينه حاول فرض حرب على إيران، لكن قادة الجيش وسائر الأجهزة الأمنية اعترضوا. فغضب، وراح يحاربهم، في البداية بهدوء وسريّة، لكن الحرب غدت علنية شيئاً فشيئاً. وكان فيها مسؤولون في الحكومة وباحثون وخبراء يهاجمون الجيش ويتهمونه بالتبذير، والجنرالات ينشرون المقالات التي تظهر الحكومة فاشلة وفاسدة.

أيضاً لعبت الشرطة والنيابة والمحكمة دوراً نشيطاً في كشف تورّط نتنياهو في قضايا فساد... وقدمته إلى المحاكمة. فاستعرت المعركة لتتحوّل إلى «حرب شاملة» بين الطرفين، ما جعل اللواء المتقاعد إسحاق بريك، عضو رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، يقول، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» يوم 8 يونيو (حزيران) 2025: «لدينا قيادة فقدت البوصلة، في الحكومة وفي الجيش». ويضيف: «السياسة الحمقاء المتغطرسة التي يتبعانها، ستشجع أعداءنا على الاستعداد لحرب أخرى ضدنا، وكل هذا بسبب جماعة فقدت طريقها وعقلنتها وحكمتها».

نتنياهو وسموترتش (رويترز)

سموتريتش... والميزانية

أحد أبرز السياسيين في هذه الحرب هو بتسلئيل سموتريتش، الذي مع تشكيل الحكومة أصر على تولي حقيبة وزارة المالية وحقيبة أخرى هي وزير ثانٍ في وزارة الدفاع. وسموتريتش هو الممثل المباشر لليمين العقائدي. لديه أجندة واضحة لمنع قيام دولة فلسطينية وتهجير الفلسطينيين. ومنذ تسلمه مهامه، يخوض حرباً علنية على الجيش بلغت حد رفض العديد من طلبات زيادة الميزانية العسكرية. ثم إنه يتهم قادة الجيش بالتبذير وصرف رواتب عالية، وقام بنشر قائمة الرواتب لنحو 50 قائداً أساسياً، فاتضح أنهم يقبضون رواتب أعلى من رئيس الحكومة ورئيس الدولة.

وفي الأسابيع الأخيرة، عندما قرر الجيش رفع عدد جنود الاحتياط الدائم من 6 إلى 60 ألف جندي، سنة 2026، وطلب تمويلاً من المالية (كل جندي يكلف الجيش 300 دولار في اليوم ومعدل الخدمة لكل جندي يصل إلى شهرين في السنة المقبلة، وهذا البند وحده يكلف مليار دولار)، رفض سموتريتش، قائلاً إن على الجيش إيجاد التمويل من تقليص مصاريفه الأخرى. ووفق صحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن قادة الجيش «يشعرون بالمهانة وهم يستجدون وزير المالية»، علماً بأنه على صعيد شخصي يبدو صبيانياً، ومن الناحية الجماهيرية يفقد الجمهور الذي انتخبه، إذ تشير الاستطلاعات إلى أنه سيسقط إذا أجريت الانتخابات اليوم.

للعلم، سموتريتش هذا حاقد على الجيش. فعام 2005، عندما كان في الخامسة والعشرين من العمر، بينما عمل الجيش على إخلاء مستوطنات قطاع غزة، جاء سموتريتش مع ألوف المستوطنين لمحاربة الإخلاء. ويومذاك، بطش به الجنود وجرّوه على الأرض عندما اعتقلوه. وهو جزء من الحركة التي قامت في حينه لمنع تشكيل حكومة في إسرائيل تقرّر إخلاء مستوطنات في الضفة الغربية مثلما حصل في غزة. وهو يستذكر هذه الحادثة تقريباً في كل خطاب سياسي له، منذ ذلك الحين. ويعدّ رأس حربة في معركة اليمين لتحجيم مكانة الجيش ونفوذه في البلاد.

انتقاد المهنية العسكرية

في إطار هذه المعركة، تشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية موجة نشر ضخمة تنتقد الجيش وتظهره فاشلاً مهنياً. ويجنّد اليمين لهذا الغرض مجموعة كبيرة من الجنرالات السابقين، قسم منهم يكتب في معاهد الأبحاث التابعة لليمين، وقسم آخر ينشر مقالاته في وسائل الإعلام المستقلة، فضلاً عن الإذاعة والتلفزيون والشبكات الاجتماعية.

وأدناه نماذج من هذه المعركة:

العميد أورن سولومون، الذي عيّن رئيساً للجان التحقيق الداخلي في الجيش حول إخفاقات 7 أكتوبر (تشرين الأول) كشف في تقرير للقناة «14» عن أن قيادة الجيش «تتستر على الحقائق وليس صحيحاً الانطباع بأنها أول من تحمل المسؤولية». بل «أخفت الفشل الحقيقي لكونها اتبعت تكتيكاً حربياً خاطئاً منذ البداية... وبدلاً من أن تأمر سلاح الجو بقصف عناصر حماس في أثناء مهاجمتهم البلدات الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر 2023، فتشلّ حركتهم وتوقف تقدّمهم، قرّرت شنّ عملية انتقامية لاغتيال قادتها وتدمير مقراتها في شتى أنحاء غزة. وبذا فشلت في حماية مئات من الإسرائيليين الذين قتلتهم حماس ومئات المخطوفين».

وذكر سولومون أيضاً في التقرير، أنه طلب لقاء رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي والحالي إيال زامير لعرض استنتاجاته، لكنهما تهرّبا من لقائه. ومن ثم راحا يحرّضان عليه، لدرجة أنه قرّر إخفاء تقاريره والوثائق التي اعتمدها بهدف الحفاظ عليها في حال جرى له أي سوء. ورداً على سؤال طرحه عليه صحافي معروف بقربه من نتنياهو: «هل تخشى على حياتك؟ هل تعتقد أن هناك مَن قد يقتلك بسبب هذا التحقيق؟». فأجاب «نعم».

من جهة ثانية، تطرّ ق الصحافي والمؤرخ اليميني عكيفا بيغمان، صاحب كتاب «كيف حوّل نتنياهو إسرائيل إلى إمبراطورية»، كشف في موقع «ميدا» (9 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، عن نتائج تحقيق أجري في لجنة فرعية سريّة للجنة الخارجية البرلمانية، خلال الشهرين الماضيين، تفيد بأن هناك «خللاً بنيوياً» في عملية تأهيل الضباط في الجيش الإسرائيلي. وممّا جاء في تقريره أن الضباط لا يتلقّون تدريبات عسكرية لأكثر من يومين في الأسبوع، بينما يتمتعون بـ«امتيازات دلال لا تلائم جيشاً مقاتلاً»، وأنه في كثير من دورات التعليم التي يمرّون بها ثمة ازدواجية وتناقضات لأن هذه الدورات لا تدار بشكل مهني.

زامير (الجيش الإسرائيلي)

مرحلة بنيامين نتنياهو...استخفاف بالجنرالات وطعن بهم علناً وفي الخفاء

عدوانية متزايدة في عدة اتجاهات

الصحافة الإسرائيلية، أيضاً، تنشر باستمرار تصريحات لوزراء يهاجمون بها قادة الجيش ويهينونهم في جلسات «الكابنيت» (مجلس الوزراء المصغّر)، الذي يقود الحرب، بينما كان نتنياهو صامتاً. ولكن، في يناير (كانون الثاني) 2025 تجرأ وأوقف الجلسة التي هاجم فيها الوزيران إيتمار بن غفير وميري ريجف رئيس الأركان هاليفي، على قراره تشكيل لجان تحقيق داخلية حول أداء الجيش.

وفي شهر مايو (أيار) تعرّض زامير لـ«بهدلة» مماثلة، لكنه ردّ على الهجوم بكلمات قاسية ونابية، ما جعل نتنياهو يلفت نظره ويوقفه عن الكلام في جلسة الحكومة. وحقاً، زامير نفسه لم يسلم من الانتقادات. وعندما اقترح صرف النظر عن إعادة احتلال غزة في نهاية الصيف، اتهمه غلاة اليمين بالتراجع عن وعوده في «تغيير نهج الجيش القتالي وجعله جيشاً هجومياً أكثر». وقالوا إن «الدولة العميقة الليبرالية تمكنت من السيطرة عليه وتدجينه».

في هذه الأثناء، هناك ما تشهده الضفة الغربية من اعتداءات. وهنا لا نقصد الاعتداءات الإرهابية على الفلسطينيين، بل الاعتداءات اليهودية على اليهود، التي تتصاعد باستمرار وفيها يهتف «شبيبة التلال» الاستيطانية لجنود وضباط الجيش الإسرائيلي «يهود نازيون».

أيضاً، أحد كبار الجنرالات، وكان مسؤولاً عسكرياً يعمل في وظيفة رفيعة في الضفة الغربية، بحسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» (7 نوفمبر 2025)، يقول: «يبدو لي الوصف (فتيان التلال) أو (شبيبة التلال)، رومانسياً بعض الشيء، كما لو كانوا رعاة غنم يعملون في الزراعة، لكن هذا ليس ما نتكلّم عنه هنا. هؤلاء فتيان يحتاجون إلى رعاية مؤسّسات الرعاية الاجتماعية وسلطة الوالدين والتعليم. إنهم يتصرّفون كما لو كانوا في الغرب (الأميركي) المتوحش. ليس لديهم قانون ولا قاضٍ. يتجوّلون بقمصان كُتب عليها (شعب إسرائيل نعم ودولة إسرائيل لا)».

وتابع الجنرال: «إنهم لا يعترفون بالمؤسسات، وهم معادون تماماً للصهيونية، ويرسمون شعارات صهيونازية على الجدران، ويتلقون دعماً من بعض وسائل الإعلام القطاعية. لقد بنوا ماكينة عمل محكمة وحقيقية. يمكنك أن ترى فتىً في الثالثة عشرة من عمره يقود سيارة مشطوبة، وهو لا يملك حتى رخصة قيادة؛ بينما يُشعل فتيان آخرون النار في المركبات. ما عاد هؤلاء يكتفون بالاعتداءات على الفلسطينيين، بل أضحوا يعتدون بعنف وكراهية حاقدة على جنودنا وضباطنا، حتى ونحن نحميهم. وكذلك يعتدون على المواطنين اليهود، وليس فقط اليساريين منهم الذين يأتون إلى هنا للتضامن مع الفلسطينيين، بل يعتدون على مستوطنين ممّن كانوا ذات يوم شبيبة تلال لأنهم لا يوافقون اليوم على أساليبهم. وأنا لا أتكلم عن اعتداء واحد أو اثنين. لقد شكا عشرات المستوطنين الذين يتعرضون للاعتداءات منهم. ومن ثمّ، شعوري أن عدوهم الأول هو الجيش».

الرد لا يقل حدة

في المقابل، نجد أن الجيش أيضاً يملك جهاز دعاية يهاجم الحكومة بقوة شديدة ولديه مجموعة كبيرة من الكتّاب والناطقين باسمه، الذين يحذّرون من تبعات سياسة الحكومة وممارساتها، ويرون أنها «تُضعِف الجيش وتشجع العدو على تكرار الهجمات الشبيهة بهجمة حماس في 7 أكتوبر». كذلك ينتقد هؤلاء الحكومة بشكل لاذع على «فشلها المهني»، ويحمّلونها، رئيساً ووزراء، مسؤولية أساسية عن إخفاقات 7 أكتوبر، ويقولون إنها أدارت الحرب بشكل سيئ وفرضت على الجيش «إطالة الحرب لأغراض بعيدة عن الحسابات الأمنية والاستراتيجية، هدفها سياسي وحزبي للبقاء في الحكم». «وحقاً، الأمر الجوهري الذي يهاجمونها عليه هو: أنها لم تعرف كيف تستثمر المكاسب العسكرية التي وفّرها لها الجيش في مكاسب سياسية».

وهكذا يكتب الجنرال عاموس جلعاد، رئيس معهد السياسة والاستراتيجية في تل أبيب، يوم 17 نوفمبر 2025: «لقد نجح الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن في توجيه ضربة قاصمة لتحالف الشر في جميع جبهات القتال السبع. في الوقت نفسه، ثمة حاجة إلى استراتيجية لإرساء أمن طويل الأمد. حتى الآن، فشلت الحكومة الإسرائيلية في صياغة سياسة لما بعد (اليوم التالي)، ما أدى إلى خلق فراغ، ملأته الإدارة الأميركية بكل قوتها».

وأردف جلعاد: «من جهة، لهذا الأمر نتائج إيجابية تتمثل في إطلاق سراح جميع الرهائن الأحياء وعملية إعادة الرهائن القتلى، ووقف الحرب في غزة، وتوطيد العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، واحتمال تحقيق انفراج دبلوماسي مع الدول العربية. ولكن من جهة أخرى، قد يؤدي هذا التطور إلى أضرار جسيمة، مثل نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بمشاركة دول معادية بقيادة محور تركي - قطري داعم لجماعة الإخوان المسلمين، واستمرار وجود حماس بصيغة جديدة في غزة. بالإضافة إلى ذلك، هناك احتمال الإضرار بالتفوق النوعي للجيش الإسرائيلي، من خلال نقل قدرات عسكرية غير مسبوقة إلى الدول العربية. في الخلفية، تُبذل جهودٌ من إيران وحزب الله لاستعادة القدرات العسكرية المتضررة خلال الحرب. ولكن الأنكى هو أنه على الصعيد الداخلي، تشهد إسرائيل بقيادة الحكومة سلسلةً من العمليات الهدامة التي تُلحق الضرر بالمناعة الوطنية والاجتماعية، التي تشكل ركيزةً أساسيةً من ركائز الأمن القومي الإسرائيلي. ويشمل ذلك استمرار الانقلاب القضائي وإلحاق الضرر بالمؤسسات القضائية، والحرب على وسائل الإعلام في البلاد، والتدخل في أنشطة أجهزة الأمن وإنفاذ القانون، وغيرها».


إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
TT

إميل مايكل: من جذور مصرية يشارك في قيادة سباق الابتكار العسكري الأميركي

في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»
في ظل حاجة واشنطن إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»

شكّل قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بتعيين إميل جرجس مايكل في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة، ثم تكليفه لاحقاً بإدارة «وحدة الابتكار الدفاعي»، في أحد أبرز القرارات المفصلية ضمن إطار سياسة الابتكار العسكري للولايات المتحدة منذ إعادة هيكلة «البنتاغون» (وزارة الحرب الأميركية) عام في 2017. وذلك ليس فقط لأن المنصب يُعدّ رأس الهرم في الهندسة العسكرية والتطوير التكنولوجي، بل لأن مايكل يمثّل نموذجاً جديداً تماماً عن ذلك الذي اعتادت المؤسسة الدفاعية الأميركية تعيينه في هذا الموقع. إذ إن المسؤول الذي يُمسك عملياً بمفاتيح التفوق التكنولوجي الأميركي، من الذكاء الاصطناعي إلى الأنظمة غير المأهولة، ومن الحرب السيبرانية إلى الجيل الثاني من الدفاع الصاروخي، رجل أعمال مهاجر من جذور مصرية قبطية، بنى مسيرته في شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، بدءاً من شركة «تيل مي نيتوورك»، مروراً بـ«كلاوت»، ووصولاً إلى «أوبر»، إحدى أكثر شركات العقد الماضي إثارة للجدل والتأثير في آن واحد.

تعيين إميل مايكل وكيلاً لـ«البنتاغون» للبحث والهندسة لم يكن مجرد مفاجأة، بل كسرٌ لخطٍ طويل من الشخصيات المنتمية تقليدياً إلى عالم الصناعات الدفاعية أو البحث العلمي الأكاديمي. وفي حين يرى البعض أنّ الرئيس دونالد ترمب يكرّر رهانه المألوف على رجال الأعمال - كما فعل في الحكومة الأولى - يعدّ آخرون أنّ ما حدث هو إعادة توجيه جذرية لطبيعة القوة التكنولوجية الأميركية، بحيث تُسلَّم مفاتيح المستقبل لمن يملكون القدرة على «تسريع» الابتكار، وليس فقط تنظيره. وأدناه نبذة عن مسيرة مايكل نحو هذا المنصب، وتكوينه السياسي ومسارة المهني ومنطق تعيينه وتأثير خلفيته القبطية المصرية في شخصيته ودوافعه.

مهاجر في قلب سردية النجاح

ولد إميل مايكل في القاهرة عام 1972 لأسرة قبطية، وهاجر في سن مبكّرة مع عائلته إلى الولايات المتحدة.

وعام 2012 التقى جولي هيرين في لاس فيغاس (ولاية نيفادا)، وتزوجا عام 2018 في حفل أقيم بمدينة ميامي، بولاية فلوريدا.

الانتماء القبطي ليس تفصيلاً هامشياً، بل جزء أساسي في تكوينه السياسي وطريقة تفكيره. وفي شقّ من الهوية القبطية، عند البعض في مصر، ثمة بالهامشية السياسية والبحث عن الحماية عبر «المؤسسات القوية». وهذا انعكس لاحقاً على توجهات مايكل في السياسة الأميركية، وخاصة في علاقة الأقليات بالدولة الحديثة، وقيمة وجود دولة مركزية قادرة على فرض النظام.

وكان مايكل يشير دائماً في مقابلاته القليلة حول خلفيته، إلى أنّ تجربة الهجرة منحته ثقافتين من زاويتين: إيماناً أميركياً تقليدياً بالفرصة الفردية، وحسّاً «واقعياً» في فهم أخطار انهيار الدول وضعف مؤسساتها، وهو أمر لا يمرّ عادة في تكوين المسؤولين الأميركيين الذين يترعرعون داخل «الاستقرار المؤسساتي» الأميركي.

هذه الخلفية تفسّر أيضاً شغفه المبكر بالدفاع الوطني. فمع أنه رجل أعمال تقني، اختار عام 2009 الانضمام إلى برنامج الزمالة في «البيت الأبيض»، والعمل مباشرةً تحت وزير الدفاع روبرت غيتس (الجمهوري) في إدارة الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، إبان سنوات الحرب في العراق وأفغانستان. وما لبث رجل الأعمال الشاب الآتي من وادي السيليكون أن وجد نفسه فجأة في قلب العمليات العسكرية واللوجيستية، في مسار غير شائع إطلاقاً.

جمهوري من هارفارد... إلى ستانفورد

درس إميل مايكل في جامعة هارفارد العريقة، وفيها تولّى رئاسة نادي الجمهوريين. واللافت أنّه فور تسلمه المنصب بادر إلى تحويل اسم النادي إلى «نادي الجرف الأحمر لجمهوريي هارفارد»، في إشارة إلى رغبته في إدخال النساء إلى الهيكل السياسي الطلابي المحافظ. وهو موقف مبكر يعكس قدرة سياسية على قراءة البيئة الاجتماعية ومحاولة توسيع التحالفات، وهي مهارة ستظهر لاحقاً في إدارة الشركات.

بعد هارفارد، تابع دراسته في كلية الحقوق التابعة لجامعة متميزة أخرى هي جامعة ستانفورد، المختبر الفكري الذي أنجب نخبة من روّاد التكنولوجيا.

هناك ازداد تماهيه مع التيار البراغماتي داخل الحزب الجمهوري، الذي يركّز على الاقتصاديات الحديثة والابتكار، وليس فقط على خطاب «القيَم التقليدية». ولعل هذا المزيج، أي يميناً اقتصادياً وابتكاراً تكنولوجياً، كان أساسياً لاحقاً في فهم لماذا رأى ترمب فيه الشخص المناسب لقيادة سباق الحرب التكنولوجية.

المسيرة المهنية

على امتداد 25 سنة، بنى إميل مايكل سمعة استثنائية في عالم الشركات العالية النمو، حيث بدأ مسيرته المهنية مستشاراً استراتيجياً في شركة «كونفيرجينغ» التابعة لشركة «جيميني» للاستشارات. وبعد تخرجه في كلية الحقوق، عمل مايكل مساعداً في مجموعة الخدمات المصرفية الاستثمارية للاتصالات والإعلام والترفيه في «غولدمان ساكس» بنيويورك حتى عام 1999. ثم عمل في مشاريع استشارية للاندماج والاستحواذ العدائي، وفي تمويل الأسهم والديون المصرفية. ومن 1999 حتى 2008 شغل مايكل منصباً تنفيذياً في شركة «تيل مي نتوركس» الناشئة للاتصالات عبر الإنترنت لمدة تسع سنوات. وكانت تلك الشركة رائدة في تقنيات التعرف على الصوت، وبيعت لـ«مايكروسوفت» بـ800 مليون دولار عام 2007.

بعدها، عام 2012، أصبح رئيساً للعمليات وعضواً في مجلس إدارة شركة «كلاوت»، منصة تحليل النفوذ الرقمي (التي سبقت عصر البيانات الضخمة)، ليغادرها عام 2013، للانضمام إلى شركة «أوبر». وحقاً، بيعت «كلاوت» إلى شركة «ليثيوم» مقابل نحو 200 مليون دولار في أوائل عام 2014.

ثم انضم مايكل إلى «أوبر» نائب رئيس أول للأعمال، وكان بمثابة الذراع اليمنى لرئيسها التنفيذي، ترافيس كالانيك، وساعد الشركة على جمع ما يقرب من 20 مليار دولار. وللعلم، كان مايكل لاعباً رئيساً في تطوير جهود «أوبر» في الصين، حيث استثمر ملياري دولار لتصل قيمتها إلى 7 مليارات دولار عام 2016. كذلك عمل على بناء شراكات مع «بايدو» وشركات صينية أخرى. وعام 2016 قاد مايكل عملية دمج «أوبر الصين» مع منافستها المحلية «ديدي تشوكسينغ». وفي 2021، جمعت شركة «ديدي» 4.4 مليار دولار في طرحها العام الأولي.

تقدير قدراته التسويقية

عام 2014 اختير مايكل واحداً من «أكثر الأشخاص إبداعاً في مجال التسويق» وواحداً من «أكثر 100 شخص إبداعاً في مجال الأعمال» من قِبل شركة «فاست».

وفي عام 2017، ساعد مايكل في التفاوض على صفقة مع «ياندكس»، أكبر شركة تكنولوجيا وأشهر محرّك بحث على الإنترنت في روسيا – هي المعروفة باسم «غوغل روسيا» - حيث امتلكت «أوبر» 36.6 في المائة من كيان مشترك لمشاركة الرحلات في روسيا. واستثمرت «أوبر» 225 مليون دولار، واستثمرت «ياندكس» 100 مليون دولار.

رأس المال «المخاطر» يدخل «البنتاغون»

عام 2014، عُيّن إميل مايكل وثمانية آخرون في «مجلس أعمال الدفاع» التابع لـ«البنتاغون». انضمّ الثمانية إلى خمسة عشر عضواً من أعضاء المجلس، الذي أُسس عام 2002 لتقديم استشارات مستقلة بشأن القطاع الخاص. وكان مايكل الوحيد من بين المعيّنين الجدد الذي يتمتع بخبرة في مجال الشركات الناشئة.

وبالفعل، لعبت خلفيته في الاستثمار بشركات الذكاء الاصطناعي، و«البلوك تشين»، واللوجيستيات، والأنظمة الرقمية... وتحديداً، في المجالات التي تُعدّ اليوم قلب المنافسة الاستراتيجية مع الصين، دوراً كبيراً في جعله - في نظر فريق ترمب - «المختبر العملي» لقيادة سباق التكنولوجيا العسكرية، وهو ما أغرى ترمب بوضعه في رأس منظومة الابتكار العسكري.

خلال ديسمبر (كانون الأول) 2024، أعلن ترمب - وكان لا يزال رئيساً منتخباً - عن نيته ترشيح مايكل لمنصب وكيل وزارة الدفاع للأبحاث والهندسة، وأكد مجلس الشيوخ ترشيحه في مايو (أيار) 2025. وفي أغسطس (آب)، أصبح قائماً بأعمال «مدير وحدة الابتكار الدفاعي».

واليوم، يُعد منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة أخطر منصب تكنولوجي في الحكومة الأميركية. فهو الذي يحدّد اتجاهات الاستثمار التكنولوجي، وأولويات «وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة» (داربا)، وبرامج الأسلحة الاستراتيجية، وتوازن القدرة الأميركية مقابل الصين وروسيا.

ولفهم أسباب اختيار ترمب لمايكل، يرى البعض أنه يجب النظر إلى سمات الشخصية مقابل حاجات المرحلة. وفي ظل الحاجة إلى سرعة التنفيذ، يعاب على «البنتاغون» العمل ببطء بيروقراطي قاتل، بينما يأتي مايكل من ثقافة «التحرك بسرعة وكسر الأشياء»، ويُنظر إليه كمن يستطيع اختصار سنوات من الدورة البيروقراطية في وزارة الحرب.

وفي عهد فتح الأبواب للقطاع الخاص، اتجه ترمب أيضاً خلال ولايته الثانية إلى جعل الابتكار العسكري يعتمد على الصناعة الخاصة لا على مختبرات الدولة فقط، وهو بالضبط ما يجسده مايكل في هذا النهج. وطبعاً، يضاف إلى ما سبق أن خبرته العالمية، ولا سيما مع الصين وروسيا، منحته نظرة دقيقة على نماذج الابتكار لدى الخصوم.

مع هذا، يثير تعيين مايكل في منصبه جدلاً داخل واشنطن. فبعض الأصوات ترى في تعيين رجل أعمال بهذا الانغماس في رأس المال المخاطر، خطوة قد تعمّق نفوذ الشركات على حساب القرارات الدفاعية. ثم إن موقفه الحازم من الصين - بعدما حذر من أنها تهدف إلى «احتكار الذكاء الاصطناعي العسكري» خلال 10 سنوات - قد يدفعه إلى قرارات سريعة وغير تقليدية، بعضها يزعج التيارات التقليدية.

خلفيته ورؤيته لـ«البنتاغون»

من جهة ثانية، مع أن مايكل لا يقدّم نفسه بوصفه «سياسياً هوياتياً»، ورغم أنه شخصية محافظة سياسياً، فإنّ تأثير هويته واضح. ذلك أن خلفيته بصفته قبطياً مهاجراً جعلته، بحسب مقرّبين، أقرب لفهم أهمية «توازن القوة» في المجتمعات الهشّة، ما جعله يؤمن بأن التفوّق العسكري الأميركي هو أحد صمامات استقرار الأقليات حول العالم.

هذا البعد له تأثير ضمني لكن مفهوم في قراره بالدخول إلى قطاع الأمن القومي، وينعكس في دعمه لبرامج الدفاع غير التقليدية، ولتطوير تقنيات يمكن أن تمنع الحروب قبل وقوعها. وعلى عكس كثير من التكنولوجيين الأميركيين الذين يملكون حسّاً «ليبرالياً » تجاه الأمن القومي، ينظر مايكل إلى الجيش كـ«قوة استقرار»، وليس فقط كمجرد مؤسسة عسكرية.

ومن ثمّ، من الآن وحتى 2030، تشير كل المؤشّرات داخل وزارة الحرب إلى أنّ مايكل يخطط لثلاثة محاور حاسمة:

- تفعيل «نظام الابتكار السريع»، عبر تحويل «البنتاغون» إلى بنية مشابهة لشركات التكنولوجيا، في اتخاذ القرارات السريعة، وتجارب متكررة، ونسخ أولية، ثم تصنيع.

- إعادة توجيه وكالة مشاريع أبحاث الدفاع المتقدمة (داربا) نحو الذكاء الاصطناعي العسكري الكامل، ليس فقط كأداة دعم، بل كمكوّن قتالي مستقل.

- عسكرة البيانات، عبر تطوير أنظمة ميدانية تعتمد على بيانات اللحظة، بما يشبه نموذج «أوبر» في مراقبة الحركة البشرية، لكن في ساحات الحرب.

ولهذا بالضبط، نجده اليوم في رأس الهرم التكنولوجي للولايات المتحدة، في لحظة تتقرر فيها ملامح القرن الأميركي أو نهايته.


كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)
TT

كيف يختلف مايكل عمّن سبقوه في منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة؟

كاثلين هيكس (آب)
كاثلين هيكس (آب)

يمثّل صعود إميل مايكل إلى منصب وكيل وزارة الدفاع للبحث والهندسة تحولاً واضحاً في طبيعة القيادة التكنولوجية داخل «البنتاغون»، مقارنةً بكل من مايكل غريفين وهايدي شو وديفيد هوني وكاثلين هيكس، الذين شكّلوا المسار المؤسسي التقليدي خلال العقد والنصف الماضيين.

مايكل غريفين (2018 - 2020) العالم الصاروخي، هو نموذج «العالم الكلاسيكي» داخل المؤسسة الدفاعية الأميركية. فيزيائي صواريخ، ومدير سابق لوكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، ورجل قائم على المدرسة البحثية الثقيلة.

كان تركيزه على الفضاء، والصواريخ، والأنظمة الفرط صوتية، وتطوير أنظمة الردع الاستراتيجي. والفارق الجوهري بينه وبين مايكل يكمن في الخلفية: غريفين ابن المؤسسات الأكاديمية والعسكرية التقليدية، بينما مايكل آت من شركات التكنولوجيا الفائقة النمو، ما يجعله أكثر ميلاً للسرعة والمخاطرة وتبني الابتكار التجاري.

هايدي شو (2020 - 2023) سيدة المنظومات الدفاعية، جاءت من خلفية إدارية - تكنولوجية تمتد لعقود داخل «البنتاغون»، مركّزة على الدفاع الصاروخي والسيبراني، ومثّلت «الاستمرارية» أكثر من التغيير، بينما يجسد مايكل «القطيعة» مع الإرث المؤسسي. إذ إنه لا ينتمي لتقاليد «البنتاغون»، بل لثقافة استثمارية عالمية، ما يجعله أقرب إلى مقاربة «الابتكار المفتوح» مع الشركات الناشئة.

ديفيد هوني (2023 - 2025) المهندس البيروقراطي، يُعدّ خبيراً في البيروقراطية الدفاعية، عارفاً بتعقيدات الهياكل الداخلية ودوائر الاستحواذ. وظيفته كانت تحسين الانسيابية لا تغيير الفلسفة. أما مايكل فيقدّم رؤية انقلابية: تسريع القرارات، ونقل تقنيات القطاع الخاص مباشرة إلى ساحة القتال، وتخفيف دور البيروقراطية لصالح دينامية الشركات.

كاثلين هيكس (2021 - 2025) نائبة وزير الدفاع، تعد العقل الاستراتيجي المدني، ومع أنها لم تشغل الموقع نفسه، لكنها قادت بحكم موقعها، الإشراف على ملفات التكنولوجيا والتحوّل الدفاعي.

أيضاً مثلت هيكس المدرسة الاستراتيجية الليبرالية - التقليدية في الأمن القومي، ويمثل مايكل المدرسة المحافظة - التجارية، المتمحورة حول المنافسة مع الصين والتفوق الصناعي.

أخيراً، في حين يمثل الأربعة المذكورون خط الاستمرارية المؤسسية، يأتي إميل مايكل من خط الاختراق التكنولوجي التجاري. فهو أول من جمع بين خبرة وادي السيليكون والعمل المباشر في ساحات الدفاع، ما يجعل تعيينه انتقالاً من «عقود البحوث البطيئة» إلى «سباق الزمن التكنولوجي» في مواجهة الخصوم الدوليين للولايات المتحدة.