سطع نجم إيفيت كوبر، وزيرة الخارجية البريطانية الجديدة، عشية الانتصار الانتخابي الكاسح الذي حققه حزب العمال في ربيع 1997. ومنذ ذلك الحين وهي تنتقل من نصر إلى نصر، ومن موقع قيادي إلى آخر، على الرغم من النكسات التي مُني بها الحزب، والانقسامات والتجاذبات التي عانى منها خلال العقود الثلاثة الأخيرة. وكانت أحدث محطة في مسيرة كوبر السياسية انتقالها من منصب وزيرة الداخلية لشغل منصب وزيرة، وبالمناسبة مع هذه النقلة غدت أول امرأة في تاريخ الحكومات البريطانية التي يسند إليها هذان المنصبان الرفيعان اللذان يُعدان تقليدياً، مع منصب وزير المالية (الخزانة)، المناصب الوزارية الثلاثة الأهم في التشكيل الحكومي.
يوم 20 مارس (آذار) 1969 وُلدت إيفيت كوبر في مدينة إنفرنيس بأقصى شمال إقليم اسكوتلندا البريطاني، لعائلة الأب فيها، طوني كوبر، كان قيادياً نقابياً وإدارياً ومستشاراً حكومياً لشؤون الطاقة النووية، والأم تعمل مدرّسة للرياضيات.
إلا أن العائلة استقرت لاحقاً في محافظة هامبشاير بأقصى جنوب إنجلترا، حيث تلقت إيفيت تعليمها الابتدائي في إحدى المدارس الحكومية، ثم الثانوي في كلية آلتون بالمحافظة.
الفتاة المتفوقة الطموحة واصلت مسيرتها التعليمية الجامعية، ملتحقة بجامعة أكسفورد العريقة – وبالذات، في كلية باليول ثاني أقدم كلياتها – متخصصة في السياسة والفلسفة والاقتصاد، وتخرجت بتفوق. وعلى الأثر، عام 1991، حصلت على «منحة كيندي» الدراسية لمتابعة تعليمها العالي في جامعة هارفارد، أقدم جامعات الولايات المتحدة وأغناها، قبل أن تعود إلى بريطانيا للحصول على درجة الماجستير في الاقتصاد من معهد لندن للاقتصاد LSE.
الحياة العملية والسياسية
انطلقت حياة إيفيت كوبر العملية عام 1990 كباحثة اقتصادية عند جون سميث (زعيم حزب العمال السابق الراحل)، عندما كان يتولى حقيبة المالية (الخزانة) في «حكومة الظل» العمالية. ثم انتقلت عام 1992 إلى الولايات المتحدة للعمل ضمن فريق المرشح الرئاسي الديمقراطي (يومذاك) بيل كلينتون. وفي وقت لاحق من ذلك العام أصبحت مستشارة سياسية لهارييت هارمان، وزيرة أمانة الخزانة في «حكومة الظل» برئاسة جون سميث (توفّي عام 1994).
في هذه الأثناء تعرّضت كوبر لمرض الإنهاك المزمن واحتاجت إلى فترة راحة طالت سنة كاملة، قبل استئناف عملها السياسي. وعام 1994 أصبحت باحثة مشاركة في «مركز الأداء الاقتصادي». ثم في عام 1995، تولّت منصب كبيرة المراسلين الاقتصاديين في صحيفة «الإندبندنت» اللندنية، وظلت مع الصحيفة حتى انتخابها بفارق أصوات ضخم، نائبة في مجلس العموم (النواب) عن إحدى دوائر يوركشاير (بونتيفراكت وكاسلفورد)، بشمال شرقي انجلترا، وسط الانتصار العمالي الكاسح في مطلع مايو (أيار) 1997.
في مطلع العام التالي 1998 تزوّجت كوبر من إد بولز، شريك حياتها الحالي ورفيق دربها الحزبي والسياسي. وكان بولز يومذاك وزير الأمانة الاقتصادية في وزارة المالية في الحكومة التي ترأسها توني بلير في أعقاب انتصار 1997، ووزير الدولة لشؤون الأطفال والمدارس والعائلات في الحكومة التي ترأسها غوردون براون. بعد ذلك تولّى بولز، الذي أنجبت كوبر منه ابنتين وصبياً، عدداً من المسؤوليات بينها وزير أمانة المالية في «حكومة الظل» بعد عودة «العمال» إلى مقاعد المعارضة، وقبل أن يخوض من دون نجاح معركة انتخابات زعامة الحزب عام 2010.
في هذه الأثناء كانت كوبر تواصل صعودها السياسي، وتحتفظ بمقعدها البرلماني. إذ تولت منصب وزير مساعد لثلاث وزارات تحت رئاسة بلير بين عامي 1999 و2005.
ثم رُقّيت لمنصب وزيرة دولة للإسكان والتخطيط عام 2005، واحتفظت بالمنصب في حكومة غوردن براون التي خلفت حكومة بلير عام 2007. واستمر صعودها داخلةً مجلس الوزراء عبر تعيينها وزيرةً لأمانة الخزانة عام 2008، ثم تعيينها وزيرةً للعمل والتعويضات عام 2009.
هزيمة «العمال» تحت قيادة اليساري كوربن أتاحت المجال أمام تياري اليمين والوسط لاستعادة قيادة الحزب والفوز بالحكم
على مقاعد المعارضة
في أعقاب هزيمة «العمال» في الانتخابات العامة عام 2010، اختار إد ميليباند، الزعيم الجديد للحزب، إيفيت كوبر وزيرة خارجية «حكومة الظل» بين 2010 و2011. وعندما أُسندت لزوجها إد بولز حقيبة وزارة خزانة «حكومة الظل»، انتقلت لتخلفه في وزارة داخلية «حكومة الظل» حتى انتخابات 2015 العامة. وفي ذلك العام جرّبت حظها بالفوز بزعامة الحزب، لكنها لم توفق، بل احتلت المرتبة الثالثة في المنافسة التي كسبها مرشح اليسار جيريمي كوربن... ولم يطل بها المقام حتى استقالت من «حكومة الظل»، غير أنها بقيت ناشطة في عدد من اللجان البرلمانية.
العودة إلى الواجهة
هزيمة «العمال» المريرة تحت قيادة كوربن، أتاحت المجال أمام تياري اليمين والوسط لاستعادة زمام المبادرة، وبالفعل، انتخاب السير كير ستارمر زعيماً جديداً للحزب. والرجل مرجع قانوني بارز، ومحسوب على تيار اليمين في الحزب، بل على الكتلة المناصرة لإسرائيل فيه. وتجدر الإشارة إلى أن كوبر عضو في تجمع «أصدقاء إسرائيل العماليون».
وكانت سياسيات الزعيم اليساري السابق كوربن المتحمّسة في دعم القضية الفلسطينية قد أسهمت في تكتّل مناصري إسرائيل ضده، ودعم ستارمر - المتزوج من يهودية والداعم بقوة لإسرائيل - لخلافته وإبعاد التيار اليساري عن قيادة الحزب، وهذا ما حدث. وبالفعل، عادت كوبر إلى «حكومة الظل» برئاسة ستارمر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.
من نجوم حكومة ستارمر
الانتصار الانتخابي العمالي في العام الماضي 2024، ضمن لحزب العمال غالبية مريحة أسهم فيها تشتت أصوات الناخبين المحافظين بين حزب المحافظين وحزب الإصلاح اليميني المتطرف.
وبالنسبة لإيفيت كوبر، كان الأمر الطبيعي تعيينها وزيرة للداخلية، كونها كانت ممسكة بالحقيبة في «حكومة الظل»... وهكذا ما حصل بالفعل.
مع هذا، لم تكن بداية عهدها مع هذا المنصب الرفيع والحساس سهلة. ذلك أنه خلال ثلاثة أسابيع فقط من توليها حقيبة الداخلية كان عليها مواجهة أحداث عنف وشغب عقبت حادث طعن في مدينة ساوثبورت الصغيرة شمال غربي إنجلترا، على مقربة من مدينة ليفربول.
كذلك وجدت نفسها تتخذ مواقف متشددة على صعيد ملف الهجرة. وبعدها، في حمأة الغضب الشعبي من استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة، داخل العديد من المناطق البريطانية، وتحديداً يوم 23 يونيو (حزيران) الماضي، هاجمت شرذمة من مناصري تجمع «بالستاين أكشن» (التحرك من أجل فلسطين) إحدى القواعد الجوية العسكرية البريطانية احتجاجاً على دعم ستارمر الحرب وتأييد حكومته الضمني الموقف الإسرائيلي. وعلى الأثر بادرت كوبر، من دون تردد، إلى اعتبار التجمع «حركة إرهابية»،... وبالتالي، حظرت بقوة القانون المظاهرات التي يشارك فيها مناصروه.
من الداخلية للخارجية
أخيراً، جاءت الصفحة الأحدث في مسيرة كوبر السياسية، وكتبت يوم 5 سبتمبر (أيلول) الحالي، على أثر استقالة نائبة رئيسة الحكومة آنجيلا راينر بسبب فضيحة مالية.
فقد أجرى رئيس الحكومة ستارمر تعديلاً وزارياً مهماً، شهد تعيين وزير الخارجية السابق ديفيد لامي نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للعدل، وهكذا انتقلت كوبر من وزارة الداخلية لتخلفه على رأس وزارة الخارجية، وبالتالي، في قيادة الدبلوماسية البريطانية إبان حقبة حساسة دولياً.وحقاً، اليوم على كوبر التعامل مع العديد من ملفات السياسة الخارجية الساخنة، سواءً على مستوى أوروبا حيث تستعر الحرب الأوكرانية وترفع أسهم اليمين العنصري، أو العلاقات مع واشنطن في عهد دونالد ترمب، أو تطورات الشرق الأوسط المتسارعة، أو صعود العملاقين الصيني والهندي في آسيا.


