النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

بعد قيادة كيكل «حزب الحرية» إلى الصدارة في الانتخابات العامة

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
TT

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)
هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة. إذ تصدّر نتائج الانتخابات بنهاية سبتمبر (أيلول) المنصرم حزب الحرية، الذي أسّسه في منتصف الخمسينات ضابط سابق في قوات الأمن الخاصة النازية (إس إس)، وغدت هذه المرة الأولى التي يتبوأ فيها حزب يميني متطرف واجهة المشهد الانتخابي في النمسا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. من جهة ثانية، مع أنه سبق لحزب الحرية هذا أن تمثّل في حكومات سابقة كشريك في الائتلاف الحاكم، فإنه لم يرأس أياً من تلك الحكومات، وقد يتكرر هذا «السيناريو» اليوم مجدّداً رغم فوزه بالانتخابات. إذ ربما يبقى خارج السلطة كلياً بعد رفض كل الأحزاب الأخرى التحالف معه، خصوصاً بوجود زعيمه هيربرت كيكل. وفي المقابل، يرفض الحزب المتطرف دخول أي حكومة ائتلافية لا يرأسها كيكل شخصياً. وهكذا، زجّت هذه النتائج غير المسبوقة النمسا في حالة غموض، بعد تردّد الرئيس النمساوي ألكسندر فان دير بيلن في تكليف زعيم الحزب الفائز بتشكيل الحكومة، كما جرت العادة. فإثر مشاورات أجراها فان دير بيلن مع الأحزاب الرئيسية، دعا الرئيس قادة هذه الأحزاب إلى التشاور في ما بينها حول الائتلافات المحتملة، قبل تقرير مَن سيُكلف تشكيل الحكومة. ولكن في مطلق الأحوال، حتى في حال اتفاق الأحزاب على إبقاء حزب الحرية خارج السلطة، فإن فوزه الانتخابي يؤشر - وفق وصف استخدمه زعيم الحزب - إلى «عهد جديد، ليس في النمسا فقط، بل في كل أوروبا».

خلال 5 سنوات فقط، نجح حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف في رفع شعبيته بشكل كبير، رابحاً 13 نقطة مئوية مقارنة بالانتخابات العامة عام 2019، حين حصل على 16 فى المائة فقط من الأصوات. إذ رفع الحزب نسبة تأييده هذه المرة إلى ما يقارب 29 فى المائة.

المهرجان الانتخابي الختامي لحزب الحرية في العاصمة النمساوية فيينا (رويترز)

كثيرون يعيدون سبب «نهوض» حزب الحرية بعد سلسلة فضائح أحاطت به في السنوات الماضية إلى زعيمه الحالي هيربرت كيكل. ذلك أنه بعد سنوات على ما عُرف بـ«فضيحة إيبيزا» التي أخرجت الحزب من الحكومة عام 2019، وتسبّبت بالدعوة لانتخابات مبكّرة، بدأ كيكل مسيرته بعيداً عن الفضائح، ونجح باستعادة شعبية الحزب والبناء عليها لتحقيق ما هو أكثر.

تداعيات «فضيحة إيبيزا»

الفضيحة، آنذاك، تورط فيها زعيم الحزب السابق هاينز- كريستيان شتراخه، الذي كان نائب المستشار، ومعه نائبه في الحزب يوهان غونيدوس. إذ ظهر الرجلان يومها في شريط فيديو مسرّب يعود إلى عام 2017، وهما يجلسان في شقة بجزيرة إيبيزا الإسبانية مع سيدة روسية، قالت إنها أليونا ماكاروفا حفيدة رجل أعمال روسي ثري ومؤثر. وادّعي في حينه أن الرجلين كانا يناقشان مع ماكاروفا كيف يمكن للحزب مساعدة جدّها على الحصول على عقود مع الحكومة النمساوية مقابل مساعدتهما بتغطية إعلامية إيجابية. وحقاً، كشف ذلك الشريط عن حجم الفساد داخل الحزب وسوء استخدامه دوره في الحكومة لبيع عقود حكومية مقابل خدمات خاصة.

الرئيس النمساوي فون دير بيلن (رويترز)

كيكل، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الداخلية، ظل بعيداً عن الفضيحة. ومن ثم، نجح خلال السنوات التالية بالارتقاء داخل الحزب المتطرف مستفيداً من عدة عوامل ساعدت على بناء شعبيته وانتخابه زعيماً لحزبه مطلع عام 2021. من هذه العوامل أنه إبان جائحة «كوفيد 19»، صار كيكل أحد أعلى الأصوات انتقاداً لإجراءات تقييد التجمعات التي اتخذتها الحكومة. وكان هذا السبب الأول في بدء بناء شعبيته، وأضاف إليه لاحقاً موقفه العدائي المتشدّد من المهاجرين واللاجئين، وانتقاده سياسة الحكومة المؤيدة للحرب في أوكرانيا، واتهامه إياها بالتسبب في التضخّم.

كيكل ... «تلميذ» يورغ هايدر

في الواقع، يُعد كيكل من أكثر زعماء حزب الحرية تطرفاً. وهو يعدّ يورغ هايدر، الزعيم الأسبق للحزب الذي قتل بحادث سير عام 2008، مثاله الأعلى. ويذكر أن هايدر كان شخصية مثيرة للجدل وتسبّب بانقسامات كبيرة داخل حزبه بسبب آرائه وتصريحاته اليمينية المتطرفة. ثم إن والدَي هايدر كانا عضوين فاعلين في الحزب النازي، وهو نفسه دافع مراراً عن تاريخ النمسا النازي وتاريخ عائلته.

أما عن كيكل، فكان لفترة كاتباً لخطابات هايدر وكان مسؤولاً عن عدد من التصريحات المثيرة للجدل التي خرجت عن الزعيم الأسبق الراحل. وأيضاً كان كيكل صاحب شعار حملة الحزب عام 2010، الذي أثار كثيراً من الجدل والانتقادات، وهو «دم فيينا - كثرة الأغراب ليست جيدة لأحد». وهو أيضاً كان مَن كتب في أحد خطابات هايدر منتقداً رئيس الجالية اليهودية في فيينا، آرييل موزكانت، قائلاً: «كيف يمكن لأحد اسمه آرييل أن تكون يداه ملطختين بالقذارة لهذه الدرجة؟»... ولعب كيكل في هذا التصريح على الصور النمطية العنصرية عن اليهود بأنهم قذرون.

واحتفظ كيكل بآرائه المناهضة للمهاجرين في النمسا والرافضة للتنوع عندما أصبح وزيراً للداخلية عام 2017. وخلال فترة توليه الوزارة، تسبّبت تصريحاته غير مرة بجدل واسع، واتهم بأنه يستخدم مقارنات وتعابير نازية. ومن جهة ثانية، أدت سياسته إزاء اللاجئين وإشارته مراراً إلى خطوات تعارض القوانين الأوروبية حول حقوق الإنسان في التعامل مع اللاجئين، إلى توتير علاقته مع الرئيس النمساوي (آنذاك)، الذي كان فان دير بيلن نفسه، والذي لم يتردّد يومذاك بانتقاد كيكل وتحذيره من تخطي القوانين الأوروبية. وهو ما قد يفسّر اليوم تلكؤ الرئيس في تكليفه تشكيل الحكومة بشكل تلقائي كالعادة، بعد إحراز حزب ما المرتبة الأولى في الانتخابات.

جدير بالذكر أن كيكل مع حركة «أيدانتيتارين»، أو حركة «الهوياتية»، وهي حركة قومية متطرفة ترتكز على «عرقية» الشعوب الأوروبية في مواجهة التنوّع الثقافي والهجرة والإسلام. وكان زعيم الحركة في النمسا، مارتن سيلنر، قد شارك في اجتماع سرّي عقد في ألمانيا نهاية العام الماضي، حضره أعضاء من حزب «البديل لألمانيا» الألماني اليميني المتطرف. وطرح سيلنر، حقاً، خلال ذلك الاجتماع خطة لترحيل ملايين المهاجرين واللاجئين من ألمانيا بمن فيهم من يحملون جوازات ألمانية. ولقد فجّر ذلك الاجتماع سخطاً شديداً واستنهض أصداء اجتماع النازيين قبل محرقة «الهولوكست» الذي ناقش «الحل النهائي» الذي كان تمهيداً لتلك المحرقة.

تبنّي أفكار «أيدانتيتارين»... وتأييد موسكو

في العام الماضي، قال كيكل إنه لا يرى مبرّراً لحظر حركة «أيدانتيتارين»، بل بالعكس، روّج لدعم حزب الحرية تلك الحركة، عبر موافقة الحزب على «المشروع السياسي» الذي تقترحه. ثم إنه لا كيكل ولا حزبه يخفيان مثل هذه الأفكار. إذ يشير الموقع الانتخابي لحزب الحرية إلى أن زعيمه يؤيد «إعادة الأجانب غير المدعوين»، وأنه يريد أن يجعل النمسا «ليس دولة غير إنسانية ... بل غير مريحة» للأجانب وطالبي اللجوء، وأنه يريد أن تكون «النمسا محصنة».

وبالفعل، ساعدت هذا المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين. وأكثر من هذا، أسهمت آراء كيكل حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير. فحزب الحرية معروف أصلاً بقربه من الحكم الروسي، لكن انتقادات زعيمه لدعم الحكومة النمساوية الحرب الأوكرانية، واتهامه إياها بالتسبب بالأزمة الاقتصادية بعد الحرب، لاقت أصداء إيجابية لدى الناخبين المتعبين من استمرار ارتفاع الأسعار منذ بدء تلك الحرب.

إذ عارض كيكل العقوبات الأوروبية التي فُرِضت على روسيا واستمرار التسليح الغربي لسلطات كييف، وهو يدعو بشكل مستمر وعلني لأن تحافظ النمسا على «حياديتها» في التعامل مع الأزمة الأوكرانية الروسية. كذلك وجّه انتقادات حادة للرئيس النمساوي فان دير بيلن بعد زيارة الأخير إلى كييف العام الماضي، وفيها وصف روسيا بأنها «قوة استعمارية». وقال الزعيم المتطرف إن الرئيس بات يشكل «تهديداً للدولة لأنه يعرّض هوية النمسا الحيادية للخطر».

ساعدت المواقف المتطرّفة على بناء رصيد كيكل مع الناخبين النمساويين المتشكّكين من اللاجئين والمهاجرين... وأسهمت آراؤه حول روسيا بزيادة شعبية حزبه بشكل كبير

التطرف على اختلاف وجوهه وأشكاله

هذا، وكما سبقت الإشارة، قبل الحرب في أوكرانيا، كان كيكل قد بدأ يجتذب تأييداً متزايداً برفضه التقيد بإجراءات «كوفيد 19»، ورفضه الصريح وضع قناع وقائي داخل البرلمان. كذلك كان من المشاركين الدائمين في المظاهرات التي خرجت لأشهر ضد قرارات حكومية لتقييد التجمّعات منعاً لانتقال العدوى، واتهم الحكومة في حينه بـ«تقييد الحريات».

ثم إنه رفض الاعتراف بفاعلية اللقاحات ضد الفيروس، وروّج للامتناع عن أخذه مقابل توصيته، بدلاً من اللقاح، بتناول عقار «إيفرميكتين» لمعالجة الفطريات، رغم تحذير الأطباء من ذلك، ومن إمكانية تسببه بحالات تسمم، وهذا ما حصل بالفعل.

هذه الآراء المتطرفة دفعت بكل الأحزاب السياسية الأخرى إلى رفض التحالف معه في حكومة ائتلافية، مع أن الرفض لا يمتد إلى التحالف مع حزبه بالضرورة. وهذا يعني أن الأحزاب الأخرى قد تكون قادرة على تشكيل حكومة من دون حزب الحرية، في حال بقي الحزب مصراً على أن يتسلم كيكل الحكومة أو يشارك فيها.

ويمكن في «سيناريو» كهذا أن يبقى حزب الشعب (اليميني الوسطي)، الذي يرأس الحكومة حالياً، على رأس الحكومة. إذ حلّ ثانياً بـ26 فى المائة من التأييد، مقابل 37 فى المائة في الانتخابات الماضية. وحلّ ثالثاً الحزب الديمقراطي الاشتراكي (يسار الوسط) بحصوله على 21 فى المائة، وهي النسبة ذاتها تقريباً التي نالها عام 2019. وفي المقابل، انهارت شعبية حزب «الخضر» (المشارك في الحكومة الائتلافية حالياً) وتراجع تأييده بأكثر من 11 نقطة، مكتفياً بـ8 فى المائة من التأييد في الانتخابات الحالية، مقارنة مع 14 فى المائة في الانتخابات الماضية.


مقالات ذات صلة

مارين لوبن تدفع ببراءتها في قضية اختلاس أموال أوروبية

أوروبا مارين لوبن (رويترز)

مارين لوبن تدفع ببراءتها في قضية اختلاس أموال أوروبية

دفعت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن، المتّهمة باختلاس أموال البرلمان الأوروبي، ببراءتها الاثنين أمام المحكمة في إطار استجوابها للمرة الأولى في قضية.

«الشرق الأوسط» (باريس)
حصاد الأسبوع الزعيمة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

تقدّم المتطرفين في أوروبا... ظاهرة متكرّرة ومؤشر خطر

يأتي تصدّر حزب الحرية اليميني المتطرف نتائج الانتخابات في النمسا متناغماً مع صعود الأحزاب المتطرفة بشكل عام في أوروبا في السنوات الماضية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا مارين لوبن (رويترز)

بدء محاكمة مارين لوبن بتهمة اختلاس أموال أوروبية

بدأت محاكمة زعيمة حزب اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن إلى جانب 24 عضوا في حزب التجمع الوطني، بتهمة استخدام أموال الاتحاد الأوروبي لتمويل رواتب موظفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا نمساويون يرفعون لافتة تقول «ليخرج النازيون من البرلمان» بعد تقدم اليمين المتطرف في الانتخابات بفيينا الأحد (إ.ب.أ)

صعود اليمين المتطرف في النمسا يدفع قضية الهجرة إلى صدارة المشهد

يشعر كثير من النمساويين بالقلق بشأن قدرة بلادهم على دمج المهاجرين، لا سيما المسلمين، وهو ما شكل أرضية لليمين المتطرف للفوز بالانتخابات

«الشرق الأوسط» (فيينا)
أوروبا زعيم حزب الحرية هربرت كيكل بعد إدلائه بصوته في الانتخابات التشريعية (أ.ف.ب)

اليمين المتطرف يحقق فوزاً انتخابياً تاريخياً في النمسا

بعد 5 سنوات من هزيمته، عاد اليمين المتطرف بقوة في الانتخابات التشريعية بالنمسا الأحد.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)

خلافاً للانتخابات الرئاسية التونسية السابقة، التي تنافس في دورتها الأولى قبل خمس سنوات 26 شخصية وأسفرت في دورتها الثانية عن فوز قيس سعيّد، لا تتضمن قائمة المرشحين الرسميين هذه المرة إلا ثلاثة أسماء، هم: الرئيس الحالي سعيّد والبرلمانيان السابقان زهير المغزاوي (الأمين العام لحزب الشعب) «العروبي الناصري» (59 سنة) ورجل الأعمال المهندس الليبرالي العياشي زمال (47 سنة). وعلى غرار ما سجل في انتخابات 2019، التي شارك رجل الأعمال نبيل القروي في دورها الأول وهو في السجن، يستمر إيقاف العياشي زمال المرشح «المعتمد رسمياً» الذي أصدرت محاكم عديدة ضده أحكاماً بالسجن بتهمة «تزييف تزكيات الناخبين».

في هذه الأثناء، أكّد القاضي فاروق بوعسكر، رئيس «الهيئة العليا للانتخابات» ومحمد التليلي المنصري الناطق الرسمي باسمها، أن اسم زمال سيظل مُدرجاً في قوائم المرشحين وسيعرض على الـ9 ملايين و700 ألف ناخب المرسّمين في القوائم الرسمية. وما يجدر ذكره هنا أن «الهيئة» كانت قد أسقطت رسمياً 3 مرشحين بارزين أعادتهم «الجلسة العامة للمحكمة الإدارية» للسباق، هم على التوالي: المنذر الزنادي، وزير التجارة والسياحة والنقل والصحة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد اللطيف المكي، وزير الصحة لفترتين في العشرية الماضية، وعماد الدايمي، الوزير والبرلماني السابق ما بين 2011 و2019.

معارك قانونية وسياسية

بعد اختلاط الأمور و«الأجندات»، تباينت التقييمات داخل النخب والأوساط الدبلوماسية والسياسية في تونس للعملية الانتخابية الحالية، التي أعلن رسمياً أنها انطلقت يوم 14 يوليو (تموز) الماضي.

فقد انتقد قياديون في «الاتحاد العام التونسي للشغل» بينهم أمينه العام نور الدين الطبوبي، وفي «منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان» بينهم رئيسها المحامي سامي الطريفي، «المناخ السياسي والإعلامي والحقوقي في البلاد»، واعتبروا أنه «غير ملائم لتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة وفق المقاييس الدولية»، خلافاً لمناخ انتخابات 2014 و2019. ولفت سامي الطاهري، الناطق الرسمي باسم «الاتحاد العام التونسي للشغل» - الذي يعدّ أكبر قوة نقابية وسياسية في تونس - خصوصاً إلى «الأجواء التي تجري فيها العملية الانتخابية»، وذلك إثر استبعاد عشرات من زعماء المعارضة والنشطاء المستقلين بسبب إيقافهم وفتح قضايا أمنية عدلية ضدهم بتهم خطيرة، بينها «التآمر على أمن الدولة» و«الفساد».

كذلك، لوّحت بلاغات رسمية باسم اتحاد النقابات بـ«سيناريو» تنظيم إضراب عام في البلاد للضغط على السلطات.

قضايا التآمر على أمن الدولة

في سياق متصل، كشف المحامي والأكاديمي اليساري والوزير السابق عبد الوهاب معطر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن نحو 15 قضية «تآمر على أمن الدولة» فُتحت ضد شخصيات سياسية محسوبة على المعارضة، بعضها كان معنياً بالترشح للانتخابات.

في الوقت نفسه، قال المحامي عبد الرؤوف العيادي، زعيم حزب «وفاء»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الإيقافات والتحقيقات شملت خلال الأشهر الماضية عشرات من أبرز السياسيين وحرمتهم من فرصة الترشح، وعدّد بين هؤلاء: القيادي في «جبهة الخلاص» المعارضة جوهر بن مبارك، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي الوزير غازي الشواشي، والمدير التنفيذي لحزب «أمل» ومدير مكتب رئاسة الجمهورية سابقاً الوزير رضا بالحاج، إلى جانب عدد من القياديين في أحزاب «حركة النهضة» (إسلامي محافظ) و«قلب تونس» (ليبرالي) وائتلاف «الكرامة» (محافظ) وحزب «حراك تونس – الإرادة» (الذي يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) وحزب المؤتمر (الذي يتزعمه المحامي والوزير السابق سمير بن عمر).

أيضاً، انتقد حسام الحامي منسّق «ائتلاف صمود»، وهو تكتل للمعارضين اليساريين، رفض ترشّحات 14 شخصية سياسية وأكاديمية ممّن قدّموا رسمياً ملفاتهم للهيئة العليا للانتخابات، وجرى استبعادهم لأسباب «إجرائية» عدة، بينها عدم تقديم نسخة من بطاقة السوابق العدلية أو وثائق تثبت أنه وقع تزكيتهم من قبل 10 آلاف ناخب أو من قِبل 10 أعضاء في البرلمان.

وفي سياق متصل، كان بين المستبعدين لهذه الأسباب رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي، والإعلامي والسياسي المخضرم الصافي سعيد والوزير السابق للتعليم المثير للجدل والناشط اليساري ناجي جلول.

أما المحامية عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحرّ، فقد استُبعدت بسبب تعرضها للإيقاف منذ سنة، إثر تحركات شاركت فيها رفقة عشرات من كوادر حزبها، واتهمت السلطات منظميها بـ«تهديد الأمن العام».

هذا، ولم تسفر المظاهرات التي نظمها أخيراً آلاف من أنصار هذا الحزب ومن ممثلي «الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات» - التي تضم عشرات المنظمات والشخصية المستقلة والحزبية - عن الإفراج عن غالبية الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

كذلك فشلت ضغوط المعارضة في تغيير شروط الترشح للانتخابات، بل العكس هو الذي حصل، على حد تعبير المحامية والناشطة السياسية اليسارية دلية مصدق بن مبارك والحقوقي شاكر الحوكي والأكاديمية والناشطة النسوية اليسارية سناء بن عاشور.

معارك قضائية وسياسية

من جهة ثانية، في سياق التسارع الكبير للأحداث، فجّر السباق نحو قصر الرئاسة هذا العام سلسلة معقّدة من المعارك القانونية والقضائية والسياسية داخل البلاد، وفي أوساط الجالية التونسية في الخارج، التي تقدر بنحو مليونين، أي خُمس المواطنين.

ومن أبرز أسباب هذه المعارك، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية شاكر الحوكي، رفض «الهيئة العليا للانتخابات» تنفيذ قرار «نهائي وغير قابل للطعن» أصدرته الجلسة العامة للمحكمة الإدارية التي تضم 27 قاضياً من «أعلى رتبة» بينهم الرئيس الأول للمحكمة. ولقد نصّ هذا القرار على «قانونية ترشح الوزراء الثلاثة السابقين منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدايمي بعد قبول طعنهم في قرار إقصائهم» من قِبل ممثلي السلطة الانتخابية برئاسة القاضي فاروق بوعسكر.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانخراط في هذه المعركة عبر الانحياز لموقف المحكمة الإدارية و«علوية قراراتها» شمل عشرات من أساتذة القانون والعلوم السياسية وعمداء الكليات وقادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وهيئات نقابات المحامين والقضاة والصحافيين ومنظمات حقوقية عديدة.

وفي الإطار عينه، رفع عدد من الحقوقيين بينهم القاضي السابق والمحامي أحمد صواب والإعلامي والناشط السياسي زياد الهاني قضايا عدلية أمام محكمة تونسية ضد «الهيئة العليا للانتخابات»، وشكّك صواب والهاني في استقلالية رئاسة «الهيئة» وحياديتها، طالباً من القضاء استصدار قرار ينص على «إلزامية تنفيذ قرار الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وقضاتها الـ27» حيال الزنايدي والدايمي والمكي.

واعتبر صواب في تصريح لـ«لشرق الأوسط» أن «المحكمة الإدارية» أعلى سلطة في النزاعات الانتخابية في ظل غياب «المحكمة الدستورية»، وهي المكلفة البت في الخلافات بين المرشحين للانتخابات وسلطات الإشراف وبينها «الهيئة العليا للانتخابات». أما الهاني، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عبد السلام قريصيعة وأعضاء المحكمة الـ27 مطالبون قانوناً بضمان توسيع قائمة المرشحين، وإن لزم الأمر عبر مراجعة روزنامة الانتخابات، أي تأجيل موعد الاقتراع العام».

ناخبة تونسية داخل مركز اقتراع (آ ف ب)

اتهامات... ومحاكمات

في هذه الأثناء، شنّ برلمانيون مقرّبون من السلطات ومن فريق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيّد حملة إعلامية ضد المعارضين الذين تحرّكوا في الكواليس ونظموا مظاهرات في الشوارع للمطالبة بتوسيع قائمة المرشحين في الانتخابات لتشمل «وزراء وشخصيات من المتهمين بالتآمر على أمن الدولة».

واتّهم هؤلاء، وبينهم البرلمانية سيرين مرابط والناشط السياسي اليساري السابق رياض جراد، بعض معارضي الرئيس سعيّد بالخيانة الوطنية و«محاولة توظيف أجواء العملية الانتخابية الحالية لتمرير مخطّطات وصاية أجنبية على البلاد، بالتعاون مع عدد من نشطاء الجمعيات والأحزاب التي تحصل على تمويلات أجنبية قدّرت قيمتها بمئات مليارات من المليمات».

كذلك، قدّم 34 نائباً من أعضاء مجلس النواب مشروع تعديل «استعجالي» للقانون الانتخابي الصادر عام 2014؛ بهدف إحالة مهمة البت في «النزاعات الانتخابية» إلى المحاكم العدلية العادية لا المحكمة الإدارية، التي لا تخضع إدارياً إلى سلطة وزارة العدل ورئاسة النيابة العمومية وتتمتع باستقلالية نسبية.

من جانبه، نشر الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية تصريحات عديدة للرئيس سعيّد شكّك فيها في «وطنية» عدد من المعارضين، واتهمهم «بالحصول على تمويلات أجنبية ضخمة وبالانخراط ضمن» مؤامرة «تستهدف أمن البلاد واستقرارها».

وشكك البلاغ الانتخابي لسعيّد في صدقية منظمي التحركات الاحتجاجية على المسار الانتخابي والسياسي الحالي في الشارع وفي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. واتهم البلاغ هؤلاء المعارضين وبعض المرشحين «الافتراضيين» للرئاسة بـ«التبعية للخارج» وأنصارهم بكونهم «تحالف الأضداد». وأورد سعيّد على هامش اجتماعات عقدها مع وزيري الداخلية خالد النوري والعدل ليلى جفّال أن السلطات سمحت للمعارضين بتنظيم مسيرات رفعوا خلالها شعاراتهم بكل حرية «حمتها قوات الأمن»، على الرغم من كونها جمعت «خصوم الأمس» و«الأفرقاء».

فوز متوقع في انتخابات الغد للرئيس قيس سعيّد (أ ف ب/غيتي)

بدء العد التنازلي؟

وإذ ترجّح موازين القوى السياسية الحالية في تونس فوز الرئيس سعيّد بعهدة ثانية تمتد إلى 2029، تشهد كواليس السياسيين صراعاً بين تيارين كبيرين:

الأول يدعو إلى المقاطعة، وهو يضم القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي وساسة بارزين حثّوا على مقاطعة الانتخابات، والتأهب لمعارك سياسية وإعلامية جديدة توقعوا أن تكون لصالح المعارضين، وتبدأ بعد «محطة» 6 أكتوبر التي يتوقعون أن تكون نسبة المشاركة فيها ضعيفة جداً على غرار انتخابات العامين الماضيين.

أما الآخر فيدعو إلى المشاركة بكثافة، وبين شخصياته ساسة وحقوقيون قريبون من جبهة الخلاص المعارضة، كالمحامية اليسارية دليلة مصدق بن مبارك، والحقوقية شيماء عيسى والزعيم اليساري السابق الوزير محمد عبو.