انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

التنافس على قصر قرطاج يخلط أوراق الأحزاب والنقابات

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
TT

انتخابات تونس: ماراثون سياسي... وتصعيد بين السلطات ومعارضيها

زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)
زهير المغزاوي (مواقع التواصل الاجتماعي)

خلافاً للانتخابات الرئاسية التونسية السابقة، التي تنافس في دورتها الأولى قبل خمس سنوات 26 شخصية وأسفرت في دورتها الثانية عن فوز قيس سعيّد، لا تتضمن قائمة المرشحين الرسميين هذه المرة إلا ثلاثة أسماء، هم: الرئيس الحالي سعيّد والبرلمانيان السابقان زهير المغزاوي (الأمين العام لحزب الشعب) «العروبي الناصري» (59 سنة) ورجل الأعمال المهندس الليبرالي العياشي زمال (47 سنة). وعلى غرار ما سجل في انتخابات 2019، التي شارك رجل الأعمال نبيل القروي في دورها الأول وهو في السجن، يستمر إيقاف العياشي زمال المرشح «المعتمد رسمياً» الذي أصدرت محاكم عديدة ضده أحكاماً بالسجن بتهمة «تزييف تزكيات الناخبين».

في هذه الأثناء، أكّد القاضي فاروق بوعسكر، رئيس «الهيئة العليا للانتخابات» ومحمد التليلي المنصري الناطق الرسمي باسمها، أن اسم زمال سيظل مُدرجاً في قوائم المرشحين وسيعرض على الـ9 ملايين و700 ألف ناخب المرسّمين في القوائم الرسمية. وما يجدر ذكره هنا أن «الهيئة» كانت قد أسقطت رسمياً 3 مرشحين بارزين أعادتهم «الجلسة العامة للمحكمة الإدارية» للسباق، هم على التوالي: المنذر الزنادي، وزير التجارة والسياحة والنقل والصحة في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعبد اللطيف المكي، وزير الصحة لفترتين في العشرية الماضية، وعماد الدايمي، الوزير والبرلماني السابق ما بين 2011 و2019.

معارك قانونية وسياسية

بعد اختلاط الأمور و«الأجندات»، تباينت التقييمات داخل النخب والأوساط الدبلوماسية والسياسية في تونس للعملية الانتخابية الحالية، التي أعلن رسمياً أنها انطلقت يوم 14 يوليو (تموز) الماضي.

فقد انتقد قياديون في «الاتحاد العام التونسي للشغل» بينهم أمينه العام نور الدين الطبوبي، وفي «منظمة الدفاع عن حقوق الإنسان» بينهم رئيسها المحامي سامي الطريفي، «المناخ السياسي والإعلامي والحقوقي في البلاد»، واعتبروا أنه «غير ملائم لتنظيم انتخابات تعدّدية نزيهة وفق المقاييس الدولية»، خلافاً لمناخ انتخابات 2014 و2019. ولفت سامي الطاهري، الناطق الرسمي باسم «الاتحاد العام التونسي للشغل» - الذي يعدّ أكبر قوة نقابية وسياسية في تونس - خصوصاً إلى «الأجواء التي تجري فيها العملية الانتخابية»، وذلك إثر استبعاد عشرات من زعماء المعارضة والنشطاء المستقلين بسبب إيقافهم وفتح قضايا أمنية عدلية ضدهم بتهم خطيرة، بينها «التآمر على أمن الدولة» و«الفساد».

كذلك، لوّحت بلاغات رسمية باسم اتحاد النقابات بـ«سيناريو» تنظيم إضراب عام في البلاد للضغط على السلطات.

قضايا التآمر على أمن الدولة

في سياق متصل، كشف المحامي والأكاديمي اليساري والوزير السابق عبد الوهاب معطر في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، عن أن نحو 15 قضية «تآمر على أمن الدولة» فُتحت ضد شخصيات سياسية محسوبة على المعارضة، بعضها كان معنياً بالترشح للانتخابات.

في الوقت نفسه، قال المحامي عبد الرؤوف العيادي، زعيم حزب «وفاء»، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إن الإيقافات والتحقيقات شملت خلال الأشهر الماضية عشرات من أبرز السياسيين وحرمتهم من فرصة الترشح، وعدّد بين هؤلاء: القيادي في «جبهة الخلاص» المعارضة جوهر بن مبارك، والأمين العام للحزب الجمهوري عصام الشابي، والأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي الوزير غازي الشواشي، والمدير التنفيذي لحزب «أمل» ومدير مكتب رئاسة الجمهورية سابقاً الوزير رضا بالحاج، إلى جانب عدد من القياديين في أحزاب «حركة النهضة» (إسلامي محافظ) و«قلب تونس» (ليبرالي) وائتلاف «الكرامة» (محافظ) وحزب «حراك تونس – الإرادة» (الذي يتزعمه الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) وحزب المؤتمر (الذي يتزعمه المحامي والوزير السابق سمير بن عمر).

أيضاً، انتقد حسام الحامي منسّق «ائتلاف صمود»، وهو تكتل للمعارضين اليساريين، رفض ترشّحات 14 شخصية سياسية وأكاديمية ممّن قدّموا رسمياً ملفاتهم للهيئة العليا للانتخابات، وجرى استبعادهم لأسباب «إجرائية» عدة، بينها عدم تقديم نسخة من بطاقة السوابق العدلية أو وثائق تثبت أنه وقع تزكيتهم من قبل 10 آلاف ناخب أو من قِبل 10 أعضاء في البرلمان.

وفي سياق متصل، كان بين المستبعدين لهذه الأسباب رئيس جمعية القضاة الشبان مراد المسعودي، والإعلامي والسياسي المخضرم الصافي سعيد والوزير السابق للتعليم المثير للجدل والناشط اليساري ناجي جلول.

أما المحامية عبير موسي، زعيمة الحزب الدستوري الحرّ، فقد استُبعدت بسبب تعرضها للإيقاف منذ سنة، إثر تحركات شاركت فيها رفقة عشرات من كوادر حزبها، واتهمت السلطات منظميها بـ«تهديد الأمن العام».

هذا، ولم تسفر المظاهرات التي نظمها أخيراً آلاف من أنصار هذا الحزب ومن ممثلي «الشبكة التونسية للحقوق والحرّيات» - التي تضم عشرات المنظمات والشخصية المستقلة والحزبية - عن الإفراج عن غالبية الموقوفين في قضايا ذات صبغة سياسية.

كذلك فشلت ضغوط المعارضة في تغيير شروط الترشح للانتخابات، بل العكس هو الذي حصل، على حد تعبير المحامية والناشطة السياسية اليسارية دلية مصدق بن مبارك والحقوقي شاكر الحوكي والأكاديمية والناشطة النسوية اليسارية سناء بن عاشور.

معارك قضائية وسياسية

من جهة ثانية، في سياق التسارع الكبير للأحداث، فجّر السباق نحو قصر الرئاسة هذا العام سلسلة معقّدة من المعارك القانونية والقضائية والسياسية داخل البلاد، وفي أوساط الجالية التونسية في الخارج، التي تقدر بنحو مليونين، أي خُمس المواطنين.

ومن أبرز أسباب هذه المعارك، أستاذ القانون العام والعلوم السياسية شاكر الحوكي، رفض «الهيئة العليا للانتخابات» تنفيذ قرار «نهائي وغير قابل للطعن» أصدرته الجلسة العامة للمحكمة الإدارية التي تضم 27 قاضياً من «أعلى رتبة» بينهم الرئيس الأول للمحكمة. ولقد نصّ هذا القرار على «قانونية ترشح الوزراء الثلاثة السابقين منذر الزنايدي وعبد اللطيف المكي وعماد الدايمي بعد قبول طعنهم في قرار إقصائهم» من قِبل ممثلي السلطة الانتخابية برئاسة القاضي فاروق بوعسكر.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الانخراط في هذه المعركة عبر الانحياز لموقف المحكمة الإدارية و«علوية قراراتها» شمل عشرات من أساتذة القانون والعلوم السياسية وعمداء الكليات وقادة «الاتحاد العام التونسي للشغل» وهيئات نقابات المحامين والقضاة والصحافيين ومنظمات حقوقية عديدة.

وفي الإطار عينه، رفع عدد من الحقوقيين بينهم القاضي السابق والمحامي أحمد صواب والإعلامي والناشط السياسي زياد الهاني قضايا عدلية أمام محكمة تونسية ضد «الهيئة العليا للانتخابات»، وشكّك صواب والهاني في استقلالية رئاسة «الهيئة» وحياديتها، طالباً من القضاء استصدار قرار ينص على «إلزامية تنفيذ قرار الجلسة العامة للمحكمة الإدارية وقضاتها الـ27» حيال الزنايدي والدايمي والمكي.

واعتبر صواب في تصريح لـ«لشرق الأوسط» أن «المحكمة الإدارية» أعلى سلطة في النزاعات الانتخابية في ظل غياب «المحكمة الدستورية»، وهي المكلفة البت في الخلافات بين المرشحين للانتخابات وسلطات الإشراف وبينها «الهيئة العليا للانتخابات». أما الهاني، فقال لـ«الشرق الأوسط» إن «الرئيس الأول للمحكمة الإدارية عبد السلام قريصيعة وأعضاء المحكمة الـ27 مطالبون قانوناً بضمان توسيع قائمة المرشحين، وإن لزم الأمر عبر مراجعة روزنامة الانتخابات، أي تأجيل موعد الاقتراع العام».

ناخبة تونسية داخل مركز اقتراع (آ ف ب)

اتهامات... ومحاكمات

في هذه الأثناء، شنّ برلمانيون مقرّبون من السلطات ومن فريق الحملة الانتخابية للرئيس قيس سعيّد حملة إعلامية ضد المعارضين الذين تحرّكوا في الكواليس ونظموا مظاهرات في الشوارع للمطالبة بتوسيع قائمة المرشحين في الانتخابات لتشمل «وزراء وشخصيات من المتهمين بالتآمر على أمن الدولة».

واتّهم هؤلاء، وبينهم البرلمانية سيرين مرابط والناشط السياسي اليساري السابق رياض جراد، بعض معارضي الرئيس سعيّد بالخيانة الوطنية و«محاولة توظيف أجواء العملية الانتخابية الحالية لتمرير مخطّطات وصاية أجنبية على البلاد، بالتعاون مع عدد من نشطاء الجمعيات والأحزاب التي تحصل على تمويلات أجنبية قدّرت قيمتها بمئات مليارات من المليمات».

كذلك، قدّم 34 نائباً من أعضاء مجلس النواب مشروع تعديل «استعجالي» للقانون الانتخابي الصادر عام 2014؛ بهدف إحالة مهمة البت في «النزاعات الانتخابية» إلى المحاكم العدلية العادية لا المحكمة الإدارية، التي لا تخضع إدارياً إلى سلطة وزارة العدل ورئاسة النيابة العمومية وتتمتع باستقلالية نسبية.

من جانبه، نشر الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية تصريحات عديدة للرئيس سعيّد شكّك فيها في «وطنية» عدد من المعارضين، واتهمهم «بالحصول على تمويلات أجنبية ضخمة وبالانخراط ضمن» مؤامرة «تستهدف أمن البلاد واستقرارها».

وشكك البلاغ الانتخابي لسعيّد في صدقية منظمي التحركات الاحتجاجية على المسار الانتخابي والسياسي الحالي في الشارع وفي وسائل الإعلام المحلية والأجنبية. واتهم البلاغ هؤلاء المعارضين وبعض المرشحين «الافتراضيين» للرئاسة بـ«التبعية للخارج» وأنصارهم بكونهم «تحالف الأضداد». وأورد سعيّد على هامش اجتماعات عقدها مع وزيري الداخلية خالد النوري والعدل ليلى جفّال أن السلطات سمحت للمعارضين بتنظيم مسيرات رفعوا خلالها شعاراتهم بكل حرية «حمتها قوات الأمن»، على الرغم من كونها جمعت «خصوم الأمس» و«الأفرقاء».

فوز متوقع في انتخابات الغد للرئيس قيس سعيّد (أ ف ب/غيتي)

بدء العد التنازلي؟

وإذ ترجّح موازين القوى السياسية الحالية في تونس فوز الرئيس سعيّد بعهدة ثانية تمتد إلى 2029، تشهد كواليس السياسيين صراعاً بين تيارين كبيرين:

الأول يدعو إلى المقاطعة، وهو يضم القيادي المعارض أحمد نجيب الشابي وساسة بارزين حثّوا على مقاطعة الانتخابات، والتأهب لمعارك سياسية وإعلامية جديدة توقعوا أن تكون لصالح المعارضين، وتبدأ بعد «محطة» 6 أكتوبر التي يتوقعون أن تكون نسبة المشاركة فيها ضعيفة جداً على غرار انتخابات العامين الماضيين.

أما الآخر فيدعو إلى المشاركة بكثافة، وبين شخصياته ساسة وحقوقيون قريبون من جبهة الخلاص المعارضة، كالمحامية اليسارية دليلة مصدق بن مبارك، والحقوقية شيماء عيسى والزعيم اليساري السابق الوزير محمد عبو.


مقالات ذات صلة

جدها أُعدم في العراق... ريم العبلي من لاجئة إلى وزيرة ألمانية

أوروبا ريم العبلي - رادوفان (إ.ب.أ)

جدها أُعدم في العراق... ريم العبلي من لاجئة إلى وزيرة ألمانية

وقع الاختيار على ريم العبلي - رادوفان، المفوضة الحالية لشؤون الهجرة واللاجئين والاندماج، لتصبح وزيرة التنمية في الحكومة الألمانية الجديدة. فماذا نعرف عنها؟

ماري وجدي (القاهرة)
آسيا امرأة تحمل لافتة كُتب عليها «يجب على يون سوك يول التنحي» خلال وقفة احتجاجية بالشموع ضد رئيس كوريا الجنوبية في سيول أمس (أ.ف.ب)

شرطة كوريا الجنوبية تفتح تحقيقاً مع الرئيس بتهمة «التمرد»

فتحت الشرطة الكورية الجنوبية (الخميس) تحقيقاً بحق الرئيس يون سوك يول، بتهمة «التمرّد»؛ بسبب إعلانه الأحكام العرفية في البلاد.

«الشرق الأوسط» (سيول)
حصاد الأسبوع القصف وأعمدة الدخان في جنوب لبنان (رويترز)

«حرب لبنان» تظهر تغييراً كبيراً في نظرة أميركا تجاه إيران

منذ اندلاع «حرب مساندة» غزة التي أطلقها «حزب الله» قبل نحو سنة، كانت المؤشرات كلها توحي بأن حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل رداً على «هجوم 7 أكتوبر (تشرين…

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع جدعون ساعر

جدعون ساعر... غريم نتنياهو الذي ناصره في «حكومة الحرب»

عادّاً قرار عودته إلى الحكومة الإسرائيلية «عملاً وطنياً صحيحاً» يأتي في «أوقات صعبة مليئة بالتحديات»،

حصاد الأسبوع فلاديمير زيئيف جابوتنسكي

«الليكود»... حزب يميني يتبنى فكرة «إسرائيل الكبرى»

يعتبر «الليكود» (التكتل) واحداً من أبرز الأحزاب الإسرائيلية، وهو تكتل مجموعة من الأحزاب اليمينية تشكّل عام 1973، بقيادة رئيس الوزراء الراحل مناحيم بيغن،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
TT

«مواقف» ترمب «وتنازلاته» في ميزان السياسة

حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)
حقول الحرب في أوكرانيا (رويترز)

تعكس تعليقات الرئيس الأميركي السابق جو بايدن عن سياسات الرئيس دونالد ترمب ومواقفه من الحرب الروسية – الأوكرانية، الجدل الذي تنخرط فيه الطبقة السياسية الأميركية ومراكز الأبحاث، حول تداعيات التغيير الذي أحدثه ترمب في علاقات واشنطن بكل من موسكو وكييف وبروكسل. بايدن اعتبر ضغوط إدارة ترمب على أوكرانيا للتنازل عن أراضٍ لروسيا «استرضاءً عصرياً»، في تلميح إلى سياسة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين، الذي فشل في أواخر الثلاثينات في استرضاء مطالب الزعيم النازي أدولف هتلر لتجنب حرب شاملة في أوروبا. ومع ذلك، حُمّل الرئيس الأميركي السابق والعديد من القادة الأوروبيين، مسؤولية التقصير في دعم كييف، ومحاولة استرضاء روسيا، رغم المعرفة المسبقة بمواقفه خلال السنوات الثلاث من الحرب، التي كانت تشير بشكل واضح إلى أنه سيقوم، ليس فقط بالتقرب من الرئيس الروسي، بل وزيادة الشقاق مع الحلفاء الأطلسيين في «ناتو».

بدلاً من السماح لها بتحقيق النصر، يقول محللون، إن أوكرانيا تلقت معدات من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وبولندا، كانت كافية فقط لاستنزاف روسيا. ولخّص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو (حزيران) 2022 القيود الاستراتيجية على أوكرانيا؛ ما أجبرها في نهاية المطاف على القتال بيد واحدة خلف ظهرها، قائلاً: «علينا ألّا نُذلّ روسيا لكي نتمكن في اليوم الذي يتوقف فيه القتال من إيجاد مخرج عبر القنوات الدبلوماسية». وحقاً، خشي العديد من القادة والجنرالات من أنه في حال هزيمة روسيا، ستتبعها فوضى داخل الاتحاد الروسي، وسيفقد الرئيس فلاديمير بوتين سلطته. وكان هؤلاء يخشون ما يسميه العسكريون «نجاحاً كارثياً»، بحسب صحيفة «الإندبندنت». كذلك أعرب كبار المسؤولين في الحكومة البريطانية عن آرائهم بشأن أخطار انهيار الاتحاد الروسي، بالقول إنهم كانوا يخشون انتصاراً أوكرانياً ساحقاً لأن الاتحاد الروسي «إمبراطورية متماسكة بالخوف».

تحوّل التركيز

في الآونة الأخيرة، ورغم تغيير ميزان القوة لمصلحة موسكو، تحدثت معلومات استخباراتية جديدة راجعها مسؤولون أميركيون وغربيون، عن أن بوتين ربما أعاد ترتيب أهدافه المباشرة في حرب أوكرانيا، مع التركيز على ترسيخ السيطرة على الأراضي التي استولت عليها القوات الروسية وتعزيز الاقتصاد الروسي المتعثر. وفي حين يتناقض هذا التحول مع تقييمات سابقة أشارت إلى أن بوتين يعتقد أن الحرب تسير لصالحه؛ ما يدعم قتالاً مطولاً ضد أوكرانيا الضعيفة، بهدف الاستيلاء على البلاد بأكملها في النهاية أثار هذا التحوّل في نهج بوتين إلى احتمال أن يكون الآن أكثر ميلاً إلى التفكير في فكرة اتفاق سلام. ووفق مصادر أميركية، لعب هذا التحول دوراً في اعتقاد الرئيس ترمب بأن بوتين ربما بات أكثر استعداداً للتفاوض مما كان عليه في الماضي.

مع ذلك، لا يزال كبار المسؤولين الأميركيين حذرين بشأن نيات بوتين الحقيقية. ومع أنهم يشيرون إلى أن تأكيدات بوتين المستمرة بأنه يسعى للسلام، و«عروضه» المتقطعة لوقف إطلاق نار جزئي - رغم المقترحات الأميركية المواتية له التي تدعو كييف إلى التنازل عن معظم الأراضي التي استولت عليها روسيا – يعتقد هؤلاء أنه حتى لو قبل بوتين مثل هذا الاتفاق، فقد يكون قبوله إجراءً مؤقتاً، للعودة إلى التصعيد بمجرد استئناف الحرب.

أيضاً، بعدما وضعت الضغوط المستمرة من إدارة ترمب، وتهديدات نائبه جيه دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو بوقف «الوساطة» الأميركية، وفرض عقوبات إضافية - ناهيك من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها روسيا - بوتين في موقف صعب محتمل، يقول مسؤول استخبارات غربي كبير: «أعتقد أنه ربما يفكر في هدف معقول على المدى القريب». ومع توقيع الولايات المتحدة اتفاقية المعادن مع أوكرانيا، سُلط الضوء أيضاً على إمكانية استثمارات مماثلة مع روسيا بعد الحرب، في المباحثات التي وصفتها واشنطن بأنها فرصة «تاريخية».

بل، ولقد أشار المسؤول أيضاً إلى أن السؤال الرئيس هو ما الذي ترغب واشنطن في تقديمه لجعل اتفاق السلام جذاباً بما يكفي لبوتين لإيقاف الحرب، والتي قد يستأنفها لاحقاً بمجرد تحقيق نصر مؤقت. وهنا، يقول مايكل روبين، الباحث في معهد «أميركان انتربرايز» في حوار مع «الشرق الأوسط» إن تلك التهديدات لم تُسهم في حل الأزمة الأوكرانية، لكنها على الأرجح عكست تفكير ترمب، الذي بدا أنه يتخلى عن أي احتمال لحل سريع، ويُرجّح أن يعكس ذلك واقعية ترمب في أن بوتين لن يُحقّق السلام.

بوتين متمسك بأهدافه البعيدة

من جهة ثانية، تغير الأهداف المباشرة قد لا يغير تمسك بوتين بطموحات طويلة الأجل لتوسيع نفوذ روسيا الإقليمي في أوكرانيا. وقد يكون استعداده «للتوافق» مع واشنطن في الوقت الحالي تكتيكاً لتحسين العلاقات مع واشنطن، في انتظار فرصة مواتية أكثر لتحقيق أهدافه القصوى.

ووفق مسؤول أوروبي كبير «هناك العديد من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية التي ستواصل روسيا استخدامها»، مضيفاً أن أهداف روسيا النهائية «ربما لم تتبدل رغم هذا التغيير التكتيكي». كذلك، أعرب العديد من المشرّعين الأميركيين عن مخاوفهم من أن بوتين قد يستخدم مباحثات السلام استراتيجيةً لكسب المزيد من النفوذ بدلاً من السعي الجاد لإنهاء الحرب، وهو ما قد يكون عزّز من مخاوف الكرملين من أن تكون تلك التهديدات حقيقية.

فقد أعلن السيناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام، الأسبوع الماضي، أنه يحظى بدعم مجلس الشيوخ لمشروع قانون يدعو إلى فرض عقوبات جديدة «ساحقة» على روسيا. ويسعى مشروع القانون هذا إلى فرض رسوم جمركية بنسبة 500 في المائة على الواردات من الدول التي تشتري النفط أو الغاز أو اليورانيوم الروسي، ما لم تنخرط روسيا في مفاوضات جادة لإنهاء الحرب. وفي الأيام الأخيرة، ناقش مسؤولون أميركيون وأوروبيون فرض عقوبات اقتصادية جديدة على روسيا، تؤثر على قطاعي البنوك والطاقة؛ بهدف الضغط عليها لدعم الجهود الدبلوماسية الأميركية لإنهاء الحرب.

بايدن وبنس يحذّران ترمب

ومع رفض أوكرانيا عرض بوتين الأخير بوقف إطلاق نار قصير خلال احتفالاته بيوم «النصر على النازية» ووصفه بـ«محاولة أخرى للتلاعب»، عدّه البعض «أقل من الحقيقة». وقال الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات البريطاني، «إم آي 6» السير أليكس يونغر، إن الرئيس الروسي عازم على الاستيلاء على أكثر من مجرد أوكرانيا. وهو ما يتوافق مع آراء كل من جو بايدن، ونائب ترمب السابق مايك بنس.

بايدن سبق له القول إن بوتين يؤمن بأن «أوكرانيا جزء من روسيا»، وإن «أي شخص يظن أنه سيتوقف» إذا جرى التنازل عن بعض الأراضي بوصفه جزءاً من اتفاق سلام «هو ببساطة أحمق». وأضاف: «لا أفهم كيف يظن الناس أنه إذا سمحنا لديكتاتور بلطجي بأن يقرر الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي ليست ملكه، فإن ذلك سيُرضيه. لا أفهم ذلك تماماً». وتابع معرباً عن قلقه: «أوروبا ستفقد ثقتها بأميركا وقيادتها»، و«إن قادة القارة يتساءلون، حسناً، ماذا نفعل الآن؟ هل يمكننا الاعتماد على الولايات المتحدة؟ هل ستكون موجودة؟».

بدوره، أعرب بنس عن خيبة أمله من تراجع دعم الرئيس ترمب لكييف، وذكر أن الرئيس الروسي قد يضع ديمقراطيات أوروبية أخرى «نصب عينيه». وأضاف: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا». وتابع: «حقيقة أننا الآن نتابع منذ قرابة شهرين اتفاق وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه أوكرانيا، واستمرار روسيا في المماطلة وتقديم الأعذار، إنما يؤكدان هذه النقطة». واستطرد: «أعتقد أن الدعم المتذبذب الذي أبدته الإدارة (لأوكرانيا) خلال الأشهر القليلة الماضية قد شجع روسيا... والأمر لا يقتصر عليّ أنا شخصياً. أعتقد حقاً أنه إذا اجتاح أوكرانيا، فستكون مسألة وقت فقط قبل أن يعبر الحدود، حيث سيضطر رجالنا ونساؤنا العسكريون إلى محاربته».

مايك بنس: «إذا كانت السنوات الثلاث الماضية علمتنا شيئاً، فهو أن فلاديمير بوتين لا يريد السلام. إنه يريد أوكرانيا»

اتفاقية المعادن لا تضمن أمن كييف

في أي حال، ورغم مناورات البيت الأبيض الكثيرة، انقضت الأيام المائة الأولى من إدارة ترمب الثانية من دون بصيص أمل في انتهاء القتال قريباً. وعلى الرغم من تعهد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، وتوقيع واشنطن اتفاقية مع كييف تمنح الولايات المتحدة حصة من الإيرادات المستقبلية من احتياطيات أوكرانيا المعدنية، فإنه قد يقرر الانسحاب من البلاد كلياً إذا لم يحصل على تسوية سلمية يصبو إليها. وهنا يؤكد مايكل روبين لـ«الشرق الأوسط»، أن اتفاقية المعادن وحدها «لا تكفي لضمان ألا يغيّر ترمب رأيه مجدداً... ولكن بما أنه ينظر إلى العالم من خلال ميزانيته التجارية، فسيكون هذا مفيداً في إقناع ترمب».

من جهتها، تقول إيفانا سترادنر، الباحثة في الشأن الروسي في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» لـ«الشرق الأوسط»، إن «صفقة المعادن خطوة في الاتجاه الصحيح، والآن، الكرة في ملعب بوتين، وعلى واشنطن أن تمارس المزيد من الضغط على الكرملين، الذي سيلجأ إلى آلته الدعائية لتصوير الولايات المتحدة كقوة إمبريالية شريرة».

وبالفعل، توصلت إدارة ترمب إلى اتفاق منفصل مع أوكرانيا، أُعلن عنه في 30 أبريل (نيسان)، لمنح الولايات المتحدة حصة في مواردها المعدنية. ولكن مع أن الاتفاق يهدف إلى الإشارة إلى استثمار الولايات المتحدة في مستقبل أوكرانيا، فهو يبدو غير مرتبط إلى حد كبير بالمسألة الأكثر إلحاحاً لها والمتمثلة في حاضرها الذي مزقته الحرب.

لم يُنشر النص النهائي للاتفاقية بعد، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أنها تتضمن ضمانات أمنية لأوكرانيا. وبصفته القائد الأعلى، يمكن لترمب تقليص الدعم الأميركي لأوكرانيا بشكل مفاجئ ودراماتيكي. وحتى مع سعيه لتحقيق مكاسب اقتصادية من أوكرانيا، قد تُقلّص الولايات المتحدة أو تُوقف الدعم العسكري والاستخباري، كما جرى بعد المشادة الكبيرة التي جرت أمام عدسات التلفزيون مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي خلال مارس (آذار) الماضي. وما زاد من قوة الشكوك، تأكيد زيلينسكي أخيراً أن ترمب رفض طلباً بقيمة 15 مليار دولار لشراء 10 أنظمة صواريخ «باتريوت» للدفاع الجوي.

 

هدف بوتين النهائي تقويض الغرب وإظهار الناتو «نمراً من ورق»

سبق أن حذر مسؤولو الاستخبارات الأميركية من أن أولوية فلاديمير بوتين القصوى لا تزال هي السيطرة الروسية الكاملة على أوكرانيا، وأن أي مفاوضات قد تتلاعب بها روسيا لإطالة أمد الصراع. ولا تزال مسألة الحدود الإقليمية موضع خلاف، لا سيما فيما يتعلق بالأقاليم الخمسة التي تَعدّها روسيا معقلاً لها، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. ولقد أشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى أن أوكرانيا قد لا تستعيد غالبية الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا، ما أثار مخاوف بعض الحلفاء الأوروبيين من أن تؤدي اقتراحاته إلى اعتراف واشنطن بسيطرة روسيا على أجزاء من أوكرانيا. وفيما يتمحور النقاش الآن حول كيفية الموازنة بين التنازلات الإقليمية وضمان عدم استئناف روسيا لهجومها بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام، يعتقد المسؤولون الأميركيون أن أوكرانيا تتوسل بشكل متزايد للحصول على مساعدات وضمانات أمنية، لا سيما مع تقدم مفاوضات السلام. أيضاً يقول تقرير في مجلة «فورين أفيرز»، إنه على الرغم من أن روسيا ستظلّ تُكافح لكسب الحرب بشكل كامل، لكنها لن تُضطر للقلق بشأن خسارتها أيضاً. إذ قد تُواصل استراتيجيتها القائمة على تدمير البنية التحتية المدنية لأوكرانيا وإرهاب الأوكرانيين لدفعهم إلى مغادرة البلاد. وبينما تمتلك كييف القوى البشرية والموارد والدعم اللازم للحفاظ على السيادة في معظم أنحاء البلاد، قد تتقدم القوات الروسية ببطء وتُحقّق مكاسب إقليمية، مُنجزةً بذلك هدف بوتين المتمثل في إخضاع أربع مناطق من أوكرانيا لسيطرته الكاملة. مع هذا، يرى التقرير أنه لا يوجد لدى روسيا مسار حقيقي للمضي قدماً في أوكرانيا. فخسائرها في الأرواح لن تتوقف حتى ولو تخلت واشنطن عن أوكرانيا، وستظل الحرب خطأً استراتيجياً لروسيا. غير أن التخلي الأميركي سيثقل كاهل أوروبا بشكل كبير، ويشكك في التزام واشنطن تجاه حلفائها الأوروبيين، ومن المرجح أن يولد توترات متصاعدة بين أوروبا وروسيا. وهنا تقول الباحثة سترادنر لـ«الشرق الأوسط»، إن بوتين غير مهتم بالمفاوضات الصادقة، «هو ليس بحاجة إلى وقف إطلاق النار، لكسب المزيد من الوقت، وإعادة تموضع جيشه، ومواصلة طموحاته الإمبريالية لاستعادة مجد روسيا وإظهارها قوة عظمى. إن هدفه النهائي إخضاع أوكرانيا وإظهار أن ناتو مجرد نمر من ورق في دول البلطيق وتقويض الاتحاد الأوروبي». وبالفعل، أعلن بوتين عن العمل على «تقويض الغرب» من خلال الهجمات الإلكترونية وحرب المعلومات التي تُثير شكوكاً عالمية في عصر «ما بعد الحقيقة». كما أن تشكيك ترمب بالعلاقات مع «ناتو»، وتهديداته بضم كندا وغرينلاند، وتسببه في اضطرابات اقتصادية من جراء حرب الرسوم التجارية التي يشنها على معظم دول العالم، كلها عوامل قد تساعد سيد الكرملين على مواصلة سياسة المماطلة حتى تحقيق أهدافه.