سانتياغو آباسكال... وجه إسبانيا ضمن كوكبة غلاة التطرف اليميني الأوروبي الصاعد

زعيم حزب «فوكس»... مستضيف «منتداهم» التحضيري للمستقبل

برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!
برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!
TT

سانتياغو آباسكال... وجه إسبانيا ضمن كوكبة غلاة التطرف اليميني الأوروبي الصاعد

برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!
برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان» و«المهاجرون أساس كل المشاكل»!

في العام 2018 افتتح ستيف بانون، «منظّر» التيّار اليميني المتطرّف في الولايات المتحدة، مقرّ الجامعة الشعبوية المخصّصة لتأهيل القيادات والكوادر الأوروبية لهذا التيّار في دير قديم من مطالع القرن الثالث عشر على بعد ساعة من العاصمة الإيطالية روما. ومع أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كان قد أبعد المنظّر المتطرف عن دائرة مساعديه الضيّقة بعدما كان المخطط الرئيسي لحملته الانتخابية وذراعه اليمنى في الأشهر الأولى من ولايته الرئاسية، قال بانون يومها إن الهدف من تلك الجامعة هو «تقديم الدعم والخبرة لاستراتيجية بعيدة المدى» ترمي إلى نشر «الترمبية» في أوروبا عبر حركة شعبوية دولية تنطلق من بروكسل، حيث مقرّ مؤسسة The Movement التي تدير أنشطتها وتنسّقها. يومذاك، كان بانون محاطاً بالرموز الصاعدة والواعدة لمجموعة من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، يتقدّمها زعيم «الرابطة» الإيطالية ماتّيو سالفيني ومؤسسة حزب الفاشيين الجدد «إخوان إيطاليا» جيورجيا ميلوني وزعيم حزب «فوكس» Vox الإسباني سانتياغو آباسكال الذي كان قد انشقّ حديثاً عن الحزب الشعبي المحافظ. وحقاً، بعد سنوات على ذلك اللقاء، الذي رعاه التيّار المعارض للبابا فرنسيس داخل الفاتيكان، والتيّار الكاثوليكي اليميني في الكنيسة الأميركية، أصبحت ميلوني أول امرأة ترأس الحكومة الإيطالية في ائتلاف يضمّ سالفيني وحزبه. ودخل اليمين المتطرّف البرلمان الإسباني للمرة الأولى منذ وفاة الجنرال فرانشيسكو فرنكو ليغدو القوة السياسية الثالثة في إسبانيا بعد الانتخابات الاشتراعية الأخيرة... التي شهدت أيضاً اختراقه المعاقل القومية في كاتالونيا (قطالونية) وبلاد الباسك المعروفة بكونها عصيّة على الأحزاب اليمينية.

في المهرجان السنوي الذي ينظمّه حزب «إخوان إيطاليا» (الفاشي الجديد) لحركته الشبابية في معقله الرئيس بالعاصمة الإيطالية روما، والذي احتفل مطلع هذا الربيع بتتويج ميلوني اول زعيمة لحزب يميني متطرّف يرأس حكومة دولة كبرى في الاتحاد الأوروبي، كان سانتياغو آباسكال «ضيف الشرف» إلى جانب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والملياردير الأميركي إيلون ماسك، نصير الشعبوية اليمينية في العالم وصاحب منصة «إكس».

في نهاية ذلك المهرجان ألقى آباسكال الكلمة الختامية، بعدما قدّمه ماسك الذي استحضر تصريحات سابقة لبانون قال فيها إن زعيم «فوكس» سيكون، إلى جانب ميلوني وسالفيني «رأس حربة استعادة أوروبا هويتها القومية وحرّية قرارها السياسي».

بالمناسبة، لم تكن مشاركة آباسكال في ذلك المهرجان موضع ترحيب إجماعي بين مضيفيه الطليان بعد التصريحات التي كان أدلى بها قبل ذلك بأسابيع وتوقّع فيها أن يوماً سيأتي يعلّق فيه الإسبان رئيس حكومتهم الاشتراكي بيدرو سانتشيز من رجليه في الشوارع. لكن اعتراض البعض على مشاركته لم يأتِ من دعوته إلى العنف ضد رئيس منتخب ديمقراطياً، بل لأن تلك التصريحات - التي لا تخرج عن الأسلوب المألوف لدى آباسكال خاصة عندما يتوجّه إلى سانتشيز - أعادت إلى أذهان الفاشيين الطليان الجدد مقتل مؤسس الحركة الفاشية الإيطالية بنيتو موسوليني عام 1945 ثم عرضه على الجماهير معلّقاً من رجليه في أحد ميادين مدينة ميلانو.

آباسكال توعّد في ذلك المهرجان بأن أوروبا بعد الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي «لن تكون كما هي اليوم». وقال: «إن مسار استعادة السيادة أصبح موجاً هادراً لن يقوىَ أحد على الوقوف بوجهه». ثم دعا إلى رصّ الصفوف لتشكيل جبهة واحدة ضد الشيوعيين والاشتراكيين في أوروبا. وبالفعل، جاءت الانتخابات الإقليمية في كاتالونيا وبلاد الباسك لتؤكد توقعات رسوخ صعود «فوكس»، وتنذر بعاصفة يمينية متطرفة قد لا تقلب المعادلات السياسية القائمة حالياً في الاتحاد الأوروبي، لكنها قطعاً ستمهّد لمرحلة جديدة وتوازنات مختلفة لن تكون ركائز المشروع الأوروبي في منأى عن تداعياتها.

النشأة... والمشوار

أبصر آباسكال النور في بلاد الباسك عام 1967، وصادف مولده يوم الاحتفال بإعلان الجمهورية التي اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية للإطاحة بها. ولاحقاً - تخرّج في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة بلباو. وهو أب لأربعة أولاد من زوجته الأولى، أما زوجته الثانية فهي ناشطة علـى وسائل التواصل؛ إذ يزيد عدد متابعيها على ربع مليون. عائلياً أيضاً، كان جدّه رئيس بلدية عن الحزب الشعبي اليميني، الذي صار والده أحد قادته في بلاد الباسك، وانضمّ هو إليه عند بلوغه الثامنة عشرة. وكغيره من أنصار هذا الحزب اليميني المحافظ في إقليم الباسك، عانى من الاضطهاد والتهديد على يد أنصار الأحزاب القومية الانفصالية المؤيدة لمنظمة «ايتا» التي كانت ترى في هذا الحزب امتداداً للنظام الفرنكي الذي قمع الحركة الانفصالية طيلة عقود بيد من حديد، ولاحق قياداتها وزجّ العديد منهم في السجون. وبعد خمس سنوات على انضمام آباسكال إلى الحزب الشعبي انتُخب عضواً في المجلس البلدي لمدينة آلافا، حيث اضطر إلى حمل السلاح دفاعاً عن نفسه من التهديدات التي كان يتعرّض لها، وما زال إلى اليوم يحمل مسدساً بعدما تخلّى عن حراسه المرافقين.

تلك المرحلة كان لها تأثير عميق في بلورة مسار الرجل السياسي؛ إذ كان يعتبر دائماً أن المحافظين يخشون كثيراً مواجهة التحدي الانفصالي؛ ما دفعه إلى الاستقالة من الحزب الشعبي احتجاجاً على ما وصفه بأنه «ميوعة» من الحكومة التي كان يرأسها ماريانو راخوي تجاه الأحزاب القومية في كاتالونيا وبلاد الباسك. ثم أن تلك السنوات أثّرت أيضاً في صياغة خطابه السياسي القاسي اللهجة حيال الأحزاب والقوى الانفصالية، وخاصة حيال رئيس الوزراء بيدرو سانتشيز الذي يتهمه بخيانة الدستور والتنازل عن المحرّمات الوطنية لهذه القوى من أجل الوصول إلى السلطة والبقاء فيها بأي ثمن.

تأسيس «فوكس»

عندما أسّس آباسكال حزبه عام 2014، كان يواظب على حضور مهرجانات زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف مارين لوبان، التي كان يعتبرها المرآة التي يجب أن تنعكس فيها السياسة الأوروبية الجديدة. يومها كانت شعبية «فوكس» لا تتعدّى 2 في المائة في أفضل التقديرات، إلا أن الحركة الانفصالية الكاتالونية التي اندلعت عام 2017 وفّرت له منصة الانطلاق السريع الذي كان قد بدأ مع ركوبه الموجة المعادية للهجرة. وجاءت الانتخابات الأوروبية لتعطيه منبراً على مستوى الاتحاد، ثم الانتخابات الإقليمية في إقليم الأندلس - معقل الاشتراكيين وخزانهم الانتخابي بامتياز - التي أدخلته الحكومة المحلية بالتحالف مع الحزب الشعبي الذي ينافسه على القاعدة الشعبية اليمينية ذاتها.

برنامج آباسكال السياسي لا يختلف كثيراً عن برنامج دونالد ترمب أو مارين لوبان: «إسبانيا للإسبان»، و«المهاجرون أساس كل المشاكل»، خاصة إذا كانوا من البلدان المسلمة. لكن خطابه فج ومباشر أكثر، ويلامس التحريض على العنف في معظم الأحيان. وليس من باب المصادفة أن الأمين العام للحزب عضو سابق في «القوات الإسبانية الخاصة» المعروفة بولائها التاريخي للجنرال فرنكو، وأن رئيسة الحزب في مدريد من أتباع تيّار كاثوليكي متشدد يدعو إلى النقاء الديني للمجتمع الإسباني، وشعاره الصليب لردع «الاجتياح» المسلم، تماهياً وتيّار أوربان في المجر أو دودا في بولندا، وشعاره المعلن «الله - الوطن - العائلة».

يردّد آباسكال في خطبه الجماهيرية شعارات موروثة من النظام الفرنكي مثل «إسبانيا واحدة، عظمى وحرة». ولا يتردد في الإعراب عن إعجابه الشديد بالرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرّف خافيير ميلي الذي دعاه كـ«ضيف شرف» في حفل تنصيبه، وكان نجم اللقاء الواسع للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الذي استضافه «فوكس» نهاية الأسبوع الماضي في العاصمة الإسبانية.

آباسكال هو الشخصية المحوَرية في الحزب منذ تأسيسه رغم وجود تيارات معارضة حاولت إزاحته غير مرة. بيد أن النتائج التي حققها في الانتخابات الأخيرة، وصعوده بين نظرائه الأوروبيين من زعماء الأحزاب اليمينية المتطرفة، رسّخت زعامته التي أصبحت مطلقة في الفترة الأخيرة بعدما أعيد انتخابه رئيساً للحزب حتـي العام 2028.

يرفض زعيم «فوكس» وضع حزبه في خانة اليمين المتطرّف، فيقول: «رغم شيوع هذه التسمية، نحن لا نعتبر اليمين المتطرّف هويّتنا، بل إن ما نطرحه هو عين المنطق وضرورة حيوية لمجتمعاتنا». وهو يدعو الاتحاد الأوروبي إلى «تغيير» حدوده، وأن يكون أكثر احتراماً «لسيادة» الدول، ويجاهر بتفضيله العلاقات الثنائية على النظام المتعدّد الأطراف، ويسعى إلى تشكيل تحالف أوروبي يجمع كل القوى والأحزاب المناهضة للشيوعية والاشتراكية.

كذلك يتعهد الزعيم اليميني المتطرف في برنامجه السياسي خفض الصلاحيات الإقليمية، والاستعاضة عن أجهزة الشرطة الإقليمية بالحرس المدني الذي كان عماد نظام فرنكو - ومنه الضابط الذي قام بمحاولة الانقلاب الفاشلة على النظام الديمقراطي اليافع العام 1981 -، ويطالب بعقوبات قاسية ضد مرتكبي الجرائم الجنسية ضد الأطفال، وإلغاء قوانين المساواة بين الأجناس.

ولكن يظل في طليعة شعاراته الأساسية محاربة الهجرة من «بلاد المسلمين»، والاتجاه نحو البلدان الأميركية اللاتينية «لأنهم يتكلمون لغتنا ويشاطروننا النظرة ذاتها إلى العالم... ويتعايشون معنا بسهولة».


مقالات ذات صلة

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

حصاد الأسبوع الرئيس ماكرون خلال استضافته في مجمع قصر الإليزيه حفلاً موسيقياً... بعيداً عن هموم الانتخابات (آ ف ب/غيتي)

ضبابية الانتخابات تُدخِل فرنسا في نفق مظلم

تنطلق الأحد، الجولة الأولى من الانتخابات النيابية الفرنسية المبكرة، حيث دعي 49.5 مليون مواطن فرنسي للتوجه إلى صناديق الاقتراع بعد سنتين فقط من الانتخابات السابقة المماثلة. ولقد كان من المفترض أن تحصل هذه الانتخابات في العام 2027، بيد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نسف الأجندة الانتخابية بقراره ليل الأحد في التاسع من يونيو (حزيران) الحالي حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. هذا الأمر أثار الذهول ليس في فرنسا وحدها، بل أيضاً داخل الاتحاد الأوروبي... لا، بل إن المستشار الألماني أولاف شولتس، المعروف بتحفظه، لم يتردد في التعبير عن «قلقه» إزاء ما ستحمله نتائج الانتخابات، وتخوّفه من تمكن اليمين المتطرّف ممثّلاً بـ«التجمع الوطني» ورئيسه الشاب جوردان بارديلا، البالغ من العمر 28 سنة فقط، إلى السلطة.

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع مارين لوبن (رويترز)

ماكرون: أنا موجود في الإليزيه حتى مايو 2027... ولن أخرج منه

> إزاء واقع الانسداد السياسي، لم تتردد مارين لوبن، زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف والطامحة في الوصول إلى رئاسة الجمهورية، في دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون.

حصاد الأسبوع ستيفاني خوري

ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

دفع اختيار الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري، نائباً للمبعوث الأممي إلى ليبيا، إلى الكلام عن مساعٍ للاستعانة بـ«خبيرة الأزمات» لإنهاء حالة «الانسداد السياسي» في ليبيا، التي لم تفلح معها جهود المبعوثين الأمميين السابقين على مدار أكثر من 13 سنة. ثم إن اختيار خوري، خلال مارس (آذار) الماضي «قائماً بأعمال المبعوث الأممي» هناك، أعاد إلى الأذهان الدور الذي لعبته مواطنتها ستيفاني وليامز قبل 4 سنوات عند اختيارها نائباً للمبعوث الأممي، ثم مبعوثة أممية في مارس 2020. وكانت وليامز قد أشرفت حينذاك على اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية»، والاتفاق على إجراء انتخابات كانت مقرّرة في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021، قبل تعثر تلك الخطوة.

أحمد إمبابي (القاهرة)
حصاد الأسبوع من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)

التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»... تمهيد للأسوأ أم للتسوية؟

انتقلت المواجهات بين «حزب الله» اللبناني وإسرائيل إلى مرحلة الحرب النفسية مع ارتفاع مستوى التهديدات بين الطرفين واستمرار العمليات التي تتصاعد حدّتها وتتراجع وفقاً لمسار المساعي التي تبذل لمنع توسّع الحرب إلى لبنان. اليوم، يستخدم كل من «حزب الله» وإسرائيل وسائل التهديد التي انتقلت من الشروط والشروط التفاوضية المضادة إلى الرسائل السياسية والعسكرية، التي وصلت إلى الإعلان عن «بنك أهداف» الحرب المقبلة؛ الأمر الذي يطرح جملة من «علامات الاستفهام» حول النيات الحقيقية خلفها، منها ما يراه البعض أنها ليست إلا سعياً لرفع سقف التفاوض ؛لأن لا مصلحة للطرفين بتوسيع الحرب، ولا قرار حاسماً بهذا الشأن.

كارولين عاكوم (بيروت)
حصاد الأسبوع حوار على الواقف بين هوكشتين مع بري في بيروت (آ ف ب/غيتي)

«الحرب النفسية» تنعكس توتّراً في لبنان

> على الرغم من أن أهالي جنوب لبنان يعيشون حرباً حقيقية، فإن اللبنانيين بشكل عام، ومعهم القطاعات الاقتصادية على اختلاف أنواعها، يعيشون على وقع مستوى التهديدات.


التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»... تمهيد للأسوأ أم للتسوية؟

من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)
من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)
TT

التصعيد بين إسرائيل و«حزب الله»... تمهيد للأسوأ أم للتسوية؟

من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)
من جولات القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان (رويترز)

انطلقت الحرب في «جبهة» جنوب لبنان بين إسرائيل و«حزب الله» بحجة «مساندة غزة»، وفق ما أعلن «حزب الله»، إلا أنها تحوّلت «حرب استنزاف». وهي تتوسع من جنوب لبنان، حيث دُمّرت بلدات عدة بشكل كامل أو جزئي، إلى البقاع (شرقي البلاد) وضاحية بيروت الجنوبية، حيث تعمد إسرائيل إلى تنفيذ عمليات اغتيال مستهدفة قيادات في الحزب وفي حركة «حماس» و«الجماعة الاسلامية»، بالإضافة إلى تركّز القصف على بُنى تحتية للحزب في محاولات لقطع خطوط إمداده، ومنها مخازن أسلحة ومراكز عسكرية، وهو ما أعلنته مرات عدة إسرائيل.

كذلك بدأت عمليات «حزب الله» باتجاه شمال إسرائيل تأخذ منحىً تصاعدياً، مع استخدامه أسلحة متطوّرة، بعضها يستخدم للمرة الأولى، كالمسيّرات الانقضاضية وصواريخ «ألماس» بأجيالها الأربعة، إضافة إلى صاروخي «فلق» و«بركان»، غير أنها بقيت ضمن حدود معيّنة من دون تخطّي «الخطوط الحمراء»، مثل استهداف حيفا ومرافق الغاز.

شرط «ربط الجبهتين»

ومع تطوّر المواجهات، رفع مسؤولو «حزب الله» شرطاً واحداً للتراجع تمثل بـ«ربط» جبهة الجنوب بجبهة غزة، مع تأكيدهم الجهوزية للحرب الواسعة إذا وقعت. لكن هذه المعادلة رفضها المسؤولون في إسرائيل، الذين يرفعون بين الحين والآخر سقف التهديد... متوعّدين بتدمير لبنان وبالاجتياح البرّي، ومحمِّلين الحكومة اللبنانية و«حزب الله» مسؤولية توسّع الحرب.

وعلى الرغم من اعتبار البعض أن المواجهات في الجنوب لا تزال ضمن «قواعد الاشتباك» ولن تتوسّع أكثر، يرفض العميد المتقاعد الخبير العسكري خليل الحلو هذا الوصف، معتبراً ما يحصل اليوم على جبهة الجنوب «حرب استنزاف». ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «احتمالات توسّع الحرب ترتفع بشكل كبير؛ وهو ما تعكسه الوقائع العسكرية والسياسية، من تهديدات المسؤولين الإسرائيليين والتحذيرات الدولية، وغيرها».

حرب نفسية متبادلة

الواقع، أنه بعد أشهر من التهديدات المتبادلة بين «حزب الله» وإسرائيل انتقلت المواجهات إلى «حرب نفسية» بامتياز، وعادت طبول الحرب تُقرع بعدما كانت احتمالاتها قد تراجعت مقارنة مع الأسابيع الأولى. وبعدما هددت إسرائيل بالاجتياح البرّي إذا فشلت الجهود الدبلوماسية، أعلن الجيش الإسرائيلي يوم 18 يونيو (حزيران) الحالي موافقته على «خطة لتنفيذ هجوم في لبنان»، وتوعّد وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس بالقضاء على «حزب الله» وضرب لبنان في حال اندلاع «حرب شاملة».

في الموازاة، أطلق «حزب الله» رسالة هي الأولى من نوعها بالتزامن مع زيارة الموفد الأميركي إلى لبنان آموس هوكستين، الذي أكد على ضرورة إنهاء النزاع بين الحزب وإسرائيل «بطريقة دبلوماسية وبسرعة». وتمثلت رسالة الحزب بنشره مشاهد مصوّرة بطائرة مسيّرة تتضمن مسحاً لمناطق في مدينة حيفا وشمالي فلسطين. وكشف الفيديو، الذي تجاوزت مدته 9 دقائق، عن صور عالية الدقة لميناء حيفا ومطارها، ومستوطنة الكريوت، ومواقع عسكرية ومنشآت بتروكيميائية حسّاسة. وتكلّم عن أهداف مدنية وعسكرية واقتصادية، في تلميح إلى التكلفة الباهظة التي ستتكبّدها إسرائيل إذا اندلعت حرب شاملة في لبنان، وهو ما اعتبرته تل أبيب «الأكثر إثارة للقلق منذ بداية الحرب».

بعد ذلك بيوم واحد، رفع أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله سقف تهديداته محذّراً من أن أي مكان في إسرائيل «لن يكون بمنأى» عن صواريخ مقاتليه في حال اندلاع الحرب. ولم يقتصر تحذير نصر الله على إسرائيل وحدها، بل شمل أيضاً تهديد قبرص. فبعدما «كشف عن معلومات» تفيد بأن إسرائيل - التي تجري سنوياً مناورات في الجزيرة الصغيرة - قد تستخدم المطارات والقواعد القبرصية لمهاجمة لبنان - هدد بضربها كجهة معادية، وأعلن عن تجاوز عدد مقاتلي الحزب «المائة ألف بكثير وحصوله على أسلحة جديدة». وفي المقابل، قال الجنرال هرتسي هاليفي، رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي، خلال زيارة لشمال إسرائيل إن لدى قواته «قدرات أكبر بكثير» من قدرات «حزب الله».

تقرير «التلغراف» البريطانية

وتوالت رسائل الحرب النفسية التي تنعكس توتراً في لبنان عبر نشر صحيفة «التلغراف» البريطانية يوم 23 يونيو تقريراً نقلت فيه عن «مبلّغين من المطار» زيادة إمدادات السلاح على متن رحلات مباشرة من إيران. وتحدث هؤلاء عن نقل صناديق كبيرة غير اعتيادية وحضور متزايد لقادة رفيعي المستوى من «حزب الله» في المطار، لكن السلطات اللبنانية نفت صحة التقرير بصورة قاطعة، وطرحت علامات استفهام كثيرة حول توقيت نشره. وبينما لم يصدر أيّ تعليق من «حزب الله»، اعتبر علي حميه، وزير الأشغال المحسوب على الحزب، أنّ نشر التقرير «يهدف لتشويه سمعة المطار» و«يُلحق ضرراً معنوياً» باللبنانيين، مندّداً بما وصفه بـ«حرب نفسية مكتوبة».

أيضاً، وضع اللواء الركن المتقاعد الدكتور عبد الرحمن شحيتلي، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، التهديدات المتصاعدة في خانة الحرب النفسية التي لا تؤدي إلى حرب فعلية. وتابع: «الناس يعيشون أجواء الحرب نتيجة هذه المواقف التصعيدية، لكن على الأرض فعلياً تراجعت حدّة المواجهات العسكرية». وذكّر شحيتلي أن تل أبيب أطلقت الحرب النفسية عند إعلانها عن توقيع أمر الهجوم على لبنان، وردّ «حزب الله» برسالة مسيّرة «الهدهد». وأضاف: «عسكرياً، خطة العمليات تكون عادة سرّية يُمنع الاطلاع عليها، ويُعلن عن توقيعها عند بدء التنفيذ. وبالتالي، فإن مجرّد التسريب يعني التهديد... لا الذهاب إلى الحرب».

وفي حين يطرح شحيتلي علامة استفهام حول إعلان «حزب الله» لجهة ما قامت به مسيّرة «الهدهد»، فإنه أوضح: «الجهتان تخرقان السرّية العسكرية بتسريب المعلومات... وهذا يعني أنها حرب نفسية موجّهة للجيش الإسرائيلي والمجتمع داخل فلسطين المحتلة من جهة وللبيئة الحاضنة لـ(حزب الله) في لبنان من جهة أخرى».

أما الدكتور عماد سلامة، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الأميركية، فأبلغ «الشرق الأوسط» أنه يمكن النظر إلى الحرب النفسية المتصاعدة بين «حزب الله» وإسرائيل إما «كمقدمة لحرب فعلية أو كاستراتيجية متبادلة لرفع سقف المفاوضات بين الطرفين». وأوضح: «إذا اعتبرنا هذا الأسلوب طريقاً عقلانية لرفع سقف التفاوض، فإن الطرفين يسعيان لعرض قوتيهما وقدراتهما، ليس فقط لإثارة مخاوف الطرف الآخر ومحاكاة حجم ونتائج الحرب إذا شُنت فعلياً، بل أيضاً للدفع للمفاوضات والتنازل لتسوية».

أسابيع حاسمة...

في سياق موازٍ، رغم رفع سقف التهديدات من قِبل الطرفين بقيت أبواب «الدبلوماسية» مفتوحة، بحسب ما أشارت تصريحات لمسؤولين في لبنان وإسرائيل؛ ما يعكس سباقاً بين التصعيد والحل السياسي. وفي هذا الإطار، أعرب رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي عن قلقه من تطوّر الأوضاع في الجنوب، معتبراً أننا «أمام شهر حاسم والوضع غير مطمئن». وبعد يومين على لقائه الموفد الأميركي آموس هوكستين، كشف برّي عن أن الأخير «طرح تراجع (حزب الله) 8 كيلومترات عن الحدود لتهدئة الأوضاع بمناطق الشريط الحدودي»، فطالبه بالمقابل «بتراجع الجيش الإسرائيلي المسافة نفسها»، مؤكداً في الوقت عينه «تمسك لبنان بالقرار الأممي رقم 1701».

هذا، وكان هوكستين وبرّي تداولا مجموعة من الأفكار، أبرزها الالتزام بقواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)؛ ما من شأنه الإسهام بعودة النازحين على جانبَي الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. ومن جهته، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي إن «إسرائيل ستمضي الأسابيع المقبلة في محاولة حل الصراع مع (حزب الله)»، مؤكداً أنهم «يفضلون الحل الدبلوماسي». غير أن نيتزان نورييل، الرئيس السابق للمكتب الإسرائيلي لمكافحة الإرهاب، قال لوكالة الصحافة الفرنسية: «أعتقد أننا في غضون أسابيع قليلة سنشهد عملية إسرائيلية في لبنان» متوقّعاً أن «تستمر شهوراً». وأشار إلى أن هدف العملية البرّية سيكون دفع «حزب الله» إلى شمال نهر الليطاني، على مسافة نحو 30 كيلومتراً من الحدود الخاضعة لمراقبة الأمم المتحدة، وستترافق مع غارات جوية عبر الأراضي اللبنانية «ليظهر لهم الثمن الذي سيدفعونه».

هذه التهديدات أدت إلى استنفار من قِبل الدول الكبرى التي تواصل الدعوة إلى التهدئة، مع أنه كان قد نقل عن مسؤولين أميركيين تأكيدهم لتل أبيب بأن الرئيس الأميركي جو بايدن سيكون مستعداً لدعم إسرائيل إذا اندلعت الحرب. كذلك، التحذير من التصعيد ورد أيضاً الأمم المتحدة على لسان مارتن غريفيث، منسق الشؤون الإنسانية، مشيراً إلى احتمال توسع رقعة الحرب الإسرائيلية ضد «حماس» في غزة إلى لبنان، وتابع: «سيكون ذلك مروعاً»، واصفاً الوضع بـ«المقلق جداً» وحذّر من «أنها قد تكون مجرد البداية».

في هذه الأثناء، في بيروت، فإن السلطات اللبنانية في حالة استنفار، محاولةً إبعاد شبح الحرب الشاملة والمدمّرة. وبعد تصاعد التهديدات في الأيام الأخيرة، ناشد رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، الأطراف اللبنانية كافة «أخذ مصلحة لبنان وعلاقاته الخارجية بعين الاعتبار». وتوجّه عبد الله بوحبيب، وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال، إلى بروكسل لإجراء مباحثات مع مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، وانتقل إلى الولايات المتحدة وكندا، حيث التقى مسؤولين أميركيين في واشنطن، ومسؤولين أمميين في منظمة الأمم المتحدة.

استبعاد الحرب... إلا إذا!

رغم كل سبق، يستبعد اللواء الركن المتقاعد شحيتلي الحرب الموسعة في «المدى المنظور»، معتبراً أن «ما يحصل اليوم ليس إلا تبادلاً للقصف». في حين يعتبر الدكتور سلامة أن «كلاً من (حزب الله) وإسرائيل يسعى لخلق توازن رعب يمنع وقوع الحرب ويحافظ على الوضع الراهن؛ تفادياً بذلك تكلفة الحرب العالية لعلمه بأن أي مواجهة عسكرية شاملة ستكون مدمرة للطرفين». ولكن، مع ذلك، يرى سلامة أنه «في بعض الأحيان يمكن أن يُساء تقدير إمكانيات الطرف الآخر والرهان على كسب المعركة؛ ما قد يؤدي إلى المواجهة»؛ ولذا يؤكد أنه «حتى هذه اللحظة، تبقى المواجهة ضمن الخطوط المقبولة، وما زال الطرفان يديران المعركة ضمن ردع متبادل، وتبقى صيحات الحرب الشاملة ضمن الحرب النفسية حتى تتجلى الأمور في غزة وتعقد الصفقة. وبالتالي، يمكن القول إن هذه الحرب النفسية في جزء منها عرض قوة ورفع لسقف التفاوض، وجزء منها تهديد حقيقي قد ينزلق إلى مواجهة فعلية إذا ما أخطأ أحد الطرفين في حساباته».