ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

شاركت في الجهود الأممية لتسوية نزاعات 6 دول عربية

ستيفاني خوري
ستيفاني خوري
TT

ستيفاني خوري... «خبيرة حل أزمات» تسعى إلى إنهاء «الانسداد السياسي» في ليبيا

ستيفاني خوري
ستيفاني خوري

تناوبَ على رئاسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا دبلوماسيون وسياسيون من جنسيات عربية وأوروبية وأميركية. وكانت «الاستقالة» هي السمة الغالبة التي صاحبت نهاية أعمالهم في البعثة الأممية؛ نتيجة لغياب أفق الحلول السياسية منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي في 2011.

تعيين الدبلوماسية الأميركية ستيفاني خوري نائباً لرئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، جاء إثر استقالة المبعوث الأممي عبد الله باتيلي في منتصف أبريل (نيسان) الماضي. ووسط حالة التعثر هذه، بدت خوري خلال الأسابيع الماضية وكأنها تصارع الزمن بلقاءات مع الأفرقاء الليبيين، في مسعى للدفع قُدماً بالعملية السياسية، وإنهاء حالة الانقسام الداخلي، وتحقيق المصالحة والسلام.

خوري، التي تتسلح بخبرة في أزمات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هدفها الرئيسي في مهمتها الأممية بليبيا، تيسير «عملية سياسية وطنية شاملة يقودها الليبيون»، كما قالت في إحاطتها الأولى لها أمام مجلس الأمن أخيراً، عند سردها نتائج مشاورات أجرتها مع الأفرقاء الليبيين خلال الأسابيع الأخيرة. لكن ثمة تساؤلات مطروحة إزاء قدرة الدبلوماسية الأميركية على تهيئة الأجواء السياسية الكفيلة بتجاوز اختبار الانتخابات المقرّرة نهاية العام الحالي، والتعاطي مع التناقضات والتوازنات بين الأفرقاء، وسط استمرار تنافس القوى الدولية على أدوار ومكانة في الداخل الليبي.

من هي ستيفاني خوري؟ستيفاني خوري، دبلوماسية أميركية تتحدّر من أصول لبنانية، وهي تتكلّم اللغتين العربية والإنجليزية. وعلى الصعيد الأكاديمي، حصلت على درجة البكالوريوس في الآداب من جامعة تكساس الأميركية، ودرجة الإجازة في القانون من الجامعة ذاتها، وعملت أيضاً باحثة في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن. وفي سجلّها العملي، مارست خوري جهوداً طيبة لدعم عمليات السلام والاستقرار عبر التعاون مع عدد من المنظمات غير الحكومية، منها منظمة «البحث عن أرضية مشتركة»، وهي منظمة دولية غير حكومية مقرها في واشنطن، وتُعنى بتعزيز جهود السلام والاستقرار، ويمتد نشاطها لنحو 33 دولة حول العالم. وأيضاً تمتلك خوري خبرة واسعة في أزمات المنطقة، حيث تمتد مسيرتها المهنية لأكثر من 30 سنة في دعم العمليات السياسية ومباحثات السلام والوساطة.

خبرة أمميةلقد اقتربت خوري أكثر من قضايا المنطقة، من واقع مهام عملية مع الأمم المتحدة على مدى أكثر من 15 سنة، خصوصاً في الدول العربية التي تشهد صراعات خلال السنوات الماضية، خصوصاً في كل من العراق ولبنان وليبيا وسوريا واليمن والسودان. بل كانت قد عملت في وقت سابق مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا خلال الفترة ما بين 2011 و2013، ثم عُيّنت ممثّلة عن مكتب المستشار الخاص للأمم المتحدة في العاصمة اليمنية صنعاء، ومديرة لمكتب المنسق الخاص للأمم المتحدة في العاصمة اللبنانية بيروت، وممثلة لمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا.

وفي السودان، شغلت خوري منصب القائم بأعمال بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة، خلال الفترة الانتقالية في السودان عام 2021، ثم مدير الشؤون السياسية للبعثة الأممية في السودان عام 2022. وبعد ذلك عادت خوري إلى البعثة الأممية في ليبيا مرة أخرى، عبر اختيارها من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، نائباً للممثل الخاص للشؤون السياسية في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، خلال شهر مارس الماضي، وقادت مهام مبعوث الأمم المتحدة، بعد استقالة باتيلي من هذا المنصب.

في المقابل، على الرغم من كل هذه الخبرات الواسعة في العمل الأممي، فإن مراقبين يرون أن خوري لم تحقق أي إنجاز أو تسوية سياسية في أي من دول النزاع التي خدمت فيها. ويستند أصحاب هذا الرأي إلى إخفاقها وقت أزمة «الفترة الانتقالية» في السودان، عام 2021، في تجاوز الخلاف بين «المكونَين العسكري والمدني» للحكم الانتقالي بالسودان وقتها. إذ رأت أن دور البعثة الأممية يتمحور حول «الاستماع إلى أصحاب المصلحة السودانيين، وتوثيق رؤاهم ومقترحاتهم في هذه المرحلة».

استعادة الثقةيذكر، أن ستيفاني خوري هي عاشر مسؤول دولي تُسند إليه مهام البعثة الأممية في ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي. وهي تتولى المهمة في خضم ارتفاع أصوات النقد إلى البعثة بحجة عجزها عن تحريك «الجمود» المطبق على العملية السياسية، بعد فقدان أطراف ليبية الثقة في دورها الداعم لإيجاد تسوية سياسية للأزمة. وبالإضافة إلى ذلك، تعاني البعثة في ليبيا من حملها إرثاً غير مشجّع من إخفاقات المبعوثين الأمميين، ولهذا فهي تسعى الآن أولاً إلى استعادة الثقة المفقودة في دور بعثة الأمم المتحدة، كي لا تلقى مصيراً مثل مصائر أسلافها من المبعوثين.

من جهة ثانية، ليست خوري الأميركية الوحيدة التي تولت مهام البعثة الأممية في ليبيا، فكما سبقت الإشارة، سبقتها ستيفاني وليامز، التي حظيت جهودها بإشادة أممية بعد دفعها خريطة الانتخابات، وتشكيل حكومة «وحدة وطنية» عام 2021. ويتوقع المراقبون أن تعيد «ستيفاني الثانية» الدور ذاته الذي لعبته مواطنتها، لا سيما، إذا توافر دعم كافٍ من الإدارة الأميركية يتحقّق من خلاله اختراق للمشهد السياسي الليبي. بيد أن هذه التوقعات، تقابَل بتصريحات لعديد من السياسيين الليبيين، تقلل من قدرتها على إحداث تغيير بالعملية السياسية الليبية في ضوء تعقيدات «النفوذ الدولي»، وتأثيره في عناصر الأزمة الليبية.

تحديات بالجملةوحقاً، تصطدم مهمة خوري بمجموعة من التحديات والاختبارات الصعبة: أبرزها القدرة على إحداث حلحلة للمشهد السياسي المجمّد، وإنهاء حالة الانقسام السياسي الداخلي، وإقناع أطراف الأزمة بإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة منذ عام 2021، لإخراج ليبيا من مراحلها الانتقالية المتتالية. وهي اليوم تعمل على جمع الأفرقاء الليبيين على طاولة حوار أملاً بإنهاء حالة «الفوضى» القائمة بسبب تنافس حكومتين على السلطة. والمعروف أن «الحكومة الأولى»، التي تسيطر على غرب ليبيا ويرأسها عبد الحميد الدبيبة، كانت قد شُكّلت إثر حوار سياسي مطلع 2021. و«الحكومة الثانية» تسيطر على شرق البلاد ويرأسها أسامة حماد، وهي مكلّفة من مجلس النواب ومدعومة من قائد «الجيش الوطني الليبي» خليفة حفتر.

وفي سبيل ذلك، رسمت خوري «خريطة طريق» لمهمتها في رسالة مصورة بثتها البعثة الأممية عبر صفحاتها على منصات التواصل في مايو (أيار) الماضي. وتعهدت خوري فيها «بمساندة الليبيين على تجنيب البلاد مخاطر الانقسام والعنف وهدر الموارد، من خلال تيسير عملية سياسية شاملة يملكها ويقودها الليبيون أنفسهم، بمَن فيهم النساء والشباب ومختلف المكونات». كذلك أكدت التزام البعثة بالعمل على «دعم إجراء انتخابات وطنية شاملة حرة ونزيهة لإعادة الشرعية للمؤسسات الليبية، ودعم عملية مصالحة وطنية شاملة مع كل الشركاء، والعمل مع الليبيين على التنفيذ الكامل والمستدام لاتفاق وقف إطلاق النار».

مشاورات سياسيةوطوال الأسابيع الماضية، كثفت خوري لقاءاتها مع الأفرقاء في مناطق عديدة بين الشرق والغرب الليبيَّين، ونشرت عبر حسابها بمنصة «إكس»، إفادات عن نتائج المشاورات. وللعلم، شملت اللقاءات والمشاورات رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفّي، ورئيس حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، والقائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» خليفة حفتر، ويضاف إلى هؤلاء «المجلس الأعلى لأمازيغ ليبيا» وممثلو الأحزاب الليبية ونشطاء مدنيون، وكذلك أجرت خوري مشاورات مع سفراء دول أجنبية لدى ليبيا. وقالت خوري لاحقاً إنها ناقشت «سبل الخروج من الانسداد الراهن والدفع بالعملية السياسية للأمام، وتهيئة الظروف المواتية لإجراء الانتخابات، وتعزيز اتفاق وقف إطلاق النار والحفاظ على وحدة ليبيا وسيادتها».

الإحاطة الأولىوفي الإحاطة الأولى التي قدمتها خوري أمام مجلس الأمن حول الأوضاع في ليبيا، أخيراً، تكلمت عن مشروع «عملية سياسية شاملة يقودها الليبيون» لتخطي الجمود السياسي الراهن، و«حاجة الليبيين لاتفاق سياسي، يمهّد لإجراء انتخابات ذات مصداقية». وترى المسؤولة الأممية وجود فرصة لدفع عملية المصالحة الوطنية في ليبيا. وهي تستند في ذلك إلى اتفاق «المجلس الرئاسي» الليبي ومجلس النواب على مشروع قانون واحد للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، لكنها في الوقت ذاته ترى خطورة في «هشاشة الوضع الليبي» في مواجهة تحديات عديدة، أهمها وضعية الانقسام الداخلي بوجود مؤسسات حكم موازية. وإلى جانب مسار الحل السياسي، تسعى خوري إلى دفع عملية إجراء انتخابات محلية، خصوصاً مع إطلاق اللجنة الوطنية العليا للانتخابات، أخيراً، عملية تسجيل الناخبين للانتخابات البلدية في 60 بلدية في جميع أنحاء ليبيا، إلى جانب العمل على تمكين أكبر للشباب والمرأة.

الصراع الدوليعلى صعيد آخر، هناك مَن يرى أن «واقع النفوذ الدولي في ليبيا يجعل خيارات خوري في التعامل مع الأزمة الليبية محدودة». ويربط مراقبون بين الاستعانة بها في البعثة الأممية، والتحولات في السياسة الأميركية تجاه الأزمة الليبية، إذ ثمة مَن يرى أن «واشنطن تعول على دورها في مواجهة المنافسة من بعض القوى الدولية التي تشهدها الساحة الليبية، خصوصاً النفوذ الروسي والتركي والفرنسي، وبذلك تبقى قضية النفوذ الدولي، إحدى الإشكاليات، التي يجب على خوري مواجهتها».

وعبّر عن تلك الإشكالية، وكيل وزارة الخارجية بالحكومة الليبية «المؤقتة»، حسن الصغير، حين أشار عبر حسابه الشخصي على «فيسبوك» إلى أن «تعيين ستيفاني خوري نائباً للمبعوث الأممي يعيد الصراع بشكل رسمي ومباشر من صراع إقليمي لصراع دولي»، لكنه عدّ ذلك في الوقت نفسه «من شأنه سرعة الوصول لانفراجة ولو مرحلية بالملف الليبي». اقتربت أكثر من قضايا المنطقة من واقع مهامها العملية

مع الأمم المتحدة على مدى أكثر من 15 سنة


مقالات ذات صلة

المنفي يشدد على «تطهير» العاصمة الليبية من المظاهر المسلحة

شمال افريقيا المنفي خلال لقائه الحداد (المجلس الرئاسي الليبي)

المنفي يشدد على «تطهير» العاصمة الليبية من المظاهر المسلحة

تلقى رئيس المجلس الرئاسي الليبي «إحاطةً كاملة» عن الوضع الأمني والعسكري بالعاصمة، و«مدى استجابة الأطراف وعودة جميع القوات لمعسكراتها».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا حقل «الشرارة» النفطي في جنوب ليبيا (الاتحاد العام لعمال النفط والغاز)

طرابلس تتمسك برفض تنقيب أثينا عن النفط بالمناطق «المتنازع عليها»

عبرت حكومة «الوحدة الوطنية» المؤقتة عن «قلقها البالغ» من إطلاق اليونان «دعوة دولية لتقديم عطاءات للتنقيب عن الهيدروكربون بمناطق بحرية متنازع عليها».

جمال جوهر (القاهرة)
شمال افريقيا اجتماع سابق لمفوضية المجتمع المدني ببنغازي مع المنظمات الأجنبية العاملة بليبيا (المفوضية في بنغازي)

ليبيا: جدل بين طرابلس وبنغازي حول «مفوضية المجتمع المدني»

ألقى الانقسام السياسي بين شرق ليبيا وغربها بظلاله على «مجلس إدارة لمفوضية المجتمع المدني» بعد أن قرر أسامة حماد رئيس الحكومة المكلفة من البرلمان إعادة تشكيله.

علاء حموده (القاهرة)
شمال افريقيا الدبيبة قبيل اجتماع أمني موسع في طرابلس الأربعاء (حكومة «الوحدة«)

هل أحكم رئيس «الوحدة» الليبية قبضته على طرابلس؟

تغاضى عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة «الوحدة» الليبية المؤقتة عن مطالبات بعزله، وتحدث عن «الانتقال من مرحلة التحدي إلى مرحلة التمكين».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا  نائب وزير الخارجية التركي مستقبلاً تيتيه في أنقرة (البعثة الأممية على «إكس»)

مباحثات أممية - تركية حول الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا

جاء اجتماع رئيسة البعثة الأممية لدى ليبيا، بالمسؤولَين التركيين، في إطار مشاوراتها مع الفاعلين الدوليين والمحليين، بقصد توفير الدعم لنتائج اللجنة الاستشارية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
TT

الكرملين... منتصف الطريق بين طهران وتل أبيب

قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)
قصف صاروخي إيراني على تل أبيب (رويترز)

لم تنعكس اللهجة القوية التي أطلقها الكرملين ضد إسرائيل مباشرة بعد اندلاع الحرب الحالية، عملياً على التحركات الروسية. ولم يحمل التنديد الروسي بالهجوم الإسرائيلي على إيران، وعدّه انتهاكاً فظاً للقانون الدولي و«مرفوضاً بشكل قاطع»، انحيازاً لـ«الشريك الإيراني» في المواجهة القائمة، قد تكون له تبعات ملموسة، بقدر ما جاء تأكيداً لمواقف موسكو السابقة الرافضة لـ«السيناريو العسكري» لتسوية الخلاف حول البرنامج النووي الإيراني. لكن بدا أن الكرملين كان يتوقع هذا التطور، وأعد له العدة، على الرغم من تحذيراته المتكررة من «عواقب وخيمة» للحل العسكري، للتعامل مع الواقع الجديد في الشرق الأوسط.

الرئيس فلاديمير بوتين كان الزعيم الوحيد الذي سارع فور اندلاع الحرب، إلى إجراء اتصالين مع كل من بنيامين نتنياهو ومسعود بزشكيان، ما أوضح أن موسكو فضّلت الوقوف في منتصف الطريق بين الطرفين. وبرز هذا تماماً عبر تأكيد بوتين أن تسوية الصراع القائم لا بد أن يقوم على إيجاد «توازن» واضح بين ضمان حق إيران في استخدامات الطاقة النووية للأغراض السلمية من جانب، وضمان مصالح إسرائيل وحقها في ألا تتعرّض لتهديد. وهذه اللهجة لم تكن مستخدمة كثيراً لدى الكرملين خلال السنوات الاخيرة.

لقد راوحت ردود الفعل الروسية على الضربات الإسرائيلية ضد إيران، بين «القلق» من تداعيات الحدث بعد «انهيار الجهود السلمية لتسوية الملف النووي»، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن تداعيات «رفع مستوى المخاطر» وجرّ المنطقة إلى صراع مفتوح. وسارعت أوساط في موسكو لوضع «سيناريوهات» محتملة بينها انزلاق الوضع في المنطقة نحو «مواجهة شاملة» ترمي بآثارها على بلدان الشرق الأوسط.

بيان موسكو

أصدرت الخارجية الروسية بياناً شديد اللهجة أدان التحرك العسكري الإسرائيلي، وعدّه مخالفة «وانتهاكاً فظاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي». واتهمت موسكو إسرائيل بأنها «اتخذت قراراً واعياً لزيادة تصعيد التوترات ورفع مستوى المخاطر. ولقد تكرّرت التحذيرات من خطورة المغامرات العسكرية التي تهدد الاستقرار والأمن في المنطقة. وتقع مسؤولية جميع عواقب هذا الاستفزاز على عاتق القيادة الإسرائيلية».

لكن هذه اللهجة الانتقادية القوية من موسكو، التي تعزّزت بعد يومين بإدانة ما وصفه الكرملين بـ«إحجام إسرائيل عن العودة إلى المسار السياسي» ترافقت مع اتهام موسكو الدول الغربية بأنها «تتحمل جزءاً من المسؤولية عن التصعيد»، لكونها أثارت «الهستيريا المعادية لإيران في مجلس محافظي الوكالة» الذي كان قد تبنى قراراً يدين طهران قبل يومين فقط من وقوع الهجوم الإسرائيلي. وبدا جلياً أن موسكو تعمل بسرعة على بلورة موقفٍ تبني على أساسه خطواتها اللاحقة.

لا مساعدة عسكرية لطهران

السؤال الأول الذي تردد بشأن موقف الكرملين، ركّز على مدى جدية احتمال أن تتدخل موسكو عسكرياً لصالح إيران، وبخاصة في إطار «التعامل بالمثل» مع المساعدات المهمة التي قدمتها طهران لموسكو في الحرب الأوكرانية.

لكن بدا منذ اللحظة الأولى أن هذا الأمر ليس مطروحاً أصلاً ضمن حسابات الكرملين، كما أنه لا يوجد أساس قانوني لهذا التدخل. فاتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» المُبرم مع إيران في بداية العام، لا ينص على بند حول الدفاع المشترك، خلافاً لاتفاقية مماثلة وقعتها موسكو مع كوريا الشمالية العام الماضي وانعكست نتائجها عملياً في أوكرانيا.

صحيح أن الاتفاقية تؤكد «تعزيز التعاون في كل المجالات بما في ذلك العسكرية منها»، لكنها لا تلزم الطرفين بالتدخل في حال وقع اعتداء على أحدهما، مكتفية بإشارة إلى أنه «في حال تعرض أي طرف لعدوان خارجي فإن الطرف الآخر يلتزم بعدم مساعدة الأطراف المعتدية».

هذا لا يقلل بطبيعة الحال من أهمية الشريك الإيراني لموسكو في عدد من الملفات الكبرى التي تربط الطرفين، لكن الكرملين بدا أنه تحسّب لهذا «السيناريو» مُسبقاً، وخلافاً لتوقعات كثيرة تردّدت في أثناء صياغة النسخة النهائية من الاتفاقية، تجنّب أي إشارة فيها إلى موضوع الدفاع المشترك.

الاتصالات مع واشنطن

النقطة الثانية المهمة هنا، أن الحرب المشتعلة سببت حقاً نوعاً من الحرج للكرملين، وأظهرته عاجزاً عن الدفاع عن حلفائه، لكنها في المقابل فتحت فرصاً جديدة لموسكو لتعزيز موقفها مع الولايات المتحدة ومحاولة جني مكاسب من التطورات. فقبل أسبوع واحد من اندلاع الحرب أجرى الرئيسان الروسي والأميركي مكالمة هاتفية مطوّلة ركزت على الوضع حول إيران، إلى جانب تطورات الملف الأوكراني. واتضح بعد ذلك مباشرةً أن موسكو وواشنطن توصلتا إلى رأي متفق عليه: لا ينبغي لطهران امتلاك أسلحة نووية!

طبعاً، هنا ظهر إغراء كبير لإطلاق تكهنات مثيرة، تصب في إطار صفقة محتملة: «ترمب أعطى أوكرانيا لبوتين مقابل إيران».

لكن الأمر ليس بهذه البساطة. ليس فقط لأن سيطرة واشنطن على الوضع حول أوكرانيا محدودة بعض الشئ، بل كما أظهرت مفاوضات واشنطن وكييف حول المعادن النادرة، فإن أوكرانيا تدافع عن مصالحها الأساسية في كل الأحوال.

ثانياً، هناك أيضاً دول أوروبية لها موقفها الخاص ويمكنها التأثير في الصراع، وخاصة على الموقف الأميركي.

وهناك أمر ثالث أهم بكثير. فمن تابع الوضع بدقة يتذكر جيداً أن موسكو، قبل ترمب وقبل بدء الحرب الأوكرانية، كانت تعارض امتلاك إيران الأسلحة النووية. لذا لم تحدث أي تحولات جوهرية في موقف الكرملين من هذه القضية، ما يدحض الكلام عن صفقة «أوكرانيا مقابل إيران».

مع هذا ـ مجرد مناقشة الموضوع الإيراني خلال مفاوضات بوتين - ترمب أمر جدير بالاهتمام. إذ أوحى أن واشنطن ربما كانت أقرب إلى التعامل مع وساطة روسية في هذا الملف، انطلاقاً - كما يقول خبراء روس - من أن ترمب «يفضل التوصل إلى خيارات على شن عمل عسكري واسع قد لا يمكن التكهن بنتائجه»، مع أنه يبدي حزماً لفظياً تجاه طهران.

ولكن لم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى اتضح أن ترمب شارك، وفق تعليقات خبراء روس وغربيين، في عملية تضليل استراتيجي لطهران. وأن الاتصالات التي أجراها وإبداءه قدراً من التعاطف مع فكرة الوساطة الروسية كانت جزءاً من ذلك التضليل.

أولويات الكرملين

صحيح أن روسيا أعلنت أكثر من مرة في السابق رفض امتلاك إيران أسلحة نووية، لكنها دافعت طوال سنوات عن حق طهران في تطوير استخدام الطاقة الذرية للأغراض الذرية من دون إظهار حساسية - خلافاً للغرب - تجاه مخاطر تحوّل البرنامج السلمي الإيراني إلى برنامج عسكري في وقت قصير نسبياً.

الموقف الروسي هذا بدا مستنداً ليس إلى مخاوف من جانب إيران نفسها بل إلى استراتيجية تقوم على رفض توسيع «النادي النووي» قبل وضع ضوابط وآليات للرقابة وتفاهمات جديدة مع الدول النووية الكبرى حول الانتشار وضبط التسلح. بعبارة أخرى تعارض موسكو فكرة إطلاق «فوضى نووية» أكثر من أن تكون معارضة لحق إيران بامتلاك السلاح النووي.

واللافت وجود تيارين أو رأيين لدى الأوساط المقربة من الكرملين في هذا الشأن: الأول يرى علناً إيران شريكاً استراتيجياً لموسكو، وهذه الشراكة أظهرت مستوى جديتها في المواجهة الراهنة بين موسكو والغرب، وعليه، فتعزيز قدرات إيران لا يخيف موسكو. والثاني يحذّر من ظهور جار نووي جديد لروسيا، متقلب الأهواء نوعاً ما، قد تتغير معالم سياسته الخارجية بناء على صفقات مع الغرب.

وعليه، فاحتمال إبرام اتفاق نووي جديد بين طهران وواشنطن لم يكن السيناريو الأمثل للكرملين. ومع ذلك، فإن الفشل التام للمفاوضات أمرٌ خطير أيضاً، لأن السيناريو العسكري سيؤدي حتماً إلى زعزعة استقرار إيران، وربما الوضع في عموم جوار روسيا. ومن ثمّ، تمثّل السيناريو الأمثل لموسكو في تجنب الحل العسكري وترك طهران تخوض مفاوضات طويلة الأمد من دون أي نتائج حقيقية، أو الانخراط بشكل مباشر في المفاوضات للحصول على مكاسب مهمة في حال أمكن التوصل إلى صفقة.

اتفاق «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» بين روسيا وإيران لا ينص على الدفاع المشترك

فرص الوساطة الروسية

قبل اندلاع الحرب، كان المزاج السائد في موسكو أن الإيرانيين والأميركيين بحاجة حالياً لمشاركة روسيا. تحتاج طهران إلى وسطاء لزيادة فرص تنفيذ الاتفاق واستبعاد احتمال انسحاب ترمب، أو الرئيس الأميركي المقبل منه مجدداً خلال بضع سنوات. لذا، من مصلحة إيران إشراك أكبر عدد ممكن من الأطراف في الاتفاق: الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والصين، وروسيا، بالإضافة إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية.

طهران تحتاج أيضاً إلى وسطاء كمصادر للمراقبين. وإذا اقتصر الاتفاق على الأميركيين فقط، فسيتعين منحهم حق الوصول لمراقبة المنشآت النووية الإيرانية. وواشنطن تحتاج إلى مشاركة روسيا لحل المسائل الفنية. وكانت روسيا، في الاتفاق السابق، من وافق على تسلّم الوقود النووي المستهلك من إيران، وهو ما لم يكن المشاركون الآخرون مستعدين للقيام به.

موسكو رأت أنه في إطار أي اتفاق سيتوجّب على إيران التخلص من فائض اليورانيوم. وبدا أن روسيا الطرف الوحيد المؤهل لتولّي هذه المهمة: أولاً، لامتلاكها القدرات التقنية اللازمة لقبوله ومعالجته. ثانياً، لأنها الخيار الذي تُصرّ عليه طهران. وفي النهاية، سيكون أسهل بكثير لإيران استعادة اليورانيوم المخصب من روسيا إذا انسحبت واشنطن من الاتفاق مجدداً.

موسكو لم تغير أولوياتها تجاه هذا الموضوع مع اندلاع الحرب، بل عادت لطرح وساطتها بشكل ملحّ وأكثر من مرة عبر اتصالات أجراها بوتين مع عدد من قادة العالم. لكن المشكلة في عرض الوساطة الروسي افتقاره إلى آليات عملية، وإلى رغبة إسرائيل - والغرب عموماً - بالتعامل مع جهود موسكو. والأهم من هذين السببين، أن العرض يتناقض جوهرياً مع أهداف تل أبيب وواشنطن من هذه الحرب.

أيضاً، فضلاً عن اعتراض عدد من الدول الأوروبية على فكرة الوساطة الروسية، فإن الرئيس ترمب أيضاً نصح بوتين في مكالمة هاتفية «بأن يولي اهتماماً أكبر لتسوية الصراع في أوكرانيا بدلاً من عرض جهوده للتوسط بين إيران وإسرائيل». وللعلم، الأخيرة تجاهلت أصلا كل دعوات بوتين لبذل جهود للوساطة.

نقطة أخرى مهمة تضعف عرض الوساطة الروسية، هي أنه يقوم على فكرة العودة إلى التفاوض لتسوية الملف النووي، بينما الأحداث على الأرض تشير إلى انتقال واشنطن وتل أبيب إلى الحسم العسكري وتقويض البرنامج الإيراني كله.

سياسياً، يسعى الكرملين، إلى تجنيب إيران مصير التفكك أو تحضير الوضع الداخلي لتغيير جذري، بعد إضعاف السلطات الإيرانية واستهداف القيادات الأساسية أمنياً وعسكرياً، وهذا أيضاً أمر لا يحظى بقبول من جانب تل أبيب وواشنطن.

بوتين يحصد مكاسب

إن ضعف فرص الكرملين في التوسّط لإنهاء القتال لا يمنع الرئيس الروسي من تسريع وتيرة جني مكاسب بسبب اندلاع هذه الحرب. وهنا يقول خبراء إن احتمالات التفاوض على اتفاق ينهي الحرب وتقبل بموجبه إيران قيوداً أكثر صرامة على برنامجها النووي، تبدو ضئيلة للغاية بعد الهجمات الإسرائيلية. ولكن إذا استؤنفت المحادثات، قد يبرز عرض روسيا كعنصر محوري في أي اتفاق.

مع هذا، المكاسب الأهم لموسكو تتحقّق بالفعل في أوكرانيا حالياً. إذ تواصل القوات الروسية تقدمها على عدد من الجبهات، وتنفذ عملياً خطتها لإنشاء منطقة عازلة على طول الشريط الحدودي وداخل العمق الأوكراني من سومي إلى خاركيف. وعملياً، تكرّس موسكو - التي تتأهب حالياً لاستكمال جولات التفاوض المباشر مع أوكرانيا - واقعاً ميدانياً جديداً يعزز موقفها ويضعف مجالات المناورة الأوكرانية ويضع كييف أمام شرط القبول بتنازلات إقليمية مؤلمة لتحقيق السلام.

وبالفعل، استغلت موسكو انصراف الاهتمام الدولي إلى جبهات القتال الإسرائيلية الإيرانية لتوسيع هجماتها العسكرية بشكل نشط. ويُجادل بعض المعلقين في موسكو بأن المواجهة في الشرق الأوسط أسفرت عن تشتيت انتباه الغرب وموارده على الأرجح عن الحرب في أوكرانيا، وتُسهّل على روسيا تحقيق أهدافها الميدانية.

أيضاً، استفادت موسكو من المزاج السياسي الأميركي الحالي، في تكريس عزلة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن واشنطن، وحسم موضوع المساعدات العسكرية الأميركية المحتملة لكييف. وتبين ذلك عبر إلغاء لقاء يجمع زيلينسكي بترمب على هامش «قمة السبعة الكبار» في كندا أخيراً. ورأت موسكو ان إلغاء اللقاء يعكس تحولاً مهماً لدى واشنطن.

في أي حال، يرى دبلوماسيون بارزون أن التطوّرات الجارية ستدفع الرئيس ترمب إلى تعزيز تقاربه مع موسكو. كذلك، يرجّح مراقبون أن تؤدي الهجمات الإسرائيلية إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، وستُساهم في إثراء روسيا وسط أزمتها الاقتصادية.

وعلى صعيد متصل، يتوقع مراقبون أنه مهما كانت نتائج هذه الحرب، في حال لم تسفر عن تقويض النظام الإيراني، سيتكرس واقع في إيران يخدم مصالح موسكو، لجهة بقاء «الحليف» مقرباً من موسكو وتقليص فرص الانفتاح على الغرب.

وللعلم، عملت موسكو بقوة على توظيف الحرب القائمة لخدمة سرديتها عن المواجهة مع الغرب. وبرزت تعليقات لمحللين مقرّبين من الكرملين حول أن الحرب الإيرانية الإسرائيلية أظهرت أن امتلاك قدرات الردع النووي أفضل ضمان ضد محاولات «تحفيز» العمليات الداخلية بالقوة العسكرية الخارجية.