انطلقت الحرب في «جبهة» جنوب لبنان بين إسرائيل و«حزب الله» بحجة «مساندة غزة»، وفق ما أعلن «حزب الله»، إلا أنها تحوّلت «حرب استنزاف». وهي تتوسع من جنوب لبنان، حيث دُمّرت بلدات عدة بشكل كامل أو جزئي، إلى البقاع (شرقي البلاد) وضاحية بيروت الجنوبية، حيث تعمد إسرائيل إلى تنفيذ عمليات اغتيال مستهدفة قيادات في الحزب وفي حركة «حماس» و«الجماعة الاسلامية»، بالإضافة إلى تركّز القصف على بُنى تحتية للحزب في محاولات لقطع خطوط إمداده، ومنها مخازن أسلحة ومراكز عسكرية، وهو ما أعلنته مرات عدة إسرائيل.
كذلك بدأت عمليات «حزب الله» باتجاه شمال إسرائيل تأخذ منحىً تصاعدياً، مع استخدامه أسلحة متطوّرة، بعضها يستخدم للمرة الأولى، كالمسيّرات الانقضاضية وصواريخ «ألماس» بأجيالها الأربعة، إضافة إلى صاروخي «فلق» و«بركان»، غير أنها بقيت ضمن حدود معيّنة من دون تخطّي «الخطوط الحمراء»، مثل استهداف حيفا ومرافق الغاز.
شرط «ربط الجبهتين»
ومع تطوّر المواجهات، رفع مسؤولو «حزب الله» شرطاً واحداً للتراجع تمثل بـ«ربط» جبهة الجنوب بجبهة غزة، مع تأكيدهم الجهوزية للحرب الواسعة إذا وقعت. لكن هذه المعادلة رفضها المسؤولون في إسرائيل، الذين يرفعون بين الحين والآخر سقف التهديد... متوعّدين بتدمير لبنان وبالاجتياح البرّي، ومحمِّلين الحكومة اللبنانية و«حزب الله» مسؤولية توسّع الحرب.
وعلى الرغم من اعتبار البعض أن المواجهات في الجنوب لا تزال ضمن «قواعد الاشتباك» ولن تتوسّع أكثر، يرفض العميد المتقاعد الخبير العسكري خليل الحلو هذا الوصف، معتبراً ما يحصل اليوم على جبهة الجنوب «حرب استنزاف». ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن «احتمالات توسّع الحرب ترتفع بشكل كبير؛ وهو ما تعكسه الوقائع العسكرية والسياسية، من تهديدات المسؤولين الإسرائيليين والتحذيرات الدولية، وغيرها».
حرب نفسية متبادلة
الواقع، أنه بعد أشهر من التهديدات المتبادلة بين «حزب الله» وإسرائيل انتقلت المواجهات إلى «حرب نفسية» بامتياز، وعادت طبول الحرب تُقرع بعدما كانت احتمالاتها قد تراجعت مقارنة مع الأسابيع الأولى. وبعدما هددت إسرائيل بالاجتياح البرّي إذا فشلت الجهود الدبلوماسية، أعلن الجيش الإسرائيلي يوم 18 يونيو (حزيران) الحالي موافقته على «خطة لتنفيذ هجوم في لبنان»، وتوعّد وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس بالقضاء على «حزب الله» وضرب لبنان في حال اندلاع «حرب شاملة».
في الموازاة، أطلق «حزب الله» رسالة هي الأولى من نوعها بالتزامن مع زيارة الموفد الأميركي إلى لبنان آموس هوكستين، الذي أكد على ضرورة إنهاء النزاع بين الحزب وإسرائيل «بطريقة دبلوماسية وبسرعة». وتمثلت رسالة الحزب بنشره مشاهد مصوّرة بطائرة مسيّرة تتضمن مسحاً لمناطق في مدينة حيفا وشمالي فلسطين. وكشف الفيديو، الذي تجاوزت مدته 9 دقائق، عن صور عالية الدقة لميناء حيفا ومطارها، ومستوطنة الكريوت، ومواقع عسكرية ومنشآت بتروكيميائية حسّاسة. وتكلّم عن أهداف مدنية وعسكرية واقتصادية، في تلميح إلى التكلفة الباهظة التي ستتكبّدها إسرائيل إذا اندلعت حرب شاملة في لبنان، وهو ما اعتبرته تل أبيب «الأكثر إثارة للقلق منذ بداية الحرب».
بعد ذلك بيوم واحد، رفع أمين عام «حزب الله» حسن نصر الله سقف تهديداته محذّراً من أن أي مكان في إسرائيل «لن يكون بمنأى» عن صواريخ مقاتليه في حال اندلاع الحرب. ولم يقتصر تحذير نصر الله على إسرائيل وحدها، بل شمل أيضاً تهديد قبرص. فبعدما «كشف عن معلومات» تفيد بأن إسرائيل - التي تجري سنوياً مناورات في الجزيرة الصغيرة - قد تستخدم المطارات والقواعد القبرصية لمهاجمة لبنان - هدد بضربها كجهة معادية، وأعلن عن تجاوز عدد مقاتلي الحزب «المائة ألف بكثير وحصوله على أسلحة جديدة». وفي المقابل، قال الجنرال هرتسي هاليفي، رئيس الأركان في الجيش الإسرائيلي، خلال زيارة لشمال إسرائيل إن لدى قواته «قدرات أكبر بكثير» من قدرات «حزب الله».
تقرير «التلغراف» البريطانية
وتوالت رسائل الحرب النفسية التي تنعكس توتراً في لبنان عبر نشر صحيفة «التلغراف» البريطانية يوم 23 يونيو تقريراً نقلت فيه عن «مبلّغين من المطار» زيادة إمدادات السلاح على متن رحلات مباشرة من إيران. وتحدث هؤلاء عن نقل صناديق كبيرة غير اعتيادية وحضور متزايد لقادة رفيعي المستوى من «حزب الله» في المطار، لكن السلطات اللبنانية نفت صحة التقرير بصورة قاطعة، وطرحت علامات استفهام كثيرة حول توقيت نشره. وبينما لم يصدر أيّ تعليق من «حزب الله»، اعتبر علي حميه، وزير الأشغال المحسوب على الحزب، أنّ نشر التقرير «يهدف لتشويه سمعة المطار» و«يُلحق ضرراً معنوياً» باللبنانيين، مندّداً بما وصفه بـ«حرب نفسية مكتوبة».
أيضاً، وضع اللواء الركن المتقاعد الدكتور عبد الرحمن شحيتلي، خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، التهديدات المتصاعدة في خانة الحرب النفسية التي لا تؤدي إلى حرب فعلية. وتابع: «الناس يعيشون أجواء الحرب نتيجة هذه المواقف التصعيدية، لكن على الأرض فعلياً تراجعت حدّة المواجهات العسكرية». وذكّر شحيتلي أن تل أبيب أطلقت الحرب النفسية عند إعلانها عن توقيع أمر الهجوم على لبنان، وردّ «حزب الله» برسالة مسيّرة «الهدهد». وأضاف: «عسكرياً، خطة العمليات تكون عادة سرّية يُمنع الاطلاع عليها، ويُعلن عن توقيعها عند بدء التنفيذ. وبالتالي، فإن مجرّد التسريب يعني التهديد... لا الذهاب إلى الحرب».
وفي حين يطرح شحيتلي علامة استفهام حول إعلان «حزب الله» لجهة ما قامت به مسيّرة «الهدهد»، فإنه أوضح: «الجهتان تخرقان السرّية العسكرية بتسريب المعلومات... وهذا يعني أنها حرب نفسية موجّهة للجيش الإسرائيلي والمجتمع داخل فلسطين المحتلة من جهة وللبيئة الحاضنة لـ(حزب الله) في لبنان من جهة أخرى».
أما الدكتور عماد سلامة، أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الأميركية، فأبلغ «الشرق الأوسط» أنه يمكن النظر إلى الحرب النفسية المتصاعدة بين «حزب الله» وإسرائيل إما «كمقدمة لحرب فعلية أو كاستراتيجية متبادلة لرفع سقف المفاوضات بين الطرفين». وأوضح: «إذا اعتبرنا هذا الأسلوب طريقاً عقلانية لرفع سقف التفاوض، فإن الطرفين يسعيان لعرض قوتيهما وقدراتهما، ليس فقط لإثارة مخاوف الطرف الآخر ومحاكاة حجم ونتائج الحرب إذا شُنت فعلياً، بل أيضاً للدفع للمفاوضات والتنازل لتسوية».
أسابيع حاسمة...
في سياق موازٍ، رغم رفع سقف التهديدات من قِبل الطرفين بقيت أبواب «الدبلوماسية» مفتوحة، بحسب ما أشارت تصريحات لمسؤولين في لبنان وإسرائيل؛ ما يعكس سباقاً بين التصعيد والحل السياسي. وفي هذا الإطار، أعرب رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه برّي عن قلقه من تطوّر الأوضاع في الجنوب، معتبراً أننا «أمام شهر حاسم والوضع غير مطمئن». وبعد يومين على لقائه الموفد الأميركي آموس هوكستين، كشف برّي عن أن الأخير «طرح تراجع (حزب الله) 8 كيلومترات عن الحدود لتهدئة الأوضاع بمناطق الشريط الحدودي»، فطالبه بالمقابل «بتراجع الجيش الإسرائيلي المسافة نفسها»، مؤكداً في الوقت عينه «تمسك لبنان بالقرار الأممي رقم 1701».
هذا، وكان هوكستين وبرّي تداولا مجموعة من الأفكار، أبرزها الالتزام بقواعد الاشتباك التي كانت سائدة قبل هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)؛ ما من شأنه الإسهام بعودة النازحين على جانبَي الحدود اللبنانية - الإسرائيلية. ومن جهته، قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي إن «إسرائيل ستمضي الأسابيع المقبلة في محاولة حل الصراع مع (حزب الله)»، مؤكداً أنهم «يفضلون الحل الدبلوماسي». غير أن نيتزان نورييل، الرئيس السابق للمكتب الإسرائيلي لمكافحة الإرهاب، قال لوكالة الصحافة الفرنسية: «أعتقد أننا في غضون أسابيع قليلة سنشهد عملية إسرائيلية في لبنان» متوقّعاً أن «تستمر شهوراً». وأشار إلى أن هدف العملية البرّية سيكون دفع «حزب الله» إلى شمال نهر الليطاني، على مسافة نحو 30 كيلومتراً من الحدود الخاضعة لمراقبة الأمم المتحدة، وستترافق مع غارات جوية عبر الأراضي اللبنانية «ليظهر لهم الثمن الذي سيدفعونه».
هذه التهديدات أدت إلى استنفار من قِبل الدول الكبرى التي تواصل الدعوة إلى التهدئة، مع أنه كان قد نقل عن مسؤولين أميركيين تأكيدهم لتل أبيب بأن الرئيس الأميركي جو بايدن سيكون مستعداً لدعم إسرائيل إذا اندلعت الحرب. كذلك، التحذير من التصعيد ورد أيضاً الأمم المتحدة على لسان مارتن غريفيث، منسق الشؤون الإنسانية، مشيراً إلى احتمال توسع رقعة الحرب الإسرائيلية ضد «حماس» في غزة إلى لبنان، وتابع: «سيكون ذلك مروعاً»، واصفاً الوضع بـ«المقلق جداً» وحذّر من «أنها قد تكون مجرد البداية».
في هذه الأثناء، في بيروت، فإن السلطات اللبنانية في حالة استنفار، محاولةً إبعاد شبح الحرب الشاملة والمدمّرة. وبعد تصاعد التهديدات في الأيام الأخيرة، ناشد رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي، الأطراف اللبنانية كافة «أخذ مصلحة لبنان وعلاقاته الخارجية بعين الاعتبار». وتوجّه عبد الله بوحبيب، وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال، إلى بروكسل لإجراء مباحثات مع مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، وانتقل إلى الولايات المتحدة وكندا، حيث التقى مسؤولين أميركيين في واشنطن، ومسؤولين أمميين في منظمة الأمم المتحدة.
استبعاد الحرب... إلا إذا!
رغم كل سبق، يستبعد اللواء الركن المتقاعد شحيتلي الحرب الموسعة في «المدى المنظور»، معتبراً أن «ما يحصل اليوم ليس إلا تبادلاً للقصف». في حين يعتبر الدكتور سلامة أن «كلاً من (حزب الله) وإسرائيل يسعى لخلق توازن رعب يمنع وقوع الحرب ويحافظ على الوضع الراهن؛ تفادياً بذلك تكلفة الحرب العالية لعلمه بأن أي مواجهة عسكرية شاملة ستكون مدمرة للطرفين». ولكن، مع ذلك، يرى سلامة أنه «في بعض الأحيان يمكن أن يُساء تقدير إمكانيات الطرف الآخر والرهان على كسب المعركة؛ ما قد يؤدي إلى المواجهة»؛ ولذا يؤكد أنه «حتى هذه اللحظة، تبقى المواجهة ضمن الخطوط المقبولة، وما زال الطرفان يديران المعركة ضمن ردع متبادل، وتبقى صيحات الحرب الشاملة ضمن الحرب النفسية حتى تتجلى الأمور في غزة وتعقد الصفقة. وبالتالي، يمكن القول إن هذه الحرب النفسية في جزء منها عرض قوة ورفع لسقف التفاوض، وجزء منها تهديد حقيقي قد ينزلق إلى مواجهة فعلية إذا ما أخطأ أحد الطرفين في حساباته».