أميركا البروتستانتية قمعت انتشار اليسار لمصلحة الليبراليين

انتخابات 2016 و2020 أثبتت فشل تيار الاشتراكيين الديمقراطيين

لوحة تبدو فيها وجوه قادة حركة الحقوق المدنية وبينهم القس مارتن لوثر كينغ (شاترستوك)
لوحة تبدو فيها وجوه قادة حركة الحقوق المدنية وبينهم القس مارتن لوثر كينغ (شاترستوك)
TT

أميركا البروتستانتية قمعت انتشار اليسار لمصلحة الليبراليين

لوحة تبدو فيها وجوه قادة حركة الحقوق المدنية وبينهم القس مارتن لوثر كينغ (شاترستوك)
لوحة تبدو فيها وجوه قادة حركة الحقوق المدنية وبينهم القس مارتن لوثر كينغ (شاترستوك)

إذا كان الإيفانجيليون البروتستانت الذين بنوا الولايات المتحدة الأميركية، هم أكبر كتلة سكانية (25 في المائة)، ويُعدّون القوة التصويتية الأكبر التي تدعم الحزب الجمهوري، لكونهم «ملتزمين أكثر دينياً»، فهل هذا يعني أن تأثيرهم على الحزب الديمقراطي انحسر لمصلحة كتلة أخرى، كالتيار اليساري على سبيل المثال؟ يجيب العديد من القراءات والدراسات بما فيها تلك الصادرة عن هيئات حكومية أميركية، بأن الدين، والإيفانجيليون على وجه الخصوص، لم يلعب فقط دوراً كبيراً في تشكل الحزبين، بل دوراً محورياً في تكوين، «هوية» أميركا و«رأسماليتها»... وحتى يسارها المنضوي الآن تحت عباءة الحزب الديمقراطي الحديث.

صورة أرشيفية للرئيس فرانكلن روزفلت (أ ب)

يقول كتاب التاريخ الرسمي الأميركي، في البداية، إنه لم يكن لدى الحزبين الديمقراطي والجمهوري دائماً المُثُل نفسها التي لديهما اليوم. بل ما حصل هو أن الحزبين غيّرا و«قلبا» آيديولوجياتهما على مدى عشرات العقود منذ تأسيسهما. وبينما يُعد الحزب الديمقراطي الذي أسّس عام 1828، أقدم حزب سياسي قائم على نظام الاقتراع في العالم، وأقدم حزب سياسي في أميركا، يعود تاريخ الحزب الجمهوري إلى عام 1854.

في سنواته الأولى، كان الحزب الجمهوري، الذي يعد حزب الرأسمالية الجديدة المسيطرة على الصناعات والبنوك في المدن... ليبراليا تماماً، وفي المقابل كان الديمقراطيون، المدافعون عن المزارعين وسكان الأرياف، معروفين بمحافظتهم القوية.

عند اندلاع الحرب الأهلية، سيطر الجمهوريون على غالبية الولايات الشمالية الأكثر تصنيعاً. وسعوا إلى توسيع الولايات المتحدة، وتشجيع الاستيطان في الغرب، وساعدوا في تمويل السكك الحديدية العابرة للولايات وتأسيس الجامعات الحكومية. وإضافة إلى ذلك، وبسبب الجدل المتوتر المتزايد حول العبودية، صار العديد من الجمهوريين - وعلى رأسهم زعيمهم إبراهام لنكولن - من معارضي العبودية (الرقّ) ودعاة إلغاء عقوبة الإعدام.

في المقابل، كان الديمقراطيون يتشاركون في الالتزام بقيم المجتمع الزراعي والريفي، وينظرون إلى الحكومة المركزية وقاعدتها المدينية على أنها معادية للحرية الفردية. ولأن معظم الديمقراطيين كانوا في الولايات الجنوبية الزراعية، فقد سعوا بعناد من أجل إبقاء العبودية قانونية.

دور الحرب الأهلية

ومع اقتراب الحرب من نهايتها، سيطر الحزب الجمهوري على الحكومة، واستخدم سلطته لحماية الأشخاص المستعبدين سابقاً وضمان حقوقهم المدنية. وشمل ذلك التعديلات بعد تسوية عام 1877 التي انتهت بإعادة الإعمار، التي أكسبت الجمهوريين ولاء السكان السود في أميركا وتصويتهم، وهو ما رفضه معظم الديمقراطيين.

لكن بعد الحرب الأهلية، بدأ التغيير البنيوي في الحزب الجمهوري، مع تعاظم ثروة الصناعيين الشماليين، ودخول العديد منهم ميدان السياسة؛ إذ لم يجد هؤلاء الساسة الأثرياء الجدد أي معنى في دعم حقوق الأميركيين السود، حين كان البيض هم الغالبية. وبحلول سبعينات القرن التاسع عشر، شعر الجمهوريون أنهم فعلوا ما يكفي للمواطنين السود، وأوقفوا كل الجهود «لإصلاح» الولايات الجنوبية، التي تُركت للديمقراطيين البيض وسياساتهم القمعية تجاه المواطنين السود. ومع انتهاء عملية إعادة الإعمار، صوّت «الجنوب الصلب» لصالح المرشحين الرئاسيين الديمقراطيين للسنوات الـ44 التالية.

«الكساد الكبير» بداية التحول

بعد 52 سنة، أصبح «الكساد الكبير» الذي هز أميركا عام 1929، حافزاً لتغيير سياسي هائل. وفي حين ظل رجال الأعمال الأثرياء يهيمنون على الحزب الجمهوري، فضل هؤلاء سياسات اللا تدخل الحكومي دعماً للشركات الكبرى، التي كانت سياسة فعالة عندما كان الاقتصاد مزدهراً، لكنها أضحت كارثية مع الانهيار الاقتصادي الذي حصل.

وبالتالي، عندما تبنّى الرئيس الجمهوري هربرت هوفر سياسة اللا تدخل تعرّض لسخط الرأي العام الأميركي عليه وحزبه، وهذا بينما كان منافسه الديمقراطي فرانكلن روزفلت مؤمناً بالحاجة إلى التغيير. وبالفعل نظّم روزفلت حملته على التعهد بالتدخل الحكومي لإنقاذ الاقتصاد وتقديم المساعدة المالية والاهتمام برفاهية الناس. وبفضل هذه السياسة اكتسح روزفلت انتخابات عام 1932 بغالبية ساحقة. وكانت سياسات حملته - التي تبلورت يومذاك بما يعرف بـ«الصفقة الجديدة» - هي التي أدت إلى تحول كبير في آيديولوجيات الحزب الديمقراطي.

ولم يطل الوقت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى عاد العرق والمساواة بالعودة إلى مركز السياسة في الخمسينات والستينات.

لم يكن العرق بالضرورة ضمن وجهة نظر الحزبين في هذه المرحلة، بل كان الأمر أقرب إلى قضية تخصّ الولايات، والجنوبية تحديداً؛ إذ عارض كل من الديمقراطيين والجمهوريين الجنوبيين «حركة الحقوق المدنية» المبكّرة، بينما بدأ الديمقراطيون والجمهوريون الشماليون في دعم التشريعات مع تزايد قوة الحركة.

وفي عام 1964، وقّع الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون على قانون الحقوق المدنية. وفي انتخابات ذلك العام، عارض المرشح الجمهوري باري غولدووتر القانون الجديد علناً بحجة أنه وسّع سلطة الحكومة الفيدرالية إلى مستوى خطير.

كان ذلك هو ما أدى إلى التحوّل النهائي والحاسم؛ إذ بعدما كان الناخبون السود موالين للحزب الجمهوري بسبب «قانون الحقوق المدنية لعام 1866»، تحوّل هؤلاء بالفعل إلى الحزب الديمقراطي عندما رأوا أنه مناصر للمساواة والعدالة، في حين كان الجمهوريون مهتمين بالحفاظ على الوضع الراهن في أميركا.

وحقاً، مع مواصلة الديمقراطيين السير بالسياسات «الإصلاحية»؛ كالحق في الإجهاض في بداية السبعينات، وإلغاء تعليم الدين في المدارس الحكومية، أخذ الديمقراطيون الجنوبيون البيض - بخلفيتهم الريفية والدينية المحافظة - يتضايقون من مدى تدخل الحزب فيما يرونه حقوق الناس. وبحلول الثمانينات، أصبح الديمقراطيون الجنوبيون البيض جمهوريين، وغالبية الجنوب جمهوريين. والآن، نرى أن الحزب الجمهوري غدا الملاذ الحصين للمحافظين، مقابل تحول الحزب الديمقراطي إلى معقل لليبراليين والراديكاليين و«اليساريين».

هوية الحزب الديمقراطي

على الرغم من أن المجموعات التي تشكل ما يسمى بائتلاف التحالف الديمقراطي، خضعت لتحولات عدة، منذ حسم الحزب الديمقراطي استدارته السياسية، يتساءل كثيرون: هل تحول الحزب بالفعل إلى حزب يساري؟

وما موقع هذا التيار ضمن الائتلاف الديمقراطي؟

وما أفكاره؟ وما مدى تأثيره اجتماعياً وسياسياً؟

في الحقيقة، لم يكن الرئيس السابق دونالد ترمب، الجمهوري الأول الذي عد حركات الاحتجاج على ممارسات النظام الأميركي، حركات تنتمي إلى «الجماعات اليسارية» الأميركية. غير أن تزايد استخدام الجمهوريين لهذه المصطلحات بهدف «شيطنة» الاحتجاجات، وبصورة غير مسبوقة منذ حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الماضي، كشف عن عمق الانقسام السياسي والاستقطاب الذي تعيشه البلاد اليوم.

بحسب مركز «بيو» الأميركي المرموق، هناك أربع مجموعات تشكل التحالف الديمقراطي، هي: اليسار التقدمي، والليبراليون المؤسسيون، والديمقراطيون الأساسيون، واليسار الخارجي.

هذه المجموعات متوافقة إلى حد كبير على دعم الدور القوي الذي تلعبه الحكومة وشبكة الأمان الاقتصادية والاجتماعية القوية، فضلاً عن تشككها بقوة الشركات. ولكن، مع ذلك، ثمة اختلافات ملحوظة، إزاء قضايا كالقوة العسكرية الأميركية، وإلى حد ما، العدالة الجنائية وموضوع الهجرة. ثم إن الاختلافات في العديد من مجالات القضايا الرئيسة، بما فيها السياسة البيئية، والأسلحة، والإجهاض، والمساواة العرقية وغيرها، لا تتعلق بالقضية نفسها بقدر ما تتعلق بكثافة الدعم للمواقف والسياسات الليبرالية.

يمثل «اليسار التقدمي» حصة صغيرة نسبياً من الحزب، لا تتجاوز 12 في المائة من الديمقراطيين والمستقلين ذوي الميول الديمقراطية، وغالبيتهم من جيل الشباب والطلاب الجامعيين. ومع ذلك، فإن هذه المجموعة هي الأنشط سياسياً.

في المقابل، يشكل «الليبراليون المؤسسيون» حصة أكبر بكثير، (24 في المائة)، ويصوّتون أيضاً بمعدلات عالية ويهتمون سياسياً للغاية. ومع أن لديهم آراء ليبرالية فهؤلاء يميلون إلى دعم التسويات السياسية أكثر من اليسار التقدمي واليسار الخارجي.

الفئة الثالثة، «الديمقراطيون الأساسيون»، هم أكبر مجموعة في الائتلاف الديمقراطي، (28 في المائة) ويطلقون على أنفسهم مسمى «المعتدلين سياسياً». ورغم احتفاظهم بمواقف ليبرالية بشأن الاقتصاد، فهم يختلفون بشأن قضايا الهجرة. فهؤلاء أقل ميلاً بكثير لدعم زيادة الهجرة القانونية وأكثر تقبلاً لتحديد الهجرة غير الشرعية بوصفها مشكلة في البلاد. كذلك فهؤلاء أكثر استثماراً في القوة العسكرية الأميركية. ويتركز الديمقراطيون السود بشكل خاص في هذه المجموعة (40 في المائة)، كما ينتمي إليها الأكبر سناً والاًقل احتمالاً للحصول على تعليم عالٍ.

وتبقى الفئة الرابعة، وهي «اليسار الخارجي»، وقوامها (16 في المائة)، لكن هؤلاء يعرّفون أنفسهم بأنهم مستقلون، وغالبيتهم من الشباب والتقدميين. ورغم أنهم ليسوا ليبراليين تماماً مثل «اليسار التقدمي»، فإن ليبراليتهم تظهر عندما يتعلق الأمر بالعرق والهجرة والقضايا البيئية. ولا يُعد هذا التيار موثوقاً به انتخابياً، ولكن عندما يواجه الاختيار بين مرشحين جمهوريين أو ديمقراطيين، يصوّت أفراده بغالبية ساحقة لصالح الديمقراطيين.

عندما تبنّى الرئيس الجمهوري هربرت هوفر سياسة اللا تدخل تعرّض لسخط الرأي العام الأميركي عليه وحزبه

تغير مصطلح «اليسار»

مع فشل «النماذج الاشتراكية» في دول أوروبا الشرقية، خضع مصطلح «اليسار»، الذي كان يشير في البداية إلى الفكر الاشتراكي، لتعديلات عدة في الغرب. ولقد بذلت في الماضي محاولات لجمع الاشتراكية الماركسية والرأسمالية الغربية، بهدف التوفيق بين رفض الاضطهاد والفقر والتفاوت الناجم عن السوق الحرة والرأسمالية، ورفض التأميم والاقتصادات المخططة مركزياً. وهو ما أدى إلى ولادة ما يسمى تيار «الديمقراطية الاجتماعية/الديمقراطية الاشتراكية» أو «تيار الاشتراكيين الجدد»، الذي ازدهر خصوصاً في بعض دول أميركا اللاتينية، ويمثله في الولايات المتحدة «اليسار التقدمي»... وجزئياً «اليسار الخارجي».

أيضاً، ظهر ما يسمى بتيار «الليبرالية الاجتماعية»، وهو فرع من الليبرالية، لكنه لا يدعو إلى حرية مطلقة للأفراد، بل لدور إيجابي للدولة في توفير حرية إيجابية. ويرفض هذا التيار كلاً من النماذج المتشددة من الرأسمالية والبُعد الثوري من الديمقراطية الاشتراكية. وبالتالي، فهو يؤمن بالأفكار الرأسمالية مع إدخال بعض الإصلاحات عليها، ويمثله في البلاد، «الديمقراطيون الأساسيون» و«الليبراليون المؤسسيون».

وأخيراً... لا آخراً، ظهر تيار اللاسلطوية أو «الفوضوية/الأناركية»، وهي ترجمة لمصطلح إنجليزي، ويُعد أقصى اليسار أو اليسارية الراديكالية، الكاره لأي سلطة سواءً كانت دولة أو مجتمعاً أو حتى أسرة.

 

السناتور بيرني ساندرز... حانل لواء اليسار في الحزب الديمقراطي (رويترز)

أميركا البروتستانتية... والمكارثية

عندما أسست الولايات المتحدة على أيدي البروتستانت البيض الذين فروا من أوروبا هرباً من الاضطهاد الكاثوليكي، بنى هؤلاء مجتمعاً قائماً على الرأسمالية والاقتصاد الحر. ومع تحوّل أميركا مركزاً للرأسمالية العالمية، أضفوا عليها مسحة بروتستانتية متدينة ميَّزتها عن الرأسمالية الأوروبية، الأمر الذي جعل من الصعب على اليسار الانتشار فيها.

وعلى الرغم من تأسيس الحزب الاشتراكي الأميركي عام 1905، وحزب العمال الأميركي بعده، نُبذ الحزبان وأمثالهما جماهيرياً. غير أن الفكر اليساري تغلغل في المجتمع الأميركي تدريجياً، معتمداً على عدة عوامل، أبرزها:

- أزمات الرأسمالية والانهيارات التي لازمتها، من أزمة 1929، مروراً بعقد الثلاثينات وبداية عقد الأربعينات، والأزمة المالية في عام 2008.

- التمييز العنصري ضد الأقليات عموماً، والسود خصوصاً.

- صعود اليمين المحافظ المتشدد، بتأثير من الإيفانجيليين البروتستانت.

هذه العوامل الثلاثة وعوامل أخرى دفعت كثيرين من المواطنين الأميركيين - ليس فقط من السود، ولكن أيضاً من البيض المستائين من تغوّل الرأسمالية والعنصرية وتصرفات اليمين المتشدد - للبحث عن أفكار أخرى يمكن أن تؤسس لأميركا جديدة، فكان الانتماء إلى الأفكار اليسارية طريقاً لهؤلاء.

مع هذا، حوّلت سيطرة الدين الشيوعية إلى «تهمة» يُتَّهَم بها كل صاحب فكر يساري في أميركا. وبالفعل، أُجريت المحاكمات إبان فترة الخمسينات من القرن الماضي لكل من يُتَّهَم أو يُشتَبَه في حمله لهذا الفكر. وهو ما عرف بـ«المكارثية السياسية»، نسبة إلى السيناتور اليميني المتشدد جوزيف مكارثي، الذي نظّر لقمع «الشيوعيين» في تلك الفترة.

في حينه، صارت تهمة الشيوعية ذريعة للإجهاز على المثقفين اليساريين والحركات النقابية والعمالية، التي أضعفت بنيوياً في أميركا، مقارنة بأوروبا. ويُذكر أنه اتُّهمت بـ«اليسارية» أيضاً «حركةُ الحقوق المدنية» في أميركا ضد التمييز العنصري خلال الستينات من القرن الماضي، التي قادها القس مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس، مع أن الخطاب الشهير الذي ألقاه كينغ، «لديّ حلم»، استخدم فيه الكثير من مراجع الإنجيل.

تيارات اليسار الأميركي

هكذا، انتظم اليسار الأميركي في جماعات وتيارات، وكان له تأثير على الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأميركية، وبعض هذه التيارات ارتبطت بقضايا معينة في وقـت معيَّن. إلا أنها عندما عجزت عن تحقيق أهدافها لم تلبث أن تلاشت أو ضعف تأثيرها، مثل حركة «احتلوا وول ستريت» التي انطلقت في سبتمبر (أيلول) 2011 من حي المال والأعمال في نيويورك، للتصدي لغياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة فسادِ فاحشي الثراء، وإيقاف سيطرة الشركات الكبرى على الحكومات. وتبنَّت الحركة شعار «نحن نسبة الـ99 في المائة»، في إشارة إلى انعدام العدالة توزيع الثروة، واستمرت الاحتجاجات نحو ثلاثة أشهر، لكنها لم تنجح.

ومن رحم تيار «احتلوا وول ستريت» خرج تيار الاشتراكية الديمقراطية الأميركية بوصفه حركة مستقلة حاولت الدفع بأعضائها إلى الأحزاب الأميركية، وخصوصاً الحزب الديمقراطي، واستطاعت توفير الدعم المالي والإعلامي لهؤلاء المرشحين.

ووفق موقع «حركة الاشتراكيين الديمقراطيين» على شبكة الإنترنت، تعمل الحركة على تقنيات الحملات وحشد كل المؤمنين بالاشتراكية الديمقراطية. وتدّعي الحركة أيضاً أنها دعمت كثيراً من أعضائها للوصول إلى الكونغرس الفيدرالي والولايات. ومع أنها بدأت نشاطها السياسي الانتخابي فعام 2016 فقط، بلغ عدد أعضائها في عام 2018 نحو 50 ألف عضو فعال.

ويرجع الإقبال المتزايد على الانضمام إلى هذا التيار إلى طلاب الجامعات الحديثي التخرج بسبب إرهاقهم بالديون الدراسية، ونجاحها في استغلال المزاج الشعبي العام بعد انتخاب دونالد ترمب، وحالة الاستقطاب الحاد التي يعيشها المجتمع الأميركي، واتجاه الإعلام الليبرالي لدعم اليسار بسبب خطاب ترمب اليميني. وحقاً، أعلنت الحركة عن جملة من الأهداف أهمها: إعادة توزيع الثروة عبر سياسات ضريبية جديدة، من خلال استراتيجية إعادة تشكيل المناخ السياسي في الولايات المتحدة عبر إصلاح الرأسمالية.

أما التيار اللاسلطوي أو «الأناركي»، فتمثله اليوم حركة «أنتيفا»، التي هاجمها ترمب وإدارته، قائلاً إنه سيصنِّفها منظمة إرهابية بعد الاحتجاجات التي أعقبت وفاة الرجل الأسود جورج فلويد. ومصطلح «أنتيفا» هذا اختصار لعبارة «مناهضة الفاشية». وكانت بدأت بتنظيم كوادرها ضد «النازيين الجدد» في الولايات المتحدة أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن الماضي، وخاصة في منطقة الغرب الأوسط. وبعدما تراجعت منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي، ظهرت مجدداً بعد انتخاب ترمب عام 2017.

وتقوم استراتيجية «أنتيفا» على رفض اللجوء إلى الشرطة أو الدولة لوقف زحف فكرة تفوُّق البيض. وبدلاً من ذلك يدعو أعضاؤها ومناصروها إلى المعارضة الشعبية للفاشية والحركات العنصرية والنازية، على الرغم من أن الفاشية في العموم، تنتمي فكرياً إلى الحركات اللاسلطوية أو «الأناركية». كذلك مع أن خطاب «أنتيفا» الرسمي يشدّد على مناهضة العنف، يقول أعضاء في الحركة إن العنف والأسلحة ضروريان للدفاع عن النفس.

 

الحمار... شعار «الحزب الديمقراطي» الأميركي

«الحزب الديمقراطي» الأميركي... في المعايير اليسارية

> مع أن كثيرين يصنّفون الحزب الديمقراطي الأميركي بأنه حزب يساري، فإن هذا التصنيف مبسط جداً، لأن تركيبة الحزب بالغة التعقيد. فكثيرون من أعضاء الحزب يمكن تصنيفهم كيمينيين، ومنهم من يتبنى موقفاً وسطاً بين اليسار واليمين. وهذا الواقع برز في الانتخابات الديمقراطية التمهيدية الترشيحية للرئاسة عام 2016، ثم عام 2020، حين فازت هيلاري كلينتون، ثم جو بايدن بالترشيح على حساب ممثل اليسار السيناتور بيرني ساندرز، الذي عد فشله مرتين فشلاً لتيار الاشتراكيين الديمقراطيين. وأيضاً، فإن سياسات الحزب الخارجية تتشابه في حالات عديدة مع سياسات الحزب الجمهوري، وهو ما نراه اليوم في موقف إدارة بايدن من الحرب الإسرائيلية على غزة. وفق مركز «بيو»، حصل بايدن في الانتخابات العامة ضد ترمب عام 2020 على الغالبية العظمى من أصوات المجموعات الأربع ذات التوجه الديمقراطي. إذ صوّت له 92 في المائة من «الليبراليين المؤسسيين»، و94 في المائة من «اليسار الخارجي»، و98 في المائة من «الديمقراطيين الأساسيين»، و«اليسار التقدمي». من جهة أخرى، في حين يفضّل الليبراليون العيش في المدن، يفضّل المحافظون المناطق الريفية، والبلدات الصغيرة. ومع التغيير الذي طرأ على بنية الاقتصاد الأميركي، وتراجع دور التصنيع التقليدي لمصلحة التقنيات الحديثة، والصناعات الجديدة، دُفعت القاعدة العمالية التي تعيش في ضواحي المدن نحو الجمهوريين. كذلك، يميل الليبراليون أكثر من المحافظين إلى القول بأن التنوع العرقي والإثني مهمّ في المجتمع. ورغم ذلك، يقول 49 في المائة من الأميركيين إنهم لن يكونوا سعداء إذا تزوّج أحد أفراد الأسرة من شخص لا يؤمن بالله.


مقالات ذات صلة

«صدّقت الضجة الإعلامية»... كامالا هاريس «صُدمت تماماً» من الخسارة أمام ترمب

الولايات المتحدة​ نائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس (رويترز) play-circle

«صدّقت الضجة الإعلامية»... كامالا هاريس «صُدمت تماماً» من الخسارة أمام ترمب

صُدمت نائبة الرئيس الأميركي السابقة كامالا هاريس من هزيمتها أمام الرئيس دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بعد أن «صدقت» الضجة الإعلامية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما ونائبة الرئيس السابقة كامالا هاريس (رويترز) play-circle

تقرير: أوباما عمل ضد هاريس خلف الكواليس في انتخابات 2024

كشفت التقارير عن أن الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لم يؤيد ترشيح الديمقراطيين لنائبة الرئيس آنذاك كامالا هاريس، وذلك في أعقاب انسحاب بايدن من السباق.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يرد على أسئلة وسائل الإعلام في البيت الأبيض يوم 25 مارس 2025 (إ.ب.أ)

ترمب يطالب بإثبات الجنسية الأميركية للسماح بالتصويت في الانتخابات

وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمس (الثلاثاء) أمراً تنفيذياً من شأنه أن يلزم الناخبين بإثبات أنهم مواطنون أميركيون.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
خاص الرئيس دونالد ترمب يستمع إلى إيلون ماسك وهو يتحدث في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (أ.ب)

خاص هل يكون انحدار «تسلا» مدفوعاً بانحيازات إيلون ماسك السياسية؟

كان لتحالف إيلون ماسك مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وانغماسه عميقاً في السياسات الداخلية والخارجية، نتائج قد تكون مقلقة اقتصادياً بالنسبة للشركة ولماسك.

إيلي يوسف (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث بينما يستمع لاعب الغولف تايغر وودز خلال حفل استقبال بمناسبة شهر تاريخ السود في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض... الخميس 20 فبراير 2025 في واشنطن (أ.ب)

ترمب يثير فكرة الترشح لولاية ثالثة «غير دستورية» مجدداً... وأنصاره: نعم لأربع سنوات أخرى

قالت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أثار، الخميس، مجددا فكرة ترشحه لولاية ثالثة، وذلك على الرغم من أنها فكرة تتعارض مع الدستور

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
TT

سياسات مصر السكانية تحقّق اختراقاً نادراً

مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)
مصريون في أحد الأسواق بالقاهرة (الشرق الأوسط)

بعد نحو ستة عقود من الجهود والمساعي الحثيثة لمواجهة الأزمة السكانية، يبدو أن سياسات مصر في هذا الصدد بدأت تؤتي ثمارها، محققة اختراقاً نادراً يتمثل بتراجع معدل المواليد؛ ما ينبئ بإمكانية الوصول إلى المستهدفات بحلول عام 2030. جاء هذا الاختراق مقترناً بما أعلنه نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الصحة الدكتور خالد عبد الغفار، أخيراً، عن «تسجيل أقل معدل نمو سكاني في البلاد خلال الربع الأول من العام الحالي، مقارنة بالربع الأول من 2024 وكذلك عام 2023، في استمرار لانخفاض معدلات الزيادة السكانية على مستوى ربوع البلاد». وهو ما عدَّه وزير الصحة «إنجازاً يعكس نجاح الجهود الحكومية المبذولة لتحقيق التوازن بين النمو السكاني والتنمية المستدامة».

وزير الصحة المصري في جولة داخل أحد المستشفيات (أرشيفية - وزارة الصحة المصرية)

تراجع نمو معدل المواليد لا يعني بالضرورة تراجع عدد السكان أو ثباته. وفيما يخص مصر، فإنها لم تصل بعد إلى نسبة التوازن المستهدفة، التي يتساوى فيها معدل المواليد مع معدل الوفيات أو ما يعرف بـ«السكون السكاني».

ووفق ما أعلنه وزير الصحة المصري، الدكتور خالد عبد الغفار، بلغ عدد السكان في أول يناير (كانون الثاني) 2023 نحو 104.4 مليون نسمة، وارتفع إلى 107.2 مليون نسمة في أول يناير 2025؛ ما يعني أن متوسط معدل النمو السنوي خلال تلك الفترة بلغ نحو 1.34 في المائة، مقارنة بمعدل 1.4 في المائة عام 2024، و1.6 في المائة خلال عام 2023، مشيراً إلى أن ذلك يعكس «تحولاً إيجابياً نتيجة للسياسات السكانية التي تنفذها الدولة».

عدد سكان مصر بلغ عام 1897 نحو 9.7 مليون نسمة، لكنه تزايد تدريجياً حتى أضحت قضية الزيادة السكانية واحدة من القضايا المدرجة على أجندة الدولة المصرية منذ الستينات من القرن الماضي. وبالفعل، أسّس «المجلس الأعلى لتنظيم الأسرة» عام 1965. وفي منتصف الثمانينات أُسّس «المجلس القومي للسكان». ومن ثم تواصلت الجهود للحد من الزيادة السكانية، وكان الحدث الأبرز عام 1994 استضافة مصر مؤتمراً دولياً عن السكان والتنمية، لتتخذ الجهود منحًى آخر أكثر كثافةً ترافق مع حملات إعلامية بشعارات لافتة من قبيل «قبل ما نزيد مولود نتأكد أن حقه علينا موجود».

مؤشر إيجابي

لعقود طويلة دفعت الزيادة السكانية إلى اختناق المدن المصرية، والتهمت موارد الدولة وجهود التنمية، وسط شكاوى حكومية مستمرة من نقص الموارد الكافية للزيادة السكانية.

وسبق أن حذّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراً من النمو السكاني، وعدّه «أكبر خطر يواجه مصر في تاريخها». وفي سبتمبر (أيلول) 2023، أثناء افتتاحه «المؤتمر العالمي الأول للسكان والصحة والتنمية»، قال: «يجب أن يتم تنظيم الإنجاب، وإن لم يتم تنظيمه، فإنه يمكن أن يتسبّب في (كارثة) للبلد».

وأشار السيسي إلى مخاطر النمو السكاني على جهود التنمية، فقال في نهاية عام 2022 إن «النمو السكاني سيأكل البلد». وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2021 قال إن «استمرار النمو بالمعدلات الحالية يعرقل جهود التنمية». وما يذكر أنه عام 2017 عدَّ السيسي «الإرهاب والزيادة السكانية أكبر خطرين يواجهان البلاد».

الآن يبدو أن التحذيرات والجهود بدأت تؤتي ثمارها. ورأى الدكتور مجدي خالد، المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة للسكان وعضو «اللجنة الاستشارية العليا» لتنظيم الأسرة بوزارة الصحة المصرية، في انخفاض معدل المواليد «نتاجاً للسياسات التي تضمنتها الاستراتيجية القومية للسكان». وأوضح لـ«الشرق الأوسط» أن «هذا الانخفاض ليس مفاجئاً ولا عشوائياً، وهو مستمر منذ ثلاث سنوات إثر تدخلات فاعلة تمت خلال السنوات العشر الأخيرة».

وبينما اتفق مقرّر المجلس القومي للسكان السابق، الدكتور عاطف الشيتاني، مع هذا الرأي، فإنه رأى خلال حوار مع «الشرق الأوسط» تراجع معدل المواليد إشارة جيدة وثمرة لجهود مستمرة منذ الستينات، وأردف: «هناك حقائق عدة لا بد من التعامل معها في هذا المجال في إطار خطة استراتيجية لمواجهة الأزمة بنهاية عام 2030».

وأوضح الشيتاني أن «الدولة تسعى للوصول لمرحلة التوازن السكاني، أي زيادة سكانية صفر، بتساوي معدل الوفيات ومعدل المواليد»، مشيراً إلى أن معدل المواليد حالياً يقترب من مليونين سنوياً، في حين يبلغ معدل الوفيات 600 ألف سنوياً.

وفي يناير الماضي، أعلن «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» في مصر أنه «للمرة الأولى منذ عام 2007 لم تتجاوز أعداد المواليد حاجز المليونين»، لافتاً إلى أن عدد المواليد خلال عام 2024 بلغ مليوناً و968 ألف مولود، مقارنة بمليونين و45 ألف مولود عام 2023، في حين بلغ عدد الوفيات 610 آلاف شخص خلال عام 2024، مقارنة بـ583 ألفاً خلال عام 2023.

هذا، وساهمت الحملات المستمرة في انخفاض معدل المواليد سنوياً، قبل أن يعود للارتفاع عام 2014؛ ما دفع إلى تكثيف الجهود مرة أخرى، وفق الشيتاني الذي يرى أن «حركة السكان وسلوكهم الإنجابي لا يمكن تعديلهما في يوم وليلة، فهما مؤشران ثقيلان يحتاجان إلى عقود من الجهد».

وعقب أحداث عام 2011 في مصر، قفز معدل المواليد عام 2012 إلى نحو 32 مولوداً لكل ألف مواطن، وشهد عام 2014 أكبر معدل للمواليد 2014، وبلغ مليونين و720 ألف مولود، قبل أن يعاود الرقم الانخفاض تدريجياً في الأعوام التالية، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

الحذر مطلوب

مع هذا، ورغم أن انخفاض معدل المواليد مؤشر إيجابي، يطالب الشيتاني بالحذر في التعامل مع الأرقام ربع السنوية، وانتظار البيانات الرسمية لنهاية العام، لا سيما وأن معدل المواليد موسمي وربما يزيد في فصل الصيف. ويشرح: «هناك مؤشرات أخرى لا بد من وضعها في الحسبان، من بينها معدل الإنجاب. والدولة تسعى لمعدل إنجاب بمتوسط طفلين لكل سيدة بحلول 2028، في حين يصل المعدل الحالي إلى 2.8 طفل لكل سيدة».

ويلفت الشيتاني إلى نتائج المسح السكاني الصحي لعام 2021، التي أظهرت أن معدل استخدام وسائل تنظيم الأسرة لا يتجاوز 67 في المائة، في حين المستهدف 74 في المائة، وذلك مع أن 20 في المائة من المواليد خلال السنوات الخمس السابقة للمسح الصحي كانوا «غير مخطط لهم». وهذا – وفق الشيتاني – يعني أن «هناك نقصاً في المعلومات، ثم إن الوصول لوسائل تنظيم الأسرة يتطلب جهوداً مكثفة في هذا الإطار».

في سياق موازٍ، بحسب دراسة الجدوى الاقتصادية لإنهاء الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر، التي أطلقها «معهد التخطيط القومي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» في أبريل (نيسان) 2024، تحتاج برامج تنظيم الأسرة إلى استثمار إجمالي قدره 11.1 مليار جنيه (الدولار يساوي 50.9 جنيه في البنوك المصرية)؛ وذلك لتقليل الحاجة غير الملباة لتنظيم الأسرة في مصر لتصل إلى 8.6 في المائة بحلول 2030 وتجنب مليون و400 حالة حمل غير مرغوب فيها.

هذا، ويهدف «البرنامج القومي لتنظيم الأسرة» إلى «تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة للأسر المستفيدة من برنامج (تكافُل) من خلال رفع وعي الأسر المستهدفة وتطوير عيادات تنظيم الأسرة بتكلفة 1.2 مليار جنيه، وتقديم خدمات ووسائل تنظيم الأسرة بالمدن والقرى على مستوى الجمهورية، خصوصاً المناطق النائية والمحرومة، ضمن مبادرة رئيس الجمهورية (حياة كريمة) لرفع معدلات استخدام وسائل تنظيم الأسرة وخفض معدلات الزيادة السكانية».

ويضاف إلى هذا «توقيع الكشف الطبي، وصرف وسائل تنظيم الأسرة وبخاصة الوسائل الطويلة المفعول، والأدوية بالمجان عن طريق اختصاصيي تنظيم الأسرة والنساء والتوليد في العيادات الثابتة والمتنقلة، والمراكز الحضرية، والمستشفيات العامة والمركزية ومراكز رعاية الأمومة والطفولة»، بحسب موقع الرئاسة المصرية.

من جهة أخرى، رغم المؤشرات الإيجابية، يؤكد المدير السابق لـ«صندوق الأمم المتحدة للسكان» أن «تحقيق المستهدفات يتطلب المزيد من الجهد ودراسة الأسباب التي دفعت إلى انخفاض معدل المواليد في محافظات معينة في حين يرتفع في أخرى، ومحاولة تكرار التجربة». وللعلم، سجلت محافظة بورسعيد (بشمال مصر) أدنى معدل نمو سكاني في البلاد بنسبة 0.61 في المائة؛ ما يجعلها أول محافظة تحقق «شبه سكون سكاني».

في المقابل، يمثل إقليم الوجه القبلي (صعيد مصر) أكبر نسبة مواليد؛ إذ بلغت 45 في المائة، مع أنه يشكل 39 في المائة من تعداد السكان، «الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء» بداية العام الحالي. وبيّن «الجهاز» أن محافظات بورسعيد ودمياط والدقهلية والغربية والسويس كانت أقل المحافظات من حيث معدل المواليد لعامي 2024 و2023.

بنايات في القاهرة (تصوير عبد الفتاح فرج)

المرأة هي البطل

على الجانب الآخر صرّح الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، لـ«الشرق الأوسط» بأن التراجع في معدلات المواليد «مرتبط بتغيرات مجتمعية تتعلق بزيادة مستوى التعليم، ونسب عمل المرأة، وتراجع سن الزواج، إضافة إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية... وصحيح أن الدولة وضعت سياسات وخططاً ونظَّمت حملات إعلامية ووفرت وسائل تنظيم الأسرة، لكن العامل الفاعل والبطل في إحداث تغيير كان المرأة وزيادة وعيها العلمي والاقتصادي والمجتمعي».

ما سبق عوامل لم ينكرها المتخصصون في السكان، لكن الشيتاني وخالد يعتقدان أن إثبات دور العوامل المجتمعية من تعليم وأوضاع اقتصادية يحتاج إلى دراسات. وأكدا أن الحقائق تقول إن هناك سياسات حكومية لمكافحة الزيادة السكانية، وهناك تراجع في معدل المواليد بالأرقام، أي عوامل أخرى تحتاج لدراسة».

وكانت الدكتورة عبلة الألفي، نائب وزير الصحة لتنمية الأسرة والمشرفة على «المجلس القومي للسكان»، قد أكدت في تصريحات صحافية أخيراً أن «التراجع الحالي في معدل النمو السكاني جاء نتيجة لتحوّل ثقافي مستقر، وليس تأثيراً ظرفياً ناتجاً من ظروف اقتصادية».

حقائق

الفن والإعلام شاركا في المحاولات الحكومية للتوعية

> وسط تحذيرات متكررة من مخاطر الزيادة السكانية في مصر، وتزامناً مع جهود وسياسات حكومية لخفض معدل الولادات، لعب الإعلام دوراً مهماً، عبر حملات إعلانية وأعمال درامية ناقشت الظاهرة، وحاولت التحذير من مخاطرها، بعضها حفر طريقه في ذاكرة المصريين. وكانت أغنية «حسنين ومحمدين... زينة الشباب الاتنين» التي أدتها الفنانة فاطمة عيد في الثمانينات واحدة من أبرز الحملات الإعلامية في هذا الإطار، عبر التركيز على الفرق بين رجلين أحدهما أنجب 7 أطفال والآخر اكتفى بطفلين. أيضاً قدمت فاطمة عيد في الفترة نفسها إعلان «الست شلبية»، وهو إعلان رسوم متحرّكة يحث النساء على التوجه إلى عيادات تنظيم الأسرة. واعتمدت الحملات الإعلانية على نجوم الفن، وشاركت الفنانة كريمة مختار في إعلانات عدة لتوعية المرأة بأهمية تنظيم الأسرة خلال حقبتي الثمانينات والتسعينات. وتوالت بعد ذلك الحملات الإعلانية، التي ركّز بعضها على الرجل ودوره، كالحملة التي شارك فيها الفنان المصري أحمد ماهر ورفعت شعار «الراجل مش بس بكلمته... الراجل برعايته لبيته وأسرته». أو حملات ركزت على المرأة مثل «بالخلفة الكتير... يتهد حيلك وجوزك يروح لغيرك». وأخرى حاولت التأكيد على أهمية الصحة معتمدة شعار «مش بالكترة بنات وبنين... لاء بالصحة وبالتنظيم». وأخرى للترويج لوسائل تنظيم الأسرة «اسأل... استشير». ولم يقتصر الأمر على الإعلانات، بل امتد إلى الدراما التلفزيونية والسينمائية، وربما من أشهر تلك الأعمال فيلم «أفواه وأرانب» من بطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين 1977، وفيلم «الحفيد» بطولة عبد المنعم مدبولي وكريمة مختار 1974. وتناولت بعض الأفلام تأثير زيادة الإنجاب على الأوضاع الاقتصادية، مثل فيلم «لا تسألني من أنا»، بطولة شادية عام 1984، وفيه باعت البطلة إحدى بناتها لتنفق على باقي أسرتها. وغيرها الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية التي حاولت طرح القضية من زوايا عدة بشكل مباشر أو غير مباشر. وبينما حظيت بعض الأعمال الفنية سواء إعلانات أو دراما بإعجاب الجمهور، فإن أخرى لم تلق استحساناً، مثل إعلان «أبو شنب» عام 2019، الذي جسّد فيه الفنان المصري أكرم حسني شخصية صعيدية بصبغة كوميدية، في إطار حملة توعوية أطلقتها وزارة التضامن الاجتماعي لمكافحة الزيادة السكانية تحت عنوان «2 كفاية» واختارت لها شعار «السند مش في العدد». إذ أثارت الحملة يومذاك انتقادات عدّة، وعدّها البعض تشويهاً لمنطقة الصعيد (جنوب مصر).