حلّ البرلمان البرتغالي يعد اليمين باسترجاع الحكم في أعقاب استقالة رئيس الحكومة

تحقيقات بملفات فساد أطاحت «منارة الأمل» الاشتراكية الأوروبية

رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
TT

حلّ البرلمان البرتغالي يعد اليمين باسترجاع الحكم في أعقاب استقالة رئيس الحكومة

رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)

مطلع العام الحالي، كان رئيس الوزراء البرتغالي المستقيل، أنطونيو كوستا، يتناول طعام العشاء في عاصمة بلاده لشبونة، محفوفاً بالمستشار الألماني لأولاف شولتس، ورئيس الحكومة الإسبانية الأسبق فيليبي غونزاليس، بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للحزب الاشتراكي البرتغالي الذي كان قد أسّسه في المنفى الدكتور ماريو سواريش. ويومذاك أسس سواريش الحزب برفقة مجموعة من المنشقّين عن ديكتاتورية أنطونيو سالازار التي امتدت من ثلاثينات القرن الماضي حتى سقوطها في عام 1974 عندما قامت «ثورة القرنفل»، التي قادتها مجموعة من الضبّاط الذين خدموا في مستعمرات البرتغال الأفريقية. في ذلك العشاء الاحتفالي، قال رئيس «الحزب الاشتراكي الأوروبي» ستيفان لوفين، وهو رئيس وزراء السويد الأسبق، إن كوستا «منارة أمل» بالنسبة للاشتراكيين الأوروبيين، بينما وصفه نظيره الإسباني بيدرو سانتشيز بـ«الحصن الاشتراكي المنيع»، وسط التيار الليبرالي في أوروبا. لكن في مطلع الأسبوع الفائت، خسر الاشتراكيون رئيس الوزراء الاشتراكي الوحيد في أوروبا الذي كان يحكم بغالبية نيابية مطلقة، إلى جانب المالطي روبرت أبيلا، عندما توجه أنطونيو كوستا إلى مقرّ رئاسة الجمهورية ليقدّم استقالته بعد الكشف عن فضيحة فساد تطول عدداً من أقرب معاونيه.

منطقة كوفاس دو بارّوسو (لوسا)

مضى أسبوعان تقريباً على استقالة أنطونيو كوستا، وما زال البرتغاليون في دهشة أمام هذه النهاية الصادمة لحقبة فريدة في تاريخ البرتغال السياسي امتدت ثماني سنوات. وللعلم، كان كثيرون يرجّحون أن تنتهي هذه الحقبة بمنصب رفيع يتولاه كوستا في إحدى مؤسسات «الاتحاد الأوروبي» الذي كان قد استقبله بتحفظ شديد وشكوك عندما وصل للمرة الأولى إلى الحكم في عام 2015 متحالفاً مع كتلة اليسار و«الحزب الشيوعي البرتغالي».

وحقاً، لم يكن أحد يتوقع، بداية الأسبوع الماضي، أن البرتغال ستبدأ، في اليوم التالي، رحلة البحث عن رئيس جديد للحكومة وزعيم للحزب الاشتراكي خلفاً لكوستا، في أعقاب إعلان المحكمة العليا أنها ستفتح تحقيقاً حول دوره في الموافقة على مشروعات كبرى في مجال الطاقة لإنتاج الهيدروجين الأخضر واستخراج الليثيوم. بيد أن كوستا عند مثوله أمام الصحافة ليعلن استقالته، قال نافياً أي ذنب: «أريد أن أقول للبرتغاليين وأنا أُحدّق في عيونهم: إن ضميري مرتاح من أي مخالفة أو تصرّف غير قانوني».

على أية حال، بعد استقالة كوستا، أصبح القرار بيد رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوسا، الذي يجيز له الدستور حل البرلمان، والدعوة لإجراء انتخابات مسبّقة أو مبكرة، أو تكليف شخصية أخرى لتشكيل حكومة جديدة من «الحزب الاشتراكي» الذي يتمتع بغالبية واسعة في البرلمان. غير أنه بعد مشاورات مكثفة مع قيادات الكتل البرلمانية وأعضاء «مجلس الدولة»، قرّر رئيس الجمهورية إنهاء الولاية التشريعية التي كانت قد بدأت في ربيع العام الفائت بعد الانتخابات العامة، ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة ستُجرى في مارس (آذار) المقبل.

فرصة فرناندو ميدينا

من بين الأسماء التي بدأت تتداولها الأوساط السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة قبل قرار دي سوسا حل البرلمان، وزير المال الحالي فرناندو ميدينا، المقرَّب من كوستا، والذي يحظى بتقدير واسع، حتى في بعض أوساط المعارضة التي فتحت هذه الأزمةُ المفاجئة نافذة غير متوقّعة أمامها للعودة إلى الحكم. إلا أن قرار الرئيس قطع عليه الطريق، على الرغم من إصرار «الحزب الاشتراكي» على استعداده لطرح اسم خليفة لسوسا، ما يفتح الآن أمامه باب زعامة الحزب التي أصرّ كوستا أيضاً على الاستقالة منها.

ولعلّ ما يزيد من حظوظ ميدينا الآن في تولّي قيادة «الحزب الاشتراكي» أن هذه الأزمة تتزامن مع مناقشة البرلمان الموازنة العامة التي تسجّل حدثاً غير مسبوق في تاريخ البرتغال الحديث. هذا الحدث هو انخفاض مستوى الدَّين العام إلى ما دون إجمالي الناتج المحلي، بحيث تصبح البرتغال، للمرة الأولى، خارج «نادي» الدول الأوروبية المثقلة بالديون. والواقع أن ثمة إجماعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية، البرتغالية والأوروبية، على أن فرناندو ميدينا أحسن تطبيق سياسة «الحسابات الصحيحة» التي كان كوستا قد جعل منها العماد الأساسي لسياسة حكومته، وذلك منذ شكّل الحكومة، للمرة الأولى، في عام 2015، وتحوّلت، من ثم، إلى هاجسه الأساسي لمنع انزلاق البلاد مرة أخرى نحو الأزمة المالية والاجتماعية الخانقة التي تعرّضت لها عام 2011.

في المقابل، كانت تلك السياسة التقشفية الصارمة التي جعل منها كوستا العنوان الرئيس لإدارته، قد حالت دون إجراء الإصلاحات والاستثمارات الكبرى التي تحتاج إليها البرتغال، إلى أن جاءت مساعدات «صندوق الإنعاش الأوروبي» للنهوض من تبِعات جائحة «كوفيد-19». وقد تقرّر تخصيص جزء مهم من هذه المساعدات لتمويل مشروعات في مجال الطاقة بهدف وقف انبعاثات الكربون في الاقتصادات الأوروبية.

وبالفعل، سارع كوستا حينذاك إلى تبنّي هذا التوجّه، ليجعل منه أساس «الثورة الخضراء»، التي أمل أن تكون إرثه السياسي بعد ثماني سنوات من الحكم، ولا سيما بعدما أصبحت البرتغال - في عهده - رابع أكبر منتج أوروبي للطاقة المتجددة خلف كل من النمسا والسويد والدنمارك. وفي هذا السباق المحموم نحو «تصفير» انبعاثات الكربون، اعتمدت الحكومة الاشتراكية تخفيف القيود والشروط البيئية على الشركات، لتمكينها من الإسراع في تنفيذ مشروعاتها، وتحقيق هدف التصفير بحلول عام 2045. إلا أن تلك التسهيلات أدّت إلى منح تراخيص لمشروعات مثيرة للجدل، منها، مثلاً، منجم استخراج الليثيوم في منطقة كوفاس دو بارّوسو، المشهورة بمزاياها البيئية والزراعية الاستثنائية، التي استحقت معها أنْ أدرجتها «منظمة الأمم المتحدة» على قائمة «التراث الزراعي العالمي». وكان هذا أحد المشروعين الأبرز اللذين أثيرت حولهما الشبهات، إلى جانب مشروع ضخم لإنتاج الهيدروجين الأخضر... ومن ثم تحركت النيابة العامة لفتح تحقيق حول ملابسات الترخيص له.

انطونيو كوستا (إيبا إيفي)

الإنجاز الأبرز الذي حققته حكومة أنطونيو كوستا كان خفض الدَّين العام ومستوى العجز في الموازنة، لكنها أظهرت عجزاً واضحاً عن فتح قنوات للحوار مع بقية القوى السياسية

تحقيقات النيابة العامة

ما يجدر ذكره هنا أن النيابة العامة البرتغالية كانت قد باشرت تحقيقاتها، في أواخر عام 2019، وأسفرت، في مرحلتها الأخيرة، خلال الأسبوعين الأخيرين، عن إلقاء القبض على اثنين من أفراد الدائرة الضيّقة المقرَّبة جداً من أنطونيو كوستا، هما مدير مكتبه فيتور أسكاريا، وصديقه رجل الأعمال البارز ديوغو لاسيردا ماتشادو، وهذا، فضلاً عن توجيه تهمة الاشتباه الرسمي إلى وزير البنى التحتية جواو غالامبا. وقد سبق لغالامبا أن أثار جدلاً واسعاً حول أسلوبه وإدارته التي تسببت أخيراً في تعكير صفاء العلاقة المتينة التي كانت تربط كوستا برئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا، وذلك بعدما أصرّ كوستا على إبقائه في الحكومة، رغم سلسلة الفضائح التي شهدتها وزارته. هذا، وكان قد ورد، في بيان النيابة العامة، أن إلقاء القبض على أسكاريا وماتشادو جاء لقطع الطريق على احتمال فرارهما من وجه العدالة، ومواصلة الأفعال الجنائية والتحقيقات القضائية الجارية، لكشف جميع الملابسات، والتأكد من وقوع الفساد وسوء التصرف بالأموال العامة.

وإلى جانب ما تقدّم، كانت الشرطة القضائية البرتغالية قد نفّذت ما يزيد عن 40 عملية مداهمة، بما فيها مداهمات مقرّات رئاسة الحكومة ووزارات البني التحتية والبيئة، وعدد من المنازل الخاصة والمكاتب القانونية.

من جانبه، قال كوستا، لدى مثوله أمام وسائل الإعلام في القصر الحكومي: «كرامة المنصب تتعارض مع فتح التحقيقات من جانب المحكمة العليا... وأنا من واجبي أن أحافظ على كرامة المؤسسات الديمقراطية». ثم أكّد أنه ما كان على علم بالأفعال التي حرّكت شبهات النيابة العامة، لكن مجرّد الإعلان عن إخضاعه للتحقيق يمنع استمراره في منصب رئيس الحكومة. ثم أضاف: «أنا لستُ فوق القانون، وإذا كانت هناك شبهات فلا بد من التحقيق فيها». وحقاً، جاء في تسريبات نشرتها مجلة «إكسبريسو»، الواسعة الاطلاع، أن النيابة العامة كانت قد أخضعت مكالمات وزير البيئة السابق للتنصّت، بعد الاشتباه بضلوعه في أفعال جنائية. وقد تبيّن أنه تواصل مع رئيس الحكومة في أربع مناسبات، بحثا خلالها اجتذاب استثمارات أوروبية ودولية ضخمة لقطاع إنتاج الطاقة المتجددة في البرتغال.

غير أن المبادرة الجريئة، التي صدرت عن كوستا بتقديمه استقالته، فور إعلان المحكمة العليا إخضاعه للتحقيق - والتي كانت موضع تقدير وثناء في الأوساط السياسية والشعبية - لا تحجب الحالات الكثيرة التي تعرّض فيها عدد من وزرائه لشبهة الفساد في السابق، وانتهت بخروجهم من الحكومة؛ ليس بضغط من رئيس الحكومة، بل بفعل التحقيقات القضائية وتبِعاتها.

استحقاقان صعبان للاشتراكيين

على صعيد آخر، يرجّح المطّلعون أن السبب الرئيس الذي حدا برئيس الجمهورية البرتغالي إلى رفض التجاوب مع الدعوات لتكليف شخصية من الغالبية البرلمانية الاشتراكية لتشكيل حكومة جديدة، أنه في أعقاب انتخابات العام الفائت التي نال فيها «الحزب الاشتراكي» الغالبية المطلقة، أبلغ كوستا صراحةً بأن الغالبية هي، في المقام الأول، له شخصياً. وهو ما يعني أن رحيله لتولي منصب أوروبي رفيع - كما كان متداولاً - يعني نهاية الولاية التشريعية للبرلمان المنتخب.

مهما يكن من أمر، فإن الإنجاز الأبرز الذي حققته حكومة أنطونيو كوستا كان خفض الدين العام ومستوى العجز في الموازنة، لكنها في المقابل أظهرت عجزاً واضحاً عن فتح قنوات للحوار مع بقية القوى السياسية الممثلة في البرلمان والنقابات العمالية. واليوم، يواجه الاشتراكيون استحقاقاً صعباً على جبهتين:

الأولى هي التوافق على زعيم جديد للحزب الذي يعاني انقسامات داخلية كان كوستا قادراً على تهدئتها.

والثانية تجاوز الإرث الصعب الذي تركته فضائح الفساد التي دفعت كوستا إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الرئيس المستقيل كان قد خصّص قسطاً كبيراً من جهوده لتطهير الحزب من أدران الفساد الذي كان قد نخره على عهد رئيس الوزراء الأسبق، خوسيه سوقراطيس، الذي حُكم عليه بالسجن عام 2014 بسبب ضلوعه في فضيحة فساد مالي.

وضع معسكر اليمين

على الجانب اليميني، «الحزب الاجتماعي الديمقراطي» اليميني وحده قادر على تغيير المعادلة البرلمانية الراهنة، وخصوصاً إذا أُجريت الانتخابات المسبّقة، بعدما يكون القضاء قد أصدر أحكام الإدانة في قضايا الفساد التي هزّت أركان الحزب الاشتراكي.

والحقيقة أن الاجتماعيين الديمقراطيين يرون في الأزمة الراهنة فرصة ذهبية للعودة إلى الحكم، غير أن حزبهم سيحتاج إلى التحالف مع أحزاب أخرى، وخصوصاً مع «حزب المبادرة الليبرالية»، والحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي حقق صعوداً لافتاً في الانتخابات الأخيرة. ووفق المراقبين والمحللين، تبدو حظوظ «الحزب الاجتماعي الديمقراطي» في التحالف مع القوى اليمينية أوفر بكثير من حظوظ الاشتراكيين في التحالف مع أحزاب اليسار الذي قطع معهم خطوط التواصل في الفترة الأخيرة بسبب من السياسة الوسطية واليمينية التي انتهجتها حكومة كوستا.

وهنا، يقول المراقبون في الأوساط السياسية البرتغالية إن الدرس الذي أعطاه أنطونيو كوستا في الأخلاقيات السياسية، يوم الثلاثاء الفائت، عندما هرع إلى رئيس الجمهورية لتقديم استقالته فور الإعلان عن إخضاعه للتحقيق، وقوله إنه لا يعرف بالضبط التهم الموجهة إليه، لا يعفيه من مسؤولية تطبيق معاييره للنزاهة على أقرب معاونيه، ولا سيما أن كثيرين كانوا قد حذّروه من عواقب «الصداقة المتينة» التي تربطه برجل الأعمال المثير للجدل، ديوغو لاسيردا ماتشادو.

وللعلم، تعود الصداقة بين الرجلين إلى أيام الدراسة الجامعية في كلية الحقوق بجامعة لشبونة، وظلت تتوطّد إلى أن طلب كوستا من صديقه أن يكون إشبينه (مرافقه المقرَّب) يوم زفافه، كما أصرّ على أن يبقى قريباً منه منذ أن تولّى رئاسة الحكومة. وبعدها، كانت أول مهمة كلّف كوستا صديقه بتوليها هي تأميم شركة الطيران الوطنية «تاب»، بعدما كانت الحكومة السابقة قد وضعتها في يد القطاع الخاص، ليتولّى ماتشادو بعد ذلك رئاسة مجلس إدارتها.

بعد ذلك عاد كوستا وكلّف ماتشادو بإدارة الأزمة مع المتضرّرين من أزمة انهيار مصرف «سبيريتو سانتو»؛ أحد أكبر المصارف البرتغالية وأعرقها، ثم كلّفة بتسوية النزاع بين مصرف «كايشا» وابنة الرئيس الأنغولي الأسبق جوزيه إدواردو دو سانتوس؛ الملاحَقة دولياً في عدد من قضايا الفساد واختلاس المال العام. وقد تمّ ذلك التكليف دون أن يُخضع لرقابة الإدارة العامة، ما تسبَّب في عاصفة من الانتقادات والجدل دفعت كوستا إلى اتخاذ قرار بالتعاقد مع صديقه براتب رمزي قدره 2000 يورو شهرياً. وهنا أيضاً تجدر الإشارة إلى أن ماتشادو، الذي تدور حوله معظم الشبهات في هذه الفضائح التي أدت إلى استقالة كوستا، لا ينتمي أصلاً إلى «الحزب الاشتراكي»، بل كان فقط مستشاراً لكوستا عندما تولّى هذا الأخير حقيبة العدل في الحكومة التي ترأسها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ولعلّ ما يستحق الإشارة في هذا السياق أن صداقة وطيدة تربط غوتيريش برئيس الوزراء المستقيل كوستا.

وإلى جانب كل ذلك، كان مدير مكتب كوستا، فيتور أسكاريا الذي أُلقي القبض عليه أيضاً، قد اضطر للاستقالة عام 2017 من منصبه بصفته مستشاراً اقتصادياً لرئيس الوزراء بسبب فضيحة قبوله هدايا ودعوات لرحلات سياحية مع أسرته لحضور نهائيات «كأس الأمم الأوروبية» في فرنسا عام 2016.

 

ببدرو نونو سانتوس (لوسا)

خلافة كوستا بين خياري الاستمرارية والتوجه يساراً

> تحولت البرتغال، خلال السنوات الماضية، بفضل قيادة أنطونيو كوستا ومهارته في فتح قنوات الحوار مع الخصوم السياسيين والتوافق على القضايا الكبرى، إلى قدوة في الاستقرار السياسي الديمقراطي والعمل الطبيعي للمؤسسات العامة في محيط أوروبي دائم التأرجح على شفا الأزمات والاهتزازات السياسية. ورغم خطورة الفضائح التي أدَّت إلى استقالة كوستا، ينبغي التوقف عند ظاهرتين: الأولى موقف كوستا الذي، رغم الغالبية الواسعة التي تؤيده في البرلمان، قرر الاستقالة، لإدراكه مدى الضرر الذي يلحقه بقاؤه في المنصب، خلال الإجراءات القضائية، بالمؤسسات العامة. والثانية تأكيد استقلالية القضاء البرتغالي الذي يؤدي عمله دون أن يتأثر بمستوى المسؤولية العامة التي يتولاها الأشخاص الذين يخضعون لملاحقة الأجهزة وتحقيقاتها. ولا شك في أن قرار رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوسا بإجراء الانتخابات المسبقة على أعتاب الربيع المقبل، هو لإفساح المجال الكافي أمام «الحزب الاشتراكي» كي يعيد تنظيم صفوفه وانتخاب زعيم جديد في الأشهر المقبلة. ووفق المعطيات الراهنة، بين الأسماء الأخرى التي ينتظر أن تنافس فرناندو ميدينا على زعامة الحزب، الوزير السابق للبنى التحتية بيدرو نونو سانتوس. وكان هذا الأخير قد استقال من حكومة كوستا في عام 2021، بعد تفاقم الخلاف بينهما حول سياسة التحالفات البرلمانية لتعزيز الغالبية التي تتمتع بها الحكومة في البرلمان. هذا، ويقود نونو سانتوس التيار الذي يدعو إلى الانفتاح على الأحزاب اليسارية، ومنها «الحزب الشيوعي»، والعودة إلى اتباع سياسة يسارية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، في حين كان كوستا مؤيداً للانفتاح على الأحزاب الوسطية، واتباع سياسة اقتصادية أقرب إلى البرنامج الليبرالي، مع تخفيض الخدمات الاجتماعية للطبقة العاملة وموظفي القطاع العام.


مقالات ذات صلة

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

حصاد الأسبوع كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

حصاد الأسبوع ديفيد لامي

ديفيد لامي... وجه الدبلوماسية البريطانية الجديد يواجه قضايا عالمية شائكة

انتهت 14 سنة من حكم حزب المحافظين باتجاه بريطانيا يساراً مع تحقيق حزب العمال تحت زعامة السير كير ستارمر فوزاً ساحقاً منحه غالبية ضخمة بلغت 172 مقعداً. وفي حين توقف المحللون طويلاً عند حقيقة أن هذا الفوز الساحق لم يأت نتيجة زيادة كبرى في نسبة التأييد عما حصل عليه العمال في الانتخابات السابقة قبل 4 سنوات، بل بسبب انهيار الأحزاب والقوى المنافسة للحزب في عموم المناطق البريطانية التي كان يسعى إلى كسبها. وحقاً أدى تحدّي حزب الإصلاح الانعزالي اليميني المناوئ للهجرة وللتكامل الأوروبي إلى قضمه نسبة عالية وقاتلة من أصوات المحافظين ما أدى إلى انهيارهم في معاقلهم التقليدية. كذلك انهار الحزب القومي الأسكوتلندي في أسكوتلندا، وكانت الحصيلة إعادة العمال هيمنتهم عليها. ومن جهة ثانية، بينما كانت القضايا الداخلية - والاقتصادية بالذات - في اهتمامات الناخبين، فإن أنظار المتابعين الدوليين اتجهت إلى معالم السياسة الخارجية للحكومة العمالية الجديدة، أما الوجه الجديد الذي سيقود الدبلوماسية البريطانية للسنوات القليلة المقبلة فهو وزير الخارجية الجديد ديفيد لامي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع جيريمي كوربن (رويترز)

سنوات المحافظين الـ14 الأخيرة غيّرت الكثير في بريطانيا

> شهدت السنوات الـ14 الأخيرة تغيّرات مهمة على مشهد الساحة السياسية البريطانية أثّرت في كيميائها داخلياً وبدلت الكثير من الأولويات والمقاربات لمعظم القضايا .

حصاد الأسبوع الرئيس قيس سعيّد ... يعد العدة لاختبار انتخابي مهم. (رويترز)

تونس... على أبواب انتخاباتها الرئاسية الجديدة

تعيش تونس هذه المدة أجواء ما قبل الانتخابات الرئاسية الثالثة منذ إطاحة حكم الرئيس زين العابدين بن علي في يناير (كانون الثاني) 2011. إذ أعلنت السلطات و«الهيئة العليا للانتخابات» عن انطلاق العملية الانتخابية رسمياً يوم 14 يوليو (تموز) الحالي. ومن المقرر الكشف عن القائمة النهائية للمرشحين المقبولين في آخر الأسبوع الأول من أغسطس (آب) المقبل، في حين تنطلق الحملات الانتخابية الرسمية خلال سبتمبر (أيلول) تأهباً ليوم الاقتراع العام وهو 6 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل. بيد أن هذه الانتخابات تنظم في «مناخ استثنائي جداً» وفق معظم المراقبين، وسط استفحال مظاهر أزمة اقتصادية اجتماعية سياسية أثرت في خطب غالبية المرشحين والسياسيين وأولوياتهم. وبالتالي، تكثر التساؤلات حول مدى انعكاس الملفات الاقتصادية الاجتماعية «الحارقة» على العملية الانتخابية الجديدة وعلى المشهد السياسي... وهل سيستفيد من هذه الملفات ممثلو المعارضة والنقابات أم الرئيس قيس سعيّد، الذي أعلن رسمياً ترشحه لدورة ثانية، وعاد إلى اتهام «المتآمرين على الأمن القومي للبلاد» بتأزيم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وقطع الكهرباء والماء ومواد الاستهلاك عن المواطنين لأسباب سياسية وانتخابية أو «خدمة لأجندات أجنبية».

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد،

شوقي الريّس (بروكسل)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

 

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».