حلّ البرلمان البرتغالي يعد اليمين باسترجاع الحكم في أعقاب استقالة رئيس الحكومة

تحقيقات بملفات فساد أطاحت «منارة الأمل» الاشتراكية الأوروبية

رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
TT

حلّ البرلمان البرتغالي يعد اليمين باسترجاع الحكم في أعقاب استقالة رئيس الحكومة

رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)
رئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا... دعا إلى انتخاب برلمان جديد (إيبا إيفي)

مطلع العام الحالي، كان رئيس الوزراء البرتغالي المستقيل، أنطونيو كوستا، يتناول طعام العشاء في عاصمة بلاده لشبونة، محفوفاً بالمستشار الألماني لأولاف شولتس، ورئيس الحكومة الإسبانية الأسبق فيليبي غونزاليس، بمناسبة الاحتفال باليوبيل الذهبي للحزب الاشتراكي البرتغالي الذي كان قد أسّسه في المنفى الدكتور ماريو سواريش. ويومذاك أسس سواريش الحزب برفقة مجموعة من المنشقّين عن ديكتاتورية أنطونيو سالازار التي امتدت من ثلاثينات القرن الماضي حتى سقوطها في عام 1974 عندما قامت «ثورة القرنفل»، التي قادتها مجموعة من الضبّاط الذين خدموا في مستعمرات البرتغال الأفريقية. في ذلك العشاء الاحتفالي، قال رئيس «الحزب الاشتراكي الأوروبي» ستيفان لوفين، وهو رئيس وزراء السويد الأسبق، إن كوستا «منارة أمل» بالنسبة للاشتراكيين الأوروبيين، بينما وصفه نظيره الإسباني بيدرو سانتشيز بـ«الحصن الاشتراكي المنيع»، وسط التيار الليبرالي في أوروبا. لكن في مطلع الأسبوع الفائت، خسر الاشتراكيون رئيس الوزراء الاشتراكي الوحيد في أوروبا الذي كان يحكم بغالبية نيابية مطلقة، إلى جانب المالطي روبرت أبيلا، عندما توجه أنطونيو كوستا إلى مقرّ رئاسة الجمهورية ليقدّم استقالته بعد الكشف عن فضيحة فساد تطول عدداً من أقرب معاونيه.

منطقة كوفاس دو بارّوسو (لوسا)

مضى أسبوعان تقريباً على استقالة أنطونيو كوستا، وما زال البرتغاليون في دهشة أمام هذه النهاية الصادمة لحقبة فريدة في تاريخ البرتغال السياسي امتدت ثماني سنوات. وللعلم، كان كثيرون يرجّحون أن تنتهي هذه الحقبة بمنصب رفيع يتولاه كوستا في إحدى مؤسسات «الاتحاد الأوروبي» الذي كان قد استقبله بتحفظ شديد وشكوك عندما وصل للمرة الأولى إلى الحكم في عام 2015 متحالفاً مع كتلة اليسار و«الحزب الشيوعي البرتغالي».

وحقاً، لم يكن أحد يتوقع، بداية الأسبوع الماضي، أن البرتغال ستبدأ، في اليوم التالي، رحلة البحث عن رئيس جديد للحكومة وزعيم للحزب الاشتراكي خلفاً لكوستا، في أعقاب إعلان المحكمة العليا أنها ستفتح تحقيقاً حول دوره في الموافقة على مشروعات كبرى في مجال الطاقة لإنتاج الهيدروجين الأخضر واستخراج الليثيوم. بيد أن كوستا عند مثوله أمام الصحافة ليعلن استقالته، قال نافياً أي ذنب: «أريد أن أقول للبرتغاليين وأنا أُحدّق في عيونهم: إن ضميري مرتاح من أي مخالفة أو تصرّف غير قانوني».

على أية حال، بعد استقالة كوستا، أصبح القرار بيد رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوسا، الذي يجيز له الدستور حل البرلمان، والدعوة لإجراء انتخابات مسبّقة أو مبكرة، أو تكليف شخصية أخرى لتشكيل حكومة جديدة من «الحزب الاشتراكي» الذي يتمتع بغالبية واسعة في البرلمان. غير أنه بعد مشاورات مكثفة مع قيادات الكتل البرلمانية وأعضاء «مجلس الدولة»، قرّر رئيس الجمهورية إنهاء الولاية التشريعية التي كانت قد بدأت في ربيع العام الفائت بعد الانتخابات العامة، ودعا إلى إجراء انتخابات جديدة ستُجرى في مارس (آذار) المقبل.

فرصة فرناندو ميدينا

من بين الأسماء التي بدأت تتداولها الأوساط السياسية لتشكيل الحكومة الجديدة قبل قرار دي سوسا حل البرلمان، وزير المال الحالي فرناندو ميدينا، المقرَّب من كوستا، والذي يحظى بتقدير واسع، حتى في بعض أوساط المعارضة التي فتحت هذه الأزمةُ المفاجئة نافذة غير متوقّعة أمامها للعودة إلى الحكم. إلا أن قرار الرئيس قطع عليه الطريق، على الرغم من إصرار «الحزب الاشتراكي» على استعداده لطرح اسم خليفة لسوسا، ما يفتح الآن أمامه باب زعامة الحزب التي أصرّ كوستا أيضاً على الاستقالة منها.

ولعلّ ما يزيد من حظوظ ميدينا الآن في تولّي قيادة «الحزب الاشتراكي» أن هذه الأزمة تتزامن مع مناقشة البرلمان الموازنة العامة التي تسجّل حدثاً غير مسبوق في تاريخ البرتغال الحديث. هذا الحدث هو انخفاض مستوى الدَّين العام إلى ما دون إجمالي الناتج المحلي، بحيث تصبح البرتغال، للمرة الأولى، خارج «نادي» الدول الأوروبية المثقلة بالديون. والواقع أن ثمة إجماعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية، البرتغالية والأوروبية، على أن فرناندو ميدينا أحسن تطبيق سياسة «الحسابات الصحيحة» التي كان كوستا قد جعل منها العماد الأساسي لسياسة حكومته، وذلك منذ شكّل الحكومة، للمرة الأولى، في عام 2015، وتحوّلت، من ثم، إلى هاجسه الأساسي لمنع انزلاق البلاد مرة أخرى نحو الأزمة المالية والاجتماعية الخانقة التي تعرّضت لها عام 2011.

في المقابل، كانت تلك السياسة التقشفية الصارمة التي جعل منها كوستا العنوان الرئيس لإدارته، قد حالت دون إجراء الإصلاحات والاستثمارات الكبرى التي تحتاج إليها البرتغال، إلى أن جاءت مساعدات «صندوق الإنعاش الأوروبي» للنهوض من تبِعات جائحة «كوفيد-19». وقد تقرّر تخصيص جزء مهم من هذه المساعدات لتمويل مشروعات في مجال الطاقة بهدف وقف انبعاثات الكربون في الاقتصادات الأوروبية.

وبالفعل، سارع كوستا حينذاك إلى تبنّي هذا التوجّه، ليجعل منه أساس «الثورة الخضراء»، التي أمل أن تكون إرثه السياسي بعد ثماني سنوات من الحكم، ولا سيما بعدما أصبحت البرتغال - في عهده - رابع أكبر منتج أوروبي للطاقة المتجددة خلف كل من النمسا والسويد والدنمارك. وفي هذا السباق المحموم نحو «تصفير» انبعاثات الكربون، اعتمدت الحكومة الاشتراكية تخفيف القيود والشروط البيئية على الشركات، لتمكينها من الإسراع في تنفيذ مشروعاتها، وتحقيق هدف التصفير بحلول عام 2045. إلا أن تلك التسهيلات أدّت إلى منح تراخيص لمشروعات مثيرة للجدل، منها، مثلاً، منجم استخراج الليثيوم في منطقة كوفاس دو بارّوسو، المشهورة بمزاياها البيئية والزراعية الاستثنائية، التي استحقت معها أنْ أدرجتها «منظمة الأمم المتحدة» على قائمة «التراث الزراعي العالمي». وكان هذا أحد المشروعين الأبرز اللذين أثيرت حولهما الشبهات، إلى جانب مشروع ضخم لإنتاج الهيدروجين الأخضر... ومن ثم تحركت النيابة العامة لفتح تحقيق حول ملابسات الترخيص له.

انطونيو كوستا (إيبا إيفي)

الإنجاز الأبرز الذي حققته حكومة أنطونيو كوستا كان خفض الدَّين العام ومستوى العجز في الموازنة، لكنها أظهرت عجزاً واضحاً عن فتح قنوات للحوار مع بقية القوى السياسية

تحقيقات النيابة العامة

ما يجدر ذكره هنا أن النيابة العامة البرتغالية كانت قد باشرت تحقيقاتها، في أواخر عام 2019، وأسفرت، في مرحلتها الأخيرة، خلال الأسبوعين الأخيرين، عن إلقاء القبض على اثنين من أفراد الدائرة الضيّقة المقرَّبة جداً من أنطونيو كوستا، هما مدير مكتبه فيتور أسكاريا، وصديقه رجل الأعمال البارز ديوغو لاسيردا ماتشادو، وهذا، فضلاً عن توجيه تهمة الاشتباه الرسمي إلى وزير البنى التحتية جواو غالامبا. وقد سبق لغالامبا أن أثار جدلاً واسعاً حول أسلوبه وإدارته التي تسببت أخيراً في تعكير صفاء العلاقة المتينة التي كانت تربط كوستا برئيس الجمهورية ريبيلو دي سوسا، وذلك بعدما أصرّ كوستا على إبقائه في الحكومة، رغم سلسلة الفضائح التي شهدتها وزارته. هذا، وكان قد ورد، في بيان النيابة العامة، أن إلقاء القبض على أسكاريا وماتشادو جاء لقطع الطريق على احتمال فرارهما من وجه العدالة، ومواصلة الأفعال الجنائية والتحقيقات القضائية الجارية، لكشف جميع الملابسات، والتأكد من وقوع الفساد وسوء التصرف بالأموال العامة.

وإلى جانب ما تقدّم، كانت الشرطة القضائية البرتغالية قد نفّذت ما يزيد عن 40 عملية مداهمة، بما فيها مداهمات مقرّات رئاسة الحكومة ووزارات البني التحتية والبيئة، وعدد من المنازل الخاصة والمكاتب القانونية.

من جانبه، قال كوستا، لدى مثوله أمام وسائل الإعلام في القصر الحكومي: «كرامة المنصب تتعارض مع فتح التحقيقات من جانب المحكمة العليا... وأنا من واجبي أن أحافظ على كرامة المؤسسات الديمقراطية». ثم أكّد أنه ما كان على علم بالأفعال التي حرّكت شبهات النيابة العامة، لكن مجرّد الإعلان عن إخضاعه للتحقيق يمنع استمراره في منصب رئيس الحكومة. ثم أضاف: «أنا لستُ فوق القانون، وإذا كانت هناك شبهات فلا بد من التحقيق فيها». وحقاً، جاء في تسريبات نشرتها مجلة «إكسبريسو»، الواسعة الاطلاع، أن النيابة العامة كانت قد أخضعت مكالمات وزير البيئة السابق للتنصّت، بعد الاشتباه بضلوعه في أفعال جنائية. وقد تبيّن أنه تواصل مع رئيس الحكومة في أربع مناسبات، بحثا خلالها اجتذاب استثمارات أوروبية ودولية ضخمة لقطاع إنتاج الطاقة المتجددة في البرتغال.

غير أن المبادرة الجريئة، التي صدرت عن كوستا بتقديمه استقالته، فور إعلان المحكمة العليا إخضاعه للتحقيق - والتي كانت موضع تقدير وثناء في الأوساط السياسية والشعبية - لا تحجب الحالات الكثيرة التي تعرّض فيها عدد من وزرائه لشبهة الفساد في السابق، وانتهت بخروجهم من الحكومة؛ ليس بضغط من رئيس الحكومة، بل بفعل التحقيقات القضائية وتبِعاتها.

استحقاقان صعبان للاشتراكيين

على صعيد آخر، يرجّح المطّلعون أن السبب الرئيس الذي حدا برئيس الجمهورية البرتغالي إلى رفض التجاوب مع الدعوات لتكليف شخصية من الغالبية البرلمانية الاشتراكية لتشكيل حكومة جديدة، أنه في أعقاب انتخابات العام الفائت التي نال فيها «الحزب الاشتراكي» الغالبية المطلقة، أبلغ كوستا صراحةً بأن الغالبية هي، في المقام الأول، له شخصياً. وهو ما يعني أن رحيله لتولي منصب أوروبي رفيع - كما كان متداولاً - يعني نهاية الولاية التشريعية للبرلمان المنتخب.

مهما يكن من أمر، فإن الإنجاز الأبرز الذي حققته حكومة أنطونيو كوستا كان خفض الدين العام ومستوى العجز في الموازنة، لكنها في المقابل أظهرت عجزاً واضحاً عن فتح قنوات للحوار مع بقية القوى السياسية الممثلة في البرلمان والنقابات العمالية. واليوم، يواجه الاشتراكيون استحقاقاً صعباً على جبهتين:

الأولى هي التوافق على زعيم جديد للحزب الذي يعاني انقسامات داخلية كان كوستا قادراً على تهدئتها.

والثانية تجاوز الإرث الصعب الذي تركته فضائح الفساد التي دفعت كوستا إلى الاستقالة، وخصوصاً أن الرئيس المستقيل كان قد خصّص قسطاً كبيراً من جهوده لتطهير الحزب من أدران الفساد الذي كان قد نخره على عهد رئيس الوزراء الأسبق، خوسيه سوقراطيس، الذي حُكم عليه بالسجن عام 2014 بسبب ضلوعه في فضيحة فساد مالي.

وضع معسكر اليمين

على الجانب اليميني، «الحزب الاجتماعي الديمقراطي» اليميني وحده قادر على تغيير المعادلة البرلمانية الراهنة، وخصوصاً إذا أُجريت الانتخابات المسبّقة، بعدما يكون القضاء قد أصدر أحكام الإدانة في قضايا الفساد التي هزّت أركان الحزب الاشتراكي.

والحقيقة أن الاجتماعيين الديمقراطيين يرون في الأزمة الراهنة فرصة ذهبية للعودة إلى الحكم، غير أن حزبهم سيحتاج إلى التحالف مع أحزاب أخرى، وخصوصاً مع «حزب المبادرة الليبرالية»، والحزب اليميني المتطرف «شيغا» الذي حقق صعوداً لافتاً في الانتخابات الأخيرة. ووفق المراقبين والمحللين، تبدو حظوظ «الحزب الاجتماعي الديمقراطي» في التحالف مع القوى اليمينية أوفر بكثير من حظوظ الاشتراكيين في التحالف مع أحزاب اليسار الذي قطع معهم خطوط التواصل في الفترة الأخيرة بسبب من السياسة الوسطية واليمينية التي انتهجتها حكومة كوستا.

وهنا، يقول المراقبون في الأوساط السياسية البرتغالية إن الدرس الذي أعطاه أنطونيو كوستا في الأخلاقيات السياسية، يوم الثلاثاء الفائت، عندما هرع إلى رئيس الجمهورية لتقديم استقالته فور الإعلان عن إخضاعه للتحقيق، وقوله إنه لا يعرف بالضبط التهم الموجهة إليه، لا يعفيه من مسؤولية تطبيق معاييره للنزاهة على أقرب معاونيه، ولا سيما أن كثيرين كانوا قد حذّروه من عواقب «الصداقة المتينة» التي تربطه برجل الأعمال المثير للجدل، ديوغو لاسيردا ماتشادو.

وللعلم، تعود الصداقة بين الرجلين إلى أيام الدراسة الجامعية في كلية الحقوق بجامعة لشبونة، وظلت تتوطّد إلى أن طلب كوستا من صديقه أن يكون إشبينه (مرافقه المقرَّب) يوم زفافه، كما أصرّ على أن يبقى قريباً منه منذ أن تولّى رئاسة الحكومة. وبعدها، كانت أول مهمة كلّف كوستا صديقه بتوليها هي تأميم شركة الطيران الوطنية «تاب»، بعدما كانت الحكومة السابقة قد وضعتها في يد القطاع الخاص، ليتولّى ماتشادو بعد ذلك رئاسة مجلس إدارتها.

بعد ذلك عاد كوستا وكلّف ماتشادو بإدارة الأزمة مع المتضرّرين من أزمة انهيار مصرف «سبيريتو سانتو»؛ أحد أكبر المصارف البرتغالية وأعرقها، ثم كلّفة بتسوية النزاع بين مصرف «كايشا» وابنة الرئيس الأنغولي الأسبق جوزيه إدواردو دو سانتوس؛ الملاحَقة دولياً في عدد من قضايا الفساد واختلاس المال العام. وقد تمّ ذلك التكليف دون أن يُخضع لرقابة الإدارة العامة، ما تسبَّب في عاصفة من الانتقادات والجدل دفعت كوستا إلى اتخاذ قرار بالتعاقد مع صديقه براتب رمزي قدره 2000 يورو شهرياً. وهنا أيضاً تجدر الإشارة إلى أن ماتشادو، الذي تدور حوله معظم الشبهات في هذه الفضائح التي أدت إلى استقالة كوستا، لا ينتمي أصلاً إلى «الحزب الاشتراكي»، بل كان فقط مستشاراً لكوستا عندما تولّى هذا الأخير حقيبة العدل في الحكومة التي ترأسها الأمين العام الحالي للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. ولعلّ ما يستحق الإشارة في هذا السياق أن صداقة وطيدة تربط غوتيريش برئيس الوزراء المستقيل كوستا.

وإلى جانب كل ذلك، كان مدير مكتب كوستا، فيتور أسكاريا الذي أُلقي القبض عليه أيضاً، قد اضطر للاستقالة عام 2017 من منصبه بصفته مستشاراً اقتصادياً لرئيس الوزراء بسبب فضيحة قبوله هدايا ودعوات لرحلات سياحية مع أسرته لحضور نهائيات «كأس الأمم الأوروبية» في فرنسا عام 2016.

 

ببدرو نونو سانتوس (لوسا)

خلافة كوستا بين خياري الاستمرارية والتوجه يساراً

> تحولت البرتغال، خلال السنوات الماضية، بفضل قيادة أنطونيو كوستا ومهارته في فتح قنوات الحوار مع الخصوم السياسيين والتوافق على القضايا الكبرى، إلى قدوة في الاستقرار السياسي الديمقراطي والعمل الطبيعي للمؤسسات العامة في محيط أوروبي دائم التأرجح على شفا الأزمات والاهتزازات السياسية. ورغم خطورة الفضائح التي أدَّت إلى استقالة كوستا، ينبغي التوقف عند ظاهرتين: الأولى موقف كوستا الذي، رغم الغالبية الواسعة التي تؤيده في البرلمان، قرر الاستقالة، لإدراكه مدى الضرر الذي يلحقه بقاؤه في المنصب، خلال الإجراءات القضائية، بالمؤسسات العامة. والثانية تأكيد استقلالية القضاء البرتغالي الذي يؤدي عمله دون أن يتأثر بمستوى المسؤولية العامة التي يتولاها الأشخاص الذين يخضعون لملاحقة الأجهزة وتحقيقاتها. ولا شك في أن قرار رئيس الجمهورية مارسيلو ريبيلو دي سوسا بإجراء الانتخابات المسبقة على أعتاب الربيع المقبل، هو لإفساح المجال الكافي أمام «الحزب الاشتراكي» كي يعيد تنظيم صفوفه وانتخاب زعيم جديد في الأشهر المقبلة. ووفق المعطيات الراهنة، بين الأسماء الأخرى التي ينتظر أن تنافس فرناندو ميدينا على زعامة الحزب، الوزير السابق للبنى التحتية بيدرو نونو سانتوس. وكان هذا الأخير قد استقال من حكومة كوستا في عام 2021، بعد تفاقم الخلاف بينهما حول سياسة التحالفات البرلمانية لتعزيز الغالبية التي تتمتع بها الحكومة في البرلمان. هذا، ويقود نونو سانتوس التيار الذي يدعو إلى الانفتاح على الأحزاب اليسارية، ومنها «الحزب الشيوعي»، والعودة إلى اتباع سياسة يسارية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، في حين كان كوستا مؤيداً للانفتاح على الأحزاب الوسطية، واتباع سياسة اقتصادية أقرب إلى البرنامج الليبرالي، مع تخفيض الخدمات الاجتماعية للطبقة العاملة وموظفي القطاع العام.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».