بولندا تأمل في العودة إلى أوروبا مع استعادة توسك الحكم

بروكسل متفائلة بهزيمة اليمين المتشدد رغم استمرار القلق

حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)
حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)
TT

بولندا تأمل في العودة إلى أوروبا مع استعادة توسك الحكم

حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)
حشد انتخابي وعرض عضلات في العاصمة وارسو لتحالف المعارضة البولندية الفائز (رويترز)

لم تحظ الانتخابات التي شهدتها بولندا الأحد الماضي بالكثير من الاهتمام، ومع ذلك، فإن متابعيها وصفوها بأنها كانت الانتخابات الأهم التي مرّت على البلاد منذ سنوات، وربما منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. السنوات الـ8 الماضية التي حكم خلالها حزب «القانون والعدالة» اليميني المتشدد بولندا، سجّلت تراجعاً كبيراً في مستوى الحريات العامة قياساً بمعايير الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، دخلت الحكومة التي يرأسها ماتيوش ماروفييتسكي في مسار المواجهة الدائمة مع الاتحاد. بل، دفعت الأمور المفوضية الأوروبية إلى تجميد ما يقارب الـ35 مليون يورو كمساعدات سبق أن أُقرّت عام 2020 للدول الأعضاء لمواجهة تبعات جائحة «كوفيد - 19». وجاء قرار تجميد الأموال رداً على تغييرات قضائية أدخلتها الحكومة اليمينية، وعدّت المفوضية أنها تقوض الحريات وتؤثر على استقلالية القضاء. غير أن نتائج انتخابات الأحد الماضي أظهرت تقدّم ائتلاف يضم 3 أحزاب يقودها دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي سابقاً وزعيم حزب «المنبر المدني» ورئيس الحكومة البولندية بين 2007 و2014. ومع أن حزب «القانون والعدالة» حصل على أكبر نسبة من الأصوات قاربت الـ37 في المائة، فإنه سيعجز عن تشكيل ائتلاف حكومي؛ لأن شريكه المحتمل لم يحصل على أصوات كافية تخولهما الحكم بغالبية مطلقة. وهكذا، فُتح الباب أمام توسك ليشكل إئتلافاً حاكماً يضم 3 أحزاب - من اليمين المعتدل والوسط واليسار المعتدل - كانت قد اتفقت قبل الانتخابات على التحالف سوية في وجه «القانون والعدالة».

عندما بدأت تظهر نتائج الانتخابات البولندية مساء الأحد، بدأت مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل ومعها دول أوروبية أخرى، خاصة ألمانيا، تتنفس الصعداء. ذلك أن برلين كانت قد تحوّلت هدفاً سهلاً لحزب «القانون والعدالة» البولندي الحاكم طوال الأسابيع الماضية. والسبب، أن الحزب اليميني المتشدد والشعبوي - المناوئ للتكامل الأوروبي والمعادي للهجرة - الذي حكم بولندا منذ عام 2015، لم يكتفِ بوضع البلاد على خط المواجهة مع بروكسل، بل مع برلين أيضاً.

المطالبة بتعويضات الحرب وخلال الأشهر الماضية طغت على العلاقة بين حكومتي الدولتين «الجارتين» ألمانيا وبولندا مسألة التعويضات عن خسائر الحرب العالمية الثانية، التي طالبت وارسو من برلين دفعها بمبالغ تزيد على تريليون يورو. وفي سبتمبر (أيلول) من العام الماضي، قدّمت بولندا فاتورة لألمانيا في الذكرى الـ83 لهجوم ألمانيا النازية عليها، مطالبة بتعويضات بمبلغ 1.3 تريليون يورو. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المسؤولين الألمان يكرّرون دائماً الإقرار بمسؤولية بلادهم تجاه بولندا بسبب الجرائم التي ارتكبها النازيون هناك، إلا أن الحكومة الألمانية ترفض إعادة فتح ملف تعويضات الحرب وتقول: إنه ملف أُغلق ولن تعاد مناقشته. وكذلك، ترى أن المبلغ المطلوب من بولندا ضخم جداً، وبالتالي، وغير مقبول.

من جهة ثانية، لا تخيم فقط مسألة العلاقة التاريخية بين الدولتين «الجارتين» على طبيعة العلاقة الثنائية الحالية، بل تمتد إلى خلافات أخرى أساسية، منها على سبيل المثال السياسة الخارجية، وفي طليعتها مسألة التعامل مع روسيا.

وما يستحق الذكر، أنه قبل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، كانت برلين تنظر إلى الحكومة البولندية على أنها شديدة العدائية تجاه موسكو، بينما يرى اليمين البولندي الحاكم - حتى الانتخابات الأخيرة - أن الحكومة الألمانية مقربة بشكل ساذج من روسيا.

ثم إبان أزمة اللاجئين عام 2015، اختلفت حكومتا برلين ووارسو حول مقاربة المشكلة التي قسمت أوروبا كذلك. وفي حين فتحت ألمانيا الأبواب أمام مئات آلاف اللاجئين، أغلقته بولندا ورفضت تقاسم «أعباء اللجوء واللاجئين». وأخيراً، في الأسابيع الماضية، هزّت بولندا فضيحة بيع تأشيرات «شينغن» للاجئين بهدف تسهيل دخولهم إلى ألمانيا؛ ما زاد العلاقات الثنائية تعقيداً، ودفع ببرلين إلى طلب توضيحات حول المسألة من وارسو. وفي هذه الأثناء، تحوّلت ألمانيا نفسها هدفاً سهلاً لهجمات حزب «القانون والعدالة» طوال الحملة الانتخابية، بل الحزب وجّه اتهامات لزعيم الائتلاف المنافس تاسك بأنه «عميل لألمانيا» وأنه «ينقاد خلفها من دون تفكير».

ترحيب حار بالنتائجبعدها، ولدى توالي إعلان نتائج الانتخابات، علّق السفير الألماني في وارسو رولف نيكل - الذي كان هو نفسه قد غدا هدفاً لتهم «القانون والعدالة» وهجماته - فقال بارتياح وسعادة لقناة ألمانية: إن «الناخبين في بولندا خلقوا ربيعاً في منتصف أكتوبر (تشرين الأول)».

ولم تلبث أن توالت ترحيبات مشابهة من نواب ألمان، فقال تيري راينتكه، النائب في البرلمان الأوروبي عن حزب «الخضر» المشارك في الحكومة الألمانية، إنه يتوقع أن تصبح «بولندا شريكاً بنّاءً... وأن يقوّي التغيير الذي ستحمله الحكومة الجديدة موقعها داخل أوروبا». إذ رأت كاتيا لايكرت، العضو في البرلمان الألماني عن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المعارض، أن نتائج الانتخابات في بولندا «تعطي أملاً لأوروبا». وكتبت على منصة «إكس» (تويتر سابقاً): «سيكون مهماً جداً أن يصبح لبولندا من جديد حكومة تؤيد الديمقراطية والاتحاد الأوروبي، وبالأخص، في وقت الأزمات الذي نمر به راهناً».

وسمعت أصداء مشابهة في بروكسل، حيث عمل دونالد توسك بين عامي 2014 و2019 وترأس المجلس الأوروبي - بعد مغادرته منصب رئيس وزراء بولندا بين 2007 و2014 -، وحيث كانت بولندا قد تحوّلت في السنوات الماضية شريكاً مزعجاً ودائم الانتقاد للمؤسسات الأوروبية ومُعرقلاً لقوانين أوروبية مهمة.

وحقاً، نقلت مجلة «بوليتيكو» عن دبلوماسي أوروبي قوله: إن نتائج الانتخابات البولندية «يجب أن تؤدي إلى عمل أكثر سلاسة داخل الاتحاد الأوروبي يعكس أسس الاتحاد وقيمه، خاصة لجهة المسؤولية والتضامن». وأردف الدبلوماسي للمجلة: إن «رفض سياسات الأحزاب اليمينية المتشددة يجب أن يكون مثالاً للآخرين، على أمل أن يدفع هذا الأمر بالاتحاد الأوروبي إلى أن يصبح أقوى في وجه التهديدات الجيو سياسية».

منعطف يشجع الاعتدالوفي الإطار نفسه، رأت عدة جهات أن انتصار ائتلاف توسك المعتدل على اليمين المتشدد الشعبوي الممسك في السلطة حتى هزيمته بالأمس، «إشارة أمل إلى الأحزاب الأوروبية المعتدلة» بعد موجة من انتصارات الأحزاب والقوى المتشددة والمتطرفة شهدتها دول عدة، منها إيطاليا والمجر وسلوفاكيا. ولقد رأت صحيفة «الغارديان» البريطانية أن نتائج انتخابات بولندا «ملفتة بشكل كبير، خاصة إذا ما وضعت في السياق الأوروبي».

وذكّرت الصحيفة، بالذات، بفوز الحزب اليميني المتطرف «حركة الإخوة الإيطاليين» (الفاشيون الجدد) بزعامة جورجيا ميلوني في إيطاليا، والزعيم اليميني الشعبوي فيكتور أوربان في المجر بولاية حكم رابعة قاضياً على ائتلاف 6 أحزاب معارضة، وأخيراً، فوز روبرت فيتسو (الشيوعي السابق والشعبوي المعادي للمسلمين حالياً) في سلوفاكيا الذي وصفته الصحيفة بأنه «شبيه أوربان».

ماتيوش ماروفييتسكي ... يدلي بصورته (إ.ب.أ)

وقارنت «الغارديان» فوز تلك الأحزاب وما حصل في بولندا، فذكرت أن حزب «القانون والعدالة» البولندي استنسخ واقعياً سياسات الأحزاب المتطرفة في الدول الأوروبية الأخرى، أي الاعتماد على أصوات المتقدّمين في السن، والناخبين خارج المدن الكبيرة من الشرائح الأفقر عبر مزيج من زيادة الإنفاق الاجتماعي والخطاب الشعبوي. وتابعت الصحيفة البريطانية بأن «هذا التكتيك لم ينجح في بولندا، التي شهدت الانتخابات فيها إقبالاً على التصويت غير مسبوق وصل إلى 74 في المائة مقارنة بـ62 في المائة فقط عام 2019، بل إن العاصمة وارسو سجّلت هذه المرة نسبة تصويت زادت عن الـ85 في المائة». واستطردت لتوضح، أن الانتخابات الأخيرة لم تحدّدها أصوات «كبار السن»، بل أصوات الشباب الليبراليين الذين صوّتوا بأعداد كبيرة بعدما نجح توسك في تحريكهم.

وعود توسك لناخبيهخلال الحملة الانتخابات تعهّد دونالد توسك بتأييد زواج المثليين، والسماح بالإجهاض، وهذان موضوعان يحصلان على تأييد الشباب الليبراليين ومعارضة الكبار في السن الذين يكونون عادة محافظين أكثر، ولا سيما في بلد كاثوليكي شديد المحافظة. وشرحت الصحيفة، بأن توسك حرص، من جانب آخر، على الترويج لسياسات اقتصادية تنافس وعود الحزب الحاكم. إذ روّج - مثلاً - لزيادة المساعدات الاجتماعية، والإبقاء على سن التقاعد على حاله، وزيادة مرتبات الموظفين الحكوميين... وغيرها من السياسات التي تشير إلى رفضه اعتماد مبدأ تقليص الانفاق.

من جهتها، قارنت مجلة «بوليتيكو» بين فوز توسك مقابل فوز زعماء شعبويين في دول أخرى، لتستنتج أن «كسب الانتخابات يحتاج إلى موهبة». وأشارت إلى أن توسك «محاور جيد وقادر على التواصل مع الناخبين، كما أنه يعرف كيف يستخدم وسائل الإعلام الحديثة». وتابعت: إن حزب «المنبر المدني» الذي كان توسك من مؤسسيه، «انهار بعدما غادر إلى بروكسل عام 2015 ولكنه الآن قد بُعثت فيه الحياة من جديد».

دونالد توسك... راسماً شارة النصر بإصبعيه (رويترز)

توسك... وملف الهجرة و«المسلمين»

> على الرغم من التفاؤل الأوروبي، قد لا يكون دونالد توسك «الشريك الأوروبي» الذي يطمح إليه الكثيرون. فالرجل أثبت خلال الحملة الانتخابية أن آراءه المتعلقة بالهجرة واللجوء ما عادت تختلف كثيراً عن آراء شعبويي اليمين الذين قارعهم في الانتخابات الأخيرة.

ومع أن حزب «القانون والعدالة حاول مهاجمة توسك في هذه النقطة إبان الحملة الانتخابية، محذّراً الناخبين من أنه «سيدخل آلاف اللاجئين إلى بولندا ويحوّلها إلى لامبيدوزا (جزيرة الاستقبال الإيطالية) ثانية»، فإن الرجل نفسه انتقد سماح الحكومة بدخول أعداد كبيرة من المهاجرين «من دول مسلمة». بل إنه تكلّم عن ضرورة إعادة فرض «السيطرة على حدود» البلاد. وشكّل كلامه هذا قبل أشهر من الانتخابات مفاجأة، ونقيضاً لمواقف سابقة له انتقد فيها الخطاب الشعبوي للحزب الحاكم حول اللاجئين والمهاجرين.

وحول المسلمين، كان توسك يشير إلى مشروع قانون كانت تعمل عليه الخارجية البولندية يتيح لمواطني دول من بينها دول مسلمة، التقدم للحصول على التأشيرات مباشرة من الخارجية - عوضاً عن المرور عبر القنصليات - وهو أمر ما كان متاحاً فقط لمواطني بيلاروسيا. ولقد سعت الخارجية لإدخال التعديلات بحجة ضرورة تسهيل دخول اليد العاملة المطلوبة في العديد من المجالات في بولندا.

وفي تعليق على المشروع، قال توسك في فيديو نشره على «إكس» (تويتر سابقاً) منتقداً زعيم الحزب الحاكم ياروسلاف كاجينسكي: «لقد أدخل 130 ألف مواطن من هذه الدول العام الماضي، وهذا أعلى بـ50 مرة عن عام 2015 - الذي كان العام الأول بعد خروج حزب توسك من السلطة -... فلماذا يهاجم (أي كاجينسكي) المهاجرين واللاجئين، وفي الوقت نفسه، يريد أن يدخل مئات الآلاف من هذه الدول؟».

ما يجدر ذكره، أن بولندا رفضت في السنوات الـ8 الماضية أن تأخذ حصتها من اللاجئين في أوروبا، وقد سجّلت أعلى نسبة مهاجرين في تاريخ البلاد. وفي الأشهر الماضية كان الأوكرانيون هم غالبية اللاجئين، ولكن كان هناك أيضاً أعداد كبيرة من اللاجئين من الشرق الأوسط وآسيا.

وآنذاك تعرّض توسك لانتقادات من الأحزاب التي تحالف معها لتشكيل حكومة لاحقاً في حال الفوز بالانتخابات. وقال أدريان زاندبيرغ، أحد زعماء اليسار: إن «الرهان مع اليمين المتطرّف حول الهجرة مثل مصارعة خنزير في الوحل... هذا ليس أمراً يمكن أن يكسب أصواتاً؛ إذ حاولت أحزاب كثيرة في أوروبا ذلك، وبالنتيجة كان الرابح الوحيد هم الفاشيون».

أيضاً، انتقد توسك عضو سابق في حزبه، وهو من أصل نيجيري اسمه جون غودسون، وكان الوحيد من أصول أفريقية الذي أصبح نائباً عام 2010. إذ كتب غودسون على «إكس» مغرداً: «توسك أكد أن بولندا دولة ترحب بالمهاجرين. دونالد، ما الذي تغير؟».

عليه، يبقى أن يثبت الزعيم العائد ما إذا كانت مواقفه تلك من المهاجرين حقيقية أم كانت لأهداف انتخابية. وهي في حال كانت حقيقية، قد تجد بولندا نفسها في موقع صدام جديد مع الاتحاد الأوروبي الذي يسعى لإصلاح قانون اللجوء داخل الاتحاد كي يصبح توزيع اللاجئين أكثر عدلاً. فحالياً تعتمد الدول على ما يعرف بـ«اتفاقية برشلونة» التي تنص على أن يتقدم طالب اللجوء بأوراقه في أول دولة داخل الاتحاد الأوروبي يصل إليها؛ ما يعني أن إيطاليا واليونان تتحمّلان العبء الأكبر بسبب موقعيهما الجغرافيين على البحر المتوسط.

في مطلق الأحوال، يرى البعض أن التغييرات التي حصلت في بولندا خلال السنوات الـ8 لن يكون سهلاً قلبها رأساً على عقب. وحول هذا الواقع كتب «معهد كارنيغي للأبحاث» أنه رغم اعتراف حزب «القانون والعدالة» بخسارته، لا يجب توقع «انتقال سلس» للسلطة.

وتابع المعهد أن الرئيس الحالي أندريه دودا - المفترض أنه مستقل ولكنه بقي في منصبه منذ تولي «القانون والعدالة» للسلطة، ما زالت لديه سنتان قبل انتهاء ولايته. وحسب المعهد، يستطيع دودا أن يعارض ويعطل إطاحة توسك التغييرات التي أدخلتها الحكومة الحالية، ووضعت بولندا في مواجهة مع الاتحاد الأوروبي.

أوكرانيا... قد تتنفس الصعداء

> انتصار المعتدلين في بولندا يريح القيادة الحالية في أوكرانيا إلى جانب الدول الأوروبية. وعلى الرغم من أن بولندا كانت حليف كييف الأول منذ بداية الحرب مع روسيا، فإن العلاقات سرعان ما توترت خلال الأشهر الماضية، خاصة، بسبب الخلافات حول تصدير الحبوب. ثم أن الحملات الانتخابية شهدت استهدافاً من بعض السياسيين في حزب «القانون والعدالة» لأوكرانيا، وتعهدات بأن وارسو لن تمدها بالسلاح بعد الآن، بل ستركز على تسليح نفسها.

في أي حال، ومع أن هذا الكلام يمكن تفسيره بأنه يتعلق أكثر بأجواء الانتخابات، يشير المتابعون إلى أن الزعيم البولندي «العائد» دونالد توسك معروف، منذ أيامه في بروكسل، بأنه «من الصقور» الذي يدعون لسياسات أكثر تشدداً مع روسيا.

كذلك، في عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، كان توسك من موقعه كرئيس للمجلس الأوروبي يعمل بجهد بالغ على إقناع الدول الأوروبية بالتشدد أكثر مع روسيا. ووفق المصادر العليمة، كان يحاول إقناع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (آنذاك) بتشييد سياستها تجاه موسكو كذلك، من دون أن ينجح.

لهذه الأسباب؛ يرى المراقبون السياسيون أن عودة توسك إلى السلطة في بولندا سيكون مؤشراً إيجابياً لأوروبا التي تنظر بقلق إلى تقلص الحماسة الأميركية لدعم أوكرانيا مقابل توجيه واشنطن تركيزها أكثر على الشرق الأوسط والحرب بين اسرائيل و«حماس».

أيضاً، يأمل البعض أن يتمكن الزعيم البولندي من إعادة وارسو للعب دور قوي داخل الاتحاد الأوروبي، بعد سنوات من التهميش بسبب سياسات الحكومة الحالية. وبالفعل، كتبت مجلة «بوليتيكو»: إن «الترويكا الأوروبية المتمثلة ببرلين وباريس ووارسو هي الأمل الأفضل لأوروبا إذا أرادت أن تكون جدّية في ما يتعلق بأمنها»، في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا. وأضافت أنه في حال «تراجع الدعم الأميركي لحلف شمال الأطلسي (ناتو) وأوكرانيا، سيتوجب على أوروبا تعويض ذلك». ورأت، من ثم، أن التحول في السياسة في بولندا فرصة جديدة لتحقيق هذا الهدف، وبخاصة أن أوروبا تناقش باستمرار مسألة الاستقلالية الأمنية عن واشنطن، ولكن من دون تقدم. وعليه، عدّت أن توسك «أنقذ الديمقراطية في بولندا وبمقدوره أيضاً أن يقوي الوحدة الأمنية الأوروبية».


مقالات ذات صلة

رئيس صربيا يستبعد انضمامها للاتحاد الأوروبي قبل 2030

أوروبا الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش (رويترز)

رئيس صربيا يستبعد انضمامها للاتحاد الأوروبي قبل 2030

قال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش اليوم (السبت) إنه يستبعد انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبي في 2028.

«الشرق الأوسط» (بلغراد)
الخليج الشيخ محمد بن زايد آل نهيان مع شارل ميشيل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي خلال اللقاء في أبوظبي (وام)

محمد بن زايد يبحث مع رئيس الاتحاد الأوروبي العلاقات الثنائية وقضايا المنطقة

بحث الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، مع شارل ميشيل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي، مختلف أوجه العلاقات بين الإمارات والاتحاد الأوروبي.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
أميركا اللاتينية إدموندو غونزاليس مع زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو (أ.ف.ب)

كاراكاس تنتقل من الدفاع عن «فوز» مادورو إلى شن هجوم واسع على قادة المعارضة

بعد مضي شهر على الانتخابات الرئاسية الفنزويلية التي ما زالت نتائجها موضع خلاف عميق، وقد تسببت في أزمة تهدد بانفجار اجتماعي جديد.

شوقي الريّس (مدريد)
أوروبا جانب من أشغال المؤتمر الدولي حول أوكرانيا في بورغنستوك بسويسرا الأحد (رويترز)

هل تتخلى سويسرا عن حيادها التاريخي؟

بعد قرون من التمسك بالحياد وعدم التحالف، تواجه سويسرا تحدياً غير مسبوق يدفعها إلى إعادة النظر في موقفها الدفاعي التاريخي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد مخازن وأنابيب نفطية ضمن خط دروجبا في دولة التشيك (رويترز)

أوكرانيا تهدد بوقف مرور صادرات الطاقة الروسية إلى أوروبا

قال مسؤول أوكراني إن بلاده ستوقف شحن النفط والغاز الروسيين من خلال خطوط أنابيبها إلى الاتحاد الأوروبي في نهاية هذا العام.

«الشرق الأوسط» (كييف)

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
TT

ليبيا: الصراع على المصرف المركزي يعمّق الأزمة السياسية

مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)
مصفاة راس لانوف على الساحل الليبي (آ ف ب)

بات «قوت الشعب» الليبي ومقدراته ورقة ضغط سياسي في لعبة الصراع على السلطة والنفوذ والمال بين «حكومتي» شرق ليبيا وغربها، وسط معركة تدور رحاها ظاهرياً حول شخص الصدّيق الكبير، رئيس المصرف المركزي. إذ أطاح «المجلس الرئاسي» (الغرب) الكبير، فأغلقت حكومة أسامة حماد (الشرق) حقول النفط رداً على قرار «الرئاسي» الذي اتُخذ بمعزل عن «مجلس النواب»، وعلى غير رغبته. هكذا، أصبح «المركزي»، القابع في مبنى تاريخي إيطالي التصميم يقع على الواجهة البحرية للعاصمة طرابلس، وكان يُعرف بـ«قصر الحكم» إبّان الحقبة الاستعمارية الإيطالية، رمزاً لتفاقم الانقسام بين المشير خليفة حفتر، القائد العام لـ«الجيش الوطني الليبي» في الشرق، ومحمد المنفّي رئيس «المجلس الرئاسي» في الغرب، وهذه معركة قد تلعب «الأوزان النسبية» للطرفين دوراً في حسمها. ومعها يشتعل الصراع بين الساسة على التحكّم بمصادر التمويل التي يشكّل المصرف المركزي «قلبها النابض». ويرى مراقبون الآن أن النزاع الحالي «قد يصبّ في مصلحة أطراف دولية تلعب أدواراً حالية في البلاد»، أو ربما يدفع أطرافاً أخرى إلى التدخل ومحاولة حلحلة الأزمة السياسية المستمرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، لا سيما بعدما مسّت الأزمة مصالح الدول الكبرى في النفط الليبي.

المنفي مع الدبيبة (المجلس الرئاسي)

اندلعت المعركة عقب إعلان «المجلس الرئاسي»، يوم 20 أغسطس (آب) الحالي، تعيين محمد الشكري محافظاً للمصرف المركزي، وهو قرار رفض الصدّيق الكبير تنفيذه. ومن ثم، تنحى الشكري عازفاً عن قبول المنصب، في خطوة عدّتها مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «انعكاساً لرغبة الشكري في ألا يكون محور صراع دموي بين سلطات ليبيا المتنازعة».

بعدها، لم تتوقف محاولات «الرئاسي» إقالة الكبير رغم تذكير الأخير بأن «تعيين محافظ المصرف المركزي، وفقاً للاتفاق السياسي والقانون رقم (1) لسنة 2005، يتبع السلطة التشريعية»، الأمر الذي أكّده مجلسا «النواب» و«الدولة». لكن في تحدٍ لـ«النواب» أعلن «الرئاسي» تعيين محافظ ومجلس إدارة جديد لـ«المركزي» وتكليف عبد الفتاح عبد الغفار رئاسته، رداً على إنهاء برلمان الشرق ولاية «الرئاسي» و«حكومة الوحدة الوطنية» المؤقتة، برئاسة عبد الحميد الدبيبة في الغرب. وبسرعة، سيطرت «لجنة تسليم واستلام الصلاحيات» المعيّنة من قِبل «الرئاسي» على مقرّ المصرف المركزي لتثبيت مجلس الإدارة الجديد برئاسة. ولقد ذكر عبد الغفار في أول تصريحاته الصحافية الأسبوع الماضي، أن «المصرف يعمل حالياً وفق المعايير الدولية، وعبر مجلس إدارة متكامل من ذوي الخبرات».

بالطبع، لم يلق هذا التصرف قبولاً لدى حكومة أسامة حماد (مقرها بنغازي) التي أعلنت حالة «القوة القاهرة» على جميع الحقول والموانئ النفطية، ووقف إنتاج النفط وتصديره حتى إشعار آخر. كذلك اشترط عقيلة صالح، رئيس «النواب»، عودة الكبير إلى عمله مقابل إعادة فتح حقول النفط واستئناف التصدير.

الدكتور يوسف الفارسي، أستاذ العلوم السياسية ورئيس حزب «ليبيا الكرامة»، قال لـ«الشرق الأوسط» إن الأزمة الحالية كما يبدو «ترجع إلى سياسة التقشف التي فرضها الكبير تجاه (الرئاسي) وحكومة (الوحدة)، مع تقنين الصرف لمواجهة عجز الموازنة. هذا ضيق الخناق عليهما، ليصدر قرار الإقالة الذي لا يعدّ من صلاحيات (الرئاسي)... إنها أزمة متوقعة في ظل وضع صعب تعيشه ليبيا وصراع مستمر بين الكيانات المختلفة».

لكن الصراع الحالي غير محصور بالمصرف المركزي، بحسب الخبير الاقتصادي الليبي وحيد الجبو، الذي قال لـ«الشرق الأوسط» إنه «يمتد أيضاً إلى المؤسسات الاقتصادية الكبرى كالمؤسسة الوطنية للنفط والمؤسسة الليبية للاستثمار... إنه صراع بين القوى السياسية المتنازعة على السلطة، لا سيما أن النفط والمال من أهم مراكز القوة، التي يحاول كل طرف أن ينتزعها لنفسه». وبينما يؤكد الجبر «بطلان» قرار الرئاسي بإقالة الكبير، فهو لا يمانع في تغيير محافظ المصرف؛ لأن «التغيير مطلوب، ولكن بموجب إجراء قانوني صحيح».

الحرب الروسية - الأوكرانية

استخدام سلاح النفط في الصراع ليس جديداً، فبعد شهرين من الحرب الروسية - الأوكرانية أُعلن عن حصار نفطي ليبي بسبب مطالبة الدبيبة بالاستقالة لصالح فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس في الشرق آنذاك. يومذاك، بدا أن الكبير والدبيبة حليفان، اتُهم رئيس حكومة «الوحدة» بـ«إساءة استخدام أموال الدولة بمساعدة المركزي»، وفق «فورين بوليسي» التي أشارت إلى «انتهاء الحصار في يوليو (تموز) 2022 من دون أن يحقق أي طرف هدفه».

وهو ما يوضحه عبد الهادي ربيع، الباحث المصري المتخصص في الشأن الليبي، مشيراً لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الأزمة ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها لفترات سابقة حاولت خلالها سلطات شرق ليبيا تغيير محافظ المصرف المركزي بوجه رفض حكومة الغرب، قبل أن تنعكس الصورة أخيراً ويغدو الشرق متمسكاً بالكبير المرفوض من الغرب». وأرجع ربيع الأزمة الأخيرة إلى «نزع مجلس النواب صفة القائد الأعلى للقوات المسلحة عن المجلس الرئاسي، بالتزامن مع صرف الكبير ميزانية ضخمة لحكومة حماد في الشرق؛ ما أغضب حكومة الدبيبة في الغرب وجعلها تنقلب عليه».

عقيلة صالح (الشرق الاوسط)

من «معسكر القذافي» إلى قلب «الثورة»

الكبير، الذي عُيّن محافظاً لـ«المركزي» عام 2011، صار بالفعل، محور صراع بين السلطتين التنفيذيتين في البلاد. وهو خريج جامعة هارتفورد الأميركية، وكان محسوباً على نظام معمّر القذافي، قبل أن يصبح من أوائل «الثوار» ضد حكمه. فقد انضم إلى المجلس الانتقالي الليبي إثر نشاطه على الأرض، ومنه إلى المصرف المركزي. وطوال 13 سنة لعب الكبير دوراً محورياً في الإدارة السياسية - النقدية في البلاد.

مراقبون يرون أن الكبير دائماً يراهن على «الحصان الرابح»، ويوصف بأنه «آخر من تبقى من الثوار» و«القذافي الجديد»، وهو اتهام بين اتهامات وانتقادات عدة وُجّهت إليه، وبلغت حد التشكيك في جنسيته من قِبل «ثوار الزاوية» عام 2013. أيضاً تعرّض الرجل لاتهامات عدة إبّان عهد القذافي، وتجدّدت مع تعيينه محافظاً، لكنه تخطى الأزمة بمهاراته المعتادة التي أتاحت له في وقت سابق الانتقال من معسكر المحسوبين على نظام القذافي إلى معسكر «الثوار».

واشنطن على خط الأزمة

من جهة ثانية، يُلقب البعض الكبير بأنه «حليف واشنطن»، وربما كان هذا سبب دخول واشنطن على خط الأزمة الحالية، حين أعلنت سفارتها في ليبيا، الأسبوع الماضي، عن لقاء جمع ، الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، جيريمي بيرنت القائم بالأعمال، مع حفتر. ولقد حثّت واشنطن جميع الأطراف الليبية على «المشاركة بشكل بنَّاء في الحوار بدعم من بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا». كذلك، أعلنت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، في اليوم نفسه، عزمها عقد اجتماع طارئ لحل أزمة المصرف المركزي؛ بهدف «التوصل إلى توافق يستند إلى الاتفاقيات السياسية والقوانين السارية، وعلى مبدأ استقلالية المصرف المركزي وضمان استمرارية الخدمة».

خليفة حفتر (روبترز)

تكمن أهمية المصرف المركزي الليبي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة

«سلاح المعركة»

تكمن أهمية المصرف المركزي في كونه يشرف على إدارة إيرادات النفط وميزانية الدولة، قبل إعادة توزيعها بين المناطق الليبية المختلفة، وكانت فترة الهدوء أخيراً ساهمت في رفع إنتاجه إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً. لكن إعلان المؤسسة الوطنية للنفط حالة «القوة القاهرة» في حقل الشرارة، أحد أكبر حقول النفط الليبية بطاقة إنتاجية تبلغ 300 ألف برميل يومياً، أثار مخاوف دولية بشأن خفض الإنتاج، وارتفاع أسعار الخام عالمياً.

وهكذا، بات النفط سلاحاً رئيسياً في معركة «فرض النفوذ» و«لي الذراع» بين شرق ليبيا وغربها، «يفرض استخدامه خسائر على الاقتصاد الليبي الذي يعاني عجزاً في الميزانية العامة وميزان المدفوعات»، بحسب الجبو، الذي قال إن «خزينة ليبيا ستواجه صعوبات في تسديد المتطلبات من مرتبات ودعم للوقود والكهرباء». أما الفارسي، فيرى أن استخدام سلاح النفط داخلياً قد يُثير «موجة غلاء مع تراجع سعر العملة المحلية مقابل الدولار، كما قد يضرّ بالاستثمارات، ويوثر على التعامل مع المصارف الأجنبية».

للعلم، تقع غالبية حقول النفط تحت سيطرة «الجيش الوطني الليبي»، الذي حذَّر قائده حفتر خلال الأسبوع الماضي، من «المساس بالمصرف المركزي»، بينما تُعدّ منطقة الواحات (بجنوب غربي ليبيا) من أبرز المناطق الغنية بالحقول النفطية في البلاد. ووفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي، فالمصرف المركزي هو الجهاز الوحيد المسؤول عن عائدات النفط، التي تشكل 95 في المائة من ميزانية ليبيا، وبالتالي مَن يتحكّم بالعائدات يتحكّم بالاقتصاد الليبي.

«لعبة شطرنج»

على صعيد متصل، وخلف الكواليس، يُعد المصرف «جزءاً من لعبة شطرنج جيوسياسية روسية»، وفقاً لجايسون باك، مؤسس «ليبيا أناليسيس»، الذي يرى في حديثه لـ«فورين بوليسي» أن إغلاق حقول النفط لن يغير طريقة عمل المصرف، بل يسمح لروسيا بتعزيز مصالحها في ليبيا. وعدّ باك «الأزمة مصطنعة ولا علاقة لها بقضايا المصرف الرئيسية». كذلك، ورد في المجلة عينها تحذير من أنه «إذا تجاهلت الجهات الدولية الرئيسية الفاعلة هذه الأزمة، فهي تترك بذلك ليبيا تحت رحمة روسيا».من جانبه، يرجح الجبو أن «يأتي حل الأزمة عبر ضغط المجتمع الدولي لعودة الكبير إلى منصبه، ومن ثم إجراء اتصالات ومباحثات بين مجلسي النواب و(الدولة) لاختيار محافظ جديد». مذكّراً في هذا الصدد بأن بيان السفارة الأميركية «ندد بإبعاد المحافظ وطالب بإرجاعه». وأيضاً، يرى الفارسي أن «أي حل للأزمة لن يتحقق بمعزل عن جهود المجتمع الدولي وضغوطه، لا سيما مع وجود أطراف دولية فاعلة في الأزمة». وهو يتوقع «حلّ الأزمة سريعاً، مع تشكيل لجنة حوار جديدة تدفع نحو الاستقرار وإجراء الانتخابات، بعدما طال الأمر وتعقد، وبات يمسّ قوت الليبيين ومصالح القوى الدولية في النفط والاستثمارات».