الهند ترى قمة «العشرين» تعزيزاً لمكانتها العالمية

200 ساعة من المفاوضات المتواصلة و300 اجتماع ثنائي و15 مسودة اتفاق

مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)
مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)
TT

الهند ترى قمة «العشرين» تعزيزاً لمكانتها العالمية

مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)
مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)

مع إسدال الستار على قمة «مجموعة العشرين» التي عقدت أخيراً في العاصمة الهندية نيودلهي، بحضور كوكبة من زعماء العالم ورؤساء منظمات دولية بارزة على مدار ثلاثة أيام، تفاوضت الهند من أجل التوصل إلى توافق في الآراء بين الدول الكبرى، وأظهرت مهارة دبلوماسية تمخّضت عن «إعلان نيودلهي» المشترك للمجموعة. يشكل هذا تحولاً كبيراً بعيداً عن القمة السابقة في بالي عام 2022، التي هزّتها انقسامات حادة بين الأعضاء بخصوص الحرب في أوكرانيا. وأما هذه المرة فاعتمد قادة المجموعة بالإجماع «الإعلان» بوصفه وثيقة شاملة تغطي مواضيع مثل التغييرات المناخية والصحة والتجارة والاقتصاد الرقمي والإرهاب وتمكين المرأة. أيضاً، من المهم التذكير بأن «مجموعة العشرين» المنعقدة في بالي خلال العام الماضي تزامنت مع فوضى عالمية كبيرة عميقة، فاقمها اصطفاف القوى الكبرى بعضها ضد بعض بعد الحرب الأوكرانية، أما هذه المرة فقد كان غياب الزعيم الصيني شي جينبينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبباً في خفض سقف التوقعات.

منذ بداية قمة نيودلهي لـ«مجموعة العشرين» كان واضحاً وجود خطوط صدع جيوسياسية بين الاقتصادات الكبرى في العالم المشاركة، كما كانت ظلال الحرب في أوكرانيا تخيم على القمة، مع احتدام الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة حول مصير الصراع. وحول الجو العام للقمة، علّق غوتام تشيكرمان، نائب رئيس مؤسسة «أوبزرفر ريسرتش» الفكرية، قائلا: «قبل ساعات قليلة من إعلان رئيس الوزراء ناريندرا مودي التوصل إلى إجماع بشأن إعلان مجموعة العشرين، كان مجتمع المؤسسات الفكرية العالمية المعني بالشؤون الجيوسياسية، على ثقة من غياب مساحة تسمح بإعلان مشترك في نيودلهي، وهنا يتبين أهمية الإنجاز الكبير الذي حققته رئاسة الهند للقمة». وتابع: «لطالما نظر إلى مهمة التوصل لإجماع بعدّها مهمة مستحيلة، ولذلك، جاء الإجماع بمثابة مفاجأة». وعن دور الهند قال تشيكرمان «الهند اضطلعت فعلاً بدور حاسم في سد الفجوة بين الغرب وروسيا، وتيسير الحوار البناء الذي أثمر بياناً مشتركاً دعا جميع الدول إلى الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها سعياً للاستيلاء على أراض». ومع ذلك: «لم تدن نيودلهي موسكو على عدوانها، بحجة أن هناك آراء وتقييمات مختلفة للوضع»، ومن ثم نبهت إلى أن المجموعة «ليست منصة لحل القضايا الجيوسياسية والأمنية».

جدير بالذكر أن الدبلوماسيين الهنود قادوا أكثر من 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي، وناقشوا 15 مسودة للتوصل إلى توافق في الآراء بخصوص إعلان زعماء «مجموعة العشرين». وكان الجزء الأكثر تعقيداً في القمة التوصل إلى توافق في الآراء بشأن الفقرات الجيوسياسية. ومن جهة ثانية، نجحت الهند في التوصل إلى إجماع مفاجئ بين دول المجموعة حيال هذه الفقرات من خلال سلسلة من المفاوضات المحمومة مع دول الاقتصادات الناشئة، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، وإندونيسيا التي لعبت دوراً بارزاً في تحقيق هذا الإنجاز.

وفي قراءة تحليلية أخرى لما جرى، يقول المحلل هارش في. بانت «مع اقتراب انتهاء رئاسة الهند لمجموعة العشرين، تركزت الأضواء العالمية على السياسة الخارجية الهندية وتواصلاتها الخارجية. وفي حقبة تتسم بالاستقطاب الشديد بين القوى الكبرى وتآكل المؤسسات متعددة الأطراف، نجحت نيودلهي في بث روح جديدة في مجموعة العشرين. والواقع أن أحداً ما كان يتوقع هذا الاهتمام العالمي المتزايد بالمجموعة بينما كانت غالبية المؤسسات المتعددة الأطراف الأخرى بدأت تفقد أهميتها». وأعرب هارش عن اعتقاده أن المفاوضين الهنود أثبتوا من جديد براعتهم في إيجاد الحجج المناسبة لدفع الجميع نحو خط النهاية، بمعنى إقناع الولايات المتحدة بأن فوز الهند يساعد الغرب، وإقناع روسيا بالموافقة على اللغة التي تشير بوضوح إلى مسؤولية موسكو في الحرب، لكن من دون تسميتها بوضوح، وإجبار الصين على قبول النتائج أو التعرض لعزلة.

سيرة «مجموعة العشرين»

أسست «مجموعة العشرين» عام 1999 في أعقاب سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي اجتاحت العالم. أما الهدف، فكان أن تعمل المجموعة بوصفها تكتلا اقتصاديا مؤثرا لتناول القضايا المتعلقة بالاقتصاد العالمي. والواقع أنها عبارة عن منتدى «بين الحكومات» يضم 19 دولة ذات سيادة، بجانب الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، بما في ذلك دول صناعية ونامية. وفي السنوات اللاحقة، تجاوزت المجموعة دائرة اهتماماتها الاقتصادية والمالية، سعياً لتناول قضايا جيوسياسية كذلك. ومع ذلك، على مر السنوات، لم تظهر خلافات على السطح فحسب، بل تعمّقت خطوط الصدع، ما أدى إلى ظهور انقسام حاد حالياً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى. أما أهمية المجموعة اليوم فتنعكس في حقيقة أن لأعضاء «مجموعة العشرين» نحو 80 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، و75 في المائة من التجارة الدولية، وثلثي سكان العالم، و60 في المائة من مساحة اليابسة على مستوى العالم.

تحديات الغائبين

على صعيد متصل، لئن كانت الهند تأمل في حضور جميع رؤساء دول مجموعة العشرين، فإنها بالتأكيد شعرت بشيء من خيبة الأمل. إذ تصدر الغائبين الرئيس الصيني شي جينبينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وكان لكل منهما أسباب جيوسياسية مختلفة.

غياب الرئيس الصيني شخصياً أو افتراضياً، كان بسبب تضارب المواعيد، وبعث رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ بدلاً من ذلك. وبالمثل، تغيب بوتين، المطلوب بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا، عن الحدث وأرسل وزير الخارجية سيرغي لافروف. ومع ذلك، رأى عدد من المراقبين في التغيب المزدوج ازدراء للهند، ومؤشراً لاستياء بكين من علاقات نيودلهي المتنامية بالولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات.

وحقاً، ويأتي غياب شي جينبينغ بمثابة تذكير بمدى السرعة التي يتطوّر بها النظام العالمي، و«الموقف الصعب الذي تجد الصين نفسها فيه الآن»، وفق المنظور الهندي. ويستشهد الجانب الهندي على ذلك بقول الرئيس الأميركي جو بايدن «رغم غياب شي، فإن قمة مجموعة العشرين تسير على ما يرام». بل ويذهب أبعد ليقول إن تغيب الزعيم الصيني أدى إلى نتائج عكسية، بينها بروز الهند بوصفها القائد المستحق في الجنوب العالمي ومجموعة «بريكس». فاليوم: «تبدو نيودلهي بمثابة جسر حيوي مع الغرب، وبدأت تبرز بوصفها قوة على صعيد التفوق الاقتصادي والعسكري الإقليمي، مع تمتعها بخيارات أكبر في تعاملها مع الولايات المتحدة وروسيا»، الأمر الذي تفتقر إليه الصين. وحول الصين أيضاً، يعلق راجيش غوبالان، أستاذ السياسة الدولية بجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، قائلا: «يبدو أن الصين اتبعت نهج عدم التدخل في القمة بعد اجتماع مجموعة البريكس المؤلفة من خمس دول أعضاء، الشهر الماضي». وأردف أن بكين، على ما يبدو، لم تعد تنظر إلى مجموعة العشرين بوصفها تجمعاً دولياً رئيسياً. ويعني ذلك أنها ربما تعطي الأولوية فقط لتلك المؤسسات الدولية التي يمكنها السيطرة عليها، مثل مجموعة البريكس الموسعة، بينما تسعى إلى تقويض الأطر المتعددة القائمة. وأضاف غوبالان: «إن إمداد الهند بمنصة تستطيع من خلالها الاضطلاع بدور قيادي عالمي، كان خطوة ذكية من جانب بايدن وقادة مجموعة السبع الآخرين».

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (رويترز)

زيلينسكي... لم يُدع

وحول أبرز المتغيّبين، لم يجر توجيه دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لحضور القمة، مع قرار الهند قصر الدعوات على أعضاء «مجموعة العشرين» وتسع دول غير أعضاء. وكان زيلينسكي قد خاطب زعماء المجموعة عبر رابط فيديو خلال قمة بالي السابقة في إندونيسيا عام 2022. أما نيودلهي، فقد وقفت إلى جانب حليفتها القديمة موسكو في مواجهة كييف. ورأى مراقبون أن قرار الهند ألا تدعو الرئيس الأوكراني جاء بوصفه خطوة تتعمد تجنب إزعاج روسيا التي تتقاسم «شراكة استراتيجية خاصة ومتميزة» مع الهند. إلا أن زيلينسكي، في أي حال، أعرب عن خيبة أمله إزاء إعلان القمة، وقال إن الإعلان لا يعكس حقيقة العدوان الروسي ضد أوكرانيا، ولم يقدم أي دعم ملموس لأوكرانيا، ولم يفرض عقوبات ضد موسكو.

ولكن في سياق موازٍ، في خطوة غير مسبوقة أحدثت هزة في المجتمع الدبلوماسي الدولي، رحبت الهند بحرارة بالاتحاد الأفريقي خلال القمة، وعد المراقبون التحول إلى دور «بطل الجنوب» العالمي، هو أكبر مساهمة للهند. ويتضمن ذلك تحويل «مجموعة العشرين» إلى «مجموعة الـ21» مستقبلاً، من خلال ضم الاتحاد الأفريقي. وما يستحق الذكر، أن مصادر مطلعة أكدت أن هذه الفكرة جرى طرحها في يونيو (حزيران) من هذا العام، عندما كتب مودي إلى قادة «مجموعة العشرين» مقترحاً منح الاتحاد الأفريقي «العضوية الكاملة» في قمة نيودلهي.

وأضافت المصادر أن الفكرة نشأت بعد قمة «صوت الجنوب العالمي» في يناير (كانون الثاني) من هذا العام، التي شاركت فيها معظم دول القارة الأفريقية البالغ عددها 55 دولة. وجرت المناقشات في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، مقر الاتحاد الأفريقي. وحتى ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى دولة واحدة من القارة الأفريقية بأكملها في «مجموعة العشرين» هي جنوب أفريقيا.

من ناحيتهم، شكا عدد من الزعماء الأفارقة من أن أوروبا ممثلة بخمس دول، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، في حين يستحق الاتحاد الأفريقي بدوره تمثيلاً مماثلاً. ومعلوم أن ناريندرا مودي، الذي أجرى زيارات لـ10 دول على الأقل في أفريقيا خلال السنوات التسع الماضية، أطلق حوارات مع قادة العالم، بما في ذلك الرئيس الأميركي بايدن والرئيس الروسي بوتين، بالإضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، ونال دعمهم لضم الاتحاد الأفريقي. وكانت حجة الزعيم الهندي في ذلك واضحة، ومفادها أن المستقبل المستدام لكوكبنا يتطلب الاعتراف بجميع الأصوات وتمثيلها، خاصة الأصوات الآتية من العالم النامي.

وهنا، أعرب الكاتب شوباجيت روي، عن اعتقاده أن هذه الخطوة «رسخت مكانة الهند بقوة بوصفها قوة جيوسياسية صاعدة عالمياً. كما يعد ذلك انعكاسا لقوة روابط نيودلهي بأفريقيا، ويتزامن كذلك مع تطلع الهند للحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ما يعد سبباً وراء حرص نيودلهي على حشد دعم أفريقيا التي تمتلك 55 صوتاً».

وفي هذا الإطار، نشير إلى أن تواصل الهند المنظم مع أفريقيا كان قد بدأ عام 2008، ولكن مع ذلك نجحت الصين في «سرقة» المسيرة، بعدما كانت قد بدأت تواصلها مع القارة الأفريقية لأول مرة عام 2000، عندما كان جيانغ زيمين رئيساً. ولقد بدأ عمل «منتدى التعاون الصيني - الأفريقي» (فوكاك) عندما انعقد الاجتماع الوزاري الأول في بكين ذلك العام، وقد قطعت الصين شوطاً طويلاً منذ ذلك الحين، ما يعد دليلاً على تطور المصالح الصينية داخل القارة الأفريقية.

رحبت الهند بحرارة بالاتحاد الأفريقي خلال قمة «مجموعة العشرين»

الرئيس الصيني شي جينبينغ (آ ب)

 

الهند والولايات المتحدة في «متابعة مشتركة» للحالة الصينية

وفق جملة من التحليلات والتوقعات، تظل الهند من أكثر الحلفاء أهمية للولايات المتحدة، في حين تبقى الصين في خلفية الصورة الأكبر هنا.

وما يمكن ملاحظته في هذا الإطار، أن الرئيس الأميركي جو بايدن تعمد تجنب إحراج القيادة الهندية، وذلك من خلال امتناعه عن الإعلان عن سلبية توجهات واشنطن إزاء بكين. لكن، مع ذلك، ما تلمسه الأوساط السياسية الهندية أن الأولوية الكبرى عند واشنطن إشراك نيودلهي في اللعبة الطويلة ضد الصين. وعلاوة على ذلك، وفي مسار مواز ومقابل، فإن الموافقة على الإعلان لا تنطوي على تهديد لموقف الولايات المتحدة تجاه روسيا، وليس ثمة رسالة من واشنطن إلى موسكو بأنها ستخفف من قوة سياستها تجاه دعم أوكرانيا أو انتقاد «عدوان» موسكو.

في مطلق الأحوال، استغلت الولايات المتحدة فراغ السلطة في غياب الرئيس الصيني لاتخاذ خطوة مهمة لتعزيز جهودها من أجل توقيع اتفاقات دفاعية جديدة مع الهند.

ويأمل بايدن حاليا في الاعتماد على سلسلة مشروعات البنية التحتية والاستثمارات الجديدة بوصفها دليلا قويا وموثوقا على التزام واشنطن تجاه دول العالم النامي، وتقديم بديل أفضل وأكثر موثوقية من الصين.


مقالات ذات صلة

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

حصاد الأسبوع من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع دوما بوكو

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا،

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية

«الشرق الأوسط» ( القاهرة)
حصاد الأسبوع الرئيس التونسي قيس سعيّد (رويترز)

الإعتبارات العسكرية والأمنية تتصدر المشهد في تونس

ضاعف الرئيس التونسي قيس سعيّد فور أداء اليمين بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية، الاهتمام بالملفات الأمنية والعسكرية الداخلية والخارجية والتحذير من «المخاطر

كمال بن يونس (تونس)
حصاد الأسبوع جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ

أنيسة مخالدي (باريس)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.