الهند ترى قمة «العشرين» تعزيزاً لمكانتها العالمية

200 ساعة من المفاوضات المتواصلة و300 اجتماع ثنائي و15 مسودة اتفاق

مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)
مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)
TT

الهند ترى قمة «العشرين» تعزيزاً لمكانتها العالمية

مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)
مودي يتكلم في قمة "مجموعة العشرين" بنيودلهي (آ ف ب)

مع إسدال الستار على قمة «مجموعة العشرين» التي عقدت أخيراً في العاصمة الهندية نيودلهي، بحضور كوكبة من زعماء العالم ورؤساء منظمات دولية بارزة على مدار ثلاثة أيام، تفاوضت الهند من أجل التوصل إلى توافق في الآراء بين الدول الكبرى، وأظهرت مهارة دبلوماسية تمخّضت عن «إعلان نيودلهي» المشترك للمجموعة. يشكل هذا تحولاً كبيراً بعيداً عن القمة السابقة في بالي عام 2022، التي هزّتها انقسامات حادة بين الأعضاء بخصوص الحرب في أوكرانيا. وأما هذه المرة فاعتمد قادة المجموعة بالإجماع «الإعلان» بوصفه وثيقة شاملة تغطي مواضيع مثل التغييرات المناخية والصحة والتجارة والاقتصاد الرقمي والإرهاب وتمكين المرأة. أيضاً، من المهم التذكير بأن «مجموعة العشرين» المنعقدة في بالي خلال العام الماضي تزامنت مع فوضى عالمية كبيرة عميقة، فاقمها اصطفاف القوى الكبرى بعضها ضد بعض بعد الحرب الأوكرانية، أما هذه المرة فقد كان غياب الزعيم الصيني شي جينبينغ والرئيس الروسي فلاديمير بوتين سبباً في خفض سقف التوقعات.

منذ بداية قمة نيودلهي لـ«مجموعة العشرين» كان واضحاً وجود خطوط صدع جيوسياسية بين الاقتصادات الكبرى في العالم المشاركة، كما كانت ظلال الحرب في أوكرانيا تخيم على القمة، مع احتدام الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة حول مصير الصراع. وحول الجو العام للقمة، علّق غوتام تشيكرمان، نائب رئيس مؤسسة «أوبزرفر ريسرتش» الفكرية، قائلا: «قبل ساعات قليلة من إعلان رئيس الوزراء ناريندرا مودي التوصل إلى إجماع بشأن إعلان مجموعة العشرين، كان مجتمع المؤسسات الفكرية العالمية المعني بالشؤون الجيوسياسية، على ثقة من غياب مساحة تسمح بإعلان مشترك في نيودلهي، وهنا يتبين أهمية الإنجاز الكبير الذي حققته رئاسة الهند للقمة». وتابع: «لطالما نظر إلى مهمة التوصل لإجماع بعدّها مهمة مستحيلة، ولذلك، جاء الإجماع بمثابة مفاجأة». وعن دور الهند قال تشيكرمان «الهند اضطلعت فعلاً بدور حاسم في سد الفجوة بين الغرب وروسيا، وتيسير الحوار البناء الذي أثمر بياناً مشتركاً دعا جميع الدول إلى الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها سعياً للاستيلاء على أراض». ومع ذلك: «لم تدن نيودلهي موسكو على عدوانها، بحجة أن هناك آراء وتقييمات مختلفة للوضع»، ومن ثم نبهت إلى أن المجموعة «ليست منصة لحل القضايا الجيوسياسية والأمنية».

جدير بالذكر أن الدبلوماسيين الهنود قادوا أكثر من 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي، وناقشوا 15 مسودة للتوصل إلى توافق في الآراء بخصوص إعلان زعماء «مجموعة العشرين». وكان الجزء الأكثر تعقيداً في القمة التوصل إلى توافق في الآراء بشأن الفقرات الجيوسياسية. ومن جهة ثانية، نجحت الهند في التوصل إلى إجماع مفاجئ بين دول المجموعة حيال هذه الفقرات من خلال سلسلة من المفاوضات المحمومة مع دول الاقتصادات الناشئة، مثل البرازيل وجنوب أفريقيا، وإندونيسيا التي لعبت دوراً بارزاً في تحقيق هذا الإنجاز.

وفي قراءة تحليلية أخرى لما جرى، يقول المحلل هارش في. بانت «مع اقتراب انتهاء رئاسة الهند لمجموعة العشرين، تركزت الأضواء العالمية على السياسة الخارجية الهندية وتواصلاتها الخارجية. وفي حقبة تتسم بالاستقطاب الشديد بين القوى الكبرى وتآكل المؤسسات متعددة الأطراف، نجحت نيودلهي في بث روح جديدة في مجموعة العشرين. والواقع أن أحداً ما كان يتوقع هذا الاهتمام العالمي المتزايد بالمجموعة بينما كانت غالبية المؤسسات المتعددة الأطراف الأخرى بدأت تفقد أهميتها». وأعرب هارش عن اعتقاده أن المفاوضين الهنود أثبتوا من جديد براعتهم في إيجاد الحجج المناسبة لدفع الجميع نحو خط النهاية، بمعنى إقناع الولايات المتحدة بأن فوز الهند يساعد الغرب، وإقناع روسيا بالموافقة على اللغة التي تشير بوضوح إلى مسؤولية موسكو في الحرب، لكن من دون تسميتها بوضوح، وإجبار الصين على قبول النتائج أو التعرض لعزلة.

سيرة «مجموعة العشرين»

أسست «مجموعة العشرين» عام 1999 في أعقاب سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي اجتاحت العالم. أما الهدف، فكان أن تعمل المجموعة بوصفها تكتلا اقتصاديا مؤثرا لتناول القضايا المتعلقة بالاقتصاد العالمي. والواقع أنها عبارة عن منتدى «بين الحكومات» يضم 19 دولة ذات سيادة، بجانب الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، بما في ذلك دول صناعية ونامية. وفي السنوات اللاحقة، تجاوزت المجموعة دائرة اهتماماتها الاقتصادية والمالية، سعياً لتناول قضايا جيوسياسية كذلك. ومع ذلك، على مر السنوات، لم تظهر خلافات على السطح فحسب، بل تعمّقت خطوط الصدع، ما أدى إلى ظهور انقسام حاد حالياً بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من ناحية، وروسيا والصين من ناحية أخرى. أما أهمية المجموعة اليوم فتنعكس في حقيقة أن لأعضاء «مجموعة العشرين» نحو 80 في المائة من إجمالي الناتج العالمي، و75 في المائة من التجارة الدولية، وثلثي سكان العالم، و60 في المائة من مساحة اليابسة على مستوى العالم.

تحديات الغائبين

على صعيد متصل، لئن كانت الهند تأمل في حضور جميع رؤساء دول مجموعة العشرين، فإنها بالتأكيد شعرت بشيء من خيبة الأمل. إذ تصدر الغائبين الرئيس الصيني شي جينبينغ ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وكان لكل منهما أسباب جيوسياسية مختلفة.

غياب الرئيس الصيني شخصياً أو افتراضياً، كان بسبب تضارب المواعيد، وبعث رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ بدلاً من ذلك. وبالمثل، تغيب بوتين، المطلوب بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة في أوكرانيا، عن الحدث وأرسل وزير الخارجية سيرغي لافروف. ومع ذلك، رأى عدد من المراقبين في التغيب المزدوج ازدراء للهند، ومؤشراً لاستياء بكين من علاقات نيودلهي المتنامية بالولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات.

وحقاً، ويأتي غياب شي جينبينغ بمثابة تذكير بمدى السرعة التي يتطوّر بها النظام العالمي، و«الموقف الصعب الذي تجد الصين نفسها فيه الآن»، وفق المنظور الهندي. ويستشهد الجانب الهندي على ذلك بقول الرئيس الأميركي جو بايدن «رغم غياب شي، فإن قمة مجموعة العشرين تسير على ما يرام». بل ويذهب أبعد ليقول إن تغيب الزعيم الصيني أدى إلى نتائج عكسية، بينها بروز الهند بوصفها القائد المستحق في الجنوب العالمي ومجموعة «بريكس». فاليوم: «تبدو نيودلهي بمثابة جسر حيوي مع الغرب، وبدأت تبرز بوصفها قوة على صعيد التفوق الاقتصادي والعسكري الإقليمي، مع تمتعها بخيارات أكبر في تعاملها مع الولايات المتحدة وروسيا»، الأمر الذي تفتقر إليه الصين. وحول الصين أيضاً، يعلق راجيش غوبالان، أستاذ السياسة الدولية بجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي، قائلا: «يبدو أن الصين اتبعت نهج عدم التدخل في القمة بعد اجتماع مجموعة البريكس المؤلفة من خمس دول أعضاء، الشهر الماضي». وأردف أن بكين، على ما يبدو، لم تعد تنظر إلى مجموعة العشرين بوصفها تجمعاً دولياً رئيسياً. ويعني ذلك أنها ربما تعطي الأولوية فقط لتلك المؤسسات الدولية التي يمكنها السيطرة عليها، مثل مجموعة البريكس الموسعة، بينما تسعى إلى تقويض الأطر المتعددة القائمة. وأضاف غوبالان: «إن إمداد الهند بمنصة تستطيع من خلالها الاضطلاع بدور قيادي عالمي، كان خطوة ذكية من جانب بايدن وقادة مجموعة السبع الآخرين».

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (رويترز)

زيلينسكي... لم يُدع

وحول أبرز المتغيّبين، لم يجر توجيه دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لحضور القمة، مع قرار الهند قصر الدعوات على أعضاء «مجموعة العشرين» وتسع دول غير أعضاء. وكان زيلينسكي قد خاطب زعماء المجموعة عبر رابط فيديو خلال قمة بالي السابقة في إندونيسيا عام 2022. أما نيودلهي، فقد وقفت إلى جانب حليفتها القديمة موسكو في مواجهة كييف. ورأى مراقبون أن قرار الهند ألا تدعو الرئيس الأوكراني جاء بوصفه خطوة تتعمد تجنب إزعاج روسيا التي تتقاسم «شراكة استراتيجية خاصة ومتميزة» مع الهند. إلا أن زيلينسكي، في أي حال، أعرب عن خيبة أمله إزاء إعلان القمة، وقال إن الإعلان لا يعكس حقيقة العدوان الروسي ضد أوكرانيا، ولم يقدم أي دعم ملموس لأوكرانيا، ولم يفرض عقوبات ضد موسكو.

ولكن في سياق موازٍ، في خطوة غير مسبوقة أحدثت هزة في المجتمع الدبلوماسي الدولي، رحبت الهند بحرارة بالاتحاد الأفريقي خلال القمة، وعد المراقبون التحول إلى دور «بطل الجنوب» العالمي، هو أكبر مساهمة للهند. ويتضمن ذلك تحويل «مجموعة العشرين» إلى «مجموعة الـ21» مستقبلاً، من خلال ضم الاتحاد الأفريقي. وما يستحق الذكر، أن مصادر مطلعة أكدت أن هذه الفكرة جرى طرحها في يونيو (حزيران) من هذا العام، عندما كتب مودي إلى قادة «مجموعة العشرين» مقترحاً منح الاتحاد الأفريقي «العضوية الكاملة» في قمة نيودلهي.

وأضافت المصادر أن الفكرة نشأت بعد قمة «صوت الجنوب العالمي» في يناير (كانون الثاني) من هذا العام، التي شاركت فيها معظم دول القارة الأفريقية البالغ عددها 55 دولة. وجرت المناقشات في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، مقر الاتحاد الأفريقي. وحتى ذلك الوقت، لم يكن هناك سوى دولة واحدة من القارة الأفريقية بأكملها في «مجموعة العشرين» هي جنوب أفريقيا.

من ناحيتهم، شكا عدد من الزعماء الأفارقة من أن أوروبا ممثلة بخمس دول، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، في حين يستحق الاتحاد الأفريقي بدوره تمثيلاً مماثلاً. ومعلوم أن ناريندرا مودي، الذي أجرى زيارات لـ10 دول على الأقل في أفريقيا خلال السنوات التسع الماضية، أطلق حوارات مع قادة العالم، بما في ذلك الرئيس الأميركي بايدن والرئيس الروسي بوتين، بالإضافة إلى رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، ونال دعمهم لضم الاتحاد الأفريقي. وكانت حجة الزعيم الهندي في ذلك واضحة، ومفادها أن المستقبل المستدام لكوكبنا يتطلب الاعتراف بجميع الأصوات وتمثيلها، خاصة الأصوات الآتية من العالم النامي.

وهنا، أعرب الكاتب شوباجيت روي، عن اعتقاده أن هذه الخطوة «رسخت مكانة الهند بقوة بوصفها قوة جيوسياسية صاعدة عالمياً. كما يعد ذلك انعكاسا لقوة روابط نيودلهي بأفريقيا، ويتزامن كذلك مع تطلع الهند للحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ما يعد سبباً وراء حرص نيودلهي على حشد دعم أفريقيا التي تمتلك 55 صوتاً».

وفي هذا الإطار، نشير إلى أن تواصل الهند المنظم مع أفريقيا كان قد بدأ عام 2008، ولكن مع ذلك نجحت الصين في «سرقة» المسيرة، بعدما كانت قد بدأت تواصلها مع القارة الأفريقية لأول مرة عام 2000، عندما كان جيانغ زيمين رئيساً. ولقد بدأ عمل «منتدى التعاون الصيني - الأفريقي» (فوكاك) عندما انعقد الاجتماع الوزاري الأول في بكين ذلك العام، وقد قطعت الصين شوطاً طويلاً منذ ذلك الحين، ما يعد دليلاً على تطور المصالح الصينية داخل القارة الأفريقية.

رحبت الهند بحرارة بالاتحاد الأفريقي خلال قمة «مجموعة العشرين»

الرئيس الصيني شي جينبينغ (آ ب)

 

الهند والولايات المتحدة في «متابعة مشتركة» للحالة الصينية

وفق جملة من التحليلات والتوقعات، تظل الهند من أكثر الحلفاء أهمية للولايات المتحدة، في حين تبقى الصين في خلفية الصورة الأكبر هنا.

وما يمكن ملاحظته في هذا الإطار، أن الرئيس الأميركي جو بايدن تعمد تجنب إحراج القيادة الهندية، وذلك من خلال امتناعه عن الإعلان عن سلبية توجهات واشنطن إزاء بكين. لكن، مع ذلك، ما تلمسه الأوساط السياسية الهندية أن الأولوية الكبرى عند واشنطن إشراك نيودلهي في اللعبة الطويلة ضد الصين. وعلاوة على ذلك، وفي مسار مواز ومقابل، فإن الموافقة على الإعلان لا تنطوي على تهديد لموقف الولايات المتحدة تجاه روسيا، وليس ثمة رسالة من واشنطن إلى موسكو بأنها ستخفف من قوة سياستها تجاه دعم أوكرانيا أو انتقاد «عدوان» موسكو.

في مطلق الأحوال، استغلت الولايات المتحدة فراغ السلطة في غياب الرئيس الصيني لاتخاذ خطوة مهمة لتعزيز جهودها من أجل توقيع اتفاقات دفاعية جديدة مع الهند.

ويأمل بايدن حاليا في الاعتماد على سلسلة مشروعات البنية التحتية والاستثمارات الجديدة بوصفها دليلا قويا وموثوقا على التزام واشنطن تجاه دول العالم النامي، وتقديم بديل أفضل وأكثر موثوقية من الصين.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.