الخليج... حدائق وسط حرائق

من هجمات «11 سبتمبر» إلى الانهيارات الكبرى

عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)
عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)
TT

الخليج... حدائق وسط حرائق

عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)
عام 2026 أطلقت السعودية «رؤية 2030» بحزمة استثمارات ضخمة في قطاعات مختلفة (أ.ب)

من المقولات المقتبسة التي أفضّلها في تشخيص الواقع الذي عاشته المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية وتعيشه اليوم، ملاحظة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق ومستشار الأمن القومي، في كتابه المعنون «النظام العالمي: تأملات في شخصية الأمم ومسار التاريخ».

في هذا الكتاب، يناقش كيسنجر معركة البقاء بين الأمم؛ حيث يقول: «الشرق الأوسط يعيش نزاعاً يشبه النزاعات التي واجهتها أوروبا في القرن التاسع عشر من حروب دينية، نتيجة انهيار الدولة وتحويل أراضيها إلى قاعدة للإرهاب وتهريب السلاح، مما يؤدي إلى تفكك الدولة، وبالتالي تفكك النظامَيْن الإقليمي والدولي».

على مدار العقود الماضية شهدت المنطقة أحداثاً غير مسبوقة غيّرت ملامحها، وأثرت في بنية نظامها الإقليمي، كانت دول الخليج في قلب هذه الأحداث، ورغم التحديات والتهديدات الإقليمية والدولية التي واجهتها، استطاعت الحفاظ على استقرارها الداخلي وترسيخ دورها المحوري في تحقيق التوازن الإقليمي، مما عزّز مكانتها بوصفها ركيزة أساسية للأمن والاستقرار في المنطقة.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

أولى حروب القرن

كانت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 أولى حروب القرن التي غيّرت المعادلات الأمنية العالمية، وفرضت ضغوطات كبيرة على المنطقة من قِبل تنظيم «القاعدة» الإرهابي. شكّلت هذه الأحداث نقطة تحول حقيقية في جهود الدول في مكافحة الإرهاب والتطرف، ليس فقط على مستوى دول الخليج، بل على المستوى العالمي.

وقد تعرّضت السعودية ودول الخليج لسلسلة من الهجمات الإرهابية خلال العقود الماضية التي استهدفت أمنها واستقرارها. كان أشدها هجومين استهدف الأول مدينة ينبع الصناعية ومقر إحدى الشركات السويسرية، نفذه مصطفى الأنصاري أحد المنتمين لتنظيم «القاعدة» ممن شاركوا في صراعات بأفغانستان والصومال. أمّا الهجوم الآخر فكان في الخُبر؛ حيث استهدف مقار شركة «هلبيرتون» الأميركية النفطية ومجمعات سكنية، ما تسبب في اضطراب بأسعار النفط وتوتر الأوضاع الإقليمية.

استجابت دول الخليج لهذه التحديات عبر اتخاذ إجراءات صارمة في مكافحة الإرهاب وتجفيف مصادر تمويله. ففي عام 2002، أقرت دول مجلس التعاون استراتيجية أمنية مشتركة لمكافحة الإرهاب، تضمّنت 6 عناصر رئيسة تحت عنوان: «الاستراتيجية الأمنية لمكافحة التطرف المصحوب بالإرهاب».

وفي عام 2004، تم توقيع الاتفاقية الخليجية لمكافحة الإرهاب خلال اجتماع وزراء الداخلية في الكويت، لتكون إطاراً قانونياً يدعم جهود دول المجلس ويعزّز التنسيق بينها. وفي عام 2006، تم إنشاء لجنة أمنية دائمة مختصة بمكافحة الإرهاب، تُعقد اجتماعاتها بشكل دوري للنظر في القضايا المتعلقة بالإرهاب وتعزيز التعاون الأمني المشترك. استطاعت دول الخليج بذلك أن تبني منظومة متماسكة تركز على التصدي للإرهاب وتمويله بآليات واضحة وتنسيق فعّال بين دوله.

جندي أميركي يغطّي وجه تمثال صدام حسين بالعلم الأميركي في ساحة الفردوس ببغداد في 5 أبريل 2003 (أ.ف.ب)

مثّل غزو العراق في عام 2003 أحد أهم إرهاصات الحرب على الإرهاب؛ حيث كان زلزالاً هزّ منطقة الخليج وفتح فصلاً جديداً من الاضطرابات. فقد أدى سقوط نظام صدام حسين إلى فراغ أمني سمح بتصاعد القوى الطائفية وزيادة النفوذ الإيراني؛ مما زعزع الاستقرار الإقليمي. وعلى الرغم من رفض دول الخليج الغزو الأميركي للعراق وتأكيدها ضرورة احترام الشرعية الدولية، فإنها وجدت نفسها مضطرة إلى التعامل مع تداعياته للحفاظ على استقرار المنطقة. فعلى الصعيد السياسي عبّرت عن قلقها من تصاعد النفوذ الإيراني وسعت لدعم وحدة العراق واستقراره، مؤكّدة التزامها بسيادته واستقلاله ووحدة أراضيه، ودعّمت العملية السياسية التي قادتها الأمم المتحدة، بما في ذلك الانتخابات التشريعية وإقرار الدستور، مع الدعوة إلى تشكيل حكومة شاملة تمثّل جميع أطياف الشعب العراقي.

أمّا على الصعيد الأمني فقد عملت على تعزيز قدراتها الدفاعية وتكثيف التعاون الاستخباراتي وتعزيز الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة لتحييد النفوذ الإيراني. كما عزّزت إجراءاتها لحماية حدودها واستقرارها الداخلي، والحدّ من تداعيات الفوضى على الأمن الإقليمي.

 

 

غزو العراق في 2003 أحد أهم إرهاصات الحرب على الإرهاب وكان زلزالاً هزّ الخليج وفتح فصلاً جديداً من الاضطرابات

انهيارات كبرى

عندما اجتاحت المنطقة موجة ما يُسمّى «الربيع العربي» في عام 2011، كانت دول الخليج على موعد آخر يختبر قدرتها على الحفاظ على أمنها واستقرارها الداخلي، وسط انهيارات كبرى في الأنظمة السياسية المجاورة بدءاً من تونس، مروراً بمصر وليبيا وسوريا، وانتهاءً باليمن.

أدت هذه الأحداث إلى إسقاط الأنظمة السياسية وتفكيك بنيتها السياسية والاجتماعية، ما خلّف فراغاً سياسياً كبيراً، وفي ظل غياب بدائل جاهزة لقيادة المجتمع، سادت حالة من الفوضى، مما أدى إلى تصاعد الاضطرابات والمظاهرات، ونتج عن ذلك بيئة مواتية لظهور جماعات إرهابية وتدخلات أجنبية تسعى لتحقيق مصالحها على حساب استقرار المنطقة.

كانت أهم مخاوف دول الخليج من هذه التغييرات تتمثّل في انتشار ما تسميه آيديولوجية الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وما قد يترتب عليه من تداعيات إقليمية. كان القلق الرئيس يدور حول صعود جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم في هذه الدول وإمكانية تصدير تأثيرها إلى دول الخليج مما يهدد استقرارها الداخلي.

تعاملت دول الخليج مع أحداث ما يُسمّى «الربيع العربي» برؤية استراتيجية عميقة وإدراك واعٍ لتحديات المرحلة، مما مكّنها من اتخاذ خطوات مدروسة حافظت على استقرارها الداخلي ودورها الإقليمي. فركّزت على تعزيز تماسكها الداخلي والتفاعل بحكمة مع المطالب الشعبية لضمان استقرارها والحفاظ على وحدة نسيجها الاجتماعي.

أمّا إقليمياً فقد لعبت دوراً محورياً في احتواء تداعيات الأزمات، عبر دعم الأنظمة الحليفة التي تأثرت بالاضطرابات، والتدخل المباشر في بعض الدول، مثل اليمن والبحرين، للحفاظ على استقرارها ومنع انتشار الفوضى.

وبعد مرور أكثر من عقد على هذه الأحداث، التي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن في كثير من دول المنطقة، استطاعت دول الخليج أن تحافظ على استقرارها وتبرز بوصفها قوة إقليمية تُسهم في دعم المنطقة واستقرارها ومواجهة حالة الفوضى التي نتجت عن هذه الاضطرابات.

تحديات «كورونا»

ما أن بدأت المنطقة تلتقط أنفاسها حتى اجتاحت جائحة «كورونا» العالم في عام 2020، حيث واجه العالم تحدياً غير مسبوق أعاد صياغة الأولويات الصحية والاقتصادية وترك تأثيرات طويلة الأمد على مختلف المستويات.

تميّزت دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، بتعاملها الاستثنائي مع هذه الأزمة. فمنذ اللحظة الأولى لظهور الفيروس اتسمت استجابة المملكة بالإنسانية والحزم، حيث قدّمت الرعاية إلى الجميع دون تفرقة مع توفير العلاج المجاني وتوسيع القطاع الصحي وإطلاق حملات تطعيم سريعة أشادت بها المنظمات الدولية.

كما أثبتت دول الخليج الأخرى كفاءة عالية عبر خطط شاملة لتعزيز بنيتها الصحية والتكيُّف مع الأزمة، مقدمة نموذجاً فعّالاً في إدارة الأزمات. اقتصادياً، تعاملت دول الخليج مع تداعيات «كورونا» بحزم اقتصادية، حيث أثبتت مرونتها عبر دعم القطاعات المتضررة وتنويع مصادر دخلها.

على الرغم من تأثير الجائحة على الاقتصاد العالمي وأسعار النفط، أظهرت دول الخليج استعداداً استباقياً من خلال استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، مثل «رؤية المملكة 2030» ومشروعات التنويع الاقتصادي في باقي دول الخليج. بذلك، أظهرت دول الخليج خلال مرحلة جائحة «كورونا» قيادة واعية وقدرة فائقة على التكيف، ما أسهم في حماية شعوبها وضمان استقرارها الاقتصادي والاجتماعي في ظل التحديات غير المسبوقة التي فرضتها الأزمة.

تواجه المنطقة حالياً موجة جديدة من التصعيد؛ خصوصاً في ظل الحرب في غزة ومخاطر توسع المواجهات وامتداد رقعة الصراع إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ما فتح الباب أمام تحديات وتهديدات جديدة.

احتلّت الأزمة في غزة ولبنان صدارة اهتمامات دول الخليج ومساعيها لوقف الحرب (وكالة الأنباء السعودية)

حدائق وسط الحرائق

دول الخليج وسط هذه التوترات المتصاعدة ماضية في تأكيد قدرتها على التكيُّف من خلال طرح مبادرات دبلوماسية فعّالة وتعزيز التنسيق الدولي، ساعية إلى ترسيخ الاستقرار في منطقة تواجه الكثير من التحديات.

وفي إطار هذه الجهود، تحتل القضية الفلسطينية والحرب على غزة أولوية قصوى؛ حيث تؤكد دول الخليج ضرورة وقف الحرب و«جرائم القتل وتهجير السكان»، مع توفير الحماية الدولية للمدنيين الفلسطينيين. كما تدعم الجهود الدولية والإقليمية لإيجاد حل سلمي وفق «مبادرة السلام العربية»، وتحقيق حل الدولتين. أمّا في لبنان ومع تصاعد التوترات العسكرية مع «حزب الله»، فتواصل دول الخليج العمل ضمن خطة أشمل لتعزيز سيادة لبنان واستقراره، مستندة إلى التنسيق الدولي لضمان تنفيذ قرار مجلس الأمن «1701»، بما يُسهم في دعم الأمن والاستقرار ومنع انزلاق المنطقة إلى مواجهة أوسع. كما تستعد دول الخليج للتعامل مع مرحلة ما بعد الأسد في سوريا، مستهدفة إعادة بنائها بوصفها دولة مستقرة وبعيدة عن التدخلات الإيرانية، بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. ويتطلب هذا الهدف تنسيقاً دقيقاً مع الشركاء الإقليميين والدوليين لضمان استقرار دمشق والمنطقة بشكل عام.

يمكن القول إنه بعد مرور ربع قرن من التحولات الجذرية والتحديات المتعاقبة، أثبتت دول الخليج قدرتها على التحول إلى ركيزة أساسية للاستقرار في منطقة تعجّ بالاضطرابات فأصبحت بمثابة «حدائق وسط حرائق».

نجحت دول الخليج في تحقيق الأمن والاستقرار داخل حدودها، وامتدّ تأثيرها ليشمل محيطيها الإقليمي والعالمي، مما جعلها نموذجاً يُحتذى به في السعي نحو مستقبل أكثر استقراراً للجميع.

* باحث في العلاقات الدولية


مقالات ذات صلة

اجتماع وزاري خليجي الخميس لبحث تطورات سوريا

الخليج من الاجتماع الوزاري التحضيري للقمة الخليجية التي استضافتها الكويت مطلع ديسمبر الجاري (مجلس التعاون)

اجتماع وزاري خليجي الخميس لبحث تطورات سوريا

ذكرت مصادر مطلعة أن وزراء الخارجية بدول مجلس التعاون الخليجي سيلتقون يوم الخميس في الكويت لمناقشة تطورات الأوضاع في سوريا.

ميرزا الخويلدي (الكويت)
رياضة عربية من تدريبات المنتخب القطري استعداداً للبطولة (خليجي 26)

الكواري: عفيف ضمن القائمة القطرية وسيشارك إن سمحت ظروفه

أكد سعد الكواري المنسق الإعلامي للمنتخب القطري في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»، أن عودة أكرم عفيف لمنتخب قطر في «خليجي 26» واردة إذا سمحت ظروفه.

نواف العقيّل (الكويت)
الخليج جانب من المشاركين من الوزراء والسفراء والخبراء المعنيّين (مجلس التعاون)

بمشاركة دوليّة... ملتقى في الرياض يناقش الدبلوماسية الرقمية والتحالفات

استضافت «منظمة التعاون الرقمي»، الثلاثاء، الدورة الرابعة من «الملتقى الدبلوماسي»، بالتعاون مع أمانة مجلس التعاون الخليجي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج ناصر بوريطة مستقبلاً جاسم البديوي في الرباط (مجلس التعاون)

اجتماع خليجي - مغربي لتعزيز الشراكة مارس المقبل

وجّهت أمانة «مجلس التعاون» دعوة إلى وزير الخارجية المغربي لحضور اجتماع مع نظرائه الخليجيين يوم 6 مارس (آذار) 2025 في السعودية.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
الخليج وزراء الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي بعد اجتماعهم في الكويت (كونا)

وزراء الخارجية لتوحيد الموقف الخليجي من القضايا الإقليمية والدولية في «قمة الكويت»

بحث وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، اليوم (الخميس)، التطورات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تطورات القضية الفلسطينية.

ميرزا الخويلدي (الرياض)

فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرن

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
TT

فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرن

رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)

إذا كان هناك حدث فارق في التاريخ الإسرائيلي، فإنه يكمن في واقعتين مفجعتين في قاعة المحكمة المركزية في القدس، خلال الربع الأول من الألفية الثالثة؛ الأولى في عام 2009 والأخرى في 2024. «البطل» فيهما اثنان: الرئيس الأسبق إيهود أولمرت، والآخر هو الرئيس الحالي للحكومة بنيامين نتنياهو.

الرجلان يمثلان الجيل الثالث الصاعد من قادة «الحركة الصهيونية»، ويعكسان ما جرى لإسرائيل منذ أن انطلق كل منهما في سنوات التسعينات شابين «متألقين وموهوبين». كلاهما من «الليكود» اليميني، الذي هزم حزب الآباء والأجداد المؤسسين «العمل» في عام 1977، ومنذ ذلك الوقت يتوالى على الحكم.

برز أولمرت قائداً متمرداً، بنى مجده على محاربة الفساد. انتُخب للكنيست ثم لرئاسة بلدية القدس، ونفذ عشرات المشاريع لتهويدها وتعزيز الاستيطان فيها. ثم قاد في ظل أرئيل شارون الدولة العبرية، منذ عام 2001، إلى عصر جديد، لتتحول إسرائيل «امبراطورية» في التكنولوجيا والعلوم والذكاء الاصطناعي.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث في الكنيست إلى الصحافيين مايو 2023 (رويترز)

بين أولمرت ونتنياهو

على الساحة السياسية، حصل تطور بالغ لدى أولمرت نحو الدبلوماسية الواقعية؛ إذ اعترف بأخطاء الاحتلال وانسحب مع شارون من الليكود وقاد مشروع الانفصال عن قطاع غزة، وعندما مرض شارون وحل محله في رئاسة الحكومة عام 2005، أحدث انعطافاً حاداً في الموقف من الصراع مع الفلسطينيين. وتعامل باحترام كبير مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، واستقبله في مقرّه في القدس الغربية رافعاً علم فلسطين إلى جانب العلم الإسرائيلي. وعرض عليه مشروع حل حقيقياً للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس حل الدولتين.

أما نتنياهو، فقد نشأ قائداً سياسياً يتفوق في العمل الدبلوماسي ويتقن الخطابة باللغة الإنجليزية، لكنه اعتمد أساليب الخداع والاحتيال، فلم يلتقِ رئيساً أو ملكاً إلا وخرج بانطباع عنه أنه شخص غير صادق.

عام 2009، وعندما كان حل الدولتين مطلباً عالمياً، ألقى نتنياهو خطاباً وُصف يومها بـ«التاريخي» أعلن فيه تأييده هذا الحل. وكان أبلغ رد عليه، ما قاله عنه والده، المؤرخ بنتسيون نتنياهو: «إنه ليس أهبل. هو لا يوافق على حل الدولتين». بالفعل، عمل كل ما في وسعه ولا يزال ليمنع ذلك. وعلى الطريق، تمكن من الدخول في صدامات واحتكاكات مع معظم قادة العالم، بمن في ذلك رؤساء الولايات المتحدة الثلاثة، باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن.

وما بين أولمرت ونتنياهو إدانات ومحاكم. الأول، أدين في قاعة المحكمة المركزية في القدس بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، وأمضى في السجن 16 شهراً. وحال تقديم لائحة اتهام ضده استقال من منصبه، ليتعاون مع جهاز القضاء فانتهت محاكمته بعد سنة فقط. أما الآخر، فقد بدأت محاكمته قبل أربع سنوات ولا يبدو أنها ستنتهي قبل أربع سنوات أخرى وأكثر. وبسببها، يخوض حرباً ضد أجهزة القضاء.

كلاهما يتهم الجهاز القضائي بتدبير مؤامرة للإطاحة به؛ أولمرت يعتقد أن التهم ضده نُسجت لأنه كان قد انطلق في مسار سياسي يفضي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. وأصدر كتاباً يشرح فيه بالتفصيل كيف عملت ماكينة التحريض عليه. وما زال حتى اليوم متمسكاً بطريقه ويؤكد أن من يريد الخير للأجيال القادمة في إسرائيل يسعى لتسوية للصراع مع الفلسطينيين مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون.

ويتهم نتنياهو الجهاز القضائي بالتآمر عليه من الدولة العميقة اليسارية لغرض إسقاط حكم اليمين؛ لأنه يعمل بشكل حثيث ومثابر على منع إقامة دولة فلسطينية.

أولمرت متواضع ونتنياهو متكبر. غالبية الذين عملوا مع أولمرت يعتقدون أنه كان من أفضل رؤساء الحكومات عبر التاريخ الإسرائيلي ويمتدحون سماته. ويعتبرون فساده خطأً إنسانياً نادراً لم يكن يستحق محاكمته وسجنه. بينما يقول غالبية الذين عملوا مع نتنياهو إنه «لا صاحب له»، وينتقدون تصرفاته الفظة ويؤكدون أنه بلا مشاعر. زوجة الأول بقيت في الظل. وزوجة الآخر توصف بأنها «شريرة وتدير حروباً ضد كل الخصوم بطريقة تذكّر بأساليب المافيا».

يخوض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حرباً مع الجهاز القضائي الإسرائيلي (إ.ب.أ)

قصة محكمة

بالعودة إلى أروقة المحكمة، حرص الكثير من الوزراء والنواب على حضور جلساتها التي تنظر في قضية نتنياهو، للتضامن «التظاهري» معه. وزير التربية والتعليم في حكومة إسرائيل، يوآف كيش، الرجل المكلف تربية الأجيال الطالعة، حضر متأخراً. فراح يشق طريقه بمرفقيه إلى قاعة المحكمة المزدحمة ويلوح بيده مرّة، ثم مرّة ثانية وثالثة في محاولة يائسة لجذب انتباه نتنياهو المتهم، ولو بطرف عينه. ظل يلوّح حتى لاحظ نتنياهو ذلك. وعندها فقط بدا عليه الارتياح.

هذه الصورة ينقلها الصحافي بن كسبيت، ويقول: «لم أكن لأتطرق إلى هذا النفاق لولا أنه اتضح لنا، قبل يومين، وضع التعليم في إسرائيل تحت قيادة كيش. نتائج اختبارات TIMMS (مسابقة للعلوم والرياضيات)، واختبارات PISA (تهدف إلى معرفة مدى تمكن الطلاب والطالبات من المهارات والمعارف الأساسية) وضعت أمامنا صورة مرعبة. ليس أقل من ذلك. نوعية الطلاب الإسرائيليين آخذة في الانخفاض. طبقة المتميزين، التي كانت دائماً غنية وسميكة، أصبحت تتقلص».

يعتقد بن كسبيت أن «إسرائيل فقدت ميزات التفوق على الأعداء». لأنه «من دون العلوم والرياضيات والتكنولوجيا، لن تكون هناك الوحدة 8200 (شعبة الاستخبارات العسكرية). ومن دون التفوق العلمي، لن نحقق تفوقاً استخبارياً كما في تفجير أجهزة (البيجر) في لبنان (التي فجَّرتها إسرائيل بألوف عناصر (حزب الله) خلال الحرب)، ولن يكون لدينا تطبيق ويز (تابع لشركة متخصصة في الأمن السيبراني)، ولا قبة حديدية، ولا صواريخ السهم، ولا الطائرات من دون طيار، ولا الليزر، ولا القدرات التي أظهرتها أجهزتنا الأمنية في الـ14 شهراً الأخيرة (بعد الفشل الذريع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول)».

«لا يوجد نصر كامل ولا نصراً جزئياً... كل ما هنالك مجرد استيعاب الضحالة والتطرف والجهل والسطحية. إذا استمر هذا، وهو مستمر ويتكثف في ظل هذه الحكومة، فلن نتمتع في الحرب المقبلة بكل المزايا التي تمتعنا بها في الحرب الحالية. هذه ليست نبوءة غضب. بل إنها بداية التدهور نحو العالم الثالث يمكن أن نراها بالعين المجردة»، يقول بن كسبيت.

أسير الكرسي

هذا بيت القصيد. فإسرائيل في عهد نتنياهو الطويل، الذي أصبح رئيس حكومة لمدة أطول من أي رئيس سبقه، لم تعد إسرائيل ناجحة وهي تواجه خطر الانزلاق إلى الهاوية. ليس لأنه لا يعرف كيف يدير دولة، ففي بداية عهده حقق إنجازات كبيرة في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بل لأنه أصبح أسيراً لكرسيه. وليس فقط لأنه يحب هذا الكرسي ويعتقد بأن الله حبا شعب إسرائيل به، بل لأنه يدرك أيضاً أن نزوله عن الكرسي، سيقوده إلى السجن. ولأن السبيل الوحيد للنجاة هو في البقاء رئيساً للحكومة بفضل قوى اليمين المتطرف يقود سياسة تخدم أجندة سياسية للصهيونية الدينية الاستيطانية التي تحارب ضد أي إمكانية للسلام مع الفلسطينيين.

هكذا، فإن الدولة الحديثة، التي كانت في عام 2000 في مسيرة صعود، تغدو في مسيرة هبوط. ليست «بيت عنكبوت»، لكن مكامن قوتها تضعف. الدولة التي حظيت في عام 2002 بعرض عربي بالغ السخاء، بمبادرة سلام مع جميع الدول العربية وغالبية الدول الإسلامية مقابل تسوية القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين، تخوض حروباً جنونية تجعلها مكروهة ومنبوذة بلا أفق سياسي. وقيادتها تبشرها بالعيش على الحراب عقوداً طويلة، تورِث الأجيال القادمة مزيداً من الصراعات والأحقاد.

فلسطينيون ينظرون إلى موقع غارة إسرائيلية على منزل في دير البلح وسط قطاع غزة الأحد (رويترز)

نكبة بعد نكبات

في مقابل ذلك، هناك الفلسطينيون؛ شعب ذو طموحات عالية وجهود كبيرة للتقدم والتطور، هو أيضاً منكوب بالصراعات والأزمات ويعيش نكبة ثانية، ليس فقط بسبب الاحتلال، بل أيضاً بسبب تصرفات غير مسؤولة وغير محسوبة بشكل مهني سليم من بعض قادته.

مطلع التسعينات، كان حلم التحرر من الاحتلال قد اقترب كثيراً، عندما وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، اتفاقيات أوسلو، في عام 1993، مع القائد الإسرائيلي الجاد إسحق رابين. لقد أحدث عرفات ورابين انقلاباً في العلاقات بين الشعبين، لكن اليمين الإسرائيلي المتطرف قتل رابين وأحدث بذلك انقلاباً ثانياً. ونفذ مذبحة الخليل، التي فتحت الباب أمام يمين متطرف فلسطيني نفذ عمليات مسلحة خطيرة ضد المدنيين في إسرائيل.

كانت كل عملية كهذه تحقق للمتطرفين الإسرائيليين مكاسب جماهيرية ضخمة، فالمتطرفون يغذون بعضهم بعضاً ويؤججون العداء والكراهية ويعتاشون منها.

نحن اليوم في عصر غزة. الانقلاب الثالث، خلال ربع قرن. انقلاب قاد إسرائيل إلى حروب جنونية، وذهب بالفلسطينيين إلى نكبة ثانية، دفع ثمنها معهم أيضاً لبنانيون وسوريون ويمنيون. نكبة، تحمل في طياتها كل أسباب البؤس واليأس والإحباط. الشعبان يحتاجان إلى قيادات تعرف كيف تبني الأمل ولا تخضع للمأساة، وكيف تعثر على طاقات النور في حلكة الظلام. ومسارات التاريخ حبلى بالنماذج التي يولد فيها قادة يعرفون كيف يحدثون الانعطاف في حياة شعوبهم، لعلها تكون بشرى الربع المقبل من الألفية الثالثة.