فلسطين وإسرائيل... 3 انقلابات ونكبة في ربع قرنhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5094770-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-3-%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%86%D9%83%D8%A8%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B1%D8%A8%D8%B9-%D9%82%D8%B1%D9%86
رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت (يمين) مع رئيس الوزراء الحالي بنيامين في الكنيست 2009 (غيتي)
إذا كان هناك حدث فارق في التاريخ الإسرائيلي، فإنه يكمن في واقعتين مفجعتين في قاعة المحكمة المركزية في القدس، خلال الربع الأول من الألفية الثالثة؛ الأولى في عام 2009 والأخرى في 2024. «البطل» فيهما اثنان: الرئيس الأسبق إيهود أولمرت، والآخر هو الرئيس الحالي للحكومة بنيامين نتنياهو.
الرجلان يمثلان الجيل الثالث الصاعد من قادة «الحركة الصهيونية»، ويعكسان ما جرى لإسرائيل منذ أن انطلق كل منهما في سنوات التسعينات شابين «متألقين وموهوبين». كلاهما من «الليكود» اليميني، الذي هزم حزب الآباء والأجداد المؤسسين «العمل» في عام 1977، ومنذ ذلك الوقت يتوالى على الحكم.
برز أولمرت قائداً متمرداً، بنى مجده على محاربة الفساد. انتُخب للكنيست ثم لرئاسة بلدية القدس، ونفذ عشرات المشاريع لتهويدها وتعزيز الاستيطان فيها. ثم قاد في ظل أرئيل شارون الدولة العبرية، منذ عام 2001، إلى عصر جديد، لتتحول إسرائيل «امبراطورية» في التكنولوجيا والعلوم والذكاء الاصطناعي.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدث في الكنيست إلى الصحافيين مايو 2023 (رويترز)
بين أولمرت ونتنياهو
على الساحة السياسية، حصل تطور بالغ لدى أولمرت نحو الدبلوماسية الواقعية؛ إذ اعترف بأخطاء الاحتلال وانسحب مع شارون من الليكود وقاد مشروع الانفصال عن قطاع غزة، وعندما مرض شارون وحل محله في رئاسة الحكومة عام 2005، أحدث انعطافاً حاداً في الموقف من الصراع مع الفلسطينيين. وتعامل باحترام كبير مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، واستقبله في مقرّه في القدس الغربية رافعاً علم فلسطين إلى جانب العلم الإسرائيلي. وعرض عليه مشروع حل حقيقياً للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني على أساس حل الدولتين.
أما نتنياهو، فقد نشأ قائداً سياسياً يتفوق في العمل الدبلوماسي ويتقن الخطابة باللغة الإنجليزية، لكنه اعتمد أساليب الخداع والاحتيال، فلم يلتقِ رئيساً أو ملكاً إلا وخرج بانطباع عنه أنه شخص غير صادق.
عام 2009، وعندما كان حل الدولتين مطلباً عالمياً، ألقى نتنياهو خطاباً وُصف يومها بـ«التاريخي» أعلن فيه تأييده هذا الحل. وكان أبلغ رد عليه، ما قاله عنه والده، المؤرخ بنتسيون نتنياهو: «إنه ليس أهبل. هو لا يوافق على حل الدولتين». بالفعل، عمل كل ما في وسعه ولا يزال ليمنع ذلك. وعلى الطريق، تمكن من الدخول في صدامات واحتكاكات مع معظم قادة العالم، بمن في ذلك رؤساء الولايات المتحدة الثلاثة، باراك أوباما ودونالد ترمب وجو بايدن.
وما بين أولمرت ونتنياهو إدانات ومحاكم. الأول، أدين في قاعة المحكمة المركزية في القدس بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، وأمضى في السجن 16 شهراً. وحال تقديم لائحة اتهام ضده استقال من منصبه، ليتعاون مع جهاز القضاء فانتهت محاكمته بعد سنة فقط. أما الآخر، فقد بدأت محاكمته قبل أربع سنوات ولا يبدو أنها ستنتهي قبل أربع سنوات أخرى وأكثر. وبسببها، يخوض حرباً ضد أجهزة القضاء.
كلاهما يتهم الجهاز القضائي بتدبير مؤامرة للإطاحة به؛ أولمرت يعتقد أن التهم ضده نُسجت لأنه كان قد انطلق في مسار سياسي يفضي إلى تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، على أساس حل الدولتين. وأصدر كتاباً يشرح فيه بالتفصيل كيف عملت ماكينة التحريض عليه. وما زال حتى اليوم متمسكاً بطريقه ويؤكد أن من يريد الخير للأجيال القادمة في إسرائيل يسعى لتسوية للصراع مع الفلسطينيين مبنية على الاحترام المتبادل والتعاون.
ويتهم نتنياهو الجهاز القضائي بالتآمر عليه من الدولة العميقة اليسارية لغرض إسقاط حكم اليمين؛ لأنه يعمل بشكل حثيث ومثابر على منع إقامة دولة فلسطينية.
أولمرت متواضع ونتنياهو متكبر. غالبية الذين عملوا مع أولمرت يعتقدون أنه كان من أفضل رؤساء الحكومات عبر التاريخ الإسرائيلي ويمتدحون سماته. ويعتبرون فساده خطأً إنسانياً نادراً لم يكن يستحق محاكمته وسجنه. بينما يقول غالبية الذين عملوا مع نتنياهو إنه «لا صاحب له»، وينتقدون تصرفاته الفظة ويؤكدون أنه بلا مشاعر. زوجة الأول بقيت في الظل. وزوجة الآخر توصف بأنها «شريرة وتدير حروباً ضد كل الخصوم بطريقة تذكّر بأساليب المافيا».
يخوض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حرباً مع الجهاز القضائي الإسرائيلي (إ.ب.أ)
قصة محكمة
بالعودة إلى أروقة المحكمة، حرص الكثير من الوزراء والنواب على حضور جلساتها التي تنظر في قضية نتنياهو، للتضامن «التظاهري» معه. وزير التربية والتعليم في حكومة إسرائيل، يوآف كيش، الرجل المكلف تربية الأجيال الطالعة، حضر متأخراً. فراح يشق طريقه بمرفقيه إلى قاعة المحكمة المزدحمة ويلوح بيده مرّة، ثم مرّة ثانية وثالثة في محاولة يائسة لجذب انتباه نتنياهو المتهم، ولو بطرف عينه. ظل يلوّح حتى لاحظ نتنياهو ذلك. وعندها فقط بدا عليه الارتياح.
هذه الصورة ينقلها الصحافي بن كسبيت، ويقول: «لم أكن لأتطرق إلى هذا النفاق لولا أنه اتضح لنا، قبل يومين، وضع التعليم في إسرائيل تحت قيادة كيش. نتائج اختبارات TIMMS (مسابقة للعلوم والرياضيات)، واختبارات PISA (تهدف إلى معرفة مدى تمكن الطلاب والطالبات من المهارات والمعارف الأساسية) وضعت أمامنا صورة مرعبة. ليس أقل من ذلك. نوعية الطلاب الإسرائيليين آخذة في الانخفاض. طبقة المتميزين، التي كانت دائماً غنية وسميكة، أصبحت تتقلص».
يعتقد بن كسبيت أن «إسرائيل فقدت ميزات التفوق على الأعداء». لأنه «من دون العلوم والرياضيات والتكنولوجيا، لن تكون هناك الوحدة 8200 (شعبة الاستخبارات العسكرية). ومن دون التفوق العلمي، لن نحقق تفوقاً استخبارياً كما في تفجير أجهزة (البيجر) في لبنان (التي فجَّرتها إسرائيل بألوف عناصر (حزب الله) خلال الحرب)، ولن يكون لدينا تطبيق ويز (تابع لشركة متخصصة في الأمن السيبراني)، ولا قبة حديدية، ولا صواريخ السهم، ولا الطائرات من دون طيار، ولا الليزر، ولا القدرات التي أظهرتها أجهزتنا الأمنية في الـ14 شهراً الأخيرة (بعد الفشل الذريع في 7 أكتوبر/ تشرين الأول)».
«لا يوجد نصر كامل ولا نصراً جزئياً... كل ما هنالك مجرد استيعاب الضحالة والتطرف والجهل والسطحية. إذا استمر هذا، وهو مستمر ويتكثف في ظل هذه الحكومة، فلن نتمتع في الحرب المقبلة بكل المزايا التي تمتعنا بها في الحرب الحالية. هذه ليست نبوءة غضب. بل إنها بداية التدهور نحو العالم الثالث يمكن أن نراها بالعين المجردة»، يقول بن كسبيت.
أسير الكرسي
هذا بيت القصيد. فإسرائيل في عهد نتنياهو الطويل، الذي أصبح رئيس حكومة لمدة أطول من أي رئيس سبقه، لم تعد إسرائيل ناجحة وهي تواجه خطر الانزلاق إلى الهاوية. ليس لأنه لا يعرف كيف يدير دولة، ففي بداية عهده حقق إنجازات كبيرة في الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا، بل لأنه أصبح أسيراً لكرسيه. وليس فقط لأنه يحب هذا الكرسي ويعتقد بأن الله حبا شعب إسرائيل به، بل لأنه يدرك أيضاً أن نزوله عن الكرسي، سيقوده إلى السجن. ولأن السبيل الوحيد للنجاة هو في البقاء رئيساً للحكومة بفضل قوى اليمين المتطرف يقود سياسة تخدم أجندة سياسية للصهيونية الدينية الاستيطانية التي تحارب ضد أي إمكانية للسلام مع الفلسطينيين.
هكذا، فإن الدولة الحديثة، التي كانت في عام 2000 في مسيرة صعود، تغدو في مسيرة هبوط. ليست «بيت عنكبوت»، لكن مكامن قوتها تضعف. الدولة التي حظيت في عام 2002 بعرض عربي بالغ السخاء، بمبادرة سلام مع جميع الدول العربية وغالبية الدول الإسلامية مقابل تسوية القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين، تخوض حروباً جنونية تجعلها مكروهة ومنبوذة بلا أفق سياسي. وقيادتها تبشرها بالعيش على الحراب عقوداً طويلة، تورِث الأجيال القادمة مزيداً من الصراعات والأحقاد.
فلسطينيون ينظرون إلى موقع غارة إسرائيلية على منزل في دير البلح وسط قطاع غزة الأحد (رويترز)
نكبة بعد نكبات
في مقابل ذلك، هناك الفلسطينيون؛ شعب ذو طموحات عالية وجهود كبيرة للتقدم والتطور، هو أيضاً منكوب بالصراعات والأزمات ويعيش نكبة ثانية، ليس فقط بسبب الاحتلال، بل أيضاً بسبب تصرفات غير مسؤولة وغير محسوبة بشكل مهني سليم من بعض قادته.
مطلع التسعينات، كان حلم التحرر من الاحتلال قد اقترب كثيراً، عندما وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، اتفاقيات أوسلو، في عام 1993، مع القائد الإسرائيلي الجاد إسحق رابين. لقد أحدث عرفات ورابين انقلاباً في العلاقات بين الشعبين، لكن اليمين الإسرائيلي المتطرف قتل رابين وأحدث بذلك انقلاباً ثانياً. ونفذ مذبحة الخليل، التي فتحت الباب أمام يمين متطرف فلسطيني نفذ عمليات مسلحة خطيرة ضد المدنيين في إسرائيل.
كانت كل عملية كهذه تحقق للمتطرفين الإسرائيليين مكاسب جماهيرية ضخمة، فالمتطرفون يغذون بعضهم بعضاً ويؤججون العداء والكراهية ويعتاشون منها.
نحن اليوم في عصر غزة. الانقلاب الثالث، خلال ربع قرن. انقلاب قاد إسرائيل إلى حروب جنونية، وذهب بالفلسطينيين إلى نكبة ثانية، دفع ثمنها معهم أيضاً لبنانيون وسوريون ويمنيون. نكبة، تحمل في طياتها كل أسباب البؤس واليأس والإحباط. الشعبان يحتاجان إلى قيادات تعرف كيف تبني الأمل ولا تخضع للمأساة، وكيف تعثر على طاقات النور في حلكة الظلام. ومسارات التاريخ حبلى بالنماذج التي يولد فيها قادة يعرفون كيف يحدثون الانعطاف في حياة شعوبهم، لعلها تكون بشرى الربع المقبل من الألفية الثالثة.
يرى قادة الاستيطان أن وجود الرئيس دونالد ترمب في البيت الأبيض فرصة يجب ألا تمر بلا «إنجازات تاريخية» للمسألة اليهودية، خصوصاً الاستيطان في الضفة الغربية.
هجمات وعمليات عسكرية واضطرابات يثيرها المستوطنون: الضفة الغربية تشهد موجة من العنف. وفي حين أن الهدنة في غزة ما تزال صامدة، فإن جبهة الضفة على وشك الاشتعال.
حين قابلت سجّاني... الطفل «الداعشي» الصغيرhttps://aawsat.com/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%82/%D8%AA%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7/5111089-%D8%AD%D9%8A%D9%86-%D9%82%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%AA-%D8%B3%D8%AC%D9%91%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%81%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%BA%D9%8A%D8%B1
أطفال من مخيم «الهول» في مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا 12 نوفمبر 2020 (غيتي)
لم يكن خالد يعلم أن مقابلته هذه ستعيد فتح باب من الماضي.
عندما بدأ يتحدث، كانت نبرة صوته مألوفة بطريقة غريبة، لكنني لم أستطع أن أحدد السبب على الفور. بدا خالد (اسم مستعار) متردداً في البداية، وكأنه يخشى أن يقول أكثر مما ينبغي، ثم انساب الحديث بحرية أكبر، حتى وصلت المقابلة إلى نقطة جعلت قلبي يخفق بقوة.
«كنت في الثالثة عشرة عندما أصبحت سجاناً. لم يكن لدينا خيار. كانوا يعطوننا أوامر، وإذا رفضنا، نتعرض للعقاب. كنت أفتح الأبواب، أقدم الطعام، وأراقب السجناء. بعضهم كان يبكي، بعضهم كان يصرخ، وبعضهم كان صامتاً طوال الوقت. كنا نعاملهم كأعداء، حتى لو لم نفهم لماذا كانوا هناك».
عند هذه الجملة، شعرت بقشعريرة تسري في جسدي. سجن الميادين. عام 2015. طفل في الثالثة عشرة مكلف بمراقبتي أنا وبقية السجناء. بدأت أتذكر تلك الفترة القاتمة من حياتي، عندما تم اعتقالي في سوريا لأنني رفضت العمل صيدلانياً مع تنظيم «داعش» الذي كان مسيطراً على المنطقة. شهدت تلك الفترة محاولات التنظيم الحثيثة لضمان الولاء الكامل، خاصة من أصحاب الاختصاصات الطبية. من لم يعلن ولاءه، كان مصيره الاضطهاد، الملاحقة، وأحياناً الاعتقال.
كنت واحداً ممن وقعوا في هذا المصير. لم يأتِ اعتقالي من العدم. في إحدى الليالي، طرقوا باب منزلي بعنف. لم يكن السبب معلناً في البداية، لكنني علمت لاحقاً أن جاري، وهو أحد عناصر التنظيم، وشى بي. ادّعى أنني أخالف الشريعة لأنني كنت أستمع إلى الأغاني. كانت تلك التهمة كافية ليقتادوني إلى السجن، وهناك التقيت بسجاني الصغير.
السجّان الصغير
اليوم وفيما أجري هذه المقابلة من ضمن 17 شهادة جمعتها حول «أشبال الخلافة» توالت الأسئلة في ذهني، فكبحت اندفاعها. لم أكن أريد أن أسأل مباشرة، لكن الفضول بدأ ينهشني.
طرحت أسئلة ملتوية، حاولت من خلالها أن أتأكد من شكوكي دون أن أثير انتباه خالد وقد بلغ منتصف العشرينات. ولكن عندما بدأ يصف السجن، وممراته، ووجبات الطعام القليلة التي كانت تُقدم للسجناء، والطريقة التي كان يُؤمر بها بفتح الأبواب وإغلاقها، قطعت الشك باليقين. لقد كان هذا الصبي سجاني. صراع داخلي انتابني، ولم أعرف كيف أتصرف. جزء مني أراد أن يواجه خالد بالحقيقة، أن يخبره أنني كنت هناك، وأنه كان أحد أولئك السجانين الذين وقف أمامهم صامتاً وهو يحمل المفاتيح. لكن جزءاً آخر مني رفض الفكرة.
كيف سأخبره بذلك؟ ماذا سيفيده أن يعرف؟ اليوم أدرك أن خالد لم يكن سوى طفل، مجرد أداة في يد قوة أكبر منه بكثير. أي غضب قد أشعر به، أي كراهية أو استياء، لا يمكن توجيهها إليه. لكن رغم كل هذه التبريرات، لم أستطع تجاهل الشعور المتناقض الذي اجتاحني. أنظر إلى خالد، وأحاول منطقياً أن أراه بمعزل عن ماضيه، لكنني عاطفياً لم أستطع الفصل بين الاثنين.
«هل كنتَ قاسياً على السجناء؟» سألته. تنهد وأطرق رأسه، كأنه يحمل ثقلاً لا يمكن احتماله: «أحياناً كنت أحاول أن أكون لطيفاً فأعطي بعضهم طعاماً أكثر، أو أترك الباب مفتوحاً لبضع ثوانٍ إضافية. لكن في أحيان أخرى... كنت قاسياً. كنت خائفاً أيضاً. فإذا تهاونت، كانوا سيضعونني في السجن معهم». كلماته ضربتني بقوة.
لم أعرف إذا كان خالد يتذكرني، أو أنني مجرد سجين من عشرات مروا عليه، لكنني أعرف الآن أنه كان هو أيضاً يعيش صراعاً داخلياً ربما لم يحسمه بعد.
شاب يعانق مسنًا بعد حصوله على موافقة لمغادرة «الهول» السوري (إ.ف.ب)
فوضى ومساومات
على رغم المصادفة الغريبة إلا أن قصة خالد ليست فريدة من نوعها. هي واحدة من 17 شهادة حية تم جمعها على مدار الأشهر الستة الماضية تقاطعت فيها تجارب الماضي المؤلمة بتحديات الحاضر والمستقبل، نركز فيها على مسار شخصيتين نرصد عبرهما مآلات التنظيم في سوريا اليوم؛ خالد، السجان الذي يحاول التعايش مع ماضيه وسامي (اسم مستعار) الفتى الذي عاش تجربة مواجهة الضحية في أضعف لحظاتها. تتقاطع هاتان الشهادتان مع شهادات أخرى تكشف عن أثر العنف الممنهج والتجنيد القسري على مستقبل هؤلاء الأطفال وتوثق تجربة جيل كامل سُرقت طفولته، لكنها أيضاً تطرح أسئلة ملحة حول هزيمة التنظيم فعلياً أو احتمالات نهوضه من جديد.
فبعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها سوريا، على أثر سقوط نظام بشار الأسد واستلام «هيئة تحرير الشام» عبر الإدارة الجديدة زمام المرحلة، يواجه هؤلاء الشباب تحديات جديدة في ظل بيئة مضطربة تزداد تعقيداً، إذ تثير الفوضى الأمنية والفراغ الناجمين عن إعادة توزيع السيطرة بين الفصائل المختلفة مخاوف من عودة نشاط التنظيمات المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، في وقت لا تزال «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تسيطر على شمال شرقي سوريا، تمسك بملف بالغ الحساسية، هو معتقلي التنظيم من رجال ونساء وأطفال لديها.
ويعد هذا الملف ورقة مساومة سياسية تستخدمها «قسد» للضغط على القوى الدولية والإقليمية لضمان استمرار الدعم العسكري والسياسي لها. ومع غياب حلول واضحة أو خطط فعالة للتعامل مع هذه الفئة، يظل الخطر قائماً من استغلالهم مستقبلاً لتحقيق مكاسب سياسية أو لتعزيز نفوذ عسكري في المنطقة، خصوصاً مع احتمالات تفكيك معتقل «الهول» وخروج أعداد إضافية منهم إلى المجهول.
«داعش» يهدد سوريا الجديدة
مع إصدار التنظيم بياناً حديثاً يهاجم فيه الحكومة السورية الجديدة ويتوعدها إذا «حادت عن طريق الصواب»، تتزايد المخاوف من أن هذه التهديدات ليست مجرد تصريحات دعائية، بل جزء من استراتيجية أوسع لإعادة فرض نفسه على المشهد السوري.
ولا تزال جيوب تنظيم «داعش» نشطة في البادية السورية والعراقية، حيث تنفذ خلاياه عمليات اغتيال وتفجيرات متفرقة، إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في هذه العمليات المحدودة، بل في قدرة التنظيم على الاستفادة من الثغرات المتزايدة لإعادة ترتيب صفوفه.
ولعل الأكثر إثارة للقلق هو أن بعض القوى المحلية، سواء من فلول النظام السوري السابق أو حتى قوات سوريا الديمقراطية، قد تجد في استمرار التهديد الداعشي أداة يمكن استخدامها لزعزعة الاستقرار الهش وللحصول على دعم إضافي، سواء من التحالف الدولي أو من الجهات الفاعلة في المشهد السياسي السوري حيث قد يُسمح للتنظيم بتنفيذ عمليات معينة، أو يتم التغاضي عن تحركاته، أو يتم تكليف أفراد منه بمهام في سياق صراعات النفوذ والضغوط السياسية المتبادلة.
سيارة شرطة تابعة للحكومة السورية الجديدة تعبر شارع بجوار مسجد الساحة في تدمر بوسط سوريا في 7 فبراير 2025 (أ.ف.ب)
ويمتلك التنظيم من جهته دافعًا قويًا للانتقام من هزائمه السابقة، خصوصاً أن قياداته تدرك أن خسارة الأرض لا تعني بالضرورة نهاية الآيديولوجيا. ولذلك، يسعى التنظيم إلى إعادة بناء نفسه عبر استغلال عدة عوامل، من بينها المظالم المحلية، والانقسامات العشائرية، والتدهور الاقتصادي، وحالة الإحباط واليأس التي يعيشها الكثير من مقاتليه السابقين، بمن فيهم أولئك الذين تم تجنيدهم أطفالاً تحت راية «أشبال الخلافة».
هؤلاء، الذين نشأوا في بيئة الحرب والعنف، يواجهون اليوم واقعاً قاسياً: مجتمعاتهم الأصلية ترفضهم، والفرص الاقتصادية تكاد تكون منعدمة، بينما تلاحقهم وصمة الماضي أينما ذهبوا. ومع غياب برامج إعادة تأهيل فعالة، يظل خطر عودتهم إلى التنظيم قائماً، خاصة في ظل استمرار محاولات «داعش» استقطابهم، إما عبر الإغراءات المالية، أو عبر استغلال شعورهم بالعزلة وانعدام المستقبل.
فهل يشكل هؤلاء الشباب، الذين كبروا بين فوهات البنادق، قنابل موقوتة تهدد استقرار سوريا؟
أو أنهم ضحايا ظروف قاسية، تعلّموا منها وينتظرون إعادة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً من الحل بدلاً من المشكلة؟
كابوس الماضي الثقيل
«أستيقظ كل ليلة على صراخي. أرى وجوههم في أحلامي. أطفال مثلي، اختفوا واحداً تلو الآخر. بعضهم قتل في المعارك، وبعضهم حاول الهرب فأُعدم. كنت أتظاهر بالنوم حتى لا أسمع بكاءهم في الليل». يقول سامي الذي يبلغ اليوم 24 عاماً عن رحلته المؤلمة ضمن «أشبال الخلافة» في سوريا، وهو بعمر لم يتجاوز الخامسة عشرة، رحلة لم تنتهِ بسقوط التنظيم، بل تحولت إلى كابوس مستمر يطارده في نومه ويقظته على حد سواء ويعيش معركة يومية مع نفسه دون أن يدري إن كان سينجو أم لا.
وعلى رغم أن كلا من خالد وسامي خرجا من كنف التنظيم، لكن حياتهما لا تزال تحمل آثار الماضي.
يعيش خالد في إحدى قرى إدلب، يعمل في محطة وقود، بالكاد يستطيع تأمين قوت يومه. وبعدما اضطر للعيش مع خاله والزواج من ابنته، وجد نفسه في دوامة فقر لا مخرج منها. فهو لم يكمل تعليمه ولم يكتسب صنعة تعينه.
أما سامي، فيعيش في ريف دير الزور الشرقي الخاضع لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، حيث يحاول إعادة بناء حياته في ظل تحديات اقتصادية وملاحقات أمنية مستمرة.
سوق «الهول» في الحسكة شمال شرقي سوريا 30 يناير 2025 (أ.ب)
كثيرون ممن خرجوا من تجربة «أشبال الخلافة» توزعوا في أماكن مختلفة، تتفاوت فيها ظروفهم المعيشية بين الصعوبة والاستقرار. سامي القادم من حماة اضطر لتغيير اسمه والسكن في ريف دير الزور الشرقي خوفاً من الانتقام والوصمة الاجتماعية. بعضهم يعيش في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، يواجهون البطالة وانعدام الاستقرار، بينما اضطر آخرون إلى تغيير أماكن سكنهم بسبب الخوف من محيطهم الاجتماعي.
في تركيا وإقليم كردستان، يعمل الناجون في مهن شاقة، مثل البناء ومعامل النسيج أو التنظيف، لساعات طويلة وفي ظروف قاسية.
وبدأ بعض هؤلاء الشباب بتلقي الدعم النفسي، والبعض القليل وجد طريقه في العمل أو الدراسة، محاولين ترك الماضي وراءهم خصوصاً إذا ما حظوا بدعم أسرهم.
لكن التحدي الأكبر يبقى في نظرة المجتمع لهم كقنبلة موقوتة، لا كأطفال سرقت طفولتهم، ويستحقون فرصة حياة.
يقول سامي: «عندما يعرف الناس قصتي، أرى الخوف في أعينهم. لا يريدون الاقتراب مني، رغم أنني لم أختر تلك الحياة».
أما خالد، فيجد صعوبة حتى في الحديث عن ماضيه: «كيف يمكنني أن أشرح؟ كيف أقول إنني لم أكن أملك خياراً؟».
ورغم اختلاف مصائرهم، فإن القاسم المشترك بينهم جميعاً هو صعوبة التخلص من الظلال الثقيلة للماضي وهم يتأرجحون بين كونهم ضحايا أو جلادين أو تهديدات أمنية محتملة.
أن تأخذ سبية أو تشهد إعداماً
يتذكر سامي حين جُنّد وهو طفل، يوماً محدداً غيّر مجرى حياته بالكامل. يوم لم تفارقه تفاصيله حتى بعد سنوات من هروبه، ويقول:
«كنت في الخامسة عشرة عندما طلبوا مني الذهاب إلى غرفة وأخذ سبية. لم أفهم تماماً ما يريدون مني فعله. كنت أشعر بالخوف والارتباك، ولكن لم يكن مسموحاً لي بأن أسأل. عندما دخلت، رأيت فتاة صغيرة تبكي. كانت طفلة، أصغر مني بسنة أو سنتين. نظرنا إلى بعضنا، وبدأنا بالبكاء معاً. لم أستطع تحمل الموقف وشعرت بأنني أختنق. تلك الليلة لم أنم، كنت أرى وجهها في كل مكان. كنت أتساءل: هل ما زالت هناك؟ هل أنقذها أحد؟».
ما زال سامي يعيش في تلك الليلة، وكأن الزمن توقف عندها. كلما تذكرها، تتجدد مشاعره كما لو أنه ما زال ذلك الصبي الخائف الذي لم يفهم العالم.
أما خالد، فكان أصغر من سامي عندما جُند، ويتذكر أول عملية إعدام شهدها، ولا تزال تفاصيلها محفورة في ذاكرته كأنها حدثت أمس:
«كنت في الخامس الابتدائي. كان أمامنا رجل مقيد على ركبتيه، وعيناه معصوبتان. القائد أمر أحد الفتيان بالتقدم. لم يرفض، لم يتردد. وكأنه آلة مبرمجة. رفع السكين وقطع رأس الرجل. لم أتحرك. لم أستطع حتى أن أرمش».
بعد سنوات، ما زال خالد يعاني من آثار بعد الصدمة التي أحدثتها تلك اللحظة، مشاهد الدماء، الصوت الخافت الأخير للضحية، النظرات المذعورة، كلها مطبوعة في ذاكرته. لم يكن وحده في ذلك، فقد أظهرت الشهادات التي جمعناها أن معظم «الأشبال» الذين شهدوا عمليات الإعدام الأولى كانوا يعانون من حالة من الصدمة العاطفية الصامتة، حيث كان يُطلب منهم عدم إظهار أي تأثر، بل وتشجيعهم على الإعجاب بالمشهد بعدّه «تنفيذاً لحكم الله».
يقول ناصر، أحد الناجين من هذه التجربة: «كنا مجموعة من الأطفال، لا نعرف ماذا يحدث حقاً. في البداية، كنت أظن أن كل شيء مجرد تمثيل، حتى أدركت أن الدماء حقيقية. كنت أحاول ألا أنظر، لكن القادة كانوا يجبروننا على المشاهدة. يقولون: هذا مصير المرتدين، وهذا سيكون مصيركم إذا خالفتم الأوامر».
كان الهدف واضحاً: تحويل الأطفال إلى آلات قتل، ونزع إنسانيتهم تدريجياً عنهم وتحويلهم إلى أدوات في ماكينة الموت الجماعي.
بعد سنوات من الفرار من التنظيم، لا يزال سامي يستيقظ كل ليلة على صراخه. يقول إنه يرى الفتاة الصغيرة في أحلامه باستمرار: «أحياناً أراها تصرخ، أحياناً تكون صامتة، لكن نظرتها تطاردني. لا أستطيع الهروب منها، كما لم تستطع هي الهروب مني حينها».
أما خالد، فمشكلته مختلفة، لكنها متجذرة في صدمته ذاتها. يقول بصوت منخفض وكأنه يخشى أن يسمعه أحد: «كلما رأيت سكيناً، أشعر برعشة. لا أستطيع حتى تقطيع الخبز دون أن تعود لي الصور. حتى حين أشاهد فيلماً عادياً فيه مشهد عنف، أشعر أنني أختنق».
تظهر شهادات أخرى أن العديد من «الأشبال السابقين» يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة بدرجات متفاوتة. يقول ياسر، أحد الناجين: «أحلم دائماً بأنني أركض في ممر طويل لا نهاية له، وفي نهايته أرى وجوه القتلى تنظر إليّ. لا أستطيع الهروب، لا أستطيع حتى الصراخ».
جيل من الأطفال يولد في مخيم غالبية سكانه من أسر «داعش» (الشرق الأوسط)
رسالة تجنيد من مجهول
على الرغم من انهيار دولة «الخلافة»، لم يتوقف تنظيم «داعش» عن محاولاته لاستعادة نفوذه عبر حواضنه السابقة نفسها. لكن الأساليب تغيّرت، وأصبحت أكثر تعقيداً ولا مركزية، ما يجعل من الصعب تتبعها أو القضاء عليها تماماً. فمع ظاهرة التكليف بمهام محددة خارج الإطار التنظيمي أو قيادة مركزية، أصبح هناك عمل مستقل، ودون تنسيق مباشر أحياناً، لدرجة أن بعض الأفراد المستهدفين قد يتلقون أكثر من عرض للتجنيد من جهات مختلفة تابعة للتنظيم، دون أن يعرفوا أيها أكثر ارتباطاً بهيكل القيادة السابق.
يقول خالد: «وقعت في الأسر وبعد فترة من خروجي، جاءني شخص لا أعرفه، بدا ودوداً جداً. لم يقل لي مباشرة إنه من التنظيم، لكنه كان يلمّح دائماً إلى أن الماضي لم ينتهِ، وأن هناك فرصة للعودة إلى العائلة. وبدا أنه يعرف تفاصيل عن حياتي، وعن سجني، وحتى عن الأشياء التي لم أخبر بها أحداً. فمن أين حصل على هذه المعلومات؟».
مثل خالد، تلقى سامي أيضاً عروضاً غير مباشرة، لكنها كانت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم التنظيم حسابات مزيفة على «تلغرام» و«واتساب» لاستدراج الشباب. ويقول: «ذات يوم، وصلتني رسالة من مجهول عبر تلغرام. قال لي إنه يعرف ما مررت به، وإن هناك طريقة لأجد مكاني في الحياة من جديد. بدأ بالحديث عن الظلم، وكيف أننا مجرد أدوات تم استغلالها ثم رُميت جانباً. كان بارعاً جداً في اختيار كلماته، كأنه طبيب نفسي يعرف كيف يصل إلى نقاط ضعفي».
وبالإضافة إلى الأساليب التقليدية للتجنيد، يستغل التنظيم التكنولوجيا الحديثة، وألعاب الفيديو التي تروج للأفكار الجهادية والمنتديات المغلقة. في بعض الأحيان، يتم إرسال روابط مشفرة تحتوي على رسائل دعائية، أو فرص تعليمية ومنح دراسية تبدو عادية، لكنها في الواقع وسيلة استدراج إلى مناطق النفوذ.
وبدأ التنظيم في فترة من الفترات الاعتماد على أشخاص لم يكونوا مقاتلين بالضرورة، بل عملوا في مجالات مدنية ولهم قبول بين الناس مثل عمال الإغاثة أو الخدمات اللوجيستية أو غيرها من القطاعات المدنية التي كانت تابعة للتنظيم في فترة سيطرته. ويقول خالد: «أخبرني صديق قديم بأنه يعمل مع شخص ميسور يقوم بتوزيع الأموال والسلال الغذائية والبطانيات للقرى الفقيرة، وقال لي إنه بإمكاني الانضمام والعمل معه. لاحقاً، عرفت أن هذا العمل ليس سوى غطاء، وأن بعض العاملين فيه هم في الحقيقة من أفراد التنظيم السابقين».
سجن الصناعة الذي يضم عناصر «داعش» في شمال شرقي سوريا الخاضع لحراسة «قسد» (رويترز)
المجتمع يرفضنا والحكومة لا تثق بنا
تشكل الظروف الاقتصادية، كما الوصمة الاجتماعية، عاملاً رئيساً في استمرار نجاح التنظيم في تجنيد الشباب. يعيش كثير من هؤلاء الفتية في مناطق تفتقر إلى فرص العمل، ويعانون من التهميش الاجتماعي، ما يجعلهم عرضة للإغراءات المالية التي يقدمها التنظيم.
يقول سامي: «عندما خرجت، لم أجد أي عمل. حاولت أن أبدأ من جديد، لكن الجميع كان ينظر إليّ كتهديد. لم أكن أملك شيئاً، ولا مستقبلاً. في لحظات اليأس، فكرت: ماذا لو عدت؟ على الأقل سأحصل على شيء مقابل المخاطرة. لا أحد يقبل توظيفي هنا، الجميع يراني تهديداً».
أما خالد، فيتحدث عن شعور آخر يلازم معظم الناجين من تجربة «أشبال الخلافة»: العزلة. «المجتمع لا يريدنا، والحكومة لا تثق بنا. نحن عالقون في مكانٍ لا نعرف إلى أين نذهب منه. عندما يأتي شخص ويقول لك: نحن لم ننسَك، نشعر أنك ما زلت واحداً منا، فإنك قد تفكر في الأمر».
أحد الشهود الآخرين قال: «عندما لا تجد طعاماً، وعندما يرفض الجميع توظيفك لأنك كنت يوماً جزءاً من التنظيم، تبدأ في التفكير في الخيارات المتاحة أمامك. بعضنا قوي بما يكفي لرفض العودة، لكن البعض الآخر قد لا يملك القدرة نفسها».
حرب طويلة
من الأمور التي زادت من ارتباك الناجين أن التنظيم يبدو وكأنه يعرف كل تحركاتهم. لم يكن الأمر يقتصر على مجرد رسائل أو محاولات لقاء، بل في بعض الأحيان كانوا يجدون أنفسهم محاطين بأشخاص يعرفون عنهم تفاصيل لم يشاركوها مع أحد.
يقول خالد: «بعد خروجي بفترة، كنت أعيش في مكان بعيد عن أي شيء له علاقة بالتنظيم. لكن فجأة، ظهر شخص في المسجد الذي كنت أصلي فيه. كان يتحدث عن كيف أن بعضنا قد ضلّ الطريق، لكنه يستطيع العودة. عندما اقتربت منه وسألته عن قصده، قال لي شيئاً جعل الدم يتجمد في عروقي: أنت كنت هناك، أنت تعرف ما أعنيه».
قد تكون دولة «الخلافة» قد سقطت، لكن أفكارها لم تختفِ، وأساليبها تتطور دائماً لتتلاءم مع أي واقع جديد. بالنسبة لخالد وسامي وغيرهما من «الناجين»، فإن الصراع لم يكن يوماً مجرد معركة سلاح، بل هو حرب نفسية مستمرة، حيث يحاولون الحفاظ على هويتهم الجديدة، بينما يواجهون أشباح الماضي ومحاولات التنظيم لاستعادتهم، بينما سوريا اليوم مفتوحة على خيارات لا تحصى.