اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

نقص التغذية المزمن يهدد 600 مليون شخص بحلول 2030

TT

اقتصاد العالم على إيقاع حربَي أوكرانيا وغزة

تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)
تراجع التضخم إلى 2.4 في المائة مع انخفاض الزيادات بتكلفة البقالة والزيادات الإجمالية بالأسعار لأكبر اقتصادين ألمانيا وفرنسا (رويترز)

يصر ديفرين، سائق الأجرة البريطاني، على أن يشير بيده لمحدّثه إلى مساحات خضر على جانبي الطريق بين لندن ومدينة ستانستد (شمال شرقي العاصمة البريطانية) قائلاً: «هذه الحقول مزروعة بالقمح». كلما انكشفت للطريق السريع مساحة خضراء، كرر ديفرين جملته: «حقول قمح، بدأ بعضها يميل إلى الاصفرار». ثم يفسّر إصراره على الإشارة إلى ذلك بأنها المرة الأولى التي يرى فيها مساحات مزروعة بالقمح في هذه المنطقة، عازياً لجوء بريطانيا إلى زراعتها إلى الحرب الروسية ـــ الأوكرانية.

ثم يخوض مع محدثه في حوار عن غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار التي شهدتها البلاد بعد انتهاء فترة كورونا، إذ أصبح جنيهاً ونصف الجنيه سعر كل سلعة كانت تباع بجنيه واحد قبل سنة ونصف السنة. ويقول ديفرين ساخراً: «هل تعيد حقول القمح هذه الأسعار إلى ما كانت عليه؟ كل شيء في هذه البلاد، من السلعة البسيطة إلى إيجار المنازل، ارتفع سعره نحو 50 في المائة، فيما الرواتب لا تزال على حالها». ويضيف: «كذلك ارتفعت الرسوم الحكومية وأقساط الجامعات، وكأن الحكومة تريد استرداد المبالغ الطائلة التي أنفقتها خلال إغلاق (كورونا) على الناس والشركات».

ما يتمناه ديفرين وكل البريطانيين وسواهم من سكان دول العالم يحتاج إلى «معجزة مالية ونقدية»، وفق ما يقول الخبير الاقتصادي إسلام الشافعي لـ«الشرق الأوسط».

ويوجز الشافعي، الذي يتابع الاقتصاد العالمي من مكان إقامته في نيويورك، ما أصاب العالم خلال هاتين السنتين بالأرقام والوقائع، قائلاً: «تسببت الحرب الروسية ــ الأوكرانية في مشكلات للاقتصاد العالمي أدت إلى تباطئه، خصوصاً أن هذا الضغط جاء بعد الخروج من فترة كورونا التي أحدثت أزمة في سلاسل الإمداد وحالة من التضخم في كثير من الاقتصادات الكبرى. وعلى سبيل المثال، وصل التضخم في بريطانيا إلى 11 في المائة، وهذا من أعلى معدلات التضخم المتوقعة لدولة صناعية مثل بريطانيا لكنه عاد وانخفض إلى 2 في المائة في مايو (أيار) الماضي فيما سمي إعجازاً نقدياً ومالياً.

ذلك مع العلم أن انخفاض التضخم لم ينعكس على السلة الاستهلاكية للبريطانيين التي ترتفع سلعها بوتيرة بطيئة. وكذلك أصاب التضخم أميركا، إذ توقع البنك الدولي تراجع الاقتصاد الأميركي من 5.7 في المائة إلى 1.6 في المائة، وتراجع الاقتصاد الصيني، (مصنع العالم) من 8.1 في المائة إلى 3.2 في المائة».

وبعد كورونا فوراً، جاءت الحرب الروسية ــ الأوكرانية، وهما دولتان ذواتا مشاركة كبيرة جداً في حجم التجارة العالمية، فتعاظمت مشكلة الإمدادات وتعطلت سلاسلها نتيجة الحرب التي لم تقتصر تداعياتها على مسألة الحبوب وزيوت الطعام، بل على سبيل المثال أيضاً تسببت في إغلاق جزئي لصناعة السيارات في ألمانيا، وكذلك تأثرت كثيراً صناعة الحديد والصلب في اليابان. حصلت اضطرابات كثيرة عالمية في الصادرات السلعية، كما حصل ارتفاع كبير في كلفة النقل، إذ فرض الاتحاد الأوروبي حظراً على الطائرات والشاحنات في روسيا ما رفع تكلفة النقل 60 في المائة.

وهذا ما تؤكده دراسة حديثة نشرها «مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية»، إذ أكد أن الحرب الروسية الأوكرانية أضافت مزيداً من الأعباء على الاقتصاد العالمي؛ فارتفعت الديون، وزاد حجم الاستثمارات الخاصة المتعثرة، وشهدت التجارة الدولية أبطأ معدل للنمو لم تشهده منذ خمسة عقود، كما أن ارتفاع أسعار الفائدة جعل من الصعب على الحكومات والشركات الخاصة الحصول على الائتمان وتجنب التخلف عن السداد. ويزداد ذلك بشكل خاص بالنسبة للعديد من الاقتصادات ذات الدخل المنخفض مع ارتفاع تكاليف الاقتراض، وابتعاد المستثمرين عن الأسواق الناشئة خوفاً من التوقعات العالمية الضعيفة بالفعل، والانكماش الإقليمي.

وتفيد الدراسة بأن الديون الحالية، وخاصة في شكل سندات حكومية وصكوك، تتعرض لضربة قوية بالفعل مع انخفاض قيمتها في التداول، حيث تفيد التقارير بأن السندات السيادية في بعض الدول الأوروبية كانت من بين أسوأ السندات العالمية أداءً خلال تلك الفترة المواكبة لبداية حرب إسرائيل على غزة. وإذا كان هذا هو الحال بالنسبة للحكومات ذات التصنيفات الائتمانية الجيدة إلى الممتازة، فإن الحكومات ذات الائتمان الأضعف ستشهد خصم الديون الحالية في التداول، ويصبح الوصول إلى الديون الجديدة أكثر تكلفة، وربما أكثر صعوبة في جذب المستثمرين.

إشارة أخرى للتأثير الاقتصادي ستكون في صناديق المؤشرات للأسهم في الأسواق الناشئة، مما يعني أن الشركات المدرجة في البورصات الإقليمية مدرجة في المؤشرات الرئيسية، مثل مؤشر MSCI. وقد انخفضت أسهم الأسواق الناشئة في MSCI بنسبة 1 في المائة تقريباً في الأسبوع الثاني من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، بسبب التوترات في الشرق الأوسط والصراع المحتمل.

لاعبان كبيران

للحرب الروسية تكلفة كبيرة على أكثر من صعيد، وتقدر بمليارات الدولارات. وفيما لم تعلن الدول الخسائر التي تكبدتها، فإن «سكاي نيوز» نقلت في فبراير (شباط) الماضي تصريحاً لمسؤول رفيع في وزارة الدفاع الأميركية (لم تذكر اسمه) قال فيه إن روسيا أنفقت على الأرجح 211 مليار دولار على تجهيز أفراد قواتها ونشرهم وصيانة أسلحتهم لتنفيذ عمليات في أوكرانيا، وإن موسكو خسرت أكثر من 10 مليارات دولار بسبب إلغاء صفقات أسلحة أو تأجيلها، مضيفاً أن «الحرب كلفت روسيا نحو 1.3 تريليون دولار من النمو الاقتصادي المتوقع حتى عام 2026».

محصول قمح يتم جمعه في حقل قرب كييف على رغم الحرب الروسية على أوكرانيا (أ ف ب)

جاء التصريح الأميركي فيما كانت إدارة الرئيس جو بايدن تمارس ضغوطاً على مجلس النواب الأميركي لقبول حزمة من المساعدات الأمنية الدولية بقيمة 95 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان.

لماذا كان للحرب الروسية ــ الأوكرانية كل هذا التأثير؟ يضيف الشافعي قائلاً: «لأن روسيا وأوكرانيا لاعبان دوليان كبيران في الاقتصاد العالمي؛ يسيطران على 53 في المائة من التجارة العالمية لزيت الطعام والحبوب، ويستحوذان على 27 في المائة من تجارة القمح العالمية. وهذه نسب كبيرة جداً. ويضاف إلى ذلك توقف صادرات النفط الروسي، التي تشكل 12 في المائة من السوق العالمية للنفط، وكذلك المشتقات النفطية التي تشكل 15 في المائة من تجارة العالم. توقّف هذه الصادرات أدى إلى عجز كبير، ومن ثم ارتفاع كبير في الأسعار. أوروبا تستورد 45 في المائة من حاجتها للنفط والغاز من روسيا، وتوقف ذلك ينعكس ارتفاعاً كبيراً في الأسعار.

إلا أن الغاز والنفط الروسيين استمرا، رغم الحرب، في التدفق إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب الأوكرانية إلى مصافي التكرير في التشيك وسلوفاكيا والمجر». ووفق تقرير لمجلة «إيكونوميست»، فإن أوروبا كانت تعتمد على روسيا في 40 في المائة إلى 45 في المائة من وارداتها من الغاز ونحو ربع نفطها. ومنذ ذلك الحين، حاولت روسيا التنمر على أوروبا لإسقاط العقوبات الاقتصادية عن طريق خنق الإمدادات. لكن أوروبا، بدورها، فصلت نفسها تقريباً عن الطاقة الروسية. لكن ليس بالكامل، إذ يواصل الجانبان الالتزام باتفاق نقل الغاز الذي تم التوصل إليه بوساطة من الاتحاد الأوروبي لعام 2019 الذي تنتهي مدته نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024 لتسدل معه واحدة من أقدم وأكبر الروابط الاقتصادية بين روسيا وأوروبا من خلال نقل الغاز. كييف من جهتها أعلنت أنها لن تمدد الاتفاق مع شركة «غازبروم» الروسية، فيما أكد مسؤولون روس أنه لا مفاوضات جارية مع أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي.

الأمن الغذائي

أما بالنسبة إلى الغذاء، فيقول الشافعي: «كل دولة تأثرت بحسب اعتمادها على نفسها، وبحسب علاقتها في الاستيراد من روسيا أو أوكرانيا. دول الشرق الأوسط تعتمد بنسبة 75 في المائة من وارداتها من القمح على أوكرانيا وروسيا. أضف إلى ذلك، محاولة الغرب مساندة أوكرانيا ضد روسيا، وهي أصلاً خرجت من فترة كورونا منهكة». وأضاف: «بالتزامن مع ذلك، ارتفعت أصوات في بريطانيا تطالب بخفض ميزانية الدفاع من أجل التخلص من حالة التضخم، على اعتبار أن بريطانيا لا تملك ما يكفي لإمداد أوكرانيا بالسلاح، فيما أميركا تعاني من ديون تبلغ 33 تريليون دولار ومشكلات داخلية وتضخم، وهي مطالبة بإمداد أوكرانيا للوقوف أمام روسيا التي تعد خصماً غير سهل. الحرب الروسية الأوكرانية كشفت عن نقاط الضعف في التصنيع العسكري في دول الاتحاد الاوروبي وأميركا أيضاً. وكل ذلك شكل ضغوطاً رهيبة على ميزانيتها التي كانت أصلاً مضغوطة».

من جانبه، يؤكد الخبير الدولي في الأمن الغذائي مهاب فؤاد الأعور لـ«الشرق الأوسط»، أن حالة الأمن الغذائي العالمي تتأثر بشكل كبير في الجائحات والأزمات العالمية بين الدول، مشيراً إلى أن الأزمة بين روسيا وأوكرانيا تركت صدمة في أسواق السلع الغذائية وأضعفت التعافي عقب جائحة كورونا، حيث أسهمت في حدوث ركود اقتصادي وارتفاع للأسعار خلال الأعوام الماضية متأثرة بضعف الإمدادات الغذائية وارتفاع أسعار المدخلات الزراعية والطاقة، وتقويض فرص العمل والدخل للأشخاص الأكثر ضعفاً، وهو ما حال دون حدوث انخفاض في معدلات الجوع المستهدفة عالمياً، حيث توقع التقرير الأخير حول حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم أن يعاني ما يقرب من 600 مليون شخص من نقص تغذية مزمن في عام 2030. وهو ما يزيد بنحو 23 مليوناً لو لم تحدث الأزمة الروسية الأوكرانية.

ويقول الأعور: «إن دول الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا، حيث تأتي مصر في مقدمة دول الشرق الأوسط التي تعتمد على استيراد الحبوب من روسيا وأوكرانيا، بما يساوي 23 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2020، وتليها السعودية بمبلغ 17 مليار دولار في الفترة نفسها، وبعدها تركيا بحوالي 12.5 مليار دولار، ثم المغرب بمبلغ 8.7 مليار دولار، والإمارات بـ6.1 مليار دولار، والجزائر بمبلغ 5.5 مليار دولار في الفترة بين عامي 2016 و2017، ثم تونس والسودان والأردن واليمن وليبيا وفلسطين والكويت وقطر وعمان».

اتفاق الحبوب

وكانت روسيا وافقت على صفقة مع أوكرانيا، بوساطة تركيا والأمم المتحدة، تقضي بتسهيل مرور الصادرات الزراعية الروسية والأوكرانية عبر البحر الأسود لمدة عام انتهى في يوليو (تموز) 2023. وتجرى حالياً مفاوضات لإعادة تفعيل الاتفاق الذي قضى بعودة حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستوى ما قبل الحرب؛ أي تصدير 5 ملايين طن متري شهرياً، وتضمن الاتفاق عدة بنود وقَّع عليها الأطراف الأربعة.

ونصَّ الاتفاق على أنه يقضي بتفتيش السفن المشاركة في تصدير الحبوب الأوكرانية عند الدخول والخروج من البحر الأسود للتأكد من عدم حمل أسلحة على متنها، وهذا ما قد أعلن عنه أطراف الاتفاق، كما تضمن الاتفاق أنه تُصدر الحبوب من خلال ثلاثة موانئ بحرية هي: أوديسا، ووچورنوموركس، ويوزهنو، على أن تكون تلك الموانئ مطلة على البحر الأسود، وأهم تلك الموانئ ميناء أوديسا الذي يطل على البحر الأسود.

متى التعافي؟

هل هناك أمل بالتعافي القريب؟ يجيب الشافعي: «التعافي يكون في كل دولة بحسب وضعها وإمكاناتها وقدراتها على التعامل مع الصدمة. هناك دول بدأت تتحدث عن تعاف مثل بريطانيا التي أفادت آخر الأرقام بأن التضخم فيها نزل من 11 في المائة إلى 2 في المائة، وهذا أكبر معدل هبوط للتضخم على مدار 50 سنة، لكن التأثير سيبقى قوياً ما دامت هاتان الحربان قائمتين».

عمال يجلسون أمام لافتة كُتب عليها: «أوقفوا وحش التضخم» في ميناء هامبورغ (رويترز)

أما الأعور فيؤكد أن «الأزمة تسببت في تباطؤ التعافي في عام 2022 بنسبة نقطة مئوية واحدة حيث سجل 3.4 نقطة مئوية فقط. كما أن مؤشر منظمة الفاو لأسعار الأغذية قفز لأعلى مستوى له على الإطلاق في مارس (آذار) 2022. وهو ما رفع فاتورة واردات الأغذية في العالم لأعلى مستوى لها في 2022، كما شهدت فاتورة واردات المدخلات الزراعية العالمية زيادة بنسبة 48 في المائة لتصل إلى 424 مليار دولار أمريكي في العام نفسه. وارتفعت معدلات التضخم طوال عام 2022 في جميع الاقتصادات تقريباً، وتجاوز التضخم الكلي العالمي 9 في المائة خلال النصف الثاني من العام، وهو أعلى مستوى له منذ عام 1995».

وتأتي أهمية الأزمة لكونها شملت اثنين من منتجي السلع الرئيسيين في العالم، حيث كانا في 2021 من بين أكبر ثلاثة مصدرين عالميين للقمح والذرة وبذور اللفت وأقراص بذور دوار الشمس. كما أن روسيا تعدّ مصدراً بارزاً للأسمدة. وفي الفترة بين عامي 2016 و2021، أنتجت أوكرانيا وروسيا أكثر من 50 في المائة من إمدادات العالم من بذور دوار الشمس، و19 في المائة من الشعير في العالم، و14 في المائة من القمح، و30 في المائة من صادرات القمح العالمية، مع اعتماد ما لا يقل عن 50 دولة على روسيا وأوكرانيا للحصول على 30 في المائة أو أكثر من إمدادات القمح.

وفي تقرير منفصل، رفعت منظمة الأغذية والزراعة الدولية (فاو)، توقعاتها للإنتاج العالمي من الحبوب في 2024 بنحو 7.9 طن بزيادة 0.3 في المائة لتصل إلى 2.854 مليار طن بزيادة طفيفة على مستويات 2023 ليسجل أعلى مستويات له على الإطلاق.

ويضيف الأعور: «تم اتخاذ إجراءات لمواجهة التحديات عبر استراتيجيات لتغيير النظم الغذائية والعمل على توفير أنظمة غذائية صحية مستدامة وميسورة التكلفة، وتشمل دمج السياسات الإنسانية والإنمائية وسياسات بناء السلام في المناطق المتضررة من الصراعات، وتعزيز قدرة الفئات الأكثر تضرراً على مواجهة الأزمات الاقتصادية، والمشاركة في إدارة سلاسل الإمداد الغذائي لخفض تكاليف المواد الغذائية، وحل مشكلة الفقر وعدم المساواة، وتعزيز البيئات الغذائية وتغيير سلوك المستهلك لتعزيز الأنماط الغذائية ذات الآثار الإيجابية على صحة الإنسان والبيئة، فضلاً عن السياسات التي تم اتخاذها في كل بلد على حدة لمواجهة تلك المشكلات».

النداءات الإنسانية

أطفال فلسطينيون يبحثون عن بقايا طعام في القمامة في منطقة دير البلح بعد انتشار المجاعة جراء الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة (دي بي أي)

الأزمات التي تعاني منها الدول، خصوصاً الدول المانحة، انعكست سلباً على مساعدة الفئات الأكثر تضرراً من الحروب. ويقول الشافعي: «في بداية الحرب الروسية – الاوكرانية غادر أوكرانيا 7 ملايين شخص إلى دول أوروبا. والأمم المتحدة تقول إن هناك 15 مليوناً في حاجة إلى الغوث. ومن ثم فهذه الحرب سببت ضغطاً شديداً على هذه الدول التي لديها مشكلاتها ومصاعبها المالية، ما جعل نداءات الأمم المتحدة لتمويل اللاجئين تقابل باستجابات ضعيفة جداً. وإذا أضفت إلى ذلك حركة اللجوء الفلسطيني الآن والاحتياج الإنساني نتيجة الحرب الإسرائيلية على غزة وضرب منظمة أونروا وما إلى ذلك، فهي تحتاج إلى مصاريف أكثر ودعم أكبر».

تأثير حرب غزة

وبالنسبة إلى الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن تأثيرها المباشر والكبير كان على إسرائيل نفسها، إذ تعطل الاقتصاد الإسرائيلي وتكبد خسائر فادحة، حيث أظهرت معطيات بنك إسرائيل ووزارة المالية الإسرائيلية أن تكلفة الحرب منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي حتى نهاية مارس 2024، بلغت أكثر من 270 مليار شيقل (73 مليار دولار).

وبحسب بيانات وزارة الأمن الإسرائيلية، فإن كلفة الحرب اليومية منذ 7 أكتوبر حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، بلغت مليار شيقل يومياً (270 مليون دولار)، قبل أن تنخفض خلال العام 2024 لتصل إلى 350 مليون شيقل (94 مليون دولار).

لكن تأثير هذه الحرب على الاقتصاد العالمي نتج عن الهجمات المستمرة لـ«الحوثيين» (الانقلابيين اليمنيين) على السفن في البحر الأحمر، ما تسبب في تراجع حركة مرور السفن بشكل كبير، وانخفض حجم التجارة في مضيق باب المندب، الذي تمر عبره السفن للوصول إلى قناة السويس من المحيط الهندي، بنسبة كبيرة.

وأفاد رئيس هيئة قناة السويس المصرية أسامة ربيع، في أحدث بيان، بأن عدد السفن التي تستخدم القناة انخفض إلى 20148 سفينة في عام 2023-2024 من 25911 سفينة في العام المالي الذي سبقه 2022-2023، وبالتالي تراجعت إيراداتها إلى 7.2 مليار دولار من 9.4 مليار دولار .

وقدّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (ومركزها باريس)، الاثنين 5 فبراير 2024، أنّ الارتفاع الأخير في أسعار الشحن البحري قد يؤدي إلى زيادة تضخم أسعار الواردات في بلدان المنظّمة الثمانية والثلاثين بنحو 5 نقاط مئوية إذا استمرت هذه الزيادة بأسعار الشحن، وفق ما نقلت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية المختصّة بالاقتصاد.

سفينة تحمل حاويات تمر عبر قناة السويس المصرية (الموقع الإلكتروني لهيئة قناة السويس)

يعلق الشافعي على ذلك بالقول: «بالنسبة إلى حرب غزة ما كان ليكون لها تأثير دولي لولا التحرك الإيراني في الأساس، الذي ينفذه الحوثيون في البحر الأحمر، لعرقلة الملاحة فيه. قناة السويس يمر فيها 12 في المائة من التجارة العالمية، ومن هنا جاء التأثير على 12 في المائة من حركة التجارة العالمية. ووفق بيانات هيئة قناة السويس، فإن مرور السفن ناقلات المستوعبات انخفض بنسبة 67 في المائة، ومن ثم فإن هذه السفن أصبحت تتفادى المرور في البحر الأحمر وتذهب عبر رأس الرجاء الصالح، ما زاد كلفة النقل نتيجة زيادة المسافة التي أصبحت تقطعها 6 آلاف كيلومتر و15 يوماً في الملاحة، ومن ثمّ زيادة في استهلاك الوقود والوقت في إيصال البضائع، ما انعكس سلباً على التجارة العالمية، إضافة إلى تسديد المستهلكين هذه الأثمان الإضافية».

وعلى الرغم من تأزم الأوضاع الاقتصادية في معظم دول العالم، فإن صندوق النقد الدولي يرى أن هناك تعافياً عالمياً مطرداً «لكنه بطيء ويختلف من منطقة إلى أخرى». ويقول الصندوق في تقريره «آفاق الاقتصاد العالمي 2024 – 2025» الصادر في أبريل (نيسان) الماضي: «تشير تنبؤات السيناريو الأساسي إلى استمرار نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 3.2 في المائة خلال عامي 2024 و2025، وتراجع التضخم العالمي باطراد، من 6.8 في المائة في 2023 إلى 5.9 في المائة في 2024، و4.5 في المائة في 2025، مع عودة الاقتصادات المتقدمة إلى مستويات التضخم المستهدفة في وقت أقرب من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ومن المتوقع بوجه عام أن يشهد التضخم الأساسي تراجعاً بشكل أكثر تدرجاً.


مقالات ذات صلة

بعد 8 أشهر من التصعيد... لماذا لم يردع التدخل الأميركي هجمات الحوثيين؟

تحليل إخباري في الآونة الأخيرة لجأ الحوثيون إلى استخدام الزوارق المسيّرة المفخخة في مهاجمة السفن (أ.ف.ب)

بعد 8 أشهر من التصعيد... لماذا لم يردع التدخل الأميركي هجمات الحوثيين؟

أجمع باحثون يمنيون أن إدارة بايدن ليست عاجزة عن وقف هجمات الحوثيين وإنهاء تهديد الملاحة، ولكنها لا تريد ذلك لأسباب تتعلّق باستراتيجيتها الخارجية والداخلية.

علي ربيع (عدن)
شمال افريقيا حاويات شحن تمر عبر قناة السويس (رويترز)

استمرار توترات البحر الأحمر «يعمِّق» أزمة قناة السويس المصرية

أعلنت مصر، الخميس، عن تراجع كبير في إيرادات قناة السويس، ما «يعمِّق» أزمة خامس أكبر مصدر للدخل بالعملات الأجنبية في البلاد.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
العالم العربي وزارة الخزانة الأميركية (رويترز)

أميركا تفرض عقوبات تستهدف الشبكة المالية للحوثيين

أصدرت الولايات المتحدة، اليوم الخميس، عقوبات لمكافحة الإرهاب تتعلق باليمن على أفراد وكيانات مرتبطة بالوسيط المالي للحوثيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي سفينة شحن ترسو في ميناء عدن باليمن بعد تعرضها لهجوم في البحر الأحمر (رويترز)

تقرير: ناقلة نفط تعود أدراجها بعد تعرضها لهجوم من «الحوثيين»

أوضح مركز المعلومات البحرية المشترك في البحر الأحمر وخليج عدن اليوم (الثلاثاء) إن الناقلة «تشيوس ليون» التي ترفع علم ليبيريا حولت اتجاهها لطريق العودة.

«الشرق الأوسط» (صنعاء)
العالم العربي بفضل الدعم المقدم من مركز الملك سلمان للإغاثة حققت الصحة العالمية نجاحات كبيرة في اليمن (الأمم المتحدة)

​«الكوليرا» يتفشّى بشكل «مخيف» في مناطق سيطرة الحوثيين

كشفت منظمة الصحة العالمية عن انتشار مخيف لوباء الكوليرا في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين بشمال اليمن وقالت إن عدد الإصابات المسجلة تقترب من 100 ألف حالة.

محمد ناصر (تعز)

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

TT

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)
متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)

يصعبُ وضع خط زمني واضح للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى حوادث العنف الأخيرة ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما ترتب عنها من مظاهرات ضد الوجود التركي ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري.

في تلك الحوادث يتبدل موقع السوريين بين كونهم ضحايا لموجات العنصرية في تركيا، وضحايا التهميش في مناطق سيطرة المعارضة. ولولا الزمن الفاصل بين تلك الحوادث وأسبقية وقوع إحداها قبل الأخرى وإن بأيام معدودة أو ساعات أحياناً، لأمكن اعتبار أي منها سبباً لما بعدها أو نتيجة لما قبلها. لكن الواقع المعاش ليس بهذا الوضوح.

خطورة تسريب البيانات

في الأيام القليلة الماضية، تراجعت حدة الصدامات المباشرة على خلفية أحداث قيصري، لكن بعض المؤشرات المقلقة بقيت تظهر بين الحين والآخر، سواء على شكل مزيد من «الأحداث الفردية» كاعتداء في مطعم هنا أو حديقة عامة هناك، إلى أن جاء تسريب بيانات أكثر من 3 ملايين سوري مقيم في تركيا عبر حساب على منصة «تلغرام» باسم «انتفاضة تركيا» ليدق ناقوس خطر من نوع جديد. فقد تضمنت البيانات، معلومات حساسة، مثل الأرقام الوطنية للأشخاص السوريين دون سواهم من المقيمين الأجانب، واسم الأب والأم، ومكان وتاريخ الولادة، وعنوان السكن ورقم الهاتف. وهذه قواعد بيانات شخصية يفترض أنها محفوظة لدى دوائر الهجرة بالدرجة الأولى بالاضافة إلى الجهات المختصة الأخرى، ويأتي تسريبها ليضع مزيداً من الضغوط على السوريين؛ لأنه يعرّض سلامتهم للخطر. فليس سراً أن هجمات في قيصري قبل 3 أيام فقط على هذا التسريب، ترافقت مع تداول المهاجمين معلومات محددة عن أماكن السوريين وأرزاقهم؛ ما يشكل تنبيهاً خطيراً لما قد يحدث مع انكشاف هذه البيانات وإمكانية استخدامها للملاحقة والترهيب.

اللافت، كان تعامل السلطات التركية مع المسألة وكأنها مجرد خطأ تقني؛ إذ أعلنت دائرة الهجرة أن المعلومات الواردة في البيانات «قديمة نسبياً»، ثم قامت بحذف القناة عن «تلغرام»، في حين سارعت وزارة الداخلية بإعلان أن المسؤول عن التسريب هو طفل يبلغ من العمر 14 عاماً. وأضاف بيان الداخلية أنه «سيتم القبض على جميع الذين يحاولون خلق الفوضى، ومن يستخدمون الأطفال في استفزازاتهم».

أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)

ليلة الرعب في قيصري

قبل حادثة تسريب البيانات كانت الشرارة التي أطلقت موجة العنف الأقوى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما لحقها من رد فعل سوري على الرموز والمؤسسات التركية في الشمال السوري وأدت إلى اشتباكات مباشرة أودت بحياة 11 سورياً على يد القوات التركية في مناطق الشمال السوري.

فقد انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي لشاب يتحرش جنسياً بطفلة في مدينة قيصري التركية مع إشاعة أنباء مغلوطة بأن الرجل سوري والطفلة تركية. خلال ساعات، كانت مجموعات تركية شبه منظمة بدأت في تنفيذ هجمات استهدفت بالحرق والتكسير سيارات ومحال تجارية ومساكن للسوريين في قيصري، وكل من يشتبه بأنهم سوريون في الشوارع. وعلى رغم تأكيد ولاية قيصري بأن الرجل سوري، وقد جرى اعتقاله، وأن الطفلة سورية وتم نقلها إلى أحد مراكز الحماية التابعة لوزارة الأسرة، فإن الهجمات ضد السوريين لم تتوقف، بل توسعت إلى أكثر من مدينة تركية واستمرت بضعة أيام تعرّض خلالها حتى السياح في مدينة كإسطنبول لهجمات ومضايقات.

هذا الجو دفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى ملازمة منازلهم، وإسدال الستائر والاعتماد على خدمات التوصيل والحرص على الهدوء والتحدث بالتركية في المواصلات العامة عند ضرورة الانتقال أو الامتناع عن التحدث مطلقاً في الشوارع أو الأماكن العامة. الحدائق والشوارع في المدن ذات الكثافة السورية خلت تماماً من العائلات وأُغلقت المحال التجارية ولم يعاد فتحها حتى وقت الكتابة. أما الذين يملكون سيارات خاصة واضطروا إلى الخروج في هذه الفترة، فقد ركنوا سياراتهم خوفاً، واعتمدوا على المواصلات لكون سيارات الأجانب في تركيا تحمل رمزاً خاصاً يبدأ بحرف M أو MP وبالتالي يمكن تمييزها بسهولة في الشوارع.

ولعل أكثر المتضررين كانوا أصحاب المحال التجارية وعمال المياومة في مصانع الألبسة أو القطاع الزراعي الذين لم يخرجوا للعمل منذ نحو أسبوع تقريباً، وهم الحلقة الأضعف بشكل عام، ولا سيما في أوقات كهذه. فلحظة اللقاء النادرة بين الأحزاب السياسية المتخاصمة، هي لدى تحميل اللجوء السوري مسؤولية الأزمات في البلاد، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تركيا منذ أكثر من سنتين، بما في ذلك التضخم الذي بات يتجاوز 70 في المائة.

تحريض عفوي - منظّم

أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى أن المشاركين بأعمال العنف ضد السوريين كانوا يتواصلون عبر 4 مجموعات في «واتساب» كانت تُستخدم سابقاً للتهرب من عمليات الشرطة الروتينية، وتضم كل منها نحو 500 شخص.

اللافت، أن هذه المجموعات انقلبت فجأة للتحريض ضد السوريين، ومشاركة مواقعهم، وتخطيط وتنظيم الهجمات عليهم وعلى أرزاقهم. وكالة «الأناضول» الرسمية التركية، نقلت في اليوم التالي لأحداث قيصري عن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا، خبر توقيف 1065 شخصاً في أنحاء البلاد، وحبس 28 منهم، وصدور أمر فرض الرقابة القضائية بحق 187 شخصاً. الوزير أوضح أن قوات الأمن التركية أوقفت 855 شخصاً في ولاية قيصري وحدها، تبين أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية.

ويقول المحامي السوري والناشط المدني محمد الصطوف إن هذه الخلفيات للموقوفين تعطي صورة عن الشبكات المسؤولة عن الهجمات المنظمة وطريقة عملها، لكنها لا تفسر المشاركة العفوية لمئات الأتراك العاديين، في الاعتداء على المنازل والأشخاص.

تفسير الحكومة بحسب الصطوف، وهو يحمل الجنسية التركية أيضاً، ينكر وجود مشكلة في تركيا، تتعلق بكراهية الأجانب عموماً وبينهم السوريون. فطول أمد اللجوء السوري، والاحتكاكات اليومية والثقافية، ساهمت مع مرور الوقت في تسهيل لوم الأتراك العاديين للسوريين وتحميلهم مسؤولية تردي الظروف المعيشية خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف أحداث قيصري، عن درجة الاحتقان ضد الأجانب، وإمكانية انفجاره في أي لحظة وأي مكان، لأسباب قد تكون مصطنعة، ولأهداف تسعى أطراف ثالثة لاستغلالها وتوجيهها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بتضخيم النزعة القومية التركية، ورهاب الغرباء، وخطاب الكراهية المنتشر اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفسير ما يحدث، فإن الخطاب المضاد الساعي للتهدئة قد يكون مبالغاً في تبسيطه أيضاً.

فالقول إن الاحتجاجات هي اعتداء على «الأخوة التي تربط بين الشعبين التركي والسوري»، كما قالت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (İHH) التركية في بيان لها يبدو أقرب لإغماض العيون عن الوقائع والاستماع للأمنيات. كما أن التراشق السياسي اليومي بين صانعي القرار والمعارضة في تركيا، والإعلان الأخير عن تقارب بين أنقرة ودمشق ثم عن لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي رجب الطيب أردوغان والسوري بشار الأسد، بغرض إعادة السوريين إلى بلادهم بمعزل عن أمنهم، يضع اللاجئين، في موقع ضعيف ومكشوف، ولا يمنحهم أي احساس بالاستقرار والأمان.

متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)

من يدفع أثمان اللجوء؟

بحسب بيانات دائرة الهجرة التركية، هناك 3 ملايين و114 ألفاً و99 سورياً يحملون بطاقات الحماية المؤقتة مقابل مليون و125 ألفاً و623 شخصاً يحملون تصاريح إقامة تترواح بين إقامات «سياحية» وأذونات عمل، وهذا لا شك رقم كبير للغاية في أي مجتمع مُضيف.

«لكن اللجوء السوري الطويل في تركيا ليس سبباً لتعثر الاقتصاد التركي في قطاعات كثيرة كالعقارات والصناعة وتداولات البورصة، ولا يتحمل مسؤولية التضخم المالي»، يقول الباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان جوزيف ضاهر لـ«الشرق الأوسط». ويضيف ضاهر: «على العكس من ذلك، ساهم اللجوء السوري في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك». وبالتالي «لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية». ويوضح ضاهر أن اللجوء السوري في تركيا، «ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا».

وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الاجنبي المعمول بها حتى الآن والتي تفرض توظيف 5 أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته. لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.

وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا، وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم. ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرف حينها بـ«أكبر أزمة لجوء» في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في «استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل» بحسبما يقول ضاهر، مضيفاً: «كان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين».

وبحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب 10 مليارات يورو. بينها 6 مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.

لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بحسب ضاهر، «غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بـ(تعب الممول)؛ ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية».

وعلى رغم تراجع الاهتمام الغربي بدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار وبينهم تركيا، فإن ذلك «لا يفسر فعلياً الأجواء المشحونة بالعنصرية الموجهة ضدهم في المجتمع التركي. إذ بالأصل، نسبة كبيرة من السوريين في تركيا لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون دعماً مالياً مباشراً، بل يعتمدون على أنفسهم في العمل، وبالتالي في توليد دخل يتم ضخه في الاقتصاد التركي»، كما يذهب ضاهر.

عودة طوعية وترحيل ممنهج

في السنوات القليلة الماضية تبنت أحزاب المعارضة التركية وحتى الحكومة التركية بمختلف تياراتها الشعبوية، خطاباً ولغة وسياسة أكثر تشدداً ضد اللاجئين السوريين، تبخر معها الكثير من آثار التضامن السابقة. وخلال السنة الأخيرة وحدها، أُعيد إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، نحو نصف مليون لاجئ، ضمن سياسة ترحيل ممنهج تسمى «العودة الطوعية»، ولكنها تجمع بين الترغيب والإجبار، والملاحقة والتضييق، والحملات المباغتة لاعتقال وتوقيف المخالفين لقواعد الحماية المؤقتة.

سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)

وإن كان كل ذلك مفهوماً في معرض التراشق السياسي، إلا أنه يعجز عن تفسير بيان صادر عن 41 منظمة غير حكومية تركية في مدينة غازي عينتاب التركية، في 17 يونيو (حزيران) الماضي، يُحذّرُ من «تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تهدد هوية المدينة ومستقبلها، وسط حياة لم تعد تُطاق تحت وطأة تدفق اللاجئين السوريين».

في هذا السياق، يقول الصطوف لـ«الشرق الأوسط»: «إن البيان شكّل صدمة للمشتغلين في العمل الإنساني. ولكن، حتى المنظمات المدنية، يمكن لها تحت ظروف شحن سياسية خانقة كما هو الوضع اليوم، أن تخضع لضغط الشارع ومزاجه، بما لا يستقيم مع أهدافها في العمل المدني. الأمر ذاته، تمكن ملاحظته معكوساً، في صمت المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في تركيا، من تصاعد موجة العداء للاجئين السوريين، التي تخشى من سحب ترخيصها أو إيقافها عن العمل أو ملاحقة أعضائها».

احتجاجات الشمال وعقدة المعابر

وسط الأجواء المشحونة والقلق الذي يعيشه السوريون في تركيا، جاء الحديث عن محاولة تقارب جديدة بين أنقرة ودمشق، بمبادرة عراقية ورعاية روسية ليؤجج مزيداً من المخاوف والتكهنات، لا سيما في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تركية.

فاندلعت مظاهرات حاشدة في ريف حلب الشمالي منددة بالوجود التركي، نتيجة عدم التزامه بدوره كضامن للمعارضة في اتفاق آستانة، ومتهمة إياه بالتخلي عن مناطق المعارضة في الشمال الغربي لصالح النظام.

جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)

الجانب التركي رد بإغلاق المعابر الحدودية، وقطع الإنترنت والاتصالات عن مناطق المعارضة. المظاهرات الغاضبة، تحولت بسرعة محاولاتٍ لاقتحام بعض المعابر مع تركيا، وأحداث عنف وتكسير لشاحنات تحمل لوحات تركية في ريف حلب الشرقي، وتمزيق للأعلام التركية. تصاعد لم يتوقف إلا بعد هجوم على قاعدة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ردّ جنودها بإطلاق نار مباشر تسبب بمقتل 4 من المهاجمين وإصابة العشرات.

كذلك، تخشى أوساط المعارضة في شمال غربي سوريا أن يكون أي تقارب على حساب هذه المناطق التي يقطن فيها نحو 6 ملايين سوري أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين قسرياً من مناطق النظام. فبالنسبة إليهم، يبقى الوضع القائم على مساوئه وعلاته، أفضل من العودة إلى سيطرة النظام العسكرية والأمنية وإمساكه بالمعابر التي تعدّ شريان الحياة هناك.

وكانت محاولة التقارب السابقة بين النظام السوري وتركيا، تسببت بموجة احتجاجات في مناطق المعارضة، قبل أن تتوقف المحاولة في 2021؛ نتيجة إصرار النظام على انسحاب تام للقوات التركية من الأراضي السورية.

وفيما فُسّر كخطوة جديدة ضمن مسار التطبيع السريع، عودة الحديث عن إمكانية افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق الحكومة المؤقتة (المدعومة تركياً) بمناطق النظام، أمام الحركة التجارية، علماً أن أبو الزندين هو المعبر الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ مارس (آذار) 2020 نتيجة انهيار محاولة التقارب حينها بين أنقرة ودمشق.

وسرعان ما تحولت قضية المعبر أزمةَ ثقة بين مناطق المعارضة والوجود التركي فيها، تدخلت فيها أطراف متعددة لغايات متناقضة، وتطورت إلى اشتباكات مسلحة، للمرة الأولى بين الطرفين.

وتشكّل المعابر، الشرعية وغير الشرعية، بين مناطق النظام والمعارضة، عقدة مركبة، تتداخل فيها عوامل محلية تتعلق بنزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني المدعوم تركياً، للسيطرة على إيرادات المعابر المالية، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وعدم استقرار عسكري.

كذلك، هناك عامل يتعلق برغبة روسيّة في استعادة الحركة على الطريق الدولية حلب - اللاذقية M4، وفتح المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، كخطوة أولى لأي تطبيع محتمل. وبحسب صحيفة «الوطن» السورية شبه الرسمية، سيعود ذلك بالانتعاش الاقتصادي لمناطق النظام، وإعادة فتح طريق ترانزيت بين غازي عنتاب التركية مروراً بأعزاز في ريف حلب، إلى معبر نصيب عند الحدود الأردنية. ويتيح ذلك إمكانية تدفق البضائع التركية إلى الخليج العربي براً عبر سوريا، بعد انقطاع استمر 13 عاماً.

جهاد يازجي، باحث مختص بالاقتصاد السوري، قلل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من التوقعات الاقتصادية المتفائلة لفتح المعبر أمام الحركة التجارية وقال: «انتقال البضائع لم يتوقف بين الطرفين، حتى مع إغلاق المعابر الرسمية، والتبادل التجاري لم ينقطع، إما عبر المعابر غير الشرعية أو عبر طرق طويلة تمر بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، موضحاً أن «أهمية افتتاح المعبر، ليست اقتصادية في هذه المرحلة، وإنما سياسية لأن المتضرر الفعلي هي شبكات التهريب التي تنشط في المنطقة، والحواجز الأمنية والعسكرية». وبالتالي، إذا صدقت الوعود التركية حول إنشاء إدارة مدنية بالكامل لإدارة المعبر، فالمستفيد بالدرجة الأولى بحسب يازجي هم «منتجو البضائع المحليون؛ لأن ذلك يسرع من حركة نقل البضائع، ويخفف من تكلفتها».

لكن الاحتجاجات المناهضة لمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق التي شهدتها مدينتا الباب وأعزاز بريف حلب كشفت الأطراف المشاركة.

متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)

فالتشكيلات المدنية شاركت في المظاهرات لأسباب سياسية وتضامنية مع اللاجئين في تركيا، في حين أن أكثر من عارض افتتاح المعبر بشكل مباشر هي الشبكات المرتبطة بفصائل الجيش الوطني خشية خسارة مزدوجة؛ نقل إدارة المعبر لجهة مدنية، وانخفاض مردود عمليات التهريب نتيجة افتتاحه. وبالفعل، هاجمت مجموعة من القوى العسكرية المنظمة، المحسوبة على فصائل الجيش الوطني، المعبر، وعطّلت العمل به، بحسبما قال مصدر عسكري مطلع لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح المصدر أن «تلك الفصائل سواء كانت من عشائر دير الزور في المنطقة الشرقية، أو من ريف حلب، فهي متجذرة في المنطقة، ولها هرمية واضحة وعصبة تنظيمية، وقادرة على الدفاع عن مصالحها». وبالتالي، فإن «مهاجمة المعبر تدخل ضمن محاولة الضغط على الجانب التركي وفرض حصتها أو مصالحها».

وعلى أثر ذلك، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني (المدعوم من تركيا)، واعتقلت بعض المشاركين في الهجوم على المعبر وتعهدت بملاحقة «من تسوّل له نفسه فعل ذلك مجدداً»، وسط أنباء بإعادة المعبر إلى رعاية مباشرة من أنقرة؛ لضمان خط التقارب مع دمشق برعاية روسية.

مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)

طريق سريع إلى باب موصد

خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت موجات متعاقبة من الفوضى والعنف في مجتمعات محلية تقطن مناطق مختلفة على طرفي الحدود السورية - التركية، وانقلبت معها حياة مئات الآلاف وتعرّضت للخطر. الاكتفاء بتوصيف الأتراك بالعنصرية، كالاكتفاء بتوصيف السوريين بالضحايا، لن يقود إلى أي إمكانية لتجاوز المحنة الراهنة، وذلك كالإغراق بإنكار الوقائع والتغني بالأخوة بين الشعوب.

تراجع الاقتصاد التركي، وإن كان اللاجئون السوريون لا يتحملون مسؤوليته، إلا أنهم ضحاياه الاجتماعيين، بوصفهم الحلقة الأضعف. كما أن تصاعد العنصرية ضدهم، ليس سمّة خاصة بشعب ما؛ إذ يكفي النظر في ما يتلقاه اللاجئون في بقية دول الجوار، لمعرفة أن الحال من بعضه.

كذلك، فإن الفساد المستشري شمال غربي سوريا، وفشل تشكيلات المعارضة في إنتاج بدائل حوكمة تداولية، ليس ذنباً تركياً خالصاً وإن كان الأتراك يتحملون مسؤولية كبيرة في تغليب المحسوبية والاستزلام في علاقاتهم مع السوريين. فشل المعارضة في إقامة نموذج للحكم العادل في مناطقها، يقطع مع إرث النظام السوري في العنف والفساد، أمر ليس ثانوياً، ويجب أن يتحمل السوريون مسؤوليتهم عما آلت إليه أحوالهم.

وإن كانت الحملة العنيفة الأخيرة ضد اللاجئين تم احتواؤها اليوم، فلا يمكن التنبؤ بموعد ومكان موجتها المقبلة، في غياب أي حل عملي على الأرض، يقي مجتمع اللاجئين والمجتمعات المضيفة، خطر الصدام مجدداً.

* صحافي وباحث سوري