تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

بين حادثة قيصري والتقارب مع دمشق... وعقدة المعابر

0 seconds of 2 minutes, 9 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
02:09
02:09
 
TT
20

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)
متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)

يصعبُ وضع خط زمني واضح للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى حوادث العنف الأخيرة ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما ترتب عنها من مظاهرات ضد الوجود التركي ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري.

في تلك الحوادث يتبدل موقع السوريين بين كونهم ضحايا لموجات العنصرية في تركيا، وضحايا التهميش في مناطق سيطرة المعارضة. ولولا الزمن الفاصل بين تلك الحوادث وأسبقية وقوع إحداها قبل الأخرى وإن بأيام معدودة أو ساعات أحياناً، لأمكن اعتبار أي منها سبباً لما بعدها أو نتيجة لما قبلها. لكن الواقع المعاش ليس بهذا الوضوح.

خطورة تسريب البيانات

في الأيام القليلة الماضية، تراجعت حدة الصدامات المباشرة على خلفية أحداث قيصري، لكن بعض المؤشرات المقلقة بقيت تظهر بين الحين والآخر، سواء على شكل مزيد من «الأحداث الفردية» كاعتداء في مطعم هنا أو حديقة عامة هناك، إلى أن جاء تسريب بيانات أكثر من 3 ملايين سوري مقيم في تركيا عبر حساب على منصة «تلغرام» باسم «انتفاضة تركيا» ليدق ناقوس خطر من نوع جديد. فقد تضمنت البيانات، معلومات حساسة، مثل الأرقام الوطنية للأشخاص السوريين دون سواهم من المقيمين الأجانب، واسم الأب والأم، ومكان وتاريخ الولادة، وعنوان السكن ورقم الهاتف. وهذه قواعد بيانات شخصية يفترض أنها محفوظة لدى دوائر الهجرة بالدرجة الأولى بالاضافة إلى الجهات المختصة الأخرى، ويأتي تسريبها ليضع مزيداً من الضغوط على السوريين؛ لأنه يعرّض سلامتهم للخطر. فليس سراً أن هجمات في قيصري قبل 3 أيام فقط على هذا التسريب، ترافقت مع تداول المهاجمين معلومات محددة عن أماكن السوريين وأرزاقهم؛ ما يشكل تنبيهاً خطيراً لما قد يحدث مع انكشاف هذه البيانات وإمكانية استخدامها للملاحقة والترهيب.

اللافت، كان تعامل السلطات التركية مع المسألة وكأنها مجرد خطأ تقني؛ إذ أعلنت دائرة الهجرة أن المعلومات الواردة في البيانات «قديمة نسبياً»، ثم قامت بحذف القناة عن «تلغرام»، في حين سارعت وزارة الداخلية بإعلان أن المسؤول عن التسريب هو طفل يبلغ من العمر 14 عاماً. وأضاف بيان الداخلية أنه «سيتم القبض على جميع الذين يحاولون خلق الفوضى، ومن يستخدمون الأطفال في استفزازاتهم».

أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)
أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)

ليلة الرعب في قيصري

قبل حادثة تسريب البيانات كانت الشرارة التي أطلقت موجة العنف الأقوى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما لحقها من رد فعل سوري على الرموز والمؤسسات التركية في الشمال السوري وأدت إلى اشتباكات مباشرة أودت بحياة 11 سورياً على يد القوات التركية في مناطق الشمال السوري.

فقد انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي لشاب يتحرش جنسياً بطفلة في مدينة قيصري التركية مع إشاعة أنباء مغلوطة بأن الرجل سوري والطفلة تركية. خلال ساعات، كانت مجموعات تركية شبه منظمة بدأت في تنفيذ هجمات استهدفت بالحرق والتكسير سيارات ومحال تجارية ومساكن للسوريين في قيصري، وكل من يشتبه بأنهم سوريون في الشوارع. وعلى رغم تأكيد ولاية قيصري بأن الرجل سوري، وقد جرى اعتقاله، وأن الطفلة سورية وتم نقلها إلى أحد مراكز الحماية التابعة لوزارة الأسرة، فإن الهجمات ضد السوريين لم تتوقف، بل توسعت إلى أكثر من مدينة تركية واستمرت بضعة أيام تعرّض خلالها حتى السياح في مدينة كإسطنبول لهجمات ومضايقات.

هذا الجو دفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى ملازمة منازلهم، وإسدال الستائر والاعتماد على خدمات التوصيل والحرص على الهدوء والتحدث بالتركية في المواصلات العامة عند ضرورة الانتقال أو الامتناع عن التحدث مطلقاً في الشوارع أو الأماكن العامة. الحدائق والشوارع في المدن ذات الكثافة السورية خلت تماماً من العائلات وأُغلقت المحال التجارية ولم يعاد فتحها حتى وقت الكتابة. أما الذين يملكون سيارات خاصة واضطروا إلى الخروج في هذه الفترة، فقد ركنوا سياراتهم خوفاً، واعتمدوا على المواصلات لكون سيارات الأجانب في تركيا تحمل رمزاً خاصاً يبدأ بحرف M أو MP وبالتالي يمكن تمييزها بسهولة في الشوارع.

ولعل أكثر المتضررين كانوا أصحاب المحال التجارية وعمال المياومة في مصانع الألبسة أو القطاع الزراعي الذين لم يخرجوا للعمل منذ نحو أسبوع تقريباً، وهم الحلقة الأضعف بشكل عام، ولا سيما في أوقات كهذه. فلحظة اللقاء النادرة بين الأحزاب السياسية المتخاصمة، هي لدى تحميل اللجوء السوري مسؤولية الأزمات في البلاد، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تركيا منذ أكثر من سنتين، بما في ذلك التضخم الذي بات يتجاوز 70 في المائة.

تحريض عفوي - منظّم

أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى أن المشاركين بأعمال العنف ضد السوريين كانوا يتواصلون عبر 4 مجموعات في «واتساب» كانت تُستخدم سابقاً للتهرب من عمليات الشرطة الروتينية، وتضم كل منها نحو 500 شخص.

اللافت، أن هذه المجموعات انقلبت فجأة للتحريض ضد السوريين، ومشاركة مواقعهم، وتخطيط وتنظيم الهجمات عليهم وعلى أرزاقهم. وكالة «الأناضول» الرسمية التركية، نقلت في اليوم التالي لأحداث قيصري عن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا، خبر توقيف 1065 شخصاً في أنحاء البلاد، وحبس 28 منهم، وصدور أمر فرض الرقابة القضائية بحق 187 شخصاً. الوزير أوضح أن قوات الأمن التركية أوقفت 855 شخصاً في ولاية قيصري وحدها، تبين أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية.

ويقول المحامي السوري والناشط المدني محمد الصطوف إن هذه الخلفيات للموقوفين تعطي صورة عن الشبكات المسؤولة عن الهجمات المنظمة وطريقة عملها، لكنها لا تفسر المشاركة العفوية لمئات الأتراك العاديين، في الاعتداء على المنازل والأشخاص.

تفسير الحكومة بحسب الصطوف، وهو يحمل الجنسية التركية أيضاً، ينكر وجود مشكلة في تركيا، تتعلق بكراهية الأجانب عموماً وبينهم السوريون. فطول أمد اللجوء السوري، والاحتكاكات اليومية والثقافية، ساهمت مع مرور الوقت في تسهيل لوم الأتراك العاديين للسوريين وتحميلهم مسؤولية تردي الظروف المعيشية خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف أحداث قيصري، عن درجة الاحتقان ضد الأجانب، وإمكانية انفجاره في أي لحظة وأي مكان، لأسباب قد تكون مصطنعة، ولأهداف تسعى أطراف ثالثة لاستغلالها وتوجيهها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بتضخيم النزعة القومية التركية، ورهاب الغرباء، وخطاب الكراهية المنتشر اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفسير ما يحدث، فإن الخطاب المضاد الساعي للتهدئة قد يكون مبالغاً في تبسيطه أيضاً.

فالقول إن الاحتجاجات هي اعتداء على «الأخوة التي تربط بين الشعبين التركي والسوري»، كما قالت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (İHH) التركية في بيان لها يبدو أقرب لإغماض العيون عن الوقائع والاستماع للأمنيات. كما أن التراشق السياسي اليومي بين صانعي القرار والمعارضة في تركيا، والإعلان الأخير عن تقارب بين أنقرة ودمشق ثم عن لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي رجب الطيب أردوغان والسوري بشار الأسد، بغرض إعادة السوريين إلى بلادهم بمعزل عن أمنهم، يضع اللاجئين، في موقع ضعيف ومكشوف، ولا يمنحهم أي احساس بالاستقرار والأمان.

متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)
متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)

من يدفع أثمان اللجوء؟

بحسب بيانات دائرة الهجرة التركية، هناك 3 ملايين و114 ألفاً و99 سورياً يحملون بطاقات الحماية المؤقتة مقابل مليون و125 ألفاً و623 شخصاً يحملون تصاريح إقامة تترواح بين إقامات «سياحية» وأذونات عمل، وهذا لا شك رقم كبير للغاية في أي مجتمع مُضيف.

«لكن اللجوء السوري الطويل في تركيا ليس سبباً لتعثر الاقتصاد التركي في قطاعات كثيرة كالعقارات والصناعة وتداولات البورصة، ولا يتحمل مسؤولية التضخم المالي»، يقول الباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان جوزيف ضاهر لـ«الشرق الأوسط». ويضيف ضاهر: «على العكس من ذلك، ساهم اللجوء السوري في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك». وبالتالي «لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية». ويوضح ضاهر أن اللجوء السوري في تركيا، «ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا».

وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الاجنبي المعمول بها حتى الآن والتي تفرض توظيف 5 أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته. لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.

وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا، وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم. ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرف حينها بـ«أكبر أزمة لجوء» في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في «استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل» بحسبما يقول ضاهر، مضيفاً: «كان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين».

وبحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب 10 مليارات يورو. بينها 6 مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.

لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بحسب ضاهر، «غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بـ(تعب الممول)؛ ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية».

وعلى رغم تراجع الاهتمام الغربي بدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار وبينهم تركيا، فإن ذلك «لا يفسر فعلياً الأجواء المشحونة بالعنصرية الموجهة ضدهم في المجتمع التركي. إذ بالأصل، نسبة كبيرة من السوريين في تركيا لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون دعماً مالياً مباشراً، بل يعتمدون على أنفسهم في العمل، وبالتالي في توليد دخل يتم ضخه في الاقتصاد التركي»، كما يذهب ضاهر.

عودة طوعية وترحيل ممنهج

في السنوات القليلة الماضية تبنت أحزاب المعارضة التركية وحتى الحكومة التركية بمختلف تياراتها الشعبوية، خطاباً ولغة وسياسة أكثر تشدداً ضد اللاجئين السوريين، تبخر معها الكثير من آثار التضامن السابقة. وخلال السنة الأخيرة وحدها، أُعيد إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، نحو نصف مليون لاجئ، ضمن سياسة ترحيل ممنهج تسمى «العودة الطوعية»، ولكنها تجمع بين الترغيب والإجبار، والملاحقة والتضييق، والحملات المباغتة لاعتقال وتوقيف المخالفين لقواعد الحماية المؤقتة.

سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)
سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)

وإن كان كل ذلك مفهوماً في معرض التراشق السياسي، إلا أنه يعجز عن تفسير بيان صادر عن 41 منظمة غير حكومية تركية في مدينة غازي عينتاب التركية، في 17 يونيو (حزيران) الماضي، يُحذّرُ من «تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تهدد هوية المدينة ومستقبلها، وسط حياة لم تعد تُطاق تحت وطأة تدفق اللاجئين السوريين».

في هذا السياق، يقول الصطوف لـ«الشرق الأوسط»: «إن البيان شكّل صدمة للمشتغلين في العمل الإنساني. ولكن، حتى المنظمات المدنية، يمكن لها تحت ظروف شحن سياسية خانقة كما هو الوضع اليوم، أن تخضع لضغط الشارع ومزاجه، بما لا يستقيم مع أهدافها في العمل المدني. الأمر ذاته، تمكن ملاحظته معكوساً، في صمت المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في تركيا، من تصاعد موجة العداء للاجئين السوريين، التي تخشى من سحب ترخيصها أو إيقافها عن العمل أو ملاحقة أعضائها».

احتجاجات الشمال وعقدة المعابر

وسط الأجواء المشحونة والقلق الذي يعيشه السوريون في تركيا، جاء الحديث عن محاولة تقارب جديدة بين أنقرة ودمشق، بمبادرة عراقية ورعاية روسية ليؤجج مزيداً من المخاوف والتكهنات، لا سيما في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تركية.

فاندلعت مظاهرات حاشدة في ريف حلب الشمالي منددة بالوجود التركي، نتيجة عدم التزامه بدوره كضامن للمعارضة في اتفاق آستانة، ومتهمة إياه بالتخلي عن مناطق المعارضة في الشمال الغربي لصالح النظام.

جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)
جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)

الجانب التركي رد بإغلاق المعابر الحدودية، وقطع الإنترنت والاتصالات عن مناطق المعارضة. المظاهرات الغاضبة، تحولت بسرعة محاولاتٍ لاقتحام بعض المعابر مع تركيا، وأحداث عنف وتكسير لشاحنات تحمل لوحات تركية في ريف حلب الشرقي، وتمزيق للأعلام التركية. تصاعد لم يتوقف إلا بعد هجوم على قاعدة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ردّ جنودها بإطلاق نار مباشر تسبب بمقتل 4 من المهاجمين وإصابة العشرات.

كذلك، تخشى أوساط المعارضة في شمال غربي سوريا أن يكون أي تقارب على حساب هذه المناطق التي يقطن فيها نحو 6 ملايين سوري أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين قسرياً من مناطق النظام. فبالنسبة إليهم، يبقى الوضع القائم على مساوئه وعلاته، أفضل من العودة إلى سيطرة النظام العسكرية والأمنية وإمساكه بالمعابر التي تعدّ شريان الحياة هناك.

وكانت محاولة التقارب السابقة بين النظام السوري وتركيا، تسببت بموجة احتجاجات في مناطق المعارضة، قبل أن تتوقف المحاولة في 2021؛ نتيجة إصرار النظام على انسحاب تام للقوات التركية من الأراضي السورية.

وفيما فُسّر كخطوة جديدة ضمن مسار التطبيع السريع، عودة الحديث عن إمكانية افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق الحكومة المؤقتة (المدعومة تركياً) بمناطق النظام، أمام الحركة التجارية، علماً أن أبو الزندين هو المعبر الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ مارس (آذار) 2020 نتيجة انهيار محاولة التقارب حينها بين أنقرة ودمشق.

وسرعان ما تحولت قضية المعبر أزمةَ ثقة بين مناطق المعارضة والوجود التركي فيها، تدخلت فيها أطراف متعددة لغايات متناقضة، وتطورت إلى اشتباكات مسلحة، للمرة الأولى بين الطرفين.

وتشكّل المعابر، الشرعية وغير الشرعية، بين مناطق النظام والمعارضة، عقدة مركبة، تتداخل فيها عوامل محلية تتعلق بنزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني المدعوم تركياً، للسيطرة على إيرادات المعابر المالية، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وعدم استقرار عسكري.

كذلك، هناك عامل يتعلق برغبة روسيّة في استعادة الحركة على الطريق الدولية حلب - اللاذقية M4، وفتح المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، كخطوة أولى لأي تطبيع محتمل. وبحسب صحيفة «الوطن» السورية شبه الرسمية، سيعود ذلك بالانتعاش الاقتصادي لمناطق النظام، وإعادة فتح طريق ترانزيت بين غازي عنتاب التركية مروراً بأعزاز في ريف حلب، إلى معبر نصيب عند الحدود الأردنية. ويتيح ذلك إمكانية تدفق البضائع التركية إلى الخليج العربي براً عبر سوريا، بعد انقطاع استمر 13 عاماً.

جهاد يازجي، باحث مختص بالاقتصاد السوري، قلل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من التوقعات الاقتصادية المتفائلة لفتح المعبر أمام الحركة التجارية وقال: «انتقال البضائع لم يتوقف بين الطرفين، حتى مع إغلاق المعابر الرسمية، والتبادل التجاري لم ينقطع، إما عبر المعابر غير الشرعية أو عبر طرق طويلة تمر بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، موضحاً أن «أهمية افتتاح المعبر، ليست اقتصادية في هذه المرحلة، وإنما سياسية لأن المتضرر الفعلي هي شبكات التهريب التي تنشط في المنطقة، والحواجز الأمنية والعسكرية». وبالتالي، إذا صدقت الوعود التركية حول إنشاء إدارة مدنية بالكامل لإدارة المعبر، فالمستفيد بالدرجة الأولى بحسب يازجي هم «منتجو البضائع المحليون؛ لأن ذلك يسرع من حركة نقل البضائع، ويخفف من تكلفتها».

لكن الاحتجاجات المناهضة لمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق التي شهدتها مدينتا الباب وأعزاز بريف حلب كشفت الأطراف المشاركة.

متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)
متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)

فالتشكيلات المدنية شاركت في المظاهرات لأسباب سياسية وتضامنية مع اللاجئين في تركيا، في حين أن أكثر من عارض افتتاح المعبر بشكل مباشر هي الشبكات المرتبطة بفصائل الجيش الوطني خشية خسارة مزدوجة؛ نقل إدارة المعبر لجهة مدنية، وانخفاض مردود عمليات التهريب نتيجة افتتاحه. وبالفعل، هاجمت مجموعة من القوى العسكرية المنظمة، المحسوبة على فصائل الجيش الوطني، المعبر، وعطّلت العمل به، بحسبما قال مصدر عسكري مطلع لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح المصدر أن «تلك الفصائل سواء كانت من عشائر دير الزور في المنطقة الشرقية، أو من ريف حلب، فهي متجذرة في المنطقة، ولها هرمية واضحة وعصبة تنظيمية، وقادرة على الدفاع عن مصالحها». وبالتالي، فإن «مهاجمة المعبر تدخل ضمن محاولة الضغط على الجانب التركي وفرض حصتها أو مصالحها».

وعلى أثر ذلك، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني (المدعوم من تركيا)، واعتقلت بعض المشاركين في الهجوم على المعبر وتعهدت بملاحقة «من تسوّل له نفسه فعل ذلك مجدداً»، وسط أنباء بإعادة المعبر إلى رعاية مباشرة من أنقرة؛ لضمان خط التقارب مع دمشق برعاية روسية.

مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)
مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)

طريق سريع إلى باب موصد

خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت موجات متعاقبة من الفوضى والعنف في مجتمعات محلية تقطن مناطق مختلفة على طرفي الحدود السورية - التركية، وانقلبت معها حياة مئات الآلاف وتعرّضت للخطر. الاكتفاء بتوصيف الأتراك بالعنصرية، كالاكتفاء بتوصيف السوريين بالضحايا، لن يقود إلى أي إمكانية لتجاوز المحنة الراهنة، وذلك كالإغراق بإنكار الوقائع والتغني بالأخوة بين الشعوب.

تراجع الاقتصاد التركي، وإن كان اللاجئون السوريون لا يتحملون مسؤوليته، إلا أنهم ضحاياه الاجتماعيين، بوصفهم الحلقة الأضعف. كما أن تصاعد العنصرية ضدهم، ليس سمّة خاصة بشعب ما؛ إذ يكفي النظر في ما يتلقاه اللاجئون في بقية دول الجوار، لمعرفة أن الحال من بعضه.

كذلك، فإن الفساد المستشري شمال غربي سوريا، وفشل تشكيلات المعارضة في إنتاج بدائل حوكمة تداولية، ليس ذنباً تركياً خالصاً وإن كان الأتراك يتحملون مسؤولية كبيرة في تغليب المحسوبية والاستزلام في علاقاتهم مع السوريين. فشل المعارضة في إقامة نموذج للحكم العادل في مناطقها، يقطع مع إرث النظام السوري في العنف والفساد، أمر ليس ثانوياً، ويجب أن يتحمل السوريون مسؤوليتهم عما آلت إليه أحوالهم.

وإن كانت الحملة العنيفة الأخيرة ضد اللاجئين تم احتواؤها اليوم، فلا يمكن التنبؤ بموعد ومكان موجتها المقبلة، في غياب أي حل عملي على الأرض، يقي مجتمع اللاجئين والمجتمعات المضيفة، خطر الصدام مجدداً.

* صحافي وباحث سوري


مقالات ذات صلة

خطة لبنانية - سورية أوّلية لإعادة النازحين تدريجياً

المشرق العربي خطة لبنانية - سورية أوّلية لإعادة النازحين تدريجياً

خطة لبنانية - سورية أوّلية لإعادة النازحين تدريجياً

يضع لبنان خطة مع الجانب السوري لتنظيم عودة تدريجية للنازحين على مراحل، وستكون «أكبر وأكثر تنظيماً مما كانت عليه في السابق»، حسبما قال متري لـ«الشرق الأوسط».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي فلسطينيون يسيرون بجوار خيام أُقيمت بالقرب من أنقاض مبنى منهار في حي النصر غرب مدينة غزة 15 أبريل 2025 (أ.ف.ب)

الأمم المتحدة: نحو 500 ألف شخص نزحوا في قطاع غزة منذ انتهاء وقف النار

قالت متحدثة باسم الأمين العام للأمم المتحدة إن نحو 500 ألف فلسطيني نزحوا في قطاع غزة منذ انتهاء وقف إطلاق النار مع استئناف العمليات العسكرية الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
أوروبا أعلام الاتحاد الأوروبي بمقره في بروكسل (أ.ف.ب)

بينها دول عربية... الاتحاد الأوروبي يقلص فرص اللجوء من 7 بلدان

أعلنت المفوضية الأوروبية قائمة تتضمن الدول التي تعدُّها «آمنة»، وقلصت بموجبها فرص منح اللجوء لمواطنيها، من بينها دول عربية.

«الشرق الأوسط» (بروكسل )
أوروبا ستيفن ياكسلي لينون المعروف باسم تومي روبنسون يلوّح بيده قبل وصوله إلى مركز شرطة فولكستون ببريطانيا 25 أكتوبر 2024 (رويترز)

بريطاني مناهض للمسلمين يخسر استئنافاً على الحكم بسجنه

خسر الناشط البريطاني المناهض للمسلمين استئنافاً قدَّمه على حكمٍ صادر بحقّه بالسجن 18 شهراً بعد أن اعترف سابقاً بازدراء المحكمة بتكرار اتهامات كاذبة ضد لاجئ سوري

«الشرق الأوسط» (لندن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

ترمب ينهي «وضع الحماية» الممنوح لآلاف الأفغان والكاميرونيين

أنهت إدارة الرئيس دونالد ترمب الحماية المؤقتة من الترحيل لآلاف الأفغان والكاميرونيين في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

الكبتاغون: ورش عشوائية تنمو على أنقاض «خطوط إنتاج» نظام الأسد

0 seconds of 3 minutes, 26 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
03:26
03:26
 
TT
20

الكبتاغون: ورش عشوائية تنمو على أنقاض «خطوط إنتاج» نظام الأسد

أحد عناصر السلطة السورية داخل مصنع لحبوب «الأمفيتامين» المعروفة باسم الكبتاغون في دوما على مشارف دمشق 13 ديسمبر (أ.ب)
أحد عناصر السلطة السورية داخل مصنع لحبوب «الأمفيتامين» المعروفة باسم الكبتاغون في دوما على مشارف دمشق 13 ديسمبر (أ.ب)

لم تكن سوريا ساحةً لحربٍ تطحن الحجر فحسب، بل غدتْ مسرحاً لحربٍ صامتةٍ تلتهم الأرواح قبل الأجساد. بين أنقاض المدن المحترقة، نما جيلٌ كاملٌ تحت رحمة أقراصٍ زهيدةِ الثمن كانت أساساً معدّة للخارج لكنها أيضاً أغرقت السوق المحلية.

بدأت القصة حين حوّل النظام السوري السابق أقراص الكبتاغون (وهو مخدّر صناعي مكوّن من مادتي الأمفيتامين والثيوفيلين) إلى «عملةٍ دمويةٍ» لتمويل نفسه وآلة حربه، فتحوّلت هذه الحبوب إلى سيلٍ جارفٍ يجتاح الشوارع والأزقة، يسرق الأعمار، ويحوّل الأحلام كوابيس.

وشكَّل عام 2020 المنعطف الأقسى: فقد هبط سعر حبة الكبتاغون من دولار ونصف الدولار إلى خمسة سنتات فقط، أي أرخص من كوب شاي. وتضافرت عوامل عديدة في ذلك منها بدء تطبيق «قانون قيصر»، وفرض عقوبات كبيرة على النظام السوري، والأزمة الاقتصادية والمصرفية في لبنان نهاية 2019، وعدم القدرة على التعامل بالدولار وسحب الإيداعات من لبنان، والنجاح النسبي في ضبط الحدود البرية والحد ولو جزئياً من التهريب.

وفي جولة بين العديد من المناطق السورية بعد سقوط الأسد، ولقاءات مع صيادلة وأطباء في عمّان وأربيل، يحاول هذا التحقيق إعادة رسم خطوط إنتاج الكبتاغون بالاعتماد أيضاً على شهادات ضحايا إدمان وذويهم.

أحرقت السلطات السورية الجديدة مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة بالإضافة إلى أكياس من الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق... الثلاثاء (إ.ب.أ)
أحرقت السلطات السورية الجديدة مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة بالإضافة إلى أكياس من الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق... الثلاثاء (إ.ب.أ)

قصص إدمانٍ تُحاك في الظلمة

في شوارع دمشق المتهالكة، حيث تتدلى الأسلاك الكهربائية كأشباحٍ تترصد المارة، ينتشر السمّ بأسماءٍ بريئة: «حبوب النشاط»، «أقراص السعادة»، «الكابتي يا مسهرني فريز» وغيرها حسب التاجر. الشباب هنا ليسوا ضحاياً عشوائيين، بل أرقام في معادلةٍ ممنهجة. تقول أرقام منظمة العمل الدولية لعام 2023 إن 39.2 في المائة من الأشخاص بعمر الإنتاج (ما فوق 15 عاماً) عاطلون عن العمل في سوريا، لكن الأرقام لا تحكي كيف يقضي أحمد (19 عاماً) أيامه جالساً على رصيفٍ مهترئ في أحد شوارع ركن الدين في دمشق، يحدّق في حذائه المثقوب، بينما يهمس تاجرٌ قريبٌ منه: «هذه الحبة ستجعل منك رجلاً... ستعمل مثل الحصان دون تعب!». لم يكن أحمد يعلم أن «الرجل» الذي وُعد به سيصبح عبداً لحبوب زرقاء، وأن ساعات العمل الطويلة في الورشة المُدمَّرة ستتحول إلى كابوسٍ لا ينهيه إلا بالمزيد من الأقراص.

القصة تتكرر كأنها لعنةٌ جماعيةٌ في بلد تتناوب عليه موجات الحرب والفقر. في هذه الظلمة يلمع بريق الكبتاغون كشهابٍ زائف. تتقاطع روايات المصادر عن حبة تُسقط الفتيانَ واحداً تلو الآخر، كقطع دومينو لا تستثني الفتيات. حتى أحلام الهجرة باتت جزءاً من المأساة: أحدهم يبيع أرضاً ليموّن رحلةً بحريةً، لكن ينتهي به المطاف في زنزانةٍ تركية... مدمناً، بلا أرضٍ ولا مال ولا مستقبل.

أكثر من عشر شهادات على امتداد المناطق السورية، قمنا بجمعها من أصحابها مباشرة أو من ذويهم لرصد ظاهرة الإدمان التي اتخذت منحى مختلفاً بعد سقوط نظام الأسد. فما كان بالأمس «تجارة» منظمة تعتمد على قطاع صناعة الأدوية والتصدير الخارجي ويسعى لزيادة أعداد «المستهلكين» داخلياً لضمان استمرارية الإنتاج، أصبح عملاً عشوائياً يسقط مزيداً من القتلى بجرعات زائدة.

أحد أفراد قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يحمل حبوب كبتاغون (أ.ف.ب)
أحد أفراد قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يحمل حبوب كبتاغون (أ.ف.ب)

ياسر (17 عاماً) من حلب، طرده أهله فالتجأ للسكن في غرفة في قبو لدى زوج خالته الذي سهل لنا التواصل معه. يقول ياسر: «كان أصدقائي يضحكون حين يتعاطون الحبوب... قالوا إنها تجعلك تشعر كأنك بطل في لعبة فيديو. جربتُها لأثبت أنني شجاعٌ مثلهم. الآن، أجوب الشوارع كالشبح... أسمع صوت أمي يلاحقني. في الليالي الباردة، أتسلل إلى بيتنا، ألمس الباب المُغلق، وأتخيل أن قذيفةً تسقط عليّ... ربما يمنحني الموتُ غفراناً لا أستحقه».

علي (22 عاماً) من دير الزور يعمل ويسكن في حي غويران بالحسكة حيث قابلناه بعد نهاية يوم عمل شاق. قال: «في يومٍ، حملتُ أكياساً من الطحين على ظهري لمدة 10 ساعات متواصلة. كان صاحب العمل يراقبني، ثم ألقى إليّ بحبةٍ قائلاً: خذ هذه ستجعل ظهركَ من حديد. الآن، ظهري يرزح تحت أثقال كثيرة... أكثرها قسوة ما أراه في عيون أطفالي. حين أعود للمنزل، أتظاهر بالنوم كي لا يقتربوا مني. أسمعهم يهمسون: بابا ينام كالميت!».

في بيوتٍ كانت يوماً تعبق برائحة القهوة الصباحية، تُحكى الآن حكاياتٌ يُراعى ألا تسمعها الجدران. محمد أبو يوسف (45 عاماً) يفرك يديه المتشققَتين وهو يحدّق في صورة ابنه البكر، ويقول: «كنت أبيع صحتي وعافيتي في الطرقات والعمل الشاق لأدفع رسوم دراسته. لكن الكبتاغون سرقه مني. حين وجدته يهتزّ كالورقة في الزاوية، صرخت: لماذا لم تمت في القصف؟! حاولت دفعه للسفر إلى أوروبا عبر مهربين، لكنه هرب من الشاحنة في منتصف الطريق وعاد إليّ بعد أشهر، عيناه تُشبهان فجوتين مظلمتين. الآن، حبسته في المنزل وأقوم بشراء الحبوب له وأدعو كل ليلة أن يأخذه الله».

غياب مراكز التأهيل: موت بطيء

تعمل الطبيبة روان الحسين (اسم مستعار) في أحد أفرع مديرية الصحة ولديها عقد استشاري مع منظمة غير حكومية تعنى بقضايا الإدمان. تغرق الطبيبة يومياً بين أكوام من الملفات، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من أرواح، وتقول: «قبل أسبوع، جاءني شاب هزيل يحمل ابنته الرضيعة. قال: خُذيها قبل أن أبيعها مقابل الحبوب. لا أملك حتى سريراً لإيوائها».

حبوب الكبتاغون مخبأة في فاكهة مزيفة داخل مصنع بمدينة دوما شرق العاصمة دمشق (إ.ب.أ)
حبوب الكبتاغون مخبأة في فاكهة مزيفة داخل مصنع بمدينة دوما شرق العاصمة دمشق (إ.ب.أ)

تتنهد الحسين وهي تلملم أوراقاً تالفة وتقول: «المنظمات الدولية ترسل لنا صناديقَ أدوية من دون دراسة احتياجاتنا بينما شبابنا يموتون لأن السموم صارت جزءاً من دمائهم. ماذا سنفعل بضماداتٍ لجراح لا تُرى».

المأساة الإنسانية تكمن في غياب خدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان. ويشير موظفون عاملون في سوريا ضمن المفوضية السامية للاجئين (UNHCR) ومنظمة الصحة العالمية إلى أن عدد المراكز المتخصصة بعلاج الإدمان حتى مطلع شهر فبراير (شباط) من عام 2025 لا يتجاوز 10 مراكز على امتداد الأراضي السورية، بينما تقدّر الاحتياجات بأكثر من 150 مركزاً. وفي وقت تعرض أكثر من 70 في المائة من المنشآت الصحية للتدمير الجزئي أو الكلي يصبح من شبه المستحيل الوصول إلى خدمات صحية إسعافية مجانية.

وتقول الحسين: «حتى البرامج القائمة تعاني من نقص الأدوية النفسية، واعتمادها على جهود تطوعية». ولعل المشكلة الأعمق هي الوصمة المجتمعية والخوف من النظرة الدونية للمدمن وعائلته. ففي درعا على سبيل المثال، رفض الأهالي إنشاء مركز تأهيل خوفاً من «تشويه سمعة المنطقة»، حسبما علمت «الشرق الأوسط» من منظمة محلية.

 

الكبتاغون بعد سقوط الأسد

ورش عشوائية... وجيلٌ يُباد بالجرعات

لم يكن سقوط نظام الأسد نهاية المعاناة، بل كانت شرارةً لفوضى أكثر تعقيداً. فكما أدى انهيار المؤسسات في زمن الحرب إلى تحويل الشباب إلى وقودٍ لإدمانٍ رخيص، حوَّلت تركة النظام الأمنية إلى ساحةٍ لصناعة كبتاغون أكثر فتكاً. فالحكومة الجديدة، التي داهمت ودمرت المصانع العلنية، لم تدرك أن شبكات الإنتاج ستتجزأ إلى ورشٍ عشوائيةٍ تُدار بخبرة مهربين سابقين، ومدمنين استفاقوا على واقع جديد. فـ«الحبة الزهيدة» التي اعتادوها أصبحت بضاعةً نادرةً تباع بأسعارٍ تُجبرهم على العمل في تلك الورش نفسها لتمويل إدمانهم، وهي ورش عشوائية تخلط السموم بأيدٍ عارية، وبمقادير مرتجلة.

مواد بدائية لصنع حبوب الكبتاغون في قرية حاويك (الشرق الأوسط)
مواد بدائية لصنع حبوب الكبتاغون في قرية حاويك (الشرق الأوسط)

ومباشرة بعد سقوط نظام الأسد، أطلقت الإدارة الجديدة حملةً عسكريةً وأمنيةً لاجتثاث مصانع الكبتاغون، التي كانت تُعدُّ أحد أعمدة تمويل النظام السابق. ونجحت الحملة في تدمير عشرات المنشآت الكبرى، في ريف حمص وريف دمشق، لكن هذا النجاح حمل في طياته كارثةً غير متوقعة. فمع انهيار الإنتاج المنظم، عاد سعر الحبة الواحدة وقفز من 5 سنتات إلى دولار ونصف الدولار وأكثر أحياناً، وفقاً لشهادات صيادلة مطلعين ومستهلكين، ما حوَّل المدمنين إلى كائناتٍ يائسةٍ تبحث عن الجرعة بأي ثمن.

الحال هنا أشبه بالدمية الروسية: داخل كل كارثةٍ، تكمن كوارث أصغر. فسقوط الأسد لم يُوقف آلة الموت، بل شظّاها إلى آلاف القطع. والمدمنون الذين خُدعوا بوعود «النشوة الزهيدة» في الماضي، وجدوا أنفسهم في دوامةٍ جديدةٍ: حبوبٌ مغشوشة تُنتجها ورشٌ غير خاضعة لأي رقابة، تدفعهم إلى السرقة أو الانضمام لعصابات التهريب للحصول على جرعةٍ تكفي لإسكات آلام الانسحاب. حتى العائلات التي ظنت أن غياب الأسد سيُعيد إليها أبناءها، اكتشفت أن الورش العشوائية حوّلتهم إلى أرقامٍ جديدةٍ في إحصاءات الإدمان والوفيات.

صناعة مُمنهجة بغطاء دوائي

في عهد النظام السابق، لم تكن صناعة الكبتاغون عملاً عشوائياً، بل مشروع منهجي للدولة. فقد استغل الأسد «البُنية التحتية الدوائية» لسوريا، التي كانت تُعدُّ واحدةً من الأكثر تطوراً في المنطقة قبل الحرب لإنتاج المواد المخدرة. ففي معامل حلب ودمشق المرخصة والمجهزة بتقنيات عالية، عمل كيميائيون وخبراء صيدلانيون على تطوير تركيباتٍ «آمنة نسبياً»، تضمن الإدمان دون التسبب بوفياتٍ سريعة. ثلاث مقابلات مع ثلاثة صيادلة كانوا يعملون مع معامل أدوية مختلفة وفي غير مدينة سورية أكدوا أن النظام كان يعمل باستخدام المخابر الرسمية في تطوير تركيباته. ففي فترة من الفترات كانت تغلق المعامل أو تصادر أدواتها بحجج مختلفة ليتسنى لخبراء صناعة الكبتاغون تطوير تركيبات جديدة. ويقول مصدر مطلع لـ«الشرق الأوسط»، وهو مهندس كيميائي عمل في مصنع في منطقة الكسوة جنوب دمشق، إنه من ضمن الخبرات التي كان يتم الاستعانة بها خبرات إيرانية وخبرات هندية للوصول إلى «صيغة مثالية». وقال المصدر: «كان يتم اتباع بروتوكولات دقيقة... النظام أراد حبوباً تُدمن دون فضائح. وهذا ما جعل الكبتاغون السوري الأكثر طلباً في الأسواق»، علماً بأن الخلطة المخففة منه كانت تباع أيضاً كـ«مخدر حفلات» أي أنها ذات تأثير مؤقت.

تحالف ضباط فاسدين وتجار الموت

مع انهيار الدولة، خرجت صناعة الكبتاغون من عباءة النظام إلى أحضان الفوضى. وحسب مصدر مطلع فقد «استغل أحد الضباط الذين كان يُشرفون على أحد خطوط التهريب علاقاته السابقة في مناطق حدودية لتأسيس ورشتي تصنيع واستغلال الفقر والفوضى، وذلك طبعاً بحماية ميليشيا مسلحة»، وهو «ليس وحده بالطبع».

مهند نعمان أحد المقربين من ماهر الأسد أشرف على تصنيع الكبتاغون في دمشق والساحل السوري (متداولة)
مهند نعمان أحد المقربين من ماهر الأسد أشرف على تصنيع الكبتاغون في دمشق والساحل السوري (متداولة)

أما أحد الذين عملوا سابقاً في التوزيع في مناطق شمال شرقي سوريا، ويقيم حالياً في مدينة أربيل العراقية، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «أحد التجار كان يُموِّل عمليات النظام عبر شركته الوهمية لاستيراد الأدوية، فأسس شبكةً تمتد من اللاذقية إلى الحسكة». وبذلك انتشرت الورش العشوائية في مناطق كانت تُعدُّ «نظيفة» سابقاً، مثل مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بالحسكة والرقة. وأضاف: «تعمل هذه الورش دون غطاء قانوني أو خبرات كافية، حيث يُطحن أي مسحوق أبيض من بقايا أدوية منتهية الصلاحية إلى مساحيق المبيدات الزراعية أو زجاج ويُخلط بمذيباتٍ كيميائية رخيصة».

وبسبب فوضى الإنتاج والتسويق تحوَّلت هذه الحبوب إلى قنابل موقوتة. ففي مستشفى دير الزور على سبيل المثال، سجّلت الدكتورة نهى (اسم مستعار) 10 حالات تسمم «غير اعتيادية» في الفترة بين 15 يناير (كانون الثاني) ومنتصف شهر مارس (آذار) 2025 بسبب جرعات زائدة أو شوائب سامة. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «أغلب المرضى جاءوا يعانون من تشنجات عصبية أو شلل مؤقت في أحد الأطراف، بالإضافة إلى عوارض التسمم المعروفة... وتبين أنهم تناولوا مواد تحتوي على زرنيخ أو فورمالين».

عقدة دول الجوار

سريعاً جداً، ما كان يُعتقد أنه «مشكلة سورية» تحوّل إلى وباءٍ يهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط بأكمله. فتجارة الكبتاغون، التي تغذت من جشع الأسد للسلطة وتحالفه مع الميليشيات المدعومة من إيران، صارت جزءاً من اقتصاد الظل الإقليمي، تُموِّل عصاباتٍ في لبنان، وتُغذي الجريمة في الأردن، وتُدخل السموم إلى الخليج عبر العراق. وكل دقيقة تمر تعني ولادة مدمن جديد وخط إنتاج جديد.

عنصر أمن سوري يقف أمام معمل لصناعة حبوب الكبتاغون صادرها الأمن السوري خلال حملة التمشيط الأخيرة
عنصر أمن سوري يقف أمام معمل لصناعة حبوب الكبتاغون صادرها الأمن السوري خلال حملة التمشيط الأخيرة

ولا تزال دول الجوار تعاني من تبعات انتشار الكبتاغون السوري حتى بعد سقوط نظام الأسد، لكن تعاملها مع الأزمة يختلف باختلاف الأولويات والموارد. ففي الأردن ومنذ 2015، تشدد السلطات على عمليات التفتيش الحدودية وتعتمد على تقنيات متطورة في «الجدار الأمني»، الذي يتكون من أسلاك شائكة وعوائق برية ومراقبة جوية بالدرون وأنظمة المراقبة الإلكترونية النهارية والليلية عالية الدقة.

لكن المشكلة الأخطر تبقى مع لبنان والعراق، حيث يوجد الكثير من الضباط السابقين والأشخاص النافذين المتورطين في تجارة وتصنيع الكبتاغون، الذين يستفيدون من غطاء سياسي وأمني. لذا فإن الخوف الآن هو أن تستأنف صناعة الكبتاغون المنظمة والدقيقة في كل من البلدين أو أحدهما بالاستناد إلى الخبرات السابقة وقنوات التصريف المعروفة.