تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

بين حادثة قيصري والتقارب مع دمشق... وعقدة المعابر

TT

تركيا على الخط السريع للتصادم بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة

متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)
متظاهر سوري يرشق نقطة عسكرية تركية عبر الشريط الشائك عند معبر ابن سمعان شمال حلب (أ.ف.ب)

يصعبُ وضع خط زمني واضح للتطورات المتلاحقة التي قادت إلى حوادث العنف الأخيرة ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما ترتب عنها من مظاهرات ضد الوجود التركي ضمن مناطق سيطرة المعارضة السورية في مناطق الشمال السوري.

في تلك الحوادث يتبدل موقع السوريين بين كونهم ضحايا لموجات العنصرية في تركيا، وضحايا التهميش في مناطق سيطرة المعارضة. ولولا الزمن الفاصل بين تلك الحوادث وأسبقية وقوع إحداها قبل الأخرى وإن بأيام معدودة أو ساعات أحياناً، لأمكن اعتبار أي منها سبباً لما بعدها أو نتيجة لما قبلها. لكن الواقع المعاش ليس بهذا الوضوح.

خطورة تسريب البيانات

في الأيام القليلة الماضية، تراجعت حدة الصدامات المباشرة على خلفية أحداث قيصري، لكن بعض المؤشرات المقلقة بقيت تظهر بين الحين والآخر، سواء على شكل مزيد من «الأحداث الفردية» كاعتداء في مطعم هنا أو حديقة عامة هناك، إلى أن جاء تسريب بيانات أكثر من 3 ملايين سوري مقيم في تركيا عبر حساب على منصة «تلغرام» باسم «انتفاضة تركيا» ليدق ناقوس خطر من نوع جديد. فقد تضمنت البيانات، معلومات حساسة، مثل الأرقام الوطنية للأشخاص السوريين دون سواهم من المقيمين الأجانب، واسم الأب والأم، ومكان وتاريخ الولادة، وعنوان السكن ورقم الهاتف. وهذه قواعد بيانات شخصية يفترض أنها محفوظة لدى دوائر الهجرة بالدرجة الأولى بالاضافة إلى الجهات المختصة الأخرى، ويأتي تسريبها ليضع مزيداً من الضغوط على السوريين؛ لأنه يعرّض سلامتهم للخطر. فليس سراً أن هجمات في قيصري قبل 3 أيام فقط على هذا التسريب، ترافقت مع تداول المهاجمين معلومات محددة عن أماكن السوريين وأرزاقهم؛ ما يشكل تنبيهاً خطيراً لما قد يحدث مع انكشاف هذه البيانات وإمكانية استخدامها للملاحقة والترهيب.

اللافت، كان تعامل السلطات التركية مع المسألة وكأنها مجرد خطأ تقني؛ إذ أعلنت دائرة الهجرة أن المعلومات الواردة في البيانات «قديمة نسبياً»، ثم قامت بحذف القناة عن «تلغرام»، في حين سارعت وزارة الداخلية بإعلان أن المسؤول عن التسريب هو طفل يبلغ من العمر 14 عاماً. وأضاف بيان الداخلية أنه «سيتم القبض على جميع الذين يحاولون خلق الفوضى، ومن يستخدمون الأطفال في استفزازاتهم».

أب وأطفاله يعبرون أمام محال مغلقة لسوريين في ولاية بورصة التركية (أ.ب)

ليلة الرعب في قيصري

قبل حادثة تسريب البيانات كانت الشرارة التي أطلقت موجة العنف الأقوى ضد اللاجئين السوريين في تركيا، وما لحقها من رد فعل سوري على الرموز والمؤسسات التركية في الشمال السوري وأدت إلى اشتباكات مباشرة أودت بحياة 11 سورياً على يد القوات التركية في مناطق الشمال السوري.

فقد انتشر مقطع فيديو في وسائل التواصل الاجتماعي لشاب يتحرش جنسياً بطفلة في مدينة قيصري التركية مع إشاعة أنباء مغلوطة بأن الرجل سوري والطفلة تركية. خلال ساعات، كانت مجموعات تركية شبه منظمة بدأت في تنفيذ هجمات استهدفت بالحرق والتكسير سيارات ومحال تجارية ومساكن للسوريين في قيصري، وكل من يشتبه بأنهم سوريون في الشوارع. وعلى رغم تأكيد ولاية قيصري بأن الرجل سوري، وقد جرى اعتقاله، وأن الطفلة سورية وتم نقلها إلى أحد مراكز الحماية التابعة لوزارة الأسرة، فإن الهجمات ضد السوريين لم تتوقف، بل توسعت إلى أكثر من مدينة تركية واستمرت بضعة أيام تعرّض خلالها حتى السياح في مدينة كإسطنبول لهجمات ومضايقات.

هذا الجو دفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى ملازمة منازلهم، وإسدال الستائر والاعتماد على خدمات التوصيل والحرص على الهدوء والتحدث بالتركية في المواصلات العامة عند ضرورة الانتقال أو الامتناع عن التحدث مطلقاً في الشوارع أو الأماكن العامة. الحدائق والشوارع في المدن ذات الكثافة السورية خلت تماماً من العائلات وأُغلقت المحال التجارية ولم يعاد فتحها حتى وقت الكتابة. أما الذين يملكون سيارات خاصة واضطروا إلى الخروج في هذه الفترة، فقد ركنوا سياراتهم خوفاً، واعتمدوا على المواصلات لكون سيارات الأجانب في تركيا تحمل رمزاً خاصاً يبدأ بحرف M أو MP وبالتالي يمكن تمييزها بسهولة في الشوارع.

ولعل أكثر المتضررين كانوا أصحاب المحال التجارية وعمال المياومة في مصانع الألبسة أو القطاع الزراعي الذين لم يخرجوا للعمل منذ نحو أسبوع تقريباً، وهم الحلقة الأضعف بشكل عام، ولا سيما في أوقات كهذه. فلحظة اللقاء النادرة بين الأحزاب السياسية المتخاصمة، هي لدى تحميل اللجوء السوري مسؤولية الأزمات في البلاد، وخصوصاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تركيا منذ أكثر من سنتين، بما في ذلك التضخم الذي بات يتجاوز 70 في المائة.

تحريض عفوي - منظّم

أشارت صحيفة «يني شفق» التركية إلى أن المشاركين بأعمال العنف ضد السوريين كانوا يتواصلون عبر 4 مجموعات في «واتساب» كانت تُستخدم سابقاً للتهرب من عمليات الشرطة الروتينية، وتضم كل منها نحو 500 شخص.

اللافت، أن هذه المجموعات انقلبت فجأة للتحريض ضد السوريين، ومشاركة مواقعهم، وتخطيط وتنظيم الهجمات عليهم وعلى أرزاقهم. وكالة «الأناضول» الرسمية التركية، نقلت في اليوم التالي لأحداث قيصري عن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا، خبر توقيف 1065 شخصاً في أنحاء البلاد، وحبس 28 منهم، وصدور أمر فرض الرقابة القضائية بحق 187 شخصاً. الوزير أوضح أن قوات الأمن التركية أوقفت 855 شخصاً في ولاية قيصري وحدها، تبين أن 468 منهم لديهم سوابق جنائية.

ويقول المحامي السوري والناشط المدني محمد الصطوف إن هذه الخلفيات للموقوفين تعطي صورة عن الشبكات المسؤولة عن الهجمات المنظمة وطريقة عملها، لكنها لا تفسر المشاركة العفوية لمئات الأتراك العاديين، في الاعتداء على المنازل والأشخاص.

تفسير الحكومة بحسب الصطوف، وهو يحمل الجنسية التركية أيضاً، ينكر وجود مشكلة في تركيا، تتعلق بكراهية الأجانب عموماً وبينهم السوريون. فطول أمد اللجوء السوري، والاحتكاكات اليومية والثقافية، ساهمت مع مرور الوقت في تسهيل لوم الأتراك العاديين للسوريين وتحميلهم مسؤولية تردي الظروف المعيشية خلال السنوات الأخيرة.

وتكشف أحداث قيصري، عن درجة الاحتقان ضد الأجانب، وإمكانية انفجاره في أي لحظة وأي مكان، لأسباب قد تكون مصطنعة، ولأهداف تسعى أطراف ثالثة لاستغلالها وتوجيهها. وفي الوقت الذي لا يمكن فيه الاكتفاء بتضخيم النزعة القومية التركية، ورهاب الغرباء، وخطاب الكراهية المنتشر اليوم في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لتفسير ما يحدث، فإن الخطاب المضاد الساعي للتهدئة قد يكون مبالغاً في تبسيطه أيضاً.

فالقول إن الاحتجاجات هي اعتداء على «الأخوة التي تربط بين الشعبين التركي والسوري»، كما قالت هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات (İHH) التركية في بيان لها يبدو أقرب لإغماض العيون عن الوقائع والاستماع للأمنيات. كما أن التراشق السياسي اليومي بين صانعي القرار والمعارضة في تركيا، والإعلان الأخير عن تقارب بين أنقرة ودمشق ثم عن لقاء مرتقب بين الرئيسين التركي رجب الطيب أردوغان والسوري بشار الأسد، بغرض إعادة السوريين إلى بلادهم بمعزل عن أمنهم، يضع اللاجئين، في موقع ضعيف ومكشوف، ولا يمنحهم أي احساس بالاستقرار والأمان.

متاجر سورية تعرضت للاقتحام والتكسير في أيار الماضي (الشرق الأوسط)

من يدفع أثمان اللجوء؟

بحسب بيانات دائرة الهجرة التركية، هناك 3 ملايين و114 ألفاً و99 سورياً يحملون بطاقات الحماية المؤقتة مقابل مليون و125 ألفاً و623 شخصاً يحملون تصاريح إقامة تترواح بين إقامات «سياحية» وأذونات عمل، وهذا لا شك رقم كبير للغاية في أي مجتمع مُضيف.

«لكن اللجوء السوري الطويل في تركيا ليس سبباً لتعثر الاقتصاد التركي في قطاعات كثيرة كالعقارات والصناعة وتداولات البورصة، ولا يتحمل مسؤولية التضخم المالي»، يقول الباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة لوزان جوزيف ضاهر لـ«الشرق الأوسط». ويضيف ضاهر: «على العكس من ذلك، ساهم اللجوء السوري في رفد سوق العمل التركية باليد العاملة الرخيصة، في قطاعات الزراعة والصناعة والخدمات؛ ما أدى إلى مزيد من تراكم رأس المال والأرباح لرجال الأعمال الأتراك». وبالتالي «لم يكن اللجوء سبباً في زيادة نسب البطالة الكلية ولا في تجويع الأتراك، كما تدعي عديد من الجهات الفاعلة السياسية التركية ذات التوجهات القومية والعنصرية». ويوضح ضاهر أن اللجوء السوري في تركيا، «ساهم في بدايته، بحدوث نمو في الاقتصاد التركي، مع هجرة كثير من الصناعيين ذوي الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من حلب وريفها ليفتتحوا ورشاتهم ومصانعهم جنوب تركيا».

وهؤلاء استثمروا أموالهم في الاقتصاد التركي واستعانوا بيد عاملة سورية وتركية على السواء ضمن شروط الاستثمار الاجنبي المعمول بها حتى الآن والتي تفرض توظيف 5 أتراك مقابل كل عامل أو موظف أجنبي أياً كانت جنسيته. لكن هنا أيضاً وبسبب التضييق الحكومي والمجتمعي وغياب أي آليات ناظمة واضحة اضطر كبار الصناعيين والمستثمرين السوريين، لا سيما في قطاعات صناعة النسيج والقطن والألبسة، بالإضافة إلى الصناعات الغذائية، إلى نقل مصانعهم وأعمالهم إلى مصر.

وفي 2014 بدأ تدفق أموال من نوع آخر إلى تركيا، وهي أموال المانحين الدوليين لدعم اللاجئين السوريين والمجتمعات المضيفة لهم. ولعل السبب الفعلي كان وقف قوافل الهجرة غير الشرعية براً وبحراً إلى أوروبا فيما عرف حينها بـ«أكبر أزمة لجوء» في التاريخ الحديث، لكن تركيا لم توفر جهداً في «استخدام قضية اللاجئين السوريين للضغط على الاتحاد الأوروبي، لتقديم تنازلات سياسية لتركيا، وأيضاً للحصول على مزيد من التمويل» بحسبما يقول ضاهر، مضيفاً: «كان لتركيا حصة وازنة في المساعدات الدولية بوصفها إحدى كبريات الدول المضيفة للسوريين».

وبحسب الأرقام المتوفرة على موقع المفوضية الأوروبية لشؤون اللاجئين، وصل إجمالي مساعدات الاتحاد الأوروبي المخصصة لتركيا منذ عام 2011 ما يقارب 10 مليارات يورو. بينها 6 مليارات يورو بين عامي 2016 و2019، و535 مليون يورو في تمويل الجسر الإنساني عام 2020، و3 مليارات يورو كتمويل إضافي للفترة بين 2021 و2023.

لكن الحرب الروسية ضد أوكرانيا، بحسب ضاهر، «غيّرت أولويات المانح الأوروبي، وأدت إلى ما بات يعرف بـ(تعب الممول)؛ ما تسبب بتراجع كبير في عدد المنظمات المدنية العاملة مع السوريين في تركيا والمعتمدة في تمويلها على المساعدات الأوروبية».

وعلى رغم تراجع الاهتمام الغربي بدعم اللاجئين السوريين في دول الجوار وبينهم تركيا، فإن ذلك «لا يفسر فعلياً الأجواء المشحونة بالعنصرية الموجهة ضدهم في المجتمع التركي. إذ بالأصل، نسبة كبيرة من السوريين في تركيا لا يقيمون في المخيمات، ولا يتلقون دعماً مالياً مباشراً، بل يعتمدون على أنفسهم في العمل، وبالتالي في توليد دخل يتم ضخه في الاقتصاد التركي»، كما يذهب ضاهر.

عودة طوعية وترحيل ممنهج

في السنوات القليلة الماضية تبنت أحزاب المعارضة التركية وحتى الحكومة التركية بمختلف تياراتها الشعبوية، خطاباً ولغة وسياسة أكثر تشدداً ضد اللاجئين السوريين، تبخر معها الكثير من آثار التضامن السابقة. وخلال السنة الأخيرة وحدها، أُعيد إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية شمال غربي سوريا، نحو نصف مليون لاجئ، ضمن سياسة ترحيل ممنهج تسمى «العودة الطوعية»، ولكنها تجمع بين الترغيب والإجبار، والملاحقة والتضييق، والحملات المباغتة لاعتقال وتوقيف المخالفين لقواعد الحماية المؤقتة.

سوريون ينتظرون العبور إلى سوريا من تركيا عند معبر بالقرب من مدينة أنطاكيا فبراير 2023 (أ.ب)

وإن كان كل ذلك مفهوماً في معرض التراشق السياسي، إلا أنه يعجز عن تفسير بيان صادر عن 41 منظمة غير حكومية تركية في مدينة غازي عينتاب التركية، في 17 يونيو (حزيران) الماضي، يُحذّرُ من «تحولات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية تهدد هوية المدينة ومستقبلها، وسط حياة لم تعد تُطاق تحت وطأة تدفق اللاجئين السوريين».

في هذا السياق، يقول الصطوف لـ«الشرق الأوسط»: «إن البيان شكّل صدمة للمشتغلين في العمل الإنساني. ولكن، حتى المنظمات المدنية، يمكن لها تحت ظروف شحن سياسية خانقة كما هو الوضع اليوم، أن تخضع لضغط الشارع ومزاجه، بما لا يستقيم مع أهدافها في العمل المدني. الأمر ذاته، تمكن ملاحظته معكوساً، في صمت المنظمات السورية غير الحكومية العاملة في تركيا، من تصاعد موجة العداء للاجئين السوريين، التي تخشى من سحب ترخيصها أو إيقافها عن العمل أو ملاحقة أعضائها».

احتجاجات الشمال وعقدة المعابر

وسط الأجواء المشحونة والقلق الذي يعيشه السوريون في تركيا، جاء الحديث عن محاولة تقارب جديدة بين أنقرة ودمشق، بمبادرة عراقية ورعاية روسية ليؤجج مزيداً من المخاوف والتكهنات، لا سيما في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تركية.

فاندلعت مظاهرات حاشدة في ريف حلب الشمالي منددة بالوجود التركي، نتيجة عدم التزامه بدوره كضامن للمعارضة في اتفاق آستانة، ومتهمة إياه بالتخلي عن مناطق المعارضة في الشمال الغربي لصالح النظام.

جنود أتراك عند نقطة عسكرية داخل الحدود مع سوريا في شمال حلب (أ.ف.ب)

الجانب التركي رد بإغلاق المعابر الحدودية، وقطع الإنترنت والاتصالات عن مناطق المعارضة. المظاهرات الغاضبة، تحولت بسرعة محاولاتٍ لاقتحام بعض المعابر مع تركيا، وأحداث عنف وتكسير لشاحنات تحمل لوحات تركية في ريف حلب الشرقي، وتمزيق للأعلام التركية. تصاعد لم يتوقف إلا بعد هجوم على قاعدة عسكرية تركية في مدينة عفرين شمال غربي حلب، ردّ جنودها بإطلاق نار مباشر تسبب بمقتل 4 من المهاجمين وإصابة العشرات.

كذلك، تخشى أوساط المعارضة في شمال غربي سوريا أن يكون أي تقارب على حساب هذه المناطق التي يقطن فيها نحو 6 ملايين سوري أكثر من نصفهم من النازحين والمهجّرين قسرياً من مناطق النظام. فبالنسبة إليهم، يبقى الوضع القائم على مساوئه وعلاته، أفضل من العودة إلى سيطرة النظام العسكرية والأمنية وإمساكه بالمعابر التي تعدّ شريان الحياة هناك.

وكانت محاولة التقارب السابقة بين النظام السوري وتركيا، تسببت بموجة احتجاجات في مناطق المعارضة، قبل أن تتوقف المحاولة في 2021؛ نتيجة إصرار النظام على انسحاب تام للقوات التركية من الأراضي السورية.

وفيما فُسّر كخطوة جديدة ضمن مسار التطبيع السريع، عودة الحديث عن إمكانية افتتاح معبر أبو الزندين الذي يربط مناطق الحكومة المؤقتة (المدعومة تركياً) بمناطق النظام، أمام الحركة التجارية، علماً أن أبو الزندين هو المعبر الوحيد الذي لا يزال مغلقاً منذ مارس (آذار) 2020 نتيجة انهيار محاولة التقارب حينها بين أنقرة ودمشق.

وسرعان ما تحولت قضية المعبر أزمةَ ثقة بين مناطق المعارضة والوجود التركي فيها، تدخلت فيها أطراف متعددة لغايات متناقضة، وتطورت إلى اشتباكات مسلحة، للمرة الأولى بين الطرفين.

وتشكّل المعابر، الشرعية وغير الشرعية، بين مناطق النظام والمعارضة، عقدة مركبة، تتداخل فيها عوامل محلية تتعلق بنزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة المنضوية تحت راية الجيش الوطني المدعوم تركياً، للسيطرة على إيرادات المعابر المالية، وما يسببه ذلك من فوضى أمنية وعدم استقرار عسكري.

كذلك، هناك عامل يتعلق برغبة روسيّة في استعادة الحركة على الطريق الدولية حلب - اللاذقية M4، وفتح المعابر بين مناطق المعارضة ومناطق النظام، كخطوة أولى لأي تطبيع محتمل. وبحسب صحيفة «الوطن» السورية شبه الرسمية، سيعود ذلك بالانتعاش الاقتصادي لمناطق النظام، وإعادة فتح طريق ترانزيت بين غازي عنتاب التركية مروراً بأعزاز في ريف حلب، إلى معبر نصيب عند الحدود الأردنية. ويتيح ذلك إمكانية تدفق البضائع التركية إلى الخليج العربي براً عبر سوريا، بعد انقطاع استمر 13 عاماً.

جهاد يازجي، باحث مختص بالاقتصاد السوري، قلل في حديثه لـ«الشرق الأوسط» من التوقعات الاقتصادية المتفائلة لفتح المعبر أمام الحركة التجارية وقال: «انتقال البضائع لم يتوقف بين الطرفين، حتى مع إغلاق المعابر الرسمية، والتبادل التجاري لم ينقطع، إما عبر المعابر غير الشرعية أو عبر طرق طويلة تمر بمناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)»، موضحاً أن «أهمية افتتاح المعبر، ليست اقتصادية في هذه المرحلة، وإنما سياسية لأن المتضرر الفعلي هي شبكات التهريب التي تنشط في المنطقة، والحواجز الأمنية والعسكرية». وبالتالي، إذا صدقت الوعود التركية حول إنشاء إدارة مدنية بالكامل لإدارة المعبر، فالمستفيد بالدرجة الأولى بحسب يازجي هم «منتجو البضائع المحليون؛ لأن ذلك يسرع من حركة نقل البضائع، ويخفف من تكلفتها».

لكن الاحتجاجات المناهضة لمسار التطبيع بين أنقرة ودمشق التي شهدتها مدينتا الباب وأعزاز بريف حلب كشفت الأطراف المشاركة.

متظاهر سوري أمام شاحنة تركية محترقة عند الحدود السورية - التركية (أ.ف.ب)

فالتشكيلات المدنية شاركت في المظاهرات لأسباب سياسية وتضامنية مع اللاجئين في تركيا، في حين أن أكثر من عارض افتتاح المعبر بشكل مباشر هي الشبكات المرتبطة بفصائل الجيش الوطني خشية خسارة مزدوجة؛ نقل إدارة المعبر لجهة مدنية، وانخفاض مردود عمليات التهريب نتيجة افتتاحه. وبالفعل، هاجمت مجموعة من القوى العسكرية المنظمة، المحسوبة على فصائل الجيش الوطني، المعبر، وعطّلت العمل به، بحسبما قال مصدر عسكري مطلع لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح المصدر أن «تلك الفصائل سواء كانت من عشائر دير الزور في المنطقة الشرقية، أو من ريف حلب، فهي متجذرة في المنطقة، ولها هرمية واضحة وعصبة تنظيمية، وقادرة على الدفاع عن مصالحها». وبالتالي، فإن «مهاجمة المعبر تدخل ضمن محاولة الضغط على الجانب التركي وفرض حصتها أو مصالحها».

وعلى أثر ذلك، تدخلت الشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني (المدعوم من تركيا)، واعتقلت بعض المشاركين في الهجوم على المعبر وتعهدت بملاحقة «من تسوّل له نفسه فعل ذلك مجدداً»، وسط أنباء بإعادة المعبر إلى رعاية مباشرة من أنقرة؛ لضمان خط التقارب مع دمشق برعاية روسية.

مسلحون من فصائل المعارضة السورية في منطقة الباب التي شهدت احتجاجات ضد الوجود التركي (أ.ف.ب)

طريق سريع إلى باب موصد

خلال أقل من عشرة أيام، اندلعت موجات متعاقبة من الفوضى والعنف في مجتمعات محلية تقطن مناطق مختلفة على طرفي الحدود السورية - التركية، وانقلبت معها حياة مئات الآلاف وتعرّضت للخطر. الاكتفاء بتوصيف الأتراك بالعنصرية، كالاكتفاء بتوصيف السوريين بالضحايا، لن يقود إلى أي إمكانية لتجاوز المحنة الراهنة، وذلك كالإغراق بإنكار الوقائع والتغني بالأخوة بين الشعوب.

تراجع الاقتصاد التركي، وإن كان اللاجئون السوريون لا يتحملون مسؤوليته، إلا أنهم ضحاياه الاجتماعيين، بوصفهم الحلقة الأضعف. كما أن تصاعد العنصرية ضدهم، ليس سمّة خاصة بشعب ما؛ إذ يكفي النظر في ما يتلقاه اللاجئون في بقية دول الجوار، لمعرفة أن الحال من بعضه.

كذلك، فإن الفساد المستشري شمال غربي سوريا، وفشل تشكيلات المعارضة في إنتاج بدائل حوكمة تداولية، ليس ذنباً تركياً خالصاً وإن كان الأتراك يتحملون مسؤولية كبيرة في تغليب المحسوبية والاستزلام في علاقاتهم مع السوريين. فشل المعارضة في إقامة نموذج للحكم العادل في مناطقها، يقطع مع إرث النظام السوري في العنف والفساد، أمر ليس ثانوياً، ويجب أن يتحمل السوريون مسؤوليتهم عما آلت إليه أحوالهم.

وإن كانت الحملة العنيفة الأخيرة ضد اللاجئين تم احتواؤها اليوم، فلا يمكن التنبؤ بموعد ومكان موجتها المقبلة، في غياب أي حل عملي على الأرض، يقي مجتمع اللاجئين والمجتمعات المضيفة، خطر الصدام مجدداً.

* صحافي وباحث سوري


مقالات ذات صلة

الاتحاد الأوروبي يُحدِّث إرشادات اللجوء للسوريين بعد عام من سقوط الأسد

أوروبا  سوريون يتابعون من جانب الطريق سيارات وزارة الداخلية خلال الإطلاق الرسمي لهويتها البصرية الجديدة في دمشق (أ.ب)

الاتحاد الأوروبي يُحدِّث إرشادات اللجوء للسوريين بعد عام من سقوط الأسد

أصدر الاتحاد الأوروبي، اليوم الأربعاء، توجيهات مُحدّثة لطلبات اللجوء المُقدّمة من المواطنين السوريين، تعكس الأوضاع الجديدة في سوريا بعد عام من سقوط نظام الأسد.

«الشرق الأوسط» (برشلونة (إسبانيا))
شمال افريقيا الطرابلسي يستعرض في المؤتمر الصحافي نتائج «البرنامج الوطني» لترحيل المهاجرين غير النظاميين (أ.ف.ب)

سلطات طرابلس تلوّح لأوروبا بورقة الـ«3 ملايين مهاجر»

قال الطرابلسي وزير داخلية حكومة الوحدة الليبية إن جهود ترحيل المهاجرين غير النظاميين من بلده تعد «أحد أهم الإجراءات لمواجهة محاولات التوطين»

جمال جوهر (القاهرة)
العالم العربي الصومالي عبد الله عمر مع زوجته وأطفاله في حي البساتين في عدن (أ.ف.ب)

لاجئون صوماليون يفضلون العودة لبلدهم هربا من «الفقر والبطالة» في اليمن

يعيش آلاف الصوماليين مع أطفالهم في فقر مدقع في حي البساتين في عدن، ما دفع كثيرين منهم إلى اتخاذ قرار العودة الى بلادهم.

«الشرق الأوسط» (عدن)
شمال افريقيا أطفال سودانيون يتامى من الفاشر يتشاركون وجبة معكرونة ولحم من مشروع إطعام خيري (رويترز)

الفارون من رمضاء العنف في السودان يكتوون بنار شح المساعدات على حدود تشاد

لا تجد العائلات السودانية اللاجئة التي تصل إلى بلدة الطينة على الحدود مع تشاد سوى قليل من المساعدات الإنسانية الدولية في ظل الأزمة السودانية المستمرة.

«الشرق الأوسط» (الطينة (تشاد))
شمال افريقيا مهاجرون على متن أحد «قوارب الموت» أُنقذوا من قبل خفر السواحل الإسباني (أ.ف.ب)

خفر السواحل الموريتاني ينقذ 101 أفريقي من رحلات «قوارب الموت»

أعلن خفر السواحل الموريتاني، الخميس، إنقاذ زورق على متنه 101 من المهاجرين غير النظاميين الأفارقة، كان في طريقه إلى إسبانيا.

«الشرق الأوسط» (نواكشوط)

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
TT

«مؤسسة غامضة» تغري الغزيين برحلات نجاة إلى أوروبا


صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة
صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

فوجئ الغزيون منذ أشهر قليلة، بإعلان على وسائل التواصل الاجتماعي لمؤسسة غامضة اسمها «المجد أوروبا»، تحفزهم على الهجرة وتعدهم بالوصول إلى أوروبا.

ورغم كثير من الشكوك والتساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، لم يتوانَ البعض عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم. وبالفعل، سيّرت المؤسسة 3 رحلات جوية لنحو 300 فلسطيني خرجوا من القطاع في ظروف استثنائية ورحلة يكتنفها الكتمان والسرية. لكن الوجهة لم تكن بلدان أوروبا الموعودة؛ وإنما جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا.

«الشرق الأوسط» تحدثت إلى إحدى المسافرات على متن تلك الرحلات، وتعقبت تفاصيل تسجيل الأسماء والمبالغ المدفوعة، ورصدت انطلاق الركاب بحافلات صغيرة من دير البلح، تحميها مسيّرات حتى لحظة الوصول إلى مطار رامون الإسرائيلي، ومن هناك تقلع الطائرات نحو نيروبي، ثم جوهانسبرغ، لتترك المسافرين أمام مصير مجهول.

وبين اتهامات دولية بأن المؤسسة تنفذ خطة إسرائيلية - أميركية لإفراغ غزة من سكانها، ورغبة المدنيين بالفرار من جحيم الحرب والجوع، تستمر الإعلانات على وسائل التواصل، ويستمر كثيرون في محاولات النجاة بأي ثمن.


رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

TT

رحلات «هجرة صامتة» تغري الغزيين بالنجاة و«مجد أوروبا»

طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)
طفلان فلسطينيان يلهوان بهيكل سيارة مدمرة في حي تل الهوا في غزة (أ.ف.ب)

لأشهر عديدة استمرت جنين (ب)، من سكان دير البلح وسط قطاع غزة، تتواصل مع قائمين على إعلان ممول عبر «السوشيال ميديا»، يهدف لاستقطاب الغزيين للهجرة إلى الخارج. وعمد الإعلان إلى تحديد الوجهة «إلى أوروبا» لتحفيزهم بشكل أكبر، باستغلال الحرب الدامية في القطاع.

الإعلان الممول عبر «فيسبوك» حمل اسم مؤسسة «المجد أوروبا»، التي يسمع بها الغزيون داخل القطاع للمرة الأولى، ما أثار الكثير من التساؤلات حول مصداقية تلك الإعلانات، إلا أن البعض لم يتوانَ عن التواصل مع رقم هاتف «واتساب» ذُيّل به الإعلان، بحثاً عن ضوء في نفق مظلم، أو بصيص أمل يمنحهم حياة مختلفة بعيداً عن أصوات القصف وأهواله التي لم تتوقف على مدار عامين.

 

رحلة محفوفة بالكتمان

لم يكن الوصول إلى أحد الغزيين الذين استقلوا تلك الرحلات بالأمر اليسير؛ ففضلاً عن السرية المطبقة التي أحاطت وتحيط بخروجهم من القطاع وسط ظروف أمنية وإنسانية سيئة للغاية، فإن ظروفهم الحالية وأوضاعهم القانونية لم تتثبت بعدُ في البلدان التي وصلوا إليها. ومن قريب إلى آخر، وبشبكة ثقة عبر أفراد الأسرة المقربين، تواصلنا عبر «واتساب» مع جنين التي تحدثت إلينا بعد تردد كثير، وفضّلت عدم ذكر هويتها كاملة، خشية الملاحقة من الدولة الموجودة فيها حالياً.

صورة متداولة على وسائل التواصل لإحدى الطائرات التي هبطت في جوهانسبرغ حاملة فلسطينيين من غزة

وتقول جنين لـ«الشرق الأوسط» إنها للوهلة الأولى كانت مترددة جداً في التواصل مع الرقم الذي وضعته المؤسسة في إعلانها، ثم قررت المجازفة والتواصل، وبعد التأكد من أنها تتحدث مع أشخاص يستعملون أرقاماً إسرائيلية، قررت وضع اسمها وزوجها وثلاثة من أبنائها، ضمن من قرروا الهجرة من غزة، بحثاً عن حياة آمنة.

تشير جنين إلى أنها كانت تخشى أن تقع ضحية عملية نصب كما جرى مع الكثير من الغزيين خلال وقبيل الحرب، إلا أنها تلقت تطمينات ممن كانوا يتحدثون معها بأن دفع المال بالنسبة لهم يأتي كـ«خطوة أخيرة ولا يهتمون به»، وهذا ما شجعها على استكمال خطواتها نحو البحث عن أمل جديد لها ولعائلتها التي عانت كثيراً خلال الحرب.

وكشفت السيدة أن الإجراء بدأ بإرسال معلومات تفصيلية عنها وعن أفراد عائلتها الراغبين في السفر، مثل الاسم الرباعي ورقم الهوية ورقم جواز السفر، ومعلومات شخصية متكاملة، ثم قالت إنه طُلب منها مبلغ 1500 دولار عن كل فرد بمن فيهم الأطفال، وإنها أبدت استعدادها لدفع المبلغ عند اكتمال الإجراءات.

تدقيق أمني في الأسماء

وبقيت جنين تتواصل بين الفينة والأخرى مع القائمين على المؤسسة لمعرفة تفاصيل عن مواعيد السفر، مشيرةً إلى أنها كانت تتلقى «تطمينات بأن العملية مستمرة وفق الخطوات المطلوبة»، ولافتةً إلى أن المؤسسة أوضحت لها أن «هناك إجراءات فحص أمني مشددة تجري حول كل شخص» سيخرج من القطاع، حتى لا يكون «بينهم عناصر من (حماس) أو أي فصيل فلسطيني آخر يوصف بأنه إرهابي».

وذكرت أنه بعد 3 أشهر ونصف الشهر تلقت رسالة مفاجئة على هاتفها الجوال، وكذلك هاتف زوجها، تبلغهم بالاستعداد خلال 6 ساعات للتجهّز، وألا يجلبوا إلا الأوراق الثبوتية اللازمة، مشيرةً إلى أنه تم تحويل الأموال المطلوبة للسفر قبل ذلك بأيام عبر حسابات تتعامل بشكل أساسي مع العملات المشفرة، وعبر التطبيقات الإلكترونية للمحافظ الخاصة بالعملات الأجنبية.

من دير البلح عبر مطار رامون

وبحسب جنين، خرجت العائلة بحافلة صغيرة من مكان قرب دير البلح وسط قطاع غزة، نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) من العام الجاري، حملتها وعائلتها مع نحو 40 شخصاً آخرين، وتوجهوا إلى المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، وصولاً إلى نقطة عسكرية في ما يبدو أنها شرق خان يونس أو رفح، ومنها نُقلوا إلى داخل معبر كرم أبو سالم، ثم إلى مطار رامون الإسرائيلي في النقب، ومن هناك سافروا إلى جنوب أفريقيا. ولفتت جنين إلى أنه كان هناك عدد آخر من سكان القطاع وصلوا قبلهم من خان يونس.

ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها الحافلة حتى وصولها للموقع الإسرائيلي ما بين خان يونس ورفح، حلقت طائرتان مسيّرتان فوق الحافلة ورافقتاها حتى وصولها لنقطة العبور إلى الداخل الإسرائيلي.

فلسطينيون يمرون قرب عربة عسكرية إسرائيلية مدمرة في مدينة غزة الخميس (أ.ب)

وكانت جنين (ب) وأفراد عائلتها جزءاً من الرحلة الأولى التي تنظمها مؤسسة «المجد أوروبا»، وتمت عملية وصولها ودخولها إلى جنوب أفريقيا عبر دولة أخرى، أسهل بكثير مما واجهه فلسطينيون آخرون احتُجزوا ساعات طويلة في طائرة أقلّتهم من نيروبي بعد أن اكتشفت السلطات أنهم لا يمتلكون أوراقاً كاملة، منها تذاكر عودة، وكذلك ختم جوازات سفرهم من قبل إسرائيل، كما كان في الرحلة التي على متنها جنين (ب).

 

رحلات «المجد أوروبا»

 

وتظهر بعض الشهادات لفلسطينيين أن مؤسسة «المجد أوروبا» نجحت في تسيير 3 رحلات جوية لفلسطينيين من داخل قطاع غزة، من مايو (أيار) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2025، وكانت الأولى وجهتها إندونيسيا، وعلى متنها 57 من سكان القطاع، بعد أن هبط من كانوا على متنها في بودابست، انطلاقاً من مطار رامون نفسه، في حين كانت الرحلة الثانية في أكتوبر الماضي للانتقال من مطار رامون باتجاه نيروبي، ومنها إلى جنوب أفريقيا، وهي الحال ذاتها مع الرحلة الأخيرة خلال الشهر الماضي.

وأثارت هذه الرحلات العديد من التساؤلات حول مؤسسة «المجد أوروبا»، التي تعرّف نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها «منظمة إنسانية تأسست عام 2010 في ألمانيا، متخصصة في تقديم المساعدات وجهود الإنقاذ للمجتمعات المسلمة في مناطق النزاع والحروب».

عرب في إسرائيل خلال مظاهرة ضد تهجير الغزيين في 8 فبراير من العام الحالي (أ.ف.ب)

وأشارت المؤسسة إلى أن مقرها الرئيسي في القدس، وتحديداً حي الشيخ جراح، لكن زيارة صحافيين فلسطينيين في القدس إلى الموقع المذكور كشفت أنه لا يوجد أثر فعلي للمؤسسة، وأن المقر الذي وضعته تبيّن أنه لمبنى مهجور.

وتزعم المؤسسة أنها منذ العام الماضي تركز جهودها بشكل أساسي على دعم أهل غزة، مع التركيز على مساعدة الجرحى والمصابين، بما يشمل تسهيل وصول المرضى إلى الرعاية الطبية الحرجة، وتأمين السفر إلى الخارج للعلاج، وضمان مرافقة ذويهم لهم طوال فترة العلاج.

هل «الصحة العالمية» متورطة؟

يفتح هذا الأمر تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت مؤسسة «المجد أوروبا» هي مَن أدارت وتدير فعلياً عمليات خروج بعض الجرحى ومرافقيهم من داخل قطاع غزة، تحت ستار التنسيق مع «منظمة الصحة العالمية»، للعلاج في الخارج، ومن ثم مغادرتهم لدول أوروبية وغيرها.

وتفيد مصادر أمنية من غزة لـ«الشرق الأوسط» بأنه في الحقيقة كان هناك العديد من الرحلات التي تم تسييرها من داخل القطاع في خضم الحرب، وكان هناك استغلال واضح للظروف الأمنية وملاحقة رجال الأمن والمقاتلين وغيرهم، الأمر الذي سهّل عمليات السفر بهذه الطريقة المشبوهة.

وصول عائلات فلسطينية من غزة إلى مطار جنيف لتلقي العلاج في مستشفيات سويسرية بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (إي بي أي)

وتشير المصادر إلى أن هناك عائلات خرجت بذريعة المرض والحاجة للعلاج، وهناك أيضاً مرضى فعليون سافروا إلى دول عربية وأوروبية للعلاج، وذلك من خلال آلية رسمية وعبر منظمة الصحة العالمية التي كانت جهزت قوائم للمرضى ذوي الأولوية، ومنهم جرحى الحرب.

بالعودة إلى مؤسسة «المجد أوروبا»، فإنه عند فتح موقعها الإلكتروني تظهر تنويهات، منها وضع أرقام شخصين حملا اسم «عدنان» و«مؤيد»، وأحدهما يحمل رقماً فلسطينياً والآخر إسرائيلياً، في حين وُضع رقمان آخران من إسرائيل للمؤسسة للتواصل عبر «واتساب»، داعيةً في التنويه من يدخل الموقع إلى ضمان سير إجراءات التنسيق بشكل سليم، ودفع الرسوم عبر الأرقام التي وُضعت، وعدم التعامل مع أي أرقام أخرى. كذلك تحذّر المؤسسة في تنويه آخر من التعامل مع أي وسيط خارجي، مؤكدةً أنه لا يوجد وساطة في عملية التسجيل، أو تسريع الحصول على تصريح أمني للسفر، أو تفضيل شخص على آخر، في طريقة تهدف إلى تنبيه من يسجل للسفر من الوقوع في الاحتيال أو النصب.

تنفيذ لخطة إسرائيلية

ذهب البعض في قطاع غزة وخارجه إلى التأكيد أن المؤسسة تتبع بشكل مباشر جهات رسمية إسرائيلية، وتأتي في إطار تشجيع الهجرة من غزة لتفريغها. وبالإضافة للأخطاء الإملائية الكثيرة التي ترد في تعريفها بنفسها، وحتى في اسمها، فإن الأرقام المستخدمة إسرائيلية، والأهم أن المؤسسة تقوم بالحصول على موافقات أمنية للسفر إلى الخارج، ما يؤكد أنها على صلة وثيقة بالسلطات الإسرائيلية، وتنطلق رحلاتها من مطار إسرائيلي، ونشاطاتها بدأت تبرز بشكل أساسي بعد سيطرة إسرائيل بشكل أكبر أمنياً على القطاع .

وأكثر من ذلك، كشف مختصون في التكنولوجيا، بينهم فلسطينيون وعرب، أن الموقع التابع للمؤسسة تم إنشاؤه في الثاني من فبراير (شباط) من العام الجاري، وتم تسجيله في آيسلندا.

وأقرت مصادر إسرائيلية في تقرير لصحيفة «هآرتس» العبرية بأن مؤسسة «المجد أوروبا» سلّمت الجيش الإسرائيلي ووحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية قوائم مسبقة تتضمن بيانات الفلسطينيين الراغبين في الهجرة، والذين سجلوا أنفسهم عبر الموقع الإلكتروني أو بالتواصل مع القائمين على المؤسسة.

وبحسب تحقيق صحيفة «هآرتس» العبرية، فإن مؤسسة «المجد أوروبا» مرتبطة بشركة «تالنت غلوبس»، وهي شركة مسجلة في إستونيا، ومؤسسها تومر جانار ليند، وهو إسرائيلي - إستوني. وأشارت الصحيفة إلى أن المؤسسة تنسق مع إدارة في وزارة الدفاع الإسرائيلية أُنشئت بدورها في فبراير من العام الجاري، بهدف «تسهيل الهجرة الطوعية» للغزيين، وقد تم استحداثها بشكل أساسي في أعقاب اقتراح الرئيس الأميركي دونالد ترمب فتح باب الهجرة الطوعية لسكان القطاع.

أب وطفله يصلان إلى مطار جنيف في سويسرا ضمن رحلة علاجية شملت 13 طفلاً و51 عائلة فلسطينية خرجت من غزة بتنسيق بين الاردن وسويسرا والنرويج (أ.ف.ب)

في الثامن عشر من نوفمبر من العام الجاري أصدرت المؤسسة بياناً أكدت فيه أنها تتعرض لحملة تشويه وتشهير كبيرة، بهدف تجريد سكان غزة من حريتهم في اختيارهم وتقرير مكان عيشهم، وإجبارهم على البقاء تحت خطر مباشر ومعاناة يومية، وحرمانهم من أي فرصة لإنقاذ حياتهم أو تأمين مستقبل أفضل لأطفالهم، مؤكدةً أنه لا علاقة لها بإسرائيل سوى تنسيق عمليات الخروج معها، ومشددةً على أنه لا علاقة لها بـ«الموساد» أو أي جهة استخباراتية.

 

تبادل اتهامات ومصاير مجهولة

واتهمت المؤسسة دبلوماسيين يتبعون السلطة الفلسطينية باستدعاء المسافرين الذين غادروا من خلالها للاستجواب والتهديد.

ويقول أحمد (غ) البالغ من العمر (33 عاماً)، مفضّلاً عدم ذكر هويته، والذي غادر عبر الرحلة الثانية لمؤسسة «المجد أوروبا»، إنه لم يتلقَّ أي تهديدات من أي جهة فلسطينية عقب مغادرته قطاع غزة. لكنه أشار في المقابل إلى أنه تلقى تحذيرات من بعض العاملين في إحدى السفارات الفلسطينية من التعامل مع هذه المؤسسة، وأنه تم الاستفسار منه عن آلية التسجيل والخروج، والأشخاص الذين قابلهم في مطار رامون، بحسب ما أوضح لـ«الشرق الأوسط».

ويوضح أحمد أن رحلته انطلقت من مطار رامون إلى جنوب أفريقيا عبر نيروبي، مشيراً إلى أنه «كان سعيداً جداً بالهجرة مع زوجته ومغادرة قطاع غزة»، وإن اصطدم بواقع حياتي صعب نسبياً.

صورة مقتطعة من فيديو لطائرة ركاب تحمل فلسطينيين من غزة هبطت في مطار جوهانسبرغ ورفضت السلطات إدخال المسافرين القادمين على متنها (وسائل تواصل)

ويلفت الشاب إلى أنه بعد مغادرتهم مطار نيروبي لم يعد أحد من المؤسسة يتابع ظروفهم، وبقي مصيرهم مجهولاً، دون أن يكون هناك من ينتظرهم في جنوب أفريقيا، مشيراً إلى أن وفداً من المؤسسة استقبلهم فقط في مطار رامون، وفي مطار نيروبي، وبعد مغادرتهم الأخيرة لم يكن أحد برفقتهم على متن الطائرة أو في مطار «أو آر تامبو» في جوهانسبرغ. وقال: «تُركنا نواجه مصيرنا وحدنا بعدما نقلتنا مركبات كانت تنتظرنا أمام المطار إلى بيوت ضيافة بسيطة وعلى نفقتنا الشخصية». علماً إن السلطات في جنوب أفريقيا اعلنت رفضها استقبال مزيد من الوافدين الفلسطينيين على متن هذه الرحلات خوفاً من أن تكون فعلاً تنفيذ لمخطط إسرائيلي بإفراغ غزة والقطاع من السكان.

ولكن على الرغم من كل ذلك كله، ما زال أحمد وزوجته سعيدين بخروجهما من الواقع المأساوي الذي يعيشه السكان في قطاع غزة، كما قال.

 

بين «حماس» والسلطة

تقول المصادر الأمنية بغزة، وهي من حكومة «حماس»، إنها لم تكن تعلم بحقيقة تلك الرحلات والجهة التي تقف خلفها، وكان الاعتقاد السائد أنهم من المرضى، أو ممن لديهم أقارب في أوروبا، ويتم تسهيل سفرهم عبر سفارات تلك الدول للمّ الشمل.

وأكدت المصادر أنها لم تستجوب أو تتواصل مع أي من المسافرين للحصول على المعلومات اللازمة لهم، ولكنها تعمل حالياً لمنع محاولات جديدة من السفر.

العمليات الإسرائيلية تسببت في تهجير 40 ألف فلسطيني حتى الآن بشمال الضفة الغربية (رويترز)

وبينما لم يصدر تعقيب رسمي من السلطة الفلسطينية على الأحداث أو الاتهامات التي وُجهت إليها من مؤسسة «المجد أوروبا»، اكتفت «الخارجية الفلسطينية» بإصدار بيان حذرت فيه من «الوقوع فريسة لشبكات الاتجار بالبشر وتجار الدم ووكلاء التهجير»، مؤكدة عزمها على ملاحقة المنظمة واتخاذ الإجراءات القانونية ضدها.

وكانت سفارة فلسطين لدى جنوب أفريقيا أصدرت في الرابع عشر من نوفمبر من العام الجاري تحذيراً شديد اللهجة من استغلال جهة «مضللة ومشبوهة»، كما وصفتها، الأوضاع الإنسانية لسكان القطاع، وخداعهم لتنظيم عملية سفرهم بطريقة غير قانونية وغير مسؤولة. كما قالت في أعقاب أزمة الرحلة الأخيرة التي وصلت إلى جوهانسبرغ، مؤكدةً أن تلك الجهة حاولت التنصل من أي مسؤولية بمجرد ظهور التعقيدات والإجراءات الروتينية عند وصول المسافرين إلى الدولة المحددة لهم للسفر إليها.

وتقول مصادر أمنية من حكومة «حماس» إنه بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ورغم أن الظروف الأمنية غير مستقرة وتحاول إسرائيل رصد أي تحركات، فإنها ستسعى لمنع مثل هذه الرحلات المشبوهة، وإنها ستتصدى لمثل هذه المحاولات، لكنها لن تعترض أي رحلات هدفها سفر المواطنين للعلاج أو حالات إنسانية، لكن مثل هذه العمليات التي تقف خلفها جهات مشبوهة ستتصدى لها وستعمل على منعها، لمنع تنفيذ الخطة الإسرائيلية - الأميركية، الهادفة إلى تهجير السكان.

الملاحقة والاستمرارية

ويبدو أن المؤسسة تعاني من ملاحقة حقيقية، وتتعرض لحملات إلكترونية مثل الاختراق، ولإجراءات قانونية تُتخذ ضدها من قبل بعض الجهات، الأمر الذي دفع تطبيق «واتساب» لحظر أرقامها المعلنة عبر وسائل التواصل وعبر موقعها الإلكتروني.

فلسطينيون يحملون لافتات كُتب عليها: «لا للتهجير» و«غزة تموت» خلال احتجاج في مخيم النصيرات بغزة (د.ب.أ)

واتهمت المؤسسة في منشور لها عبر «فيسبوك» جهات لم تسمها بأن عملية حظر أرقامها جاءت كجزء من «الهجمة» الموجهة ضد نشاطاتها، مؤكدةً الاستمرار في عملها، وأنها تعمل على معالجة هذه القضية وترتيب أرقام جديدة للتواصل، وأنها ستتواصل مع متابعيها من أرقام بديلة عند جهوزيتها.

وعلى الرغم من كل هذا الضجيج حول المؤسسة وعملها، فإنها ما زالت تواصل استقبال طلبات المسافرين من سكان قطاع غزة، كما يظهر على موقعها الإلكتروني، ومن خلال صفحتها على «فيسبوك»، إلى جانب استمرار الإعلانات الممولة التي تظهر للغزيين عبر شبكات التواصل.

الغزي نادر (ع)، من سكان مدينة غزة، والذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، وهو يبلغ من العمر (41 عاماً)، ومتزوج ولديه 4 أطفال، كان أحد من تسابقوا للتسجيل مجدداً لدى المؤسسة، منذ أكثر من شهر ونصف الشهر، وما زال في عملية تواصل مستمر مع الأرقام التي وضعتها المؤسسة.

غروب شمس خريفية في غزة (رويترز)

ويقول نادر إن الظروف الحياتية الصعبة أجبرته على التفكير في الهجرة، والبحث عن مستقبل أفضل له ولعائلته، معرباً عن أمله أن تنجح مساعيه في السفر، وأن يحالفه الحظ كما حالف آخرين.

وأضاف: «كل ما أريده أن أخرج من قطاع غزة إلى أي دولة، ومنها سأغادر إلى أي جهة كانت... ما يهمني أن أرتاح من حياة الخيام، وأن أبحث عن حياة آمنة لي ولزوجتي وأطفالي».


فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
TT

فوز الحلبوسي في انتخابات العراق… استراتيجية «النجاة» بعد «الإقصاء»

محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)
محمد الحلبوسي (أ.ف.ب)

فاز محمد الحلبوسي، أحد أكثر الفاعلين السنة في العراق تعقيداً، بعشرة مقاعد برلمانية عن بغداد، و35 مقعداً من أصل 329، عن عموم البلاد في الانتخابات التي أُجريت في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

تبدو هذه الأرقام استثنائية لرجل أُقيل في مثل هذه الأيام قبل عامين من منصبه رئيساً للبرلمان، وهو أعلى موقع خصصه العرف السياسي للعرب السنة بعد الرئيس الراحل صدام حسين.

ما الذي جرى في مسيرة رئيس حزب «تقدم» خلال فترة كانت مزدحمة بالعواصف منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023؟ بينما كانت فصول عنيفة تُطوى في الشرق الأوسط، كان عراقيون يزورون محافظة الأنبار، مسقط رأس الحلبوسي غرب العراق، يلتقطون الصور لشوارع معبّدة وملاعب وأبنية جديدة، ويتساءلون: «أليست هذه نفسها صحراء الرجل الذي عاقبته إيران؟».

أظهرت الأرقام النهائية للانتخابات، أن الحلبوسي الذي تنافس للمرة الأولى على أصوات الناخبين في بغداد قد تفوق فيها بنحو 72 ألف صوت على نوري المالكي، زعيم ائتلاف «دولة القانون» الذي جمع أصواتاً أقل بنحو 20 ألفاً. في المشهد الحزبي، فاز «تقدم» منفرداً بفارق 8 مقاعد على الحزب الديمقراطي الكردستاني الخبير في لعبة الاقتراع منذ 3 عقود.

تشكل عودة الحلبوسي نموذجاً فريداً لعلاقات القوة بين الجماعات الطائفية في العراق، وكيفية النجاة من أشدّ معاركها ضراوة. ومثلما تثير العودة أسئلة حول كيفية التعامل أو التعايش مع النفوذ الإيراني في البلاد، تسلط الضوء على نموذج حزبي صارم يتنامى في مجتمع سني لم يعهد خبرة في العمل السياسي، لكنه يستعيد شيئاً من التقاليد الكلاسيكية في احتكار النفوذ وتصفية المنافسين.

الحلبوسي مهندس مدني في منتصف عقده الرابع من بلدة «الكرمة» بمحافظة الأنبار. ومن شركة كانت تُنفذ مشاريع محدودة للبنى التحتية في الفلوجة، وجد طريقه إلى استثمار أشد صعوبة وتعقيداً في السياسة، تتقاطع عنده جماعات شيعية وسنية، تتنافس تحت ظلال إيرانية.

دخل الحلبوسي البرلمان عام 2014. انتقل من لجنة «حقوق الإنسان» التي همّشتها الحياة السياسية، مباشرة إلى المعركة الأساسية؛ صار عضواً في لجنة المال عام 2015 ورئيسها عام 2016. هناك تعرّف على وسطاء الموازنة، إذ يمثلون شبكات الولاء مقابل المنفعة، والخطأ فيها قاتل في لمح البصر.

لم ينتبه اللاعبون الأساسيون يومها إلى شاب سني بلحية خفيفة وتسريحة حديثة، لم يبد لهم أنه قد يثير القلق. الحلبوسي نفسه لم يكن قد اكتشف بعد أين ستقوده أحلامه، لكنه سرعان ما بدأ يعبر عن نفسه. بعد سنوات وجدته قوى شيعية مرتابة وسنية ناقمة، على حد سواء، خطراً عليها. وتم وصفه على نطاق واسع برأس تلعب فيه شياطين «الزعامة»، فلعب معها.

محاولات دامية

بعد 2003 عاد الحلبوسي إلى جامعته في بغداد لإكمال دراسته العليا. كان العرب السنة خارج مطبخ السياسة في أعقاب الغزو الأميركي. تسرد وقائع عديدة على مدى العقدين الماضيين كيف قادت محاولات نخب سنية لدخول الحياة العامة إلى نهايات مميتة، سُفكت فيها دماء.

في يونيو (حزيران) 2005 توسعت لجنة كتابة الدستور لتضم 15 ممثلاً عن العرب السنة الذين كانوا بعيدين عن أهم نقاشات حول مستقبل البلاد. التوسع شمل مجبل الشيخ عيسى وضامن حسين عليوي وعزيز إبراهيم، الذين انخرطوا فوراً في معارضة صياغة بنود في الدستور. في يوليو (تموز) من العام نفسه، كان الثلاثة يتناولون وجبة غداء في أحد المطاعم وسط بغداد، قبل أن يفتح مسلحون النار على سيارتهم، ويُقتلوا في الحال.

على طريق مزدحم بحي الداوودي غرب العاصمة، كان عصام الراوي، وهو أستاذ علوم الأرض في جامعة بغداد، في طريقه إلى مكان عمله حين قتله مسلحون في أكتوبر 2006. كان الرجل، في أعقاب تفجير المرقدين العسكريين في سامراء، قد قطع الطريق راجلاً إلى مرقد «الكاظم» المقدس لدى الشيعة، ليصلي، في محاولة لإطفاء فتنة تتفجر في كل مكان. يقول كثيرون إن جماعة أصولية عاقبته على ذلك.

في العام نفسه، قتل شاكر وهيب، القيادي في تنظيم «القاعدة»، زعيمَ قبيلة كبيرة في محافظة الأنبار كان يدعو إلى إشراك السكان المحليين في الحياة السياسية، وانخراطهم في مؤسسات الأمن بالتزامن مع انسحاب كان مأمولاً للقوات الأميركية.

في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2009، شنّ تنظيم «القاعدة» هجوماً على مبنى حكومة الأنبار، أسفر عن مقتل نحو 30 مسؤولاً وعنصر أمن وإصابة العشرات. من بين الجرحى المحافظ قاسم الفهداوي الذي اقترب منه انتحاري خمسة أمتار.

وشاهد سكان الرمادي يومها مروحيتين فوق سطح مستشفى المحافظة لنقل الفهداوي إلى منشأة طبية أكثر تخصصاً، لعلاج إصابات خطيرة في القدم والساق.

نجا الفهداوي وانتكست المدينة خلال محاولتها التعايش مع النظام الجديد.

الطريق بين الكرمة وبغداد

خلال تلك الأيام الدامية، كان الحلبوسي يتنقل بين مسرحين قاتلين، بغداد والكرمة. الطريق الذي يُقطع براً بينهما بساعة ونصف يربط بين ملعبين لانتحاريين وأحزمة ناسفة وميليشيات، ومئات الآلاف من الضحايا من كل الطوائف.

غادر الحلبوسي بغداد عام 2010 ناجياً بشهادة ماجستير في الهندسة إلى مدينة ينشط فيها سياسيون من «الإخوان المسلمين» والقوميين العرب وبقايا من «حزب البعث». كانوا جميعاً محبطين، يقدمون أجندة سياسية قائمة على المظلومية، ويفتقدون الفاعلية. كانت قائمة «العراقية» بقيادة إياد علاوي التي راهنوا عليها «سنياً»، قد تلقت ضربة موجعة بإعلانها الفائز الخاسر في انتخابات 2010.

مع هؤلاء، جاءت أخطر 6 أشهر في تاريخ السنة خلال العقدين الماضيين. ففي 30 ديسمبر 2013، أمر نوري المالكي، رئيس الحكومة آنذاك، باستخدام القوة لفض اعتصام في الأنبار كان امتداداً لاحتجاجات متفرقة في مدن وسط البلاد وجنوبها، لكن المالكي عدّ السنة «متمردين». اعتقلت قوة حكومية سياسيين سُنة بعد اشتباكات، من بينهم أحمد العلواني، أبرز معارضي المالكي، اقتيد إلى محاكمته بتهم إرهاب، وقُتل شقيقه ببشاعة.

في 30 أبريل (نيسان) 2014 انتخب العراقيون البرلمان الثالث. يومها وقعت هجمات انتحارية قرب مراكز اقتراع في الرمادي وبعقوبة وتكريت وكركوك، وقُتل موظفون في «مفوضية الانتخابات» وضباط كانوا يحمونهم، كما شغّلت الأحزاب السُنية دعايتها سراً بسبب المخاوف. وحصل الحلبوسي على مقعد بأصوات ناجين، بشكل ما، من الموت.

بعد شهر، في 29 يونيو 2014، أعلن «داعش» قيام دولته. اضطرت الحكومة، بضغط من التحالف الدولي، إلى تجنيد شبان من العرب السنة لمقاتلة التنظيم، وكانت القبائل في الأنبار تجرب التحالف مجدداً مع القوات النظامية مع مجيء حيدر العبادي إلى رئاسة الحكومة في محاولة لنسيان جراح فتحها المالكي وتركها مفتوحة.

رئيس البرلمان الأسبق أسامة النجيفي خلال زيارته طهران في سبتمبر 2013 (إيرنا)

«نادي العجز» السياسي

كانت الكتلة السنية «متحدون للإصلاح» بزعامة أسامة النجيفي الخيار السني الوحيد الذي وجد «حزب الحل» الذي ترشح عنه الحلبوسي الشاب إلى البرلمان عام 2014. رغم أن الكتلة كانت أقرب إلى نادٍ مغلق يخفي عجزاً بنيوياً عن إنتاج السياسات، لكن الجمهور السني صوّت لها في محاولة لتحدي قوى شيعية تتفرد بالسلطة، وتنظيمات إرهابية تمنعهم من التعامل معها والانخراط فيها. كان ذلك تكليفاً بمهمة شبه مستحيلة.

النجيفي، الذي ترأس برلمان الدورة الثانية حتى 2014، وآخرون من أمثال طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية حتى ديسمبر 2013، ورافع العيساوي وزير المال حتى مارس (آذار) 2013، كانوا آخر من وُضعوا في فوهة المدفع أمام المالكي، وسقطوا من دون خطط بديلة للعودة، وبكثير من الشكوى والعزلة.

سرعان ما انقلب الحلبوسي على هذه المقاربة في «إدارة التهميش»، كان يريد التحرك إلى قلب النظام وليس البقاء في هامشه، معارضاً معزولاً.

عثر الحلبوسي على مقعده في البرلمان. واحتل «داعش» ثلث العراق. سرعان ما اجتذبت معارك التحرير تشكيلات عسكرية مختلفة، وأخرجت النفوذ الإيراني من الكواليس إلى العلن. وانتشر مستشارو «الحرس الثوري» الإيراني مع فصائل في «الحشد الشعبي»، تحت كل سماء حلّقت فيها مقاتلات الجيش الأميركي.

بعد 3 سنوات من القتال تراجع «داعش» عن مساحات شاسعة واستعادت بغداد أراضيها في الموصل والرمادي، وبدأت معركة نفوذ جديدة. كان الحلبوسي يعود إلى الكرمة في إجازته عبر نقاط تفتيش نصبتها فصائل منتصرة.

نسخة سياسية جديدة

لقد أمضى الآن 3 سنوات في البرلمان، تجربة وضعته بين «أسماك قرش» تتعاظم على أيديهم إمبراطوريات مال وسلاح، وامتد شيء منها إلى مساحات محررة من «داعش». قالت فصائل مسلحة إنها «صاحبة الفضل» في التحرير، ولها الحق في حماية الأمن في كل مكان رسمته دماء مقاتليها. حينها أصبح الحلبوسي محافظاً يحلم بإمبراطورية. كان ذلك في أغسطس (آب) 2017.

تزامن التعاظم المضطرد للنفوذ الإيراني في العراق مع ظهور نسخة جديدة من السياسية السنية. بينما كانت القوى الشيعية بحاجة إلى وسطاء سنة لتوطيد سلطتها، بدا أن الحلبوسي كان يريد ما هو أكثر، بتقاسم النفوذ. أصبح الآن رئيساً للبرلمان، وأزاح عن وجهه قناع الشاب الطموح وسحب كرسياً من الصفوف الخلفية إلى المائدة الرئيسية.

يرى أحد المسؤولين الحكوميين الذين عرفوا الحلبوسي عن قرب أن «ظاهرة الرجل نشأت من تفاعل الحاجة الاجتماعية داخل البيئة السنية بعد انهيار نموذج (الزعيم المنقذ)؛ ثم التوقيت والتمركز الصحيحين بأداء واقعي». يقول سياسي معارض للحلبوسي إنه «مشروع ديكتاتور جديد».

انتبه خصوم الحلبوسي إلى تحالفاته الواسعة بين جماعات متنافسة في العراق (د.ب.أ)

«أكثر من اللازم»

قاد الحلبوسي البرلمان منذ 2018... سرعان ما تعرضت المنظومة الشيعية إلى الاهتزاز بفعل التنافس على تمثيل المكون الأكبر، وأمام احتجاج شعبي في أكتوبر 2019 سقط رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، وغاب عن المطبخ قاسم سليماني، قائد «قوة القدس» في «الحرس الثوري».

لم يمنع الحلبوسي نفسه من التعبير عن النسخة الحديثة من السياسة السنية. ديناميكيته سمحت له بالتنقّل بين الجبهات لبناء تحالفات واسعة. يقول ذلك سياسيون شاهدوا كيف «قدم الحلبوسي نفسه عرّاباً أمام بيئة الاحتجاج بينما كانت الأحزاب الشيعية تفقد المبادرة». ويقول مقربون منه، إن «فاعليته تلك الأيام تعبير عن حضوره في النظام، بوصفه شريكاً».

انتبهت المنظومة الشيعية إلى الحلبوسي كأنها لم تعرفه من قبل. قرر الجميع إخراجه من اللعبة. بالنسبة لمنافسين سنة وشيعة، فإن الحد المسموح للحلبوسي هو الاستفادة من التوازن دون التحول «أكثر من اللازم إلى سمكة قرش»، على حد تعبير قيادي شيعي.

الحال أن الحلبوسي أُقيل من رئاسة البرلمان وشُطبت عضويته في نوفمبر 2023. في اليوم التالي خرج أمام الصحافيين ملوّحاً بنسخة من الدستور لـ«تصحيح خطأ» وقعت فيه المحكمة الاتحادية. كان هذا فعلاً سياسياً غير مسبوق على المستوى السني.

قيل على نطاق واسع إن خصوم الحلبوسي من العرب السنة اشتكوا لدى حلفاء شيعة من فائض قوته، وإن إيران في النهاية قررت إعادة التوازن. يقول سياسي عراقي إن فريق رئيس حزب «تقدم» تعامل مع القرار بوصفه «محطة فاصلة لإعادة إنتاج المشروع، دون الخوض في السياق السياسي للأزمة». كان هذا أمراً غير معهود في الحياة السياسية للسنة العرب.

بعد شهر واحد، خاض الحلبوسي انتخابات مجالس المحافظات في اختبار حاسم لقدرته وهو معاقَبٌ من دون منصب، وفاز بـ21 مقعداً. يقول قيادي من حزب «تقدم» إن شطب العضوية تحول إلى وقود لإشعال نيران الحملة الانتخابية، ونجح الأمر.

أصبح الحلبوسي الآن أكثر شراسة، بل أقل تساهلاً مع الثغرات في مشروعه، وأظهر ميلاً للصرامة الحزبية. كان على استعداد لتصفية أقرب المقرّبين. في يوليو 2024 تفاقمت شكوكه حول ذراعه اليمنى في حزب «تقدم» بالأنبار، المحافظ السابق علي فرحان، من حيث إنه منفتح ربما على خيارات سياسية مختلفة. حوكم الرجل بتهم إساءة استخدام المنصب، وقضى فترة في السجن.

في أبريل 2025، برأ القضاء الحلبوسي من تهمة التزوير التي أُقيل بموجبها. بعد شهر سيقضي القاضي جاسم العميري، الذي أقاله، إجازة التقاعد مغادراً المحكمة الاتحادية.

بدأ ثقل الحلبوسي السياسي من مناطق غرب العراق (إكس)

حصانة غير مضمونة

ثمة انقسام حول تفسير «ظاهرة الحلبوسي». يقول خصوم إن خصاله الشخصية لم تكن تكفيه لتحقيق هذه المكاسب، وإنه «حاصل الجمع بين شبكة تؤهل الزعامات ولحظة سنية سمحت له بالظهور».

لكن كثيرين من السنة في بغداد، بعد سنوات من العنف والانقسام، وجدوا في الحلبوسي الشخص الذي يشبع حاجتهم إلى الزعامة. لقد استمعوا إليه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة يقول «شعارات» حادة: «نحن السنة نقرر ما نريد (...) لن نسمح للآخر (الشيعة والكرد) بأن يقرر نيابة عنا».

بعد إعلان النتائج الأخيرة، قال قيادي شيعي إن «الحلبوسي بموقعه الوسطي بين تيارات سائدة في المنطقة، خصوصاً بعد أحداث أكتوبر 2023، بين إيران التي تحاول التقاط أنفاسها، وتركيا المتفوقة في سوريا، سيلعب دوراً متقدماً في ضبط التوازنات العراقية».

تبدو هذه المهمة واعدة، إذ تمنح الحلبوسي «جدار حماية» إضافياً في منطقة متقلبة، لكنه لا يزال يبحث عن «حصانة» أكبر. تدرك دائرته المقربة أن «الضمانات في هذه اللعبة غير متوفرة، ولا أحد يقدمها. النظام هش ويتغير بسرعة، كل ما يشغلهم الآن هو الاستعداد للضربة المقبلة: من أين؟ ومن يسددها؟». هذا النوع من «الاستعداد» يتحول الآن إلى أحد أهم فنون البقاء في العملية السياسية العراقية.