حرب البكالوريا مستعرة في سوريا

إغماءات بين الطلاب واتهامات لـ«التربية» باعتماد أسئلة «فهم وتحليل»

أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)
أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)
TT

حرب البكالوريا مستعرة في سوريا

أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)
أهالي طلاب الشهادة الثانوية ينتظرون أبنائهم خارج مركز امتحان في دمشق (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)

عندما خرج ابني من امتحان الرياضيات وقال إنه أجاب عن الأسئلة بشكل مقبول، انهرت بالبكاء، وكأنه قال «نجوت من الموت». بهذه الكلمات كان جرجي (50 عاماً) يحكي لجيرانه ما حصل معه يوم «واقعة الرياضيات»، بحسب تعبيره، وكان يرافق ابنه إلى امتحان الثانوية العامة، الشغل الشاغل لأهالي الطلاب.

وصف جرجي مشهد الأهالي المتجمعين أمام أحد المراكز الامتحانية في ريف دمشق بأنه كان «رهيباً». الأهالي بحالة توتر وغضب وأصوات بكاء وعويل وشتائم. طلاب منهارون لدى خروجهم من الامتحان بعضهم سقط مغمى عليه، والشرطة منتشرة في المكان. «كانت لحظات عصيبة وكاد قلبي يتوقف» قال الرجل.

ما حصل يوم امتحان مادة الرياضيات لشهادة الثانوية العامة الفرع العلمي قبل أيام، يكشف عن عمق أزمة التعليم في سوريا. فبعد عقود طويلة من امتحانات تعتمد التلقين والتحفيظ، قررت وزارة التربية تغيير نمط الأسئلة إلى نموذج يعتمد «الفهم والتحليل». ودون سابق إنذار وجد الطالب الذي أمضى عاماً كاملاً يحفظ أسئلة الدورات السابقة وإجاباتها، مع نماذج للأسئلة المتوقعة، أمام نمط جديد بدا له عبارة عن طلاسم.

مليونان ونصف المليون بلا تعليم

وقالت مصادر تعليمية غير رسمية، لـ«الشرق الأوسط» إن شيئاً مشابهاً حصل في مادة الجغرافيا للفرع الأدبي. وكذلك مادة اللغة الفرنسية لطلاب شهادة الإعدادي، فالأسئلة كانت أعلى من مستوى الطلاب. ولعل أطرف ما في الأمر ما تناقلته المصادر بأن بعض الأهالي اتهموا وزارة التربية بالتساهل بأسئلة اللغة الروسية والتشدد بأسئلة اللغة الفرنسية! وبحسب هؤلاء، فإذا كانت هذه الملاحظة صحيحة إنما هي دليل على «تخبط وزارة التربية في معالجة تدني جودة التعليم» واعتمادها على التجريب والارتجال. فقد اختارت الامتحان لتبدأ تجربة أسئلة تحفيزية، بدلاً من نموذج الحفظ والبصم الذي نشأ عليه الطلاب من السنة الأولى في التعليم الأساسي. وهي تجربة أنتجت على مدى سنوات تزايداً في أعداد الحاصلين على المجموع التام، ليعدّوا اليوم بالعشرات، بعدما كانوا في الماضي ندرة لا تتجاوز الثلاثة أو أربعة طلاب على مستوى البلاد.

وعلى مدى أسبوعين تقريباً من شهر يونيو (حزيران) الحالي، يخضع نحو 558 ألف طالب وتلميذ لامتحانات الشهادات العامة، في 5027 مركزاً امتحانياً في مختلف المحافظات السورية ضمن مناطق سيطرة الحكومة، للعام الدراسي 2023 - 2024، في حين تشير أرقام منظمة «يونيسيف» إلى حرمان نحو مليونين ونصف المليون طفل سوري في سن الدراسة من التعليم.

طفل سوري خلال استراحة من العمل في ورشة تصنيع ألمنيوم في محيط حلب (أ.ف.ب)

اتهامات للوزارة... وإقالات

وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بما حصل يوم امتحان مادة الرياضيات للثانوية العامة لهذا العام، وسط اتهامات من الطلاب وذويهم لوزارة التربية ولجنة وضع الأسئلة، بتعمد توجيه ضربة للطلاب وإلحاق الضرر بهم. مديرة الصحة المدرسية هتون الطواشي صرحت للإعلام المحلي بأنه تم تسجيل 4 حالات إسعافية خلال امتحان مادة الرياضيات نقلت إلى خارج المركز الامتحاني في حماة، السويداء، درعا، وحلب، أما بقية الحالات فقد تنوعت بين الإغماء والقلق، بعضها ترافق مع أعراض هضمية كالقيء، لافتةً إلى تسجيل 20 – 25 حالة إغماء يومياً في مختلف المحافظات.

الإعلامي في التلفزيون الرسمي نزار الفرا كتب على حسابه في «فيسبوك»: «ماذا يخطر ببال اللجنة التي تضع أسئلة الامتحانات لطلاب الشهادة الإعدادية أو الثانوية عندما تكون الأسئلة شبه تعجيزية؟ هل هو تبييض وجه مع الوزارة وأن المدرّس القدير هو من يأتي بطلاسم يصعب فكّها؟ ما الغاية الأساسية من الامتحانات؟ هل هي التأكد من دراسة الطالب واكتسابه العلم والمهارات أم حشره بالزاوية وممارسة كل أشكل (الدهاء) و الحذلقة عليه؟».

وفي محاولة لتهدئة الغضب الذي أثارته أسئلة مادة الرياضيات، خصصت قناة «التربوية السورية الرسمية» حلقة لتوضيح آلية صياغة أسئلة مادة الرياضيات وسلم التصحيح، وأنه يركز «على مهارات الفهم والتحليل بدلاً من الحفظ والتلقين»، وأن الأسئلة تضمنت «مسائل من الكتاب مع تغيير الأرقام فقط».

أهالي طلاب الشهادة الثانوية يتحدثون إلى وزير التربية السوري خارج أحد مراكز الامتحان (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)

وأمام مركز الامتحانات كانت إحدى الأمهات تحاول إفاقة ابنتها طالبة بكالوريا علمي من الإغماء وهي تبكي وتصرخ: «نحن ندفع ثمن شهادة البكالوريا من اللحم الحي وأنتم تتفنون بقهرنا». والد طالب آخر كان بجوارها قال: «يتصرفون وكأنهم في حرب معنا».

المصادر التعليمية في دمشق ردت الذعر الذي يخيم بثقل غير مسبوق على أجواء الامتحانات هذا العام إلى التعليمات الرقابية المتشددة، التي تترافق مع قطع شبكة الإنترنت وشبكات الهاتف فترة الامتحان، واستغربت المصادر تجاهل الحكومة لتعطيل مصالح الناس كل يوم ثلاث ساعات بسبب قطع الاتصالات خلال شهر الامتحانات؛ لأن وزارة التربية عاجزة عن ضبط الفساد وتسريب الأسئلة، والسماح بشنّ حملة توقيف لموظفي التربية المشكوك بنزهاتهم أثناء سير الامتحانات والإعلان عن ذلك، رغم ما يتسبب به ذلك من بلبلة وإثارة شائعات لها انعكاسات نفسية مدمرة على الطلاب، وذويهم، حيث تتحول فترة الامتحانات كل عام موسماً للرعب والتوتر.

وتم إعفاء مدير تربية دمشق، في اليوم الأول من الامتحانات، وقال وزير التربية محمد عامر مارديني في تصريح لوسائل إعلام محلية: «إن الإعفاء جاء نتيجة مخالفة التعليمات الامتحانية في مراكز عدة بدمشق»، موضحاً أنه من خلال «المتابعة للعملية الامتحانية تبين وجود فوضى وعدم انضباط والتزام بالتعليمات الامتحانية في بعض المراكز». وأكد الوزير أن «لا تهاون أو تتردد في اتخاذ أي قرار بحق كل من يتسبب في التشويش و خرق التعليمات الامتحانية».

خسارة طوق النجاة

والواقع أن رسوب الطالب لا يعني فشلاً علمياً، بقدر ما هو خسارة مادية فادحة في بلد يرزح أكثر من 90 في المائة من سكانه تحت خط الفقر، وتمثل الشهادة العلمية فيه «طوق نجاة» من الخدمة الإلزامية بالنسبة للذكور، وأيضاً وهو الأهم تعزيز فرص الهجرة للشباب. حيث يتكبد أهالي الطلاب على مدى العام الدراسي نفقات باهظة على الدروس الخصوصية؛ بهدف تحفيظ الطالب المناهج وأسئلة الدورات السابقة والأسئلة المتوقعة.

زيارة تفقدية لمركز تصحيح أوراق الامتحانات الرسمية في سوريا (حساب الفضائية التربوية السورية على فايسبوك)

بثينة سيدة أربعينية وأم لطالب يخضع لامتحان الشهادة الإعدادية، قالت إنها خلال فترة الامتحان لا تعرف النوم، وإنها «مستعدة أن أشحذ حتى أشتري لأبني الشهادة». فهي تريده أن يتابع دراسته بأي طريقة كي لا يساق إلى الخدمة العسكرية، والمشكلة أن مستوى ابنها التعليمي ضعيف، بسبب تنقله خلال سنوات الحرب بين مناطق ومدارس عدة، كما أنه يكره الدراسة والقراءة؛ لذلك ومنذ بداية العام الدراسي أعلنت الاستنفار وطلبت من شقيقتها مساعدتها في التناوب على تحفيظه المنهاج، بالإضافة إلى دورات دروس خاصة بالمواد كافة.

شاهين طالب ثاني ثانوي يستعد للتقدم لامتحان الثانوية العامة العام المقبل، وقد بدأ منذ عام بالخضوع لدورات خاصة بمنهج البكالوريا ويقول: «أسعى لحفظ المنهاج من الآن؛ فأنا أريد مجموعاً جيداً يؤهلني لدخول كلية هندسة ثم السفر».

ويتراوح سعر الساعة بين الخمسين والمائة والخمسين ألف ليرة، (3 إلى 10 دولارات) حسب المدرس والمنطقة، ويحتاج بالحد الأدنى يومياً إلى 100 ألف ليرة للدروس الخاصة لأكثر من مادة، في حال تقاسم سعر الساعة مع عدد من الطلاب، وهو ما تفعله الغالبية، ويقدر متوسط الإنفاق السنوي للطالب بـ15 مليون ليرة، ناهيك عن مصاريف أخرى تتعلق بالنقل، في حين لا يتجاوز متوسط الرواتب 20 دولاراً.

وتحتاج الأسرة المؤلفة من أربعة أبناء بالحد الأدنى إلى 500 دولار شهرياً لتغطية تكاليف المعيشة؛ وهو ما دفع الغالبية للعمل بأكثر من مهنة، لا سيما في المجال الخدمي. وحين يضاف إلى ذلك أعباء التعليم الباهظة، تتحول الامتحانات إلى كابوس مرعب؛ لما يحمله من خسارات مالية مضنية. عدا كابوس السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في حال رسب الطالب لأكثر من مرة وفقد فرصته في تأجيل الالتحاق بالخدمة.


مقالات ذات صلة

«التعليم المصرية» تُكثف الإجراءات ضد مُسربي الامتحانات في «الثانوية»

شمال افريقيا جانب من امتحانات «الثانوية» في مصر (وزارة التعليم المصرية)

«التعليم المصرية» تُكثف الإجراءات ضد مُسربي الامتحانات في «الثانوية»

تكثف وزارة التربية والتعليم في مصر من إجراءاتها لمواجهة وقائع تسريب أسئلة امتحانات «الثانوية العامة»، والتصدي لحالات «الغش الإلكترونية».

أحمد إمبابي (القاهرة)
شؤون إقليمية وزير التعليم التركي يوسف تكين (إكس)

المدارس الفرنسية في تركيا تسبب أزمة بين البلدين

استنكر وزير التعليم التركي يوسف تكين «تعجرف» فرنسا في إطار أزمة بين البلدين بشأن وضع المدارس الفرنسية في تركيا.

«الشرق الأوسط» (أنقرة)
تكنولوجيا الروبوت أظهر القدرة على تنفيذ الحركات التي تعلَّمها (جامعة كاليفورنيا)

تدريب روبوت على الرقص والتلويح ومصافحة البشر

استطاع مهندسون في جامعة كاليفورنيا الأميركية تدريب روبوت على تعلّم وتنفيذ مجموعة متنوّعة من الحركات التعبيرية للتفاعل مع البشر، بما في ذلك رقصات بسيطة وإيماءات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شؤون إقليمية الإصلاحي مير حسين موسوي وزوجته زهرا رهنورد (إكس)

جامعة إيرانية تفصل ابنة زعيم الإصلاحيين وتوقفها عن العمل

فصلت جامعة إيرانية نجلة زعيم التيار الإصلاحي، مير حسين موسوي، ومنعتها من مزاولة التدريس نهائياً.

«الشرق الأوسط» (لندن)
أوروبا قرار حظر الهواتف الجوالة يهدف إلى تحسين سلوك التلاميذ (د.ب.أ)

حتى لأغراض التعلم... دولة أوروبية تقرر حظر الهواتف في الفصول الدراسية

من المقرر حظر الهواتف الجوالة في الفصول الدراسية الإيطالية في العام الدراسي الجديد بالمدارس، بموجب مرسوم أصدرته، اليوم الخميس، الإدارة اليمينية.

«الشرق الأوسط» (روما)

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

TT

فلسطينيو الضفة يتنفسون من رئة إسرائيل ويخشون عقاباً جماعياً

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)
فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

لا يتمنى الفلسطينيون في الضفة الغربية، ربما بخلافهم في قطاع غزة، حرباً مفتوحة بين إسرائيل و«حزب الله» اللبناني. فهم يدركون بخبرة العارفين بعقلية إسرائيل ومن باب التجربة السابقة في الحروب والانتفاضات، بما في ذلك الحرب الحالية على القطاع، أنهم سيدفعون ثمناً كبيراً، سياسياً واقتصادياً يمسّ حياتهم وحقوقهم واحتياجاتهم اليومية الرئيسية. وبعد أن يتحولوا معتقلين في سجن الضفة الكبير، لا شيء قد يثني إسرائيل عن قتلهم واعتقالهم وملاحقتهم.

في السيناريو الأبسط لحرب محتملة بين إسرائيل و«حزب الله»، ستنعزل إسرائيل وتغلق حدودها غير المعروفة، وستكون في حاجة إلى عزل الفلسطينيين في الضفة بشكل تام، انطلاقاً من حاجتها إلى كبح جماح جبهة ثالثة محتملة. هذا يعني بلا شك، تقييد الحركة ومنع السفر وتوقف تدفق البضائع إلى أسواق الضفة، وسيشمل ذلك وقف إسرائيل إمداد الفلسطينيين بالكهرباء والماء والوقود، انطلاقاً من أنها ستحتفظ لنفسها بأي مقدرات كهذه، بعد أن يقصف «حزب الله» شركات الكهرباء والمياه والمطارات، مرسلاً إسرائيل إلى أزمة غير مسبوقة، سيدفع الفلسطينيون أيضاً ثمنها بلا شك.

لكن إذا كانت إسرائيل دولة يمكن لها التعامل مع أزمات من هذا النوع، وهذا ما زال غير واضح إلى أي حد، فالسلطة الفلسطينية غير قادرة على ذلك وهي التي تعيش أزمات عميقة اليوم، مالية واقتصادية وأمنية، وفي حقيقة الأمر وجودية.

وليس سراً أنهم في إسرائيل يستعدون لسيناريوهات تتعامل مع شلل كامل، سيتضمن ظلاماً دامساً وطويلاً في مطار بن غوريون، وانهيار مبانٍ وجسور وإصابة طرق رئيسية، وانقطاعاً في الكهرباء والماء الوقود، ونقصاً في المواد الأساسية.

جثمان الطفل غسان غريب 13 عاماً محمولاً على الأكتاف وكان قتل برصاص إسرائيلي قرب رام الله في يوليو الحالي (أ.ف.ب)

وقف مقومات الحياة

ولم تكن تصريحات المدير العام لشركة إدارة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية شاؤول غولدشتاين، الأخيرة حول إسقاط شبكة الكهرباء في إسرائيل في حالة حرب مع «حزب الله» مجرد جرس إنذار في إسرائيل، بل أيضاً في الضفة الغربية التي تشتري الكهرباء من إسرائيل.

وقال غولدشتاين: «نحن في وضع سيئ ولسنا مستعدين لحرب حقيقية (...) خلاصة القول هي أنه بعد 72 ساعة لن يمكنك العيش في إسرائيل. إسرائيل لن تكون قادرة على ضمان الكهرباء في حالة الحرب في الشمال بعد 72 ساعة»، مضيفاً: «لسنا مستعدين لحرب حقيقية».

وما ينسحب على الكهرباء ينسحب على المياه والوقود.

فحتى قبل حرب مفترضة مع بداية الصيف الحالي، بدأ الفلسطينيون يعانون العطش، بعدما أخذت شركة «ميكروت» الإسرائيلية قراراً بتقليص كمية المياه الواردة إلى مناطق الضفة، كنوع من عقاب تعوّد عليه الفلسطينيون.

مسنّ فلسطيني وأطفال يشربون من عبوات تبرعت بها جمعيات لبلدات في الضفة الغربية قطعت عنها إسرائيل مياه الشفة (غيتي)

وبحسب أرقام رسمية، فإن متوسط استهلاك الفرد اليومي من المياه في إسرائيل، بما في ذلك المستوطنات، يبلغ 247 لتراً، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف متوسط استهلاك الفرد الفلسطيني اليومي في الضفة الغربية، والذي يبلغ 82.4 لتر، وفي التجمعات الفلسطينية غير الموصولة بشبكة مياه، يصل إلى 26 لتراً، فقط.

تخزين طحين ودواء وسولار

لا يمكن تخيل وضع معظم الفلسطينيين في الضفة الذين يتلقون اليوم (أي قبل الحرب) مياهاً جارية أقل من 10 أيام في الشهر؛ لأن الحصة المتبقية من المياه ينعم بها الإسرائيليون.

وفي إحصائيات السنوات الماضية، وصل إجمالي استهلاك الإسرائيليين من المياه عشرة أضعاف إجماليّ ما استهلكه الفلسطينيون في الضفة الغربية، وهي أرقام ستتغير لصالح الإسرائيليين هذا العام.

ويفهم الفلسطينيون في الضفة أنهم لن يجدوا أي قطرة ماء مع اندلاع الحرب المفترضة، التي ستتركهم أيضاً بلا كهرباء ولا دواء ولا وقود، وهو ما يخلق قلقاً وإرباكاً الذي يتسلل إليهم اليوم، وحمل بعضهم على تخزين الكثير من الطحين والمعلبات والمياه المعدنية.

وقال سعيد أبو شرخ: «لم أود الانتظار أكثر. اشتريت بعض الطحين والمعلبات والمياه».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «بعد دقيقة واحدة من الحرب سيدبّ هلع كبير. ستصبح الأسعار جنونية، ثم سنفقد البضائع. وقد نعيش التجربة القاسية التي اختبرها الغزيون في القطاع».

وعانى قطاع غزة فقدان الكهرباء والمياه والدواء والمواد الأساسية، ووصل الأمر إلى حد مجاعة حقيقية أفقدت الناس حياتهم.

وبالنسبة إلى أبو شرخ، فإنه يفضّل أن يكون مستعداً، أسوة بالكثير من أصدقائه الذين لجأوا إلى شراء كميات أكبر من الطحين والمعلبات وصناديق المياه، وحتى كميات من البنزين أو السولار، كخطة احتياطية.

وفي اختبار قصير سابق، عندما انطلقت المسيّرات والصواريخ الإيرانية، تجاه إسرائيل، لم يكن ممكناً الوصول إلى البقالات بسهولة، وهرع الناس لشراء ما يجنبهم انقطاع الطعام الرئيسي، أما محطات الوقود ففقدت مخزونها لأيام عدة، في «بروفة» لما يمكن أن يحدث في حرب حقيقية.

ولا يريد عبد العظيم عواد، أن يضع نفسه في اختبار آخر.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لم أجد بعد ساعة واحدة من انطلاق المسيّرات الإيرانية الكثير من المواد الغذائية. لم أجد وقوداً لأيام عدة. وخفت أن تندلع الحرب فعلاً. لم يكن لدي أي استعدادات».

وعلى الرغم من ذلك، يُمنّي عواد النفس بألا يضطر إلى عيش التجربة مرة أخرى على نحو أصعب، ولا يريد أن يرى حرباً أخرى.

وأضاف: «تعبنا من الحرب. الوضع صعب. الأشغال تضررت، الاقتصاد منهار. لا توجد رواتب والعمال لا يذهبون إلى إسرائيل. والتجار يشكون. حرب أخرى طويلة مع لبنان ستعني دماراً حقيقياً هنا. أعتقد سيكون وضعاً كارثياً».

ضائقة اقتصادية غير مسبوقة

وعانت الضفة الغربية وضعاً اقتصادياً معقداً ستحتاج معه إلى فترة ليست قصيرة من أجل التعافي.

وقال وزير الاقتصاد الفلسطيني محمد العامور، إن الاقتصاد الفلسطيني يواجه صدمة اقتصادية «غير مسبوقة»، تصاعدت حدتها، بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

عمال مياومة فلسطينيون ينتظرون عند معبر إسرائيلي ليتم إدخالهم للعمل (غيتي)

وأكد العامور معقّباً على تقرير للبنك الدولي حذَّر فيه من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، وأن العدوان، والإبادة الجماعية والحصار المالي والاقتصادي والسياسة المتطرفة التي تنفّذها حكومة الاحتلال تتسبب في انكماش اقتصادي وتعطل الحركة التجارية.

وتوقع أن يصل الانكماش إلى 10 في المائة.

وبحسبه، فإن الاقتصاد يخسر يومياً نحو 20 مليون دولار في جزئية توقف الإنتاج بشكل كلي في قطاع غزة، وتعطله في الضفة الغربية، إلى جانب تعطل العمالة، والتراجع الحاد في النشاط الاقتصادي والقوة الشرائية.

وكان البنك الدولي، قد حذّر في تقرير الشهر الماضي، من أن السلطة الفلسطينية تواجه مخاطر «انهيار في المالية العامة»، مع «نضوب تدفقات الإيرادات» والانخفاض الكبير في النشاط على خلفية العدوان على قطاع غزة.

وأكد البنك الدولي أن «تدفقات الإيرادات نضبت إلى حد كبير؛ بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إسرائيل لإيرادات المُقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية، والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي».

وبحسب التقرير، فإن «الاقتصاد الفلسطيني فقد ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ 7 أكتوبر، يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية».

وأكد التقرير أيضاً ارتفاع معدل الفقر، موضحاً: «في الوقت الحاضر، يعيش جميع سكان غزة تقريباً في حالة فقر».

وبحسب تقارير دولية سابقة، فقد أدت الحرب في غزة إلى إغلاق الاقتصاد فعلياً هناك، بعدما تم تدمير الأساس الإنتاجي للاقتصاد في القطاع والذي انكمش بنسبة 81 في المائة في الربع الأخير من عام 2023.

وتضرر الاقتصاد أيضاً في الضفة الغربية وانكمش كذلك، بسبب الحصار السياسي والمالي للسلطة والفلسطينيين.

مأزق السلطة

تعاني السلطة في الضفة وضعاً مالياً حرجاً اضطرت معه منذ بدء الحرب إلى دفع نصف راتب فقط لموظفيها.

ومنذ عامين تدفع السلطة رواتب منقوصة للموظفين في القطاعين المدني والعسكري؛ بسبب اقتطاع إسرائيل نحو 50 مليون دولار من العوائد الضريبية، تساوي الأموال التي تدفعها السلطة لعوائل مقاتلين قضوا في مواجهات سابقة، وأسرى في السجون الإسرائيلية، إضافة إلى بدل أثمان كهرباء وخدمات طبية.

وعمّقت الحرب على غزة هذه الأزمة بعدما بدأت إسرائيل باقتطاع حصة غزة كذلك.

مظاهرات داعمة لغزة في رام الله نهاية مايو الماضي (غيتي)

وإضافة إلى موظفي السلطة، فقد أكثر من 150 ألف عامل فلسطيني من الضفة مصدر دخلهم الوحيد منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعدما جمّدت إسرائيل تصاريح دخولهم إلى أراضيها أسوة بنحو 20 ألف عامل من قطاع غزة أُلغيت تصاريحهم بالكامل.

وساعد منع العمال من دخول إسرائيل في تدهور أسرع في الاقتصاد في الضفة الغربية، مع الوضع في الحسبان أن أجورهم كانت تصل إلى نحو مليار شيقل شهرياً (الدولار 3.70) مقارنة بفاتورة رواتب موظفي السلطة الشهرية التي تبلغ نحو 560 مليون شيقل شهرياً.

وقال مروان العجوري، أحد العمال الذين فقدوا مصدر رزقهم الوحيد، لـ«الشرق الأوسط»: «منذ 9 أشهر لم يدخل لي شيقل واحد. لقد استنفدنا».

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «ننتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب في غزة، هل تعرف ماذا يعني حرب جديدة مع «حزب الله»؟ يعني على الدنيا السلام. دمار دمار. ما ظل إلا الهجرة بعدها». وتابع: «لا إسرائيل بتتحمل ولا إحنا».

ويخشى الفلسطينيون فعلاً أن إسرائيل قد تستخدم أدوات ضغط كبيرة عليهم في الضفة الغربية من أجل حثّهم على الهجرة، مستغلة انشغال العالم في حرب كبيرة مع لبنان.

مصادرة أراضٍ ودفع للهجرة

وخلال الأشهر القليلة الماضية، فتكت إسرائيل بالضفة الغربية بكل الطرق، حصار مالي وقتل واعتقالات ودفعت خططاً لتغيير الوضع القائم باتجاه إحباط أي أمل لإقامة الدولة الفلسطينية.

وفي الرابع من الشهر الحالي صادقت إسرائيل على مصادرة 12.7 كيلومتر مربع من أراضي الضفة الغربية، في مصادرة وصفتها منظمة «السلام الآن» الإسرائيلية بأنها الأكبر منذ ثلاثة عقود وتمثل ضربة جديدة للسلام بين الجانبين.

وبحسب «السلام الآن»، فإن الأراضي التي حوّلتها إسرائيل «أراضي دولة» تقع في منطقة غور الأردن، وهي الأكبر منذ اتفاقيات أوسلو 1993.

وبهذه المصادرة، ترتفع مساحة الأراضي التي أعلنتها إسرائيل «أراضي دولة» منذ بداية العام إلى 23.7 كيلومتر مربع.

بعد ذلك بأيام عدة صادرت إسرائيل أراضي أخرى قرب مستوطنات في الضفة.

وتسيطر إسرائيل على الضفة الغربية منذ عام 1967، وأقامت الكثير من المستوطنات التي يعيش فيها من دون القدس الشرقية أكثر من 490 ألف إسرائيلي مقابل ثلاثة ملايين فلسطيني.

وهؤلاء المستوطنون بدأواً حرباً، خاصة في الضفة، مستغلين الحرب على قطاع، في محاولة لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة، فقتلوا فلسطينيين وهاجموا قرى وصادروا المزيد من الأراضي، تحت حماية الحكومة.

وقال مسؤول إسرائيلي كبير إن الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم هم رؤساء المجالس المحلية للمستوطنات. متهماً رئيس المجالس الاستيطانية كافة، يوسي داغان، بقيادة الفوضى التي صاحبت حالة الحرب.

ولا ينحصر تأثير داعان في معرفته باعتداءات المستوطنين ودعمه توسعهم بكل الأشكال القانونية وغير القانونية، وإنما يمتد أيضاً إلى مجال إقناع السلطات الإسرائيلية والجيش برعاية هذه الاعتداءات أو غض النظر عنها.

وعملياً، ترعى الحكومة الإسرائيلية هؤلاء المستوطنين، ولا تخفي أنها في حرب على جبهة الضفة.

وقتلت إسرائيل نحو 600 فلسطيني منذ السابع من أكتوبر واعتقلت ما يقارب الـ10 آلاف ودمّرت بنى تحتية في طريقها لإضعاف السلطة الفلسطينية ومنعها من إقامة دولة.

واعترف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأنه لا يفعل أي شيء سري، وإنما يعمل بوضوح من أجل منع إقامة «دولة إرهاب فلسطيني» و«تعزيز وتطوير الأمن والاستيطان».

وجاء تصريح سموتريتش تعقيباً على ما أوردته صحيفة «نيويورك تايمز»، حول خطة حكومية رسمية سرية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية دون الحاجة إلى الإعلان رسمياً عن ضمها.

خطة لتغيير حكم الضفة

وكان تسجيل مسرّب لسموتريتش فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية، بحسب تقرير نُشر في صحيفة «نيويورك تايمز».

فلسطينيون يشاهدون تجريف أراض وتدمير منازل في الضفة الغربية (رويترز)

ونقل عن سموتريتش: «أنا أقول لكم، إنه أمر دراماتيكي ضخم. مثل هذه الأمور تغير الحمض النووي للنظام».

وتحكم السلطة الفلسطينية اليوم المنطقة «أ» في الضفة الغربية وتشارك الحكم في المنطقة «ب» مع إسرائيل في حين تسيطر إسرائيل على المنطقة «ج» التي تشكل ثلثي مساحة الضفة.

وكان يفترض أن يكون هذا الإجراء مؤقتاً عند توقيع اتفاق أوسلو بداية التسعينات، حتى إقامة الدولة الفلسطينية خلال 5 سنوات، لكن تحول الوضع إلى دائم، قبل أن تتخذ إسرائيل خطوات ممنهجة ضد السلطة أدت إلى إضعافها بشكل كبير.

وفي خطوة مهمة وحاسمة ضمن خطة سموتريتش، صادق جنرال عسكري كبير على تحويل مجموعة من الصلاحيات في الضفة الغربية إلى مدير مدني هو هيليل روط، في مؤشر على أن الحكومة الإسرائيلية زادت من سيطرتها المدنية على المنطقة في خطوة أخرى نحو الضم الفعلي.

ووصف الناشط المناهض للاستيطان يهودا شاؤول هذه الخطوة بأنها «ضم قانوني»، مضيفاً أن «الحكم المدني الإسرائيلي امتد إلى الضفة الغربية» تحت إشراف سموتريتش.

وتشمل الصلاحيات المفوضة لروط السلطة على معاملات العقارات، والممتلكات الحكومية، وترتيبات الأراضي والمياه، وحماية الأماكن المقدسة (باستثناء الحرم الإبراهيمي وقبر راحيل وقبر صموئيل)، والقوانين المتعلقة بالغابات، والسياحة، والحمامات العامة، وتخطيط المدن والقرى والبناء، وبعض عمليات تسجيل الأراضي، وإدارة المجالس الإقليمية، وغير ذلك الكثير.

واليوم على الأقل لا يوجد داخل الحكومة الإسرائيلية، أي خلاف بشأن ضم المناطق «ج»، حتى أن مسؤولين يرون أنه واحدة من الحلول للضغط على «حماس» نفسها في غزة.

واقترح النائب ألموج كوهين من «عوتسماه يهوديت» الذي يتزعمه وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير خلال مقابلة مع «i24NEW» ضم المناطق حتى يعود المحتجزون في غزة. وأضاف: «الأراضي مقابل المختطفين، الأمر بسيط للغاية».

وقال الخبير في الشأن الإسرائيلي كريم عساكرة إن اندلاع حرب بين «حزب الله» وإسرائيل، سيجلب تداعيات خطيرة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، لا سيما من الناحيتين الإنسانية والسياسية.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «سيفتكون بالضفة بلا شك. حيث يتوقع أن يستغل اليمين في الحكومة الإسرائيلية الحرب، وانشغال العالم بالتوصل إلى وقف لإطلاق النار، لتنفيذ مخططات الضم والتهويد التي ستجعل من الضفة الغربية ملحقاً لإسرائيل لا يمكن أن يكون مكاناً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة».

وتابع: «التحريض الإسرائيلي على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ووجود دعم إيراني لتحريك العمل العسكري في الضفة، ربما أيضاً يكون ذريعة لعقاب جماعي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين، فتزيد من القمع والحصار والتنكيل بهم لدرجة يصل فيها الفلسطينيون إلى مرحلة لا يستطيعون العيش في ظل تلك الظروف، التي تسعى إسرائيل إلى أن تنتهي بترحيل قسم من الفلسطينيين إلى خارج وطنهم.»

أما على الجانب الإنساني، فيرى عساكرة «أن ارتباط الفلسطينيين في الضفة بإسرائيل في نواحي الحياة كافة، سيؤدي إلى تأثرهم بشكل كبير، خاصة في مجال الطاقة والمياه، وفقدان الاستقرار الغذائي نتيجة لتضرر الموانئ الإسرائيلية، وربما سيكون وضع الفلسطينيين أكثر صعوبة من الإسرائيليين؛ لعدم وجود سلطة قادرة على تقديم أي مساعدة طارئة للمواطنين، على عكس إسرائيل التي تدرس كل جوانب التأثير الإنساني للحرب لتقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين».

وهذا الوضع لا تغفله السلطة الفلسطينية التي تدرك حجم الضرر المتوقع، وتبدو آخر كيان يريد لهذه الحرب أن تشتعل.

وقال مسؤول فلسطيني لـ«الشرق الأوسط»: «حتى قبل حرب محتملة مع لبنان. إنهم يسعون لتفكيك السلطة وانهيارها، ولديهم مخطط واضح لدفع الفلسطينيين على الهجرة. ليس فقط في قطاع غزة وإنما الضفة. هذا اليمين المجنون لن يفوّت حرباً كهذه قبل أن يحقق حلمه بالسيطرة والاستيطان والتخلص من الكينونة الفلسطينية».

ويعترف المسؤول بأنه ليس لدى السلطة القدرة على مواجهة تداعيات حرب كهذه، وهي تواجه قبل ذلك خطر الانهيار.

باختصار شديد، خلف «حزب الله»، توجد إيران وفصائل في العراق وسوريا واليمن، وفي النهاية الدولة اللبنانية التي خلفها توجد دول، وخلف إسرائيل توجد الولايات المتحدة ودول وقوى أخرى عظمى. اما الفلسطينيون في الضفة الغربية فخلفهم سلطة محاصرة وضعيفة لا حول لها ولا قوة، وتقريباً لا بواكي لهم أو لها.