عندما خرج ابني من امتحان الرياضيات وقال إنه أجاب عن الأسئلة بشكل مقبول، انهرت بالبكاء، وكأنه قال «نجوت من الموت». بهذه الكلمات كان جرجي (50 عاماً) يحكي لجيرانه ما حصل معه يوم «واقعة الرياضيات»، بحسب تعبيره، وكان يرافق ابنه إلى امتحان الثانوية العامة، الشغل الشاغل لأهالي الطلاب.
وصف جرجي مشهد الأهالي المتجمعين أمام أحد المراكز الامتحانية في ريف دمشق بأنه كان «رهيباً». الأهالي بحالة توتر وغضب وأصوات بكاء وعويل وشتائم. طلاب منهارون لدى خروجهم من الامتحان بعضهم سقط مغمى عليه، والشرطة منتشرة في المكان. «كانت لحظات عصيبة وكاد قلبي يتوقف» قال الرجل.
ما حصل يوم امتحان مادة الرياضيات لشهادة الثانوية العامة الفرع العلمي قبل أيام، يكشف عن عمق أزمة التعليم في سوريا. فبعد عقود طويلة من امتحانات تعتمد التلقين والتحفيظ، قررت وزارة التربية تغيير نمط الأسئلة إلى نموذج يعتمد «الفهم والتحليل». ودون سابق إنذار وجد الطالب الذي أمضى عاماً كاملاً يحفظ أسئلة الدورات السابقة وإجاباتها، مع نماذج للأسئلة المتوقعة، أمام نمط جديد بدا له عبارة عن طلاسم.
مليونان ونصف المليون بلا تعليم
وقالت مصادر تعليمية غير رسمية، لـ«الشرق الأوسط» إن شيئاً مشابهاً حصل في مادة الجغرافيا للفرع الأدبي. وكذلك مادة اللغة الفرنسية لطلاب شهادة الإعدادي، فالأسئلة كانت أعلى من مستوى الطلاب. ولعل أطرف ما في الأمر ما تناقلته المصادر بأن بعض الأهالي اتهموا وزارة التربية بالتساهل بأسئلة اللغة الروسية والتشدد بأسئلة اللغة الفرنسية! وبحسب هؤلاء، فإذا كانت هذه الملاحظة صحيحة إنما هي دليل على «تخبط وزارة التربية في معالجة تدني جودة التعليم» واعتمادها على التجريب والارتجال. فقد اختارت الامتحان لتبدأ تجربة أسئلة تحفيزية، بدلاً من نموذج الحفظ والبصم الذي نشأ عليه الطلاب من السنة الأولى في التعليم الأساسي. وهي تجربة أنتجت على مدى سنوات تزايداً في أعداد الحاصلين على المجموع التام، ليعدّوا اليوم بالعشرات، بعدما كانوا في الماضي ندرة لا تتجاوز الثلاثة أو أربعة طلاب على مستوى البلاد.
وعلى مدى أسبوعين تقريباً من شهر يونيو (حزيران) الحالي، يخضع نحو 558 ألف طالب وتلميذ لامتحانات الشهادات العامة، في 5027 مركزاً امتحانياً في مختلف المحافظات السورية ضمن مناطق سيطرة الحكومة، للعام الدراسي 2023 - 2024، في حين تشير أرقام منظمة «يونيسيف» إلى حرمان نحو مليونين ونصف المليون طفل سوري في سن الدراسة من التعليم.
اتهامات للوزارة... وإقالات
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بما حصل يوم امتحان مادة الرياضيات للثانوية العامة لهذا العام، وسط اتهامات من الطلاب وذويهم لوزارة التربية ولجنة وضع الأسئلة، بتعمد توجيه ضربة للطلاب وإلحاق الضرر بهم. مديرة الصحة المدرسية هتون الطواشي صرحت للإعلام المحلي بأنه تم تسجيل 4 حالات إسعافية خلال امتحان مادة الرياضيات نقلت إلى خارج المركز الامتحاني في حماة، السويداء، درعا، وحلب، أما بقية الحالات فقد تنوعت بين الإغماء والقلق، بعضها ترافق مع أعراض هضمية كالقيء، لافتةً إلى تسجيل 20 – 25 حالة إغماء يومياً في مختلف المحافظات.
الإعلامي في التلفزيون الرسمي نزار الفرا كتب على حسابه في «فيسبوك»: «ماذا يخطر ببال اللجنة التي تضع أسئلة الامتحانات لطلاب الشهادة الإعدادية أو الثانوية عندما تكون الأسئلة شبه تعجيزية؟ هل هو تبييض وجه مع الوزارة وأن المدرّس القدير هو من يأتي بطلاسم يصعب فكّها؟ ما الغاية الأساسية من الامتحانات؟ هل هي التأكد من دراسة الطالب واكتسابه العلم والمهارات أم حشره بالزاوية وممارسة كل أشكل (الدهاء) و الحذلقة عليه؟».
وفي محاولة لتهدئة الغضب الذي أثارته أسئلة مادة الرياضيات، خصصت قناة «التربوية السورية الرسمية» حلقة لتوضيح آلية صياغة أسئلة مادة الرياضيات وسلم التصحيح، وأنه يركز «على مهارات الفهم والتحليل بدلاً من الحفظ والتلقين»، وأن الأسئلة تضمنت «مسائل من الكتاب مع تغيير الأرقام فقط».
وأمام مركز الامتحانات كانت إحدى الأمهات تحاول إفاقة ابنتها طالبة بكالوريا علمي من الإغماء وهي تبكي وتصرخ: «نحن ندفع ثمن شهادة البكالوريا من اللحم الحي وأنتم تتفنون بقهرنا». والد طالب آخر كان بجوارها قال: «يتصرفون وكأنهم في حرب معنا».
المصادر التعليمية في دمشق ردت الذعر الذي يخيم بثقل غير مسبوق على أجواء الامتحانات هذا العام إلى التعليمات الرقابية المتشددة، التي تترافق مع قطع شبكة الإنترنت وشبكات الهاتف فترة الامتحان، واستغربت المصادر تجاهل الحكومة لتعطيل مصالح الناس كل يوم ثلاث ساعات بسبب قطع الاتصالات خلال شهر الامتحانات؛ لأن وزارة التربية عاجزة عن ضبط الفساد وتسريب الأسئلة، والسماح بشنّ حملة توقيف لموظفي التربية المشكوك بنزهاتهم أثناء سير الامتحانات والإعلان عن ذلك، رغم ما يتسبب به ذلك من بلبلة وإثارة شائعات لها انعكاسات نفسية مدمرة على الطلاب، وذويهم، حيث تتحول فترة الامتحانات كل عام موسماً للرعب والتوتر.
وتم إعفاء مدير تربية دمشق، في اليوم الأول من الامتحانات، وقال وزير التربية محمد عامر مارديني في تصريح لوسائل إعلام محلية: «إن الإعفاء جاء نتيجة مخالفة التعليمات الامتحانية في مراكز عدة بدمشق»، موضحاً أنه من خلال «المتابعة للعملية الامتحانية تبين وجود فوضى وعدم انضباط والتزام بالتعليمات الامتحانية في بعض المراكز». وأكد الوزير أن «لا تهاون أو تتردد في اتخاذ أي قرار بحق كل من يتسبب في التشويش و خرق التعليمات الامتحانية».
خسارة طوق النجاة
والواقع أن رسوب الطالب لا يعني فشلاً علمياً، بقدر ما هو خسارة مادية فادحة في بلد يرزح أكثر من 90 في المائة من سكانه تحت خط الفقر، وتمثل الشهادة العلمية فيه «طوق نجاة» من الخدمة الإلزامية بالنسبة للذكور، وأيضاً وهو الأهم تعزيز فرص الهجرة للشباب. حيث يتكبد أهالي الطلاب على مدى العام الدراسي نفقات باهظة على الدروس الخصوصية؛ بهدف تحفيظ الطالب المناهج وأسئلة الدورات السابقة والأسئلة المتوقعة.
بثينة سيدة أربعينية وأم لطالب يخضع لامتحان الشهادة الإعدادية، قالت إنها خلال فترة الامتحان لا تعرف النوم، وإنها «مستعدة أن أشحذ حتى أشتري لأبني الشهادة». فهي تريده أن يتابع دراسته بأي طريقة كي لا يساق إلى الخدمة العسكرية، والمشكلة أن مستوى ابنها التعليمي ضعيف، بسبب تنقله خلال سنوات الحرب بين مناطق ومدارس عدة، كما أنه يكره الدراسة والقراءة؛ لذلك ومنذ بداية العام الدراسي أعلنت الاستنفار وطلبت من شقيقتها مساعدتها في التناوب على تحفيظه المنهاج، بالإضافة إلى دورات دروس خاصة بالمواد كافة.
شاهين طالب ثاني ثانوي يستعد للتقدم لامتحان الثانوية العامة العام المقبل، وقد بدأ منذ عام بالخضوع لدورات خاصة بمنهج البكالوريا ويقول: «أسعى لحفظ المنهاج من الآن؛ فأنا أريد مجموعاً جيداً يؤهلني لدخول كلية هندسة ثم السفر».
ويتراوح سعر الساعة بين الخمسين والمائة والخمسين ألف ليرة، (3 إلى 10 دولارات) حسب المدرس والمنطقة، ويحتاج بالحد الأدنى يومياً إلى 100 ألف ليرة للدروس الخاصة لأكثر من مادة، في حال تقاسم سعر الساعة مع عدد من الطلاب، وهو ما تفعله الغالبية، ويقدر متوسط الإنفاق السنوي للطالب بـ15 مليون ليرة، ناهيك عن مصاريف أخرى تتعلق بالنقل، في حين لا يتجاوز متوسط الرواتب 20 دولاراً.
وتحتاج الأسرة المؤلفة من أربعة أبناء بالحد الأدنى إلى 500 دولار شهرياً لتغطية تكاليف المعيشة؛ وهو ما دفع الغالبية للعمل بأكثر من مهنة، لا سيما في المجال الخدمي. وحين يضاف إلى ذلك أعباء التعليم الباهظة، تتحول الامتحانات إلى كابوس مرعب؛ لما يحمله من خسارات مالية مضنية. عدا كابوس السوق إلى الخدمة العسكرية الإلزامية في حال رسب الطالب لأكثر من مرة وفقد فرصته في تأجيل الالتحاق بالخدمة.