بيروت وقد تحولت محطة لتدوير الشهادات العراقية المزوّرة

التعليم «سلعة» مقابل النفط... ضمن صفقات تخادم كبرى

أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
TT

بيروت وقد تحولت محطة لتدوير الشهادات العراقية المزوّرة

أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)

صباح 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أوقف الأمن اللبناني مسؤولة بارزة في وزارة التربية للتحقيق في شبهات فساد بمعادلة شهادات طلبة عراقيين.

بعد نحو 20 يوماً، أُفرج عن أمل شعبان، رئيسة دائرة المعادلات في الوزارة، لتجد أمامها قرار إقالة موقعاً من وزير التربية عباس الحلبي، وخلافاً حاداً بين حزبها «تيار المستقبل» وحركة «أمل» المعنية بشكل غير مباشر بملف الشهادات، و«الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي ينتمي إليه الحلبي.

مظاهرة احتجاجية لأساتذة لبنانيين أمام وزارة التربية والتعليم (أ.ب)

تحدثت مصادر عراقية لـ«الشرق الأوسط»، أن إقالة شعبان جاءت «استجابة لضغوط داخلية مارستها أحزاب لبنانية، وضغوط أحزاب عراقية هدّدت مرات عدّة بوقف المساعدات التي تقدمها للوزارة والمدارس الرسمية».

توقيف شعبان ومن ثم الإفراج عنها، رفع الغطاء عن لغز الشهية العراقية المفتوحة منذ سنوات للدراسة في جامعات لبنانية، وبدأ جدلٌ، وأُطلقت تساؤلات عما إذا كانت شعبان «كبش فداء» لإغلاق ملف التخادم بين قوى متنفذة بين بغداد وبيروت. ملف فاحت رائحته منذ أكثر من عامين ولا يزال يتفاعل بين الحين والآخر. ذلك مع العلم أن الشبهات تنقسم إلى شقين؛ الأول يتعلق بتمرير شهادات ثانوية مزورة ومعادلتها في بيروت، والثاني منح شهادات جامعية وعليا من دون الحضور والدراسة، مقابل مبالغ مالية.

عُقدة التكنوقراط العراقية

بدأت القصة في العراق، حينما اكتشفت أحزاب شيعية تولت السلطة بعد 2003 أنها لا تمتلك طواقم إدارية في صفوفها، وأن غالبية المنتمين إليها «مناضلون في المعارضة لم يتسنَّ لهم الانخراط في الدراسة»، ولا يمكنهم تولي مناصب في مؤسسات حكومية، بحسب مسؤول سابق في وزارة التعليم العراقية.

وفي السنوات القليلة التي تلت إسقاط نظام صدام حسين، واجهت تلك الأحزاب جيشاً من الموظفين المتهمين بالولاء لنظام البعث. وبالفعل تمت إزاحتهم بالتزامن مع هجرة غير مسبوقة لموظفين من مدن الشمال والجنوب إلى بغداد، وبعض غير المؤهلين منهم تسنموا مناصب رفيعة يفترض أن مستواهم التعليمي لا يؤهلهم لها، لكن عولجت شهاداتهم لاحقاً بطرق مشبوهة.

بعد إزاحة موظفي «النظام السابق»، توزع موظفو أحزاب المعارضة على غالبية مفاصل الدولة، وحين بدأ التنافس بين الأحزاب الشيعية نفسها كانت الحاجة تلح على قادتها للحصول على شهادات، بأسرع وقت ممكن.

«كانوا بحاجة إلى تأهيل أحزابهم خلال وقت قياسي (...) ولا يمكنهم انتظار سنوات الدراسة القانونية (4 سنوات) لأن المناصب التي يريدونها كانت معروضة عليهم في نطاق أشهر معدودة»، يقول المسؤول السابق.

في العراق، كان من الصعب الحصول على شهادات «في غمضة عين» للموظفين العاديين الذين تريد أحزابهم ترقيتهم أو تسليمهم مناصب من الفئة الأولى كدرجة مدير عام، خلافاً للوزراء الذين يمكنهم التسجيل في أي جامعة عراقية والحصول على شهادة منها من دون أن تتطلب حضورهم.

وفي عام 2016، عثرت قوى شيعية أبرزها «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«عصائب أهل الحق»، بزعامة قيس الخزعلي، على فكرة «شهادة الخدمة السريعة» من جامعات لبنانية، لتبدأ رحلة «تفويج الطلبة العراقيين إلى بيروت» على نحو ممنهج وغير مسبوق.

غسيل الشهادات

في بيروت، تحاول أمل شعبان إظهار أن قرار إقالتها من منصبها في وزارة التربية غير قانوني، لكن من الصعب الجزم ببراءتها أو تورطها بهذا الملف المتراكم منذ سنوات.

وعلمت «الشرق الأوسط» أن فريق الدفاع عنها «أنجز مراجعة قانونية سيتقدّم بها إلى مجلس شورى الدولة، للطعن بقرار إقالتها من منصبها الحساس».

وأوضح مصدر مقرب من الفريق القانوني لأمل شعبان أن الأخيرة «لا ترغب بالعودة إلى وظيفتها، بل جلّ ما تريده إظهار أن قرار وزير التربية غير قانوني، وبعدها ستسارع إلى تقديم استقالتها من الوظيفة».

وتوقّع مصدر قانوني مواكب للتحقيقات أن «يكشف قرار ظني من قاضي التحقيق خفايا عشرات الشهادات العراقية المزورة التي عبرت وزارة التربية تحت تأثير الضغوط السياسية».

وأشار المصدر اللبناني لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الجهات الداخلية والخارجية التي تقف وراء هذه الشهادات معروفة الغايات والأهداف»، ولفت إلى أن القاضي بيرم «طلب من شعبة المعلومات في الأمن الداخلي تزويده بمستندات من التربية تبيّن الإجراءات المعتمدة في معادلة الشهادات، وتاريخ البدء بمعادلة الشهادات العراقية، ولماذا ارتفع الطلب عليها بهذا الشكل الكبير».

وبحسب المصدر، فإن التحقيقات لن تكتفي بما كان يجري في وزارة التربية، بل ستشمل عدداً من الجامعات التي انتسب إليها طلاب عراقيون قبل تعديل الشهادات الثانوية التي حصلوا عليها في بلادهم، وتبين أن عدداً كبيراً منها مزوّر.

وأوضح المصدر أن «جامعة قريبة من الثنائي الشيعي استقطبت أكبر عدد من الطلاب العراقيين، ومنحتهم شهادات في الدراسات العليا وفي الدكتوراه»، مستغرباً كيف أن هذه الجامعة «منحت في السنتين الأخيرتين شهادات عليا تفوق ما صدّرته كل الجامعات في لبنان، وهذا ما يثير الشكوك حولها».

ومعلوم أن غالبية العراقيين الذين تقدموا بطلب معادلة الشهادات والانتساب إلى جامعات لبنانية موظفون في المؤسسات العراقية، بعضهم ضباط في الأمن والشرطة، كانوا يطلبون إنجاز المعادلات دون حضورهم إلى لبنان مقابل أموال طائلة، لأن هذه الشهادات تخوّلهم الترقية في وظائفهم وزيادة رواتبهم بشكل كبير.

في المقابل، تقول مصادر عراقية على صلة بتحقيقات الشهادات الجامعية، التي فُتحت وأغلقت مراراً بلا نتائج، إن بيروت تحولت إلى محطة لـ«غسل الشهادات»، حتى الشباب العاديون الذين لم يأتوا عن طريق الأحزاب.

توافقت المصلحة العراقية في تأهيل موظفين غير مؤهلين مع مصالح قوى متنفذة في لبنان تحاول تعظيم موارد التعليم. ويقول قيادي شيعي بارز لـ«الشرق الأوسط» إن «أصدقاءنا اللبنانيين أرادوا منفعة من كل هذا (...) بعضهم فتح فروعاً إضافية لجامعات لبنانية، وهناك من أنشأ جامعة (خصيصاً) لهذا الغرض».

بالتزامن، نشأت في بيروت شبكة من سماسرة عراقيين لتسهيل «الأوراق المضروبة»، بعضهم لديهم غطاء من أحزاب «الإطار التنسيقي» في العراق، ويوجدون في بيروت لـ«أعمال حرة» أو نشاطات إعلامية.

يقول مصدر موثوق من وزارة التربية العراقية إن «مهمة هؤلاء هي تمرير شهادات ثانوية مزورة جاء بها طلبة عراقيون لمعادلتها في بيروت تمهيداً لانضمامهم إلى جامعاتها».

ولفت المصدر العراقي أن تدفق مثل هذه الشهادات «المضروبة» يتصاعد في السنة التي يشهد فيها العراق انتخابات تشريعية. فقانون الانتخابات العراقي يشترط أن يكون المرشح لعضوية مجلس النواب حاصلاً على شهادة البكالوريوس أو ما يعادلها.

ويقول المصدر إن السلطات العراقية فشلت على الدوام في تعقب الشهادات الثانوية التي جرى معادلتها في لبنان، كما يصعب التحقق من صحة غالبيتها.

وبحسب شهادة المسؤول العراقي السابق، فإن السماسرة العراقيين طوروا في بيروت شبكة علاقات واسعة تمتد من «موظفي السفارة العراقية إلى قياديين في (حركة أمل)، ومسؤولين صغار في وزارة التربية».

ويفيد هذا المسؤول بأنهم نظموا جلسات مشتركة بين جميع هذه الأطراف لتمرير شهادات مزورة. في بعض الأحيان يبذلون جهداً كبيراً لتمرير شهادة واحدة، قد تكون لشخصية متنفذة في بغداد.

رائحة لا يمكن إخفاؤها

بلغ ملف الشهادات العراقية في بيروت حد التخمة. لم يعد بإمكان المسؤولين اللبنانيين إخفاء رائحته، كما يصف مسؤول عراقي في وزارة التربية، يقول إنه عرف خلال عمله في الحكومة على الأقل 3 مسؤولين كبار حصلوا على ترقيات بفضل شهادات جاؤوا بها من لبنان.

«سمعت من مسؤول كبير في وزارة التعليم أن اللبنانيين أبدوا قلقهم من توسع الصفقة، ومن تمادي السماسرة (...) قالوا لنغلق هذا الملف، لكن قادة أحزاب شيعية أبلغوا أصدقاءهم في بيروت أن يعدوا التخادم في ملف الدراسة جزءاً من التسهيلات العراقية في عقد تصدير وقود الكهرباء».

وفي يوليو (تموز) 2021، وقّع العراق ولبنان اتفاقاً لبيع مليون طن من مادة زيت الوقود الثقيل بالسعر العالمي، على أن يكون السداد بالخدمات والسلع.

بعد ذلك بـ4 أشهر، استدعت وزارة التعليم العالي العراقية ملحقها الثقافي في بيروت، في إطار تحقيق في قضية منح جامعات لبنانية خاصة شهادات مزورة مقابل أموال، لمئات من العراقيين، بينهم نواب ومسؤولون، في خطوة دفعت وزارة التربية والتعليم اللبنانية إلى فتح تحقيق أيضاً.

تسرب من التحقيق حينها أن عدداً كبيراً من النواب والمسؤولين العراقيين حصلوا على شهادات دكتوراه وماجستير من 3 جامعات لبنانية، وأن أطروحة الدراسات العليا كانت تباع بـ10 آلاف دولار عن كل طالب.

ودرس معظم هؤلاء الطلبة عن بعد خلال تلك الفترة على خلفية الإجراءات الوقائية نتيجة لتفشي جائحة «كورونا».

وبحسب وكالة «فرانس برس»، فإن الطلبة العراقيين يتوزعون على 14 جامعة في لبنان، لكن أعداد الطلبة في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم، والجامعة الإسلامية في لبنان، وجامعة الجنان وحدها، يبلغ 6 آلاف من مجموع 13 ألفاً و800 طالب عراقي.

وانتهى التحقيق العراقي بوقف التعامل مع الجامعات الثلاث بسبب «غياب معايير الرصانة»، وفقاً لبيان عراقي صدر في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.

العراق يتخلى عن الشريك اللبناني

مع تشكيل حكومة محمد شياع السوداني نهاية عام 2022، تراجعت أحزاب شيعية عراقية عن سوق الشهادات الجامعية في لبنان، وشجعت وزارة التعليم العالي التي يقودها نعيم العبودي، وهو من حركة «عصائب أهل الحق» الطلبة العراقيين على الدراسة في الجامعات الأهلية العراقية. بينما الوزير نفسه حاصل على شهادة من الجامعة الإسلامية في بيروت.

وفي مطلع 2023، أثير في بيروت جدل واسع على خلفية تقاعس مسؤولين في قوى الأمن الداخلي والقضاء اللبناني عن وقف تحقيق في ملف تزوير وثائق دراسية لطلبة عراقيين.

ويعترف أحد أعضاء مجلس إدارة جامعة أهلية في العراق ومقرّب من مموّلها أن «الأحزاب كانت تسعى في البداية لرفع مستوى أعضائها والمقربين منها بإيفادهم إلى لبنان، لكن بعد الاكتفاء من جامعات الدول الأخرى قررت هذه الأحزاب الإفادة من تجربة التعليم الأهلي بتأسيس جامعات أهلية داخل العراق لاستقطاب الطلبة العراقيين بدل سفرهم إلى الخارج».

ويضيف عضو مجلس إدارة الجامعة: «صاروا يقولون كنا نحتاج إلى خدمة سريعة واكتفينا، لماذا ندع لبنان تربح أكثر. الغرض ليس تجارياً فقط، فهنالك وزارات عدة لا تريد أن يسافر موظّفوها إلى الخارج، ولا سيّما المؤسسات الأمنية والعسكرية».

ولا يستبعد الموظف الجامعي الرفيع أن تكون الأحزاب العراقية هي التي قررت قلب الطاولة على الجامعات اللبنانية، لتحويل وجهة الطلبة العراقيين عنها لصالح جامعات عراقية، هي في الأغلب تابعة لأحزاب وقوى سياسية أو شخصيات مقربة منها من رجال الأعمال.

ويرجح أن «الجامعات اللبنانية هي التي شعرت بانقلاب الجامعات العراقية عليها من خلال نجاحها في استقطاب الطلبة العراقيين، لتقرر في السنوات الأخيرة تسهيل منح الشهادات لهم مع تخفيض الأجور لاستقطاب عدد أكبر».

وبدا أن العراقيين تركوا «أصدقاءهم» اللبنانيين متورطين في مسرح الجريمة، وسط أكوام من الأدلة والشواهد، ولم يجد الشركاء في «حركة أمل» سوى إغلاق الملف بالتضحية بالخاصرة الضعيفة، على ما يختم المسؤول العراقي السابق.


مقالات ذات صلة

إسرائيل تجدد استعدادها للحرب... ولبنان: الأبواب ليست موصدة

المشرق العربي الدخان يتصاعد من  قرية كفر حمام الحدودية جنوب لبنان إثر القصف الإسرائيلي (أ.ف.ب)

إسرائيل تجدد استعدادها للحرب... ولبنان: الأبواب ليست موصدة

تستمر التهديدات الإسرائيلية باتجاه لبنان الذي يتعاطى بحذر مع الوقائع الميدانية والسياسية، ويترقّب ما ستؤول إليه المفاوضات بشأن غزة ليبني على الشيء مقتضاه.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
شمال افريقيا جانب من امتحانات «الثانوية» في مصر (وزارة التعليم المصرية)

«التعليم المصرية» تُكثف الإجراءات ضد مُسربي الامتحانات في «الثانوية»

تكثف وزارة التربية والتعليم في مصر من إجراءاتها لمواجهة وقائع تسريب أسئلة امتحانات «الثانوية العامة»، والتصدي لحالات «الغش الإلكترونية».

أحمد إمبابي (القاهرة)
شؤون إقليمية وزير التعليم التركي يوسف تكين (إكس)

المدارس الفرنسية في تركيا تسبب أزمة بين البلدين

استنكر وزير التعليم التركي يوسف تكين «تعجرف» فرنسا في إطار أزمة بين البلدين بشأن وضع المدارس الفرنسية في تركيا.

«الشرق الأوسط» (أنقرة)
تكنولوجيا الروبوت أظهر القدرة على تنفيذ الحركات التي تعلَّمها (جامعة كاليفورنيا)

تدريب روبوت على الرقص والتلويح ومصافحة البشر

استطاع مهندسون في جامعة كاليفورنيا الأميركية تدريب روبوت على تعلّم وتنفيذ مجموعة متنوّعة من الحركات التعبيرية للتفاعل مع البشر، بما في ذلك رقصات بسيطة وإيماءات.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
شؤون إقليمية الإصلاحي مير حسين موسوي وزوجته زهرا رهنورد (إكس)

جامعة إيرانية تفصل ابنة زعيم الإصلاحيين وتوقفها عن العمل

فصلت جامعة إيرانية نجلة زعيم التيار الإصلاحي، مير حسين موسوي، ومنعتها من مزاولة التدريس نهائياً.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

TT

أي حرب بين إسرائيل و«حزب الله» أشد من «طوفان الأقصى»

مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)
مستشفى ميداني إسرائيلي تم تجهيزه في مرآب للسيارات في الطابق الثالث تحت الأرض في مدينة حيفا تحسباً لحرب مع "حزب الله" (غيتي)

في الحروب يحرص عادة كل طرف على نصب الكمائن للطرف الآخر. أما اليوم، في الحرب الدائرة بين إسرائيل و«حزب الله»، فيبدو أن كل طرف يوقع نفسه في الكمائن. فعلى رغم أن كلا الطرفين يؤكد أنه غير معني بتوسيع نطاق الحرب، فإنهما يندفعان بشكل جارف إلى توسعتها. وعلى الجانب الإسرائيلي، تجري تدريبات حربية متواصلة على كيفية توسيعها، في حين تشير الاستطلاعات إلى أن الجمهور يؤيد هذه التوسعة. قبل شهرين فقط كان 64 في المائة من المستطلعين الإسرائيليين يؤيدون حرباً مع «حزب الله» حتى لو كان الثمن حرباً إقليمية واسعة. وفي الشهر الأخير هبطت هذه النسبة إلى 46 في المائة وهي لا تزال نسبة مرتفعة إلى حد بعيد. هذا التأييد أفزع القيادات العسكرية في تل أبيب، وجعلها تشعر بأن الجمهور لا يدرك تماماً ما قد تعنيه هذه الحرب.

أيال حولتا، المستشار الأسبق للأمن القومي في الحكومة الإسرائيلية، يقول إن حرباً كهذه ستؤدي إلى تدمير مناطق شاسعة من لبنان، ولكنها أيضاً ستلحق أضراراً كبيرة في إسرائيل، وقد توقع نحو 15 ألف قتيل فيها.

فتاة تعبر قرب دكان مغلق كتب عليه "لقد مات 4 من رفاقي. منطقة حرب" في تل أبيب (رويترز)

معهد أبحاث الإرهاب في جامعة رايخمان، أجرى دراسة حول سيناريوهات حرب مع «حزب الله» بمشاركة 100 خبير عسكري وأكاديمي، خرجوا فيها باستنتاجات مفزعة؛ إذ قالوا إن من شأن حرب كهذه أن تتسع فوراً لتصبح متعددة الجبهات، بمشاركة ميليشيات إيران في سوريا والعراق واليمن وقد تنضم إليها حركتا «حماس» و«الجهاد» في الضفة الغربية.

ورجّحت الدراسة أن يطلق «حزب الله» طيلة 21 يوماً كمية هائلة من الصواريخ بمعدل 2500 إلى 3000 صاروخ في اليوم ويركز هجومه على إحدى القواعد العسكرية أو المدن في منطقة تل أبيب، وكذلك على مناطق حساسة أخرى، مثل محطات توليد الكهرباء وآبار الغاز ومفاعل تحلية المياه والمطارات ومخازن الأسلحة. وبالإضافة إلى الدمار الذي سيحدثه هذا القصف، ستنفجر فوضى لدى الجمهور الإسرائيلي.

كذلك، سيحاول «حزب الله» الدفع بخطته القديمة، في إرسال فرق «الرضوان» لتخترق الحدود الإسرائيلية وتحتل بلدات عدة، كما فعلت «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وأكثر.

تدمير على نسق غزة

هذا السيناريو المخيف، جاء أولاً وبالأساس لكي يصبّ بعض الماء البارد على الرؤوس الحامية التي راحت تمارس ضغوطاً على الجيش لكي يجتاح الأراضي اللبنانية. والجيش، إذ يدرك بأن القيادات السياسية اليمينية الحاكمة تحرّض عليه وتظهره متردداً وخائفاً من الحرب، ينشر في المقابل خططاً تظهر أنه جاد في الإعداد للحرب. وبحسب التدريبات والتسريبات التي يمررها، يتضح أنه يعدّ لاجتياح بري واسع يحتل فيه الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني، وربما حتى نهر الزهراني أيضاً. وهو يقول إنه في حال رفض «حزب الله» اتفاقاً سياسياً يبعده عن الحدود، فإن الجيش سيسعى لفرض هذا الابتعاد بالقوة.

ويوضح أنه سيبدأ توسيع الحرب بقصف جوي ساحق يدمر عدداً من البلدات اللبنانية على طريقة غزة، وبعدها يأتي الاجتياح. وبحسب مصادر عسكرية، فإن إسرائيل استعادت الأسلحة المتأخرة من الولايات المتحدة، بما فيها القنابل الذكية، وستستخدمها في قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومنطقة البقاع على الأقل.

طائرة إطفاء إسرائيلية تلقي مواد لإخماد النيران المشتعلة في الجليل الأعلى جراء صواريخ أطلقها «حزب الله» (أ.ف.ب)

ويبعد نهر الليطاني عن الحدود 4 كيلومترات في أقرب نقطة و29 كيلومتراً في أبعد نقطة، ليشكل شريطاً مساحته 1020 كيلومتراً مربعاً يشمل ثلاث مدن كبيرة، صور (175 ألف نسمة) وبنت جبيل ومرجعيون. ويعيش في تلك المنطقة نصف مليون نسمة، تم تهجير أكثر من 100 ألف منهم، حتى الآن. لذا؛ فإن الحديث عن احتلال هذه المنطقة كلها لن يكون سهلاً. فـ«حزب الله» أقوى بكثير من «حماس» ولديه أنفاق أكبر وأكثر تشعباً من أنفاق غزة، كما أنه يملك أسلحة أفضل وأحدث وأكثر فتكاً، وهو مستعد لهذه الحرب منذ فترة طويلة. وإذا كانت إسرائيل تخطط لحرب قصيرة من 21 يوماً، فإن أحداً لن يضمن لها ذلك وقد تغرق في الوحل اللبناني مرة أخرى.

جدوى الحرب ومستوطنات الشمال

بدأ الجيش الإسرائيلي في إعداد الجبهة الداخلية لمواجهة حرب طويلة، فجرى إنعاش أوامر الاحتياط الأمني في أوقات الطوارئ في المستشفيات والمصانع والمؤسسات الحكومية والرسمية والملاجئ. وهو يضع في الحسبان احتمال أن يستطيع «حزب الله» إطلاق آلاف الصواريخ والمسيّرات وضرب البنى التحتية من محطات توليد كهرباء وتحلية مياه وآبار غاز. وفي التدريبات التي جرت في الشهرين الماضيين، وضع في الحسبان أيضاً احتمال أن تتدخل إيران مباشرة. عندها ستتفاقم فوضى الملاحة في البحر الأحمر وقد يتم ضرب قبرص. وهذا يعني أن الأراضي الإسرائيلية، كلها، ستتحول إلى جبهة مشتعلة.

ويقول معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب في دراسته: «حتى الآن أطلق (حزب الله) أكثر من 5000 ذخيرة مختلفة، معظمها من لبنان، على أهداف مدنية وعسكرية في إسرائيل؛ ما أدى إلى مقتل 33 مدنياً وعسكرياً، وإحداث أضرار جسيمة. فهناك شعور قوي بعدم جدوى الحرب بالنسبة لمستقبل المنطقة الشمالية، والمستوطنات الـ28 التي تم إخلاؤها ومدينة كريات شمونة وسكانها، الذين يتساءلون متى وتحت أي ظروف سيتمكنون من العودة إلى بيوتهم».

يهود متدينون يؤدون صلاة الصباح عند هضبة في الضفة الغربية بعد وعود حكومية بضمن مزيد من الاراضي الفلسطينية (أ ب)

ترسانة «حزب الله»

بحسب التقارير ومنذ حرب لبنان الثانية، يشكّل «حزب الله» التهديد العسكري الرئيسي لإسرائيل؛ نظراً لضخامة قواته المدعومة إيرانياً وبصفته «رأس الحربة في محور المقاومة». وتتكون الترسانة الرئيسية للحزب مما لا يقل عن 150 ألف صاروخ وقذيفة وأسلحة إحصائية أخرى، بالإضافة إلى مئات الصواريخ الدقيقة الموجهة، والمتوسطة والطويلة المدى، التي تغطي المنطقة المأهولة بالسكان في إسرائيل. يكمن الضرر الرئيسي المحتمل لهذا المخزون في الصواريخ الدقيقة، والتي تشمل صواريخ كروز، والصواريخ الباليستية، والصواريخ الدقيقة القصيرة المدى المضادة للدبابات، والصواريخ الساحلية المتقدمة وآلاف الطائرات والمروحيات المُسيّرة. وفي حرب 2006، عندما خاض الجانبان حرباً استمرت 34 يوماً، كان لدى «حزب الله» نحو 15 ألف صاروخ وقذيفة، غالبيتها العظمى لم تكن موجهة ومداها أقل من 20 كيلومتراً؛ مما يعني أنها لم تكن قادرة على الوصول لمدينة حيفا شمالي إسرائيل. وقد أطلق الحزب نحو 120 صاروخاً يومياً في تلك الحرب؛ ما أسفر عن مقتل 53 إسرائيلياً وإصابة 250 وإلحاق أضرار مادية جسيمة.

أما اليوم، فإلى جانب ما ذُكر، هناك أيضاً المنظومات السيبرانية المتقدمة، القادرة على التسبب بأعمال قتل جماعي وأضرار مدمرة للأهداف المدنية والعسكرية، بما في ذلك البنية التحتية الوطنية الحيوية. الموارد العسكرية التي يملكها «حزب الله» كبيرة كمّاً ونوعاً، بما يضاهي عشرات أضعاف القدرات العسكرية لـ«حماس» قبل اندلاع الحرب. والأهمية الاستراتيجية هي أن «حزب الله» يمتلك البنية التحتية والقدرات العسكرية اللازمة لشنّ حرب طويلة، ربما لأشهر عدة، وإلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل.

عناصر من «حزب الله» يشيعون في بيروت القيادي في الحزب محمد نعمة ناصر الذي قتل في غارة إسرائيلية (د.ب.أ)

ويضيف التقرير أنه «في حرب واسعة النطاق ضد (حزب الله)، سيتعين على أنظمة الدفاع الجوي التابعة للجيش الإسرائيلي أن تتعامل، مع مرور الوقت - وخاصة في الأسابيع الأولى من الحرب - مع وابل من الأسلحة يصل إلى آلاف يومياً، ولن يكون من الممكن اعتراضها كلها. هذه الهجمات، بما في ذلك من جبهات أخرى، مثل إيران والعراق وسوريا واليمن، يمكن أن تسبب التشبع لطبقات الدفاع الجوي الإسرائيلية، بل وربما نقصاً في وسائل الاعتراض. وهذا تهديد عسكري ومدني لم تعش مثله إسرائيل. في مثل هذا السيناريو، سيكون مطلوباً من الجيش الإسرائيلي تحديد الأولويات، سواء بين ساحات القتال المختلفة أو فيما يتعلق بتوزيع الموارد للدفاع الفعال عن الجبهة الداخلية. من المتوقع أن تعمل القوات الجوية كأولوية أولى لحماية الأصول العسكرية الأساسية، وكأولوية ثانية لحماية البنى التحتية الأساسية، وكأولوية ثالثة فقط لحماية الأهداف المدنية، التي سيكون لسلوك الجمهور فيها، أهمية كبيرة في مواجهة تحذيرات الجبهة الداخلية والحماية السلبية بمختلف أنواع الملاجئ، والتي تعدّ قليلة».

آثار صدمة 7 أكتوبر

ويحذر الدكتور العميد (احتياط) أريئيل هايمان من أن «إسرائيل، في معظمها، لا تزال تعاني صدمة جماعية مستمرة، من جراء هجوم (حماس) في 7 أكتوبر، تضر بشدة بقدرتها على الصمود. ويتجلى هذا الوضع في تقلص مؤشرات الصمود، كما تظهرها استطلاعات الرأي العام التي أجراها معهد دراسات الأمن القومي. فهناك تراجع كبير في الصمود الوطني للمجتمع الإسرائيلي، مقارنة بالأشهر الأولى للحرب. ويتجلى ذلك في انخفاض واضح في مستوى التضامن والثقة في مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الإسرائيلي، وفي مستوى التفاؤل والأمل لدى غالبية الجمهور. كل هذا، أيضاً في مواجهة ما يُعدّ «تباطؤاً» في الحرب على غزة، والتي كان ينظر إليها في البداية، على أنها حرب مبررة، وأدت في البداية إلى «التقارب حول العلم الوطني». من المشكوك الآن، إلى أي مدى سيكون المجتمع الإسرائيلي مستعداً ذهنياً لحرب صعبة وطويلة الأمد في الشمال أيضاً».

جندي إسرائيلي يتفقد الأضرار في منزل أُصيب بصاروخ أطلقه «حزب الله» على كريات شمونة (أ.ف.ب)

ويقول البروفسور بوعز منور، رئيس جامعة رايخمان، الذي ترأس البحث حول الحرب مع لبنان: «لا تخافوا، إسرائيل لن تُهزم في حرب كهذه. لكن 7 أكتوبر سيبدو صغيراً أمام ما سيحل بنا في حرب مع لبنان. سيحصل ضرر استراتيجي كبير. لكن لن يكون هناك خطر وجودي علينا. وأنا لا أريد أن أخفف وطأة هذه الحرب إلا أنني أضع الأمور في نصابها. والحقيقة أننا لا نحتاج إلى حرب كهذه؛ إذ إنه في حال التوصل إلى اتفاق في غزة سينسحب الأمر على الشمال».

وحذّر البروفسور شيكي ليفي، الباحث في اتخاذ القرارات ورئيس دائرة التمويل في الجامعة العبرية، من حرب لبنان ثالثة عالية، مؤكداً أن «الجميع يتفق على أن مثل هذه الحرب، إذا ما نشبت، ستكون حرباً وجودية، مع إصابات في الأرواح وفي الممتلكات على نطاق لم تشهده دولة إسرائيل أيضاً. هذه حرب ستضع مجرد وجود الدولة في خطر حقيقي». ويضيف، في مقال نشرته «معاريف» أخيراً أن «انعدام ثقة أغلبية الجمهور في إسرائيل بالقيادة السياسية غير مسبوق، كما ينعكس في استطلاع إثر استطلاع. الجيش متآكل حتى الرمق الأخير من الحرب المتواصلة منذ 7 أكتوبر. يوجد حد لما يمكن أن نطلبه من رجال الاحتياط الذين انفصلوا عن عائلاتهم، جمّدوا حياتهم المهنية والتعليمية ويقاتلون منذ أشهر طويلة في غزة وفي الشمال».

على رغم كل ذلك، هناك احتمال كبير في أن تختار إسرائيل فتح هذه الحرب، أو الانجرار إليها على طريق الكمائن الذاتية. فهي تواصل سياسة الاغتيالات لقادة «حزب الله»، مع علمها اليقين بأن مع كل اغتيال يأتي رد تصعيدي. في الوقت الحاضر، يحافظ «حزب الله» على السقف الذي حددته الولايات المتحدة وإيران في بداية الحرب، بمنع الانفجار الأوسع، ملتزماً بسياسة الرد وعدم المبادرة إلى عمليات كبيرة. لكن استمرار هذا الانضباط ليس مضموناً. فيكفي أن يقع أحد الأطراف في خطأ ما حتى تنفجر الأمور وتخرج عن السيطرة. وعندها لا يبقى من كلام سوى ذلك المثل القائل: «مجنون ألقى حجراً في البئر».