بيروت وقد تحولت محطة لتدوير الشهادات العراقية المزوّرة

التعليم «سلعة» مقابل النفط... ضمن صفقات تخادم كبرى

أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
TT

بيروت وقد تحولت محطة لتدوير الشهادات العراقية المزوّرة

أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)
أمل شعبان في مكتبها بوزارة التربية بعد الإفراج عنها (من صفحتها الشخصية على فيسبوك)

صباح 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أوقف الأمن اللبناني مسؤولة بارزة في وزارة التربية للتحقيق في شبهات فساد بمعادلة شهادات طلبة عراقيين.

بعد نحو 20 يوماً، أُفرج عن أمل شعبان، رئيسة دائرة المعادلات في الوزارة، لتجد أمامها قرار إقالة موقعاً من وزير التربية عباس الحلبي، وخلافاً حاداً بين حزبها «تيار المستقبل» وحركة «أمل» المعنية بشكل غير مباشر بملف الشهادات، و«الحزب التقدمي الاشتراكي» الذي ينتمي إليه الحلبي.

مظاهرة احتجاجية لأساتذة لبنانيين أمام وزارة التربية والتعليم (أ.ب)

تحدثت مصادر عراقية لـ«الشرق الأوسط»، أن إقالة شعبان جاءت «استجابة لضغوط داخلية مارستها أحزاب لبنانية، وضغوط أحزاب عراقية هدّدت مرات عدّة بوقف المساعدات التي تقدمها للوزارة والمدارس الرسمية».

توقيف شعبان ومن ثم الإفراج عنها، رفع الغطاء عن لغز الشهية العراقية المفتوحة منذ سنوات للدراسة في جامعات لبنانية، وبدأ جدلٌ، وأُطلقت تساؤلات عما إذا كانت شعبان «كبش فداء» لإغلاق ملف التخادم بين قوى متنفذة بين بغداد وبيروت. ملف فاحت رائحته منذ أكثر من عامين ولا يزال يتفاعل بين الحين والآخر. ذلك مع العلم أن الشبهات تنقسم إلى شقين؛ الأول يتعلق بتمرير شهادات ثانوية مزورة ومعادلتها في بيروت، والثاني منح شهادات جامعية وعليا من دون الحضور والدراسة، مقابل مبالغ مالية.

عُقدة التكنوقراط العراقية

بدأت القصة في العراق، حينما اكتشفت أحزاب شيعية تولت السلطة بعد 2003 أنها لا تمتلك طواقم إدارية في صفوفها، وأن غالبية المنتمين إليها «مناضلون في المعارضة لم يتسنَّ لهم الانخراط في الدراسة»، ولا يمكنهم تولي مناصب في مؤسسات حكومية، بحسب مسؤول سابق في وزارة التعليم العراقية.

وفي السنوات القليلة التي تلت إسقاط نظام صدام حسين، واجهت تلك الأحزاب جيشاً من الموظفين المتهمين بالولاء لنظام البعث. وبالفعل تمت إزاحتهم بالتزامن مع هجرة غير مسبوقة لموظفين من مدن الشمال والجنوب إلى بغداد، وبعض غير المؤهلين منهم تسنموا مناصب رفيعة يفترض أن مستواهم التعليمي لا يؤهلهم لها، لكن عولجت شهاداتهم لاحقاً بطرق مشبوهة.

بعد إزاحة موظفي «النظام السابق»، توزع موظفو أحزاب المعارضة على غالبية مفاصل الدولة، وحين بدأ التنافس بين الأحزاب الشيعية نفسها كانت الحاجة تلح على قادتها للحصول على شهادات، بأسرع وقت ممكن.

«كانوا بحاجة إلى تأهيل أحزابهم خلال وقت قياسي (...) ولا يمكنهم انتظار سنوات الدراسة القانونية (4 سنوات) لأن المناصب التي يريدونها كانت معروضة عليهم في نطاق أشهر معدودة»، يقول المسؤول السابق.

في العراق، كان من الصعب الحصول على شهادات «في غمضة عين» للموظفين العاديين الذين تريد أحزابهم ترقيتهم أو تسليمهم مناصب من الفئة الأولى كدرجة مدير عام، خلافاً للوزراء الذين يمكنهم التسجيل في أي جامعة عراقية والحصول على شهادة منها من دون أن تتطلب حضورهم.

وفي عام 2016، عثرت قوى شيعية أبرزها «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«عصائب أهل الحق»، بزعامة قيس الخزعلي، على فكرة «شهادة الخدمة السريعة» من جامعات لبنانية، لتبدأ رحلة «تفويج الطلبة العراقيين إلى بيروت» على نحو ممنهج وغير مسبوق.

غسيل الشهادات

في بيروت، تحاول أمل شعبان إظهار أن قرار إقالتها من منصبها في وزارة التربية غير قانوني، لكن من الصعب الجزم ببراءتها أو تورطها بهذا الملف المتراكم منذ سنوات.

وعلمت «الشرق الأوسط» أن فريق الدفاع عنها «أنجز مراجعة قانونية سيتقدّم بها إلى مجلس شورى الدولة، للطعن بقرار إقالتها من منصبها الحساس».

وأوضح مصدر مقرب من الفريق القانوني لأمل شعبان أن الأخيرة «لا ترغب بالعودة إلى وظيفتها، بل جلّ ما تريده إظهار أن قرار وزير التربية غير قانوني، وبعدها ستسارع إلى تقديم استقالتها من الوظيفة».

وتوقّع مصدر قانوني مواكب للتحقيقات أن «يكشف قرار ظني من قاضي التحقيق خفايا عشرات الشهادات العراقية المزورة التي عبرت وزارة التربية تحت تأثير الضغوط السياسية».

وأشار المصدر اللبناني لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «الجهات الداخلية والخارجية التي تقف وراء هذه الشهادات معروفة الغايات والأهداف»، ولفت إلى أن القاضي بيرم «طلب من شعبة المعلومات في الأمن الداخلي تزويده بمستندات من التربية تبيّن الإجراءات المعتمدة في معادلة الشهادات، وتاريخ البدء بمعادلة الشهادات العراقية، ولماذا ارتفع الطلب عليها بهذا الشكل الكبير».

وبحسب المصدر، فإن التحقيقات لن تكتفي بما كان يجري في وزارة التربية، بل ستشمل عدداً من الجامعات التي انتسب إليها طلاب عراقيون قبل تعديل الشهادات الثانوية التي حصلوا عليها في بلادهم، وتبين أن عدداً كبيراً منها مزوّر.

وأوضح المصدر أن «جامعة قريبة من الثنائي الشيعي استقطبت أكبر عدد من الطلاب العراقيين، ومنحتهم شهادات في الدراسات العليا وفي الدكتوراه»، مستغرباً كيف أن هذه الجامعة «منحت في السنتين الأخيرتين شهادات عليا تفوق ما صدّرته كل الجامعات في لبنان، وهذا ما يثير الشكوك حولها».

ومعلوم أن غالبية العراقيين الذين تقدموا بطلب معادلة الشهادات والانتساب إلى جامعات لبنانية موظفون في المؤسسات العراقية، بعضهم ضباط في الأمن والشرطة، كانوا يطلبون إنجاز المعادلات دون حضورهم إلى لبنان مقابل أموال طائلة، لأن هذه الشهادات تخوّلهم الترقية في وظائفهم وزيادة رواتبهم بشكل كبير.

في المقابل، تقول مصادر عراقية على صلة بتحقيقات الشهادات الجامعية، التي فُتحت وأغلقت مراراً بلا نتائج، إن بيروت تحولت إلى محطة لـ«غسل الشهادات»، حتى الشباب العاديون الذين لم يأتوا عن طريق الأحزاب.

توافقت المصلحة العراقية في تأهيل موظفين غير مؤهلين مع مصالح قوى متنفذة في لبنان تحاول تعظيم موارد التعليم. ويقول قيادي شيعي بارز لـ«الشرق الأوسط» إن «أصدقاءنا اللبنانيين أرادوا منفعة من كل هذا (...) بعضهم فتح فروعاً إضافية لجامعات لبنانية، وهناك من أنشأ جامعة (خصيصاً) لهذا الغرض».

بالتزامن، نشأت في بيروت شبكة من سماسرة عراقيين لتسهيل «الأوراق المضروبة»، بعضهم لديهم غطاء من أحزاب «الإطار التنسيقي» في العراق، ويوجدون في بيروت لـ«أعمال حرة» أو نشاطات إعلامية.

يقول مصدر موثوق من وزارة التربية العراقية إن «مهمة هؤلاء هي تمرير شهادات ثانوية مزورة جاء بها طلبة عراقيون لمعادلتها في بيروت تمهيداً لانضمامهم إلى جامعاتها».

ولفت المصدر العراقي أن تدفق مثل هذه الشهادات «المضروبة» يتصاعد في السنة التي يشهد فيها العراق انتخابات تشريعية. فقانون الانتخابات العراقي يشترط أن يكون المرشح لعضوية مجلس النواب حاصلاً على شهادة البكالوريوس أو ما يعادلها.

ويقول المصدر إن السلطات العراقية فشلت على الدوام في تعقب الشهادات الثانوية التي جرى معادلتها في لبنان، كما يصعب التحقق من صحة غالبيتها.

وبحسب شهادة المسؤول العراقي السابق، فإن السماسرة العراقيين طوروا في بيروت شبكة علاقات واسعة تمتد من «موظفي السفارة العراقية إلى قياديين في (حركة أمل)، ومسؤولين صغار في وزارة التربية».

ويفيد هذا المسؤول بأنهم نظموا جلسات مشتركة بين جميع هذه الأطراف لتمرير شهادات مزورة. في بعض الأحيان يبذلون جهداً كبيراً لتمرير شهادة واحدة، قد تكون لشخصية متنفذة في بغداد.

رائحة لا يمكن إخفاؤها

بلغ ملف الشهادات العراقية في بيروت حد التخمة. لم يعد بإمكان المسؤولين اللبنانيين إخفاء رائحته، كما يصف مسؤول عراقي في وزارة التربية، يقول إنه عرف خلال عمله في الحكومة على الأقل 3 مسؤولين كبار حصلوا على ترقيات بفضل شهادات جاؤوا بها من لبنان.

«سمعت من مسؤول كبير في وزارة التعليم أن اللبنانيين أبدوا قلقهم من توسع الصفقة، ومن تمادي السماسرة (...) قالوا لنغلق هذا الملف، لكن قادة أحزاب شيعية أبلغوا أصدقاءهم في بيروت أن يعدوا التخادم في ملف الدراسة جزءاً من التسهيلات العراقية في عقد تصدير وقود الكهرباء».

وفي يوليو (تموز) 2021، وقّع العراق ولبنان اتفاقاً لبيع مليون طن من مادة زيت الوقود الثقيل بالسعر العالمي، على أن يكون السداد بالخدمات والسلع.

بعد ذلك بـ4 أشهر، استدعت وزارة التعليم العالي العراقية ملحقها الثقافي في بيروت، في إطار تحقيق في قضية منح جامعات لبنانية خاصة شهادات مزورة مقابل أموال، لمئات من العراقيين، بينهم نواب ومسؤولون، في خطوة دفعت وزارة التربية والتعليم اللبنانية إلى فتح تحقيق أيضاً.

تسرب من التحقيق حينها أن عدداً كبيراً من النواب والمسؤولين العراقيين حصلوا على شهادات دكتوراه وماجستير من 3 جامعات لبنانية، وأن أطروحة الدراسات العليا كانت تباع بـ10 آلاف دولار عن كل طالب.

ودرس معظم هؤلاء الطلبة عن بعد خلال تلك الفترة على خلفية الإجراءات الوقائية نتيجة لتفشي جائحة «كورونا».

وبحسب وكالة «فرانس برس»، فإن الطلبة العراقيين يتوزعون على 14 جامعة في لبنان، لكن أعداد الطلبة في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم، والجامعة الإسلامية في لبنان، وجامعة الجنان وحدها، يبلغ 6 آلاف من مجموع 13 ألفاً و800 طالب عراقي.

وانتهى التحقيق العراقي بوقف التعامل مع الجامعات الثلاث بسبب «غياب معايير الرصانة»، وفقاً لبيان عراقي صدر في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.

العراق يتخلى عن الشريك اللبناني

مع تشكيل حكومة محمد شياع السوداني نهاية عام 2022، تراجعت أحزاب شيعية عراقية عن سوق الشهادات الجامعية في لبنان، وشجعت وزارة التعليم العالي التي يقودها نعيم العبودي، وهو من حركة «عصائب أهل الحق» الطلبة العراقيين على الدراسة في الجامعات الأهلية العراقية. بينما الوزير نفسه حاصل على شهادة من الجامعة الإسلامية في بيروت.

وفي مطلع 2023، أثير في بيروت جدل واسع على خلفية تقاعس مسؤولين في قوى الأمن الداخلي والقضاء اللبناني عن وقف تحقيق في ملف تزوير وثائق دراسية لطلبة عراقيين.

ويعترف أحد أعضاء مجلس إدارة جامعة أهلية في العراق ومقرّب من مموّلها أن «الأحزاب كانت تسعى في البداية لرفع مستوى أعضائها والمقربين منها بإيفادهم إلى لبنان، لكن بعد الاكتفاء من جامعات الدول الأخرى قررت هذه الأحزاب الإفادة من تجربة التعليم الأهلي بتأسيس جامعات أهلية داخل العراق لاستقطاب الطلبة العراقيين بدل سفرهم إلى الخارج».

ويضيف عضو مجلس إدارة الجامعة: «صاروا يقولون كنا نحتاج إلى خدمة سريعة واكتفينا، لماذا ندع لبنان تربح أكثر. الغرض ليس تجارياً فقط، فهنالك وزارات عدة لا تريد أن يسافر موظّفوها إلى الخارج، ولا سيّما المؤسسات الأمنية والعسكرية».

ولا يستبعد الموظف الجامعي الرفيع أن تكون الأحزاب العراقية هي التي قررت قلب الطاولة على الجامعات اللبنانية، لتحويل وجهة الطلبة العراقيين عنها لصالح جامعات عراقية، هي في الأغلب تابعة لأحزاب وقوى سياسية أو شخصيات مقربة منها من رجال الأعمال.

ويرجح أن «الجامعات اللبنانية هي التي شعرت بانقلاب الجامعات العراقية عليها من خلال نجاحها في استقطاب الطلبة العراقيين، لتقرر في السنوات الأخيرة تسهيل منح الشهادات لهم مع تخفيض الأجور لاستقطاب عدد أكبر».

وبدا أن العراقيين تركوا «أصدقاءهم» اللبنانيين متورطين في مسرح الجريمة، وسط أكوام من الأدلة والشواهد، ولم يجد الشركاء في «حركة أمل» سوى إغلاق الملف بالتضحية بالخاصرة الضعيفة، على ما يختم المسؤول العراقي السابق.


مقالات ذات صلة

انفراجة في أزمة المدارس السودانية الموقوفة بمصر

شمال افريقيا امتحانات لطلاب سودانيين بمصر (السفارة السودانية في القاهرة)

انفراجة في أزمة المدارس السودانية الموقوفة بمصر

في انفراجة لأزمة المدارس السودانية الموقوفة بمصر أعلنت السفارة السودانية بالقاهرة أن لجنة من وزارة التعليم المصرية ستزور بعض المدارس الأخرى لمراجعة قرار إغلاقها

أحمد إمبابي (القاهرة)
شمال افريقيا امتحانات لطلاب سودانيين بمصر (السفارة السودانية بالقاهرة)

المدارس السودانية في مصر بانتظار انفراجة بعد 3 شهور من إغلاقها

تأمل الجالية السودانية في مصر انفراجة في أزمة المدارس السودانية العاملة في البلاد، والمغلقة منذ نحو 3 أشهر لحين استيفائها الشروط المطلوبة.

أحمد إمبابي (القاهرة)
يوميات الشرق حظي المنتدى بجلسات علمية بين الجانبين (وزارة التعليم)

شراكة سعودية – أميركية لدعم تعليم اللغتين العربية والإنجليزية بين البلدين

السفير الأميركي مايكل راتني: المنتدى هو نتيجة عامٍ من التعاون بين سفارتنا ووزارة التّعليم السعودية.

عمر البدوي (الرياض)
الاقتصاد مسؤولو الذراع الاستثمارية لشركة «إي إف جي هيرميس» ومجموعة «جي إف إتش» المالية خلال إطلاق صندوق التعليم السعودي (إكس)

«هيرميس» تطلق صندوقاً للتعليم بـ300 مليون دولار في السعودية

أطلقت شركة «إي إف جي هيرميس» صندوقاً للتعليم السعودي (SEF) بقيمة 300 مليون دولار لبناء مشغل تعليمي عالمي المستوى في السعودية

«الشرق الأوسط» (الرياض)

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».