أنطاكيا التاريخية «مدينة خيم وحاويات»... وخطط الإعمار تهدد تعددية السكان

«الشرق الأوسط» في مناطق الزلزال المدمر

TT

أنطاكيا التاريخية «مدينة خيم وحاويات»... وخطط الإعمار تهدد تعددية السكان

جانب من نهر العاصي ومدخل المدينة حيث كانت فنادق ومقاه تاريخية (الشرق الأوسط)
جانب من نهر العاصي ومدخل المدينة حيث كانت فنادق ومقاه تاريخية (الشرق الأوسط)

بعد مرور عام على الزلزال المميت، يكاد يكون من المستحيل العثور على شخص لم يفقد أحد أفراد أسرته أو صديقا له أو أحد جيرانه في مركز مدينة هاتاي أو أنطاكيا، جنوبي تركيا. فقدت المدينة نصف سكانها تقريباً وقد هاجر العديد منهم إلى مدن مجاورة أو بعيدة كإسطنبول وأنقرة، بعد دفن أحبائهم وجمع بعض الأثاث من بيوتهم المدمرة.

ويحاول الناجون الآن إعادة بناء حياتهم وسط أنقاض المدينة، وبين مباني الأشباح، والغبار المبعثر المتراكم من مواقع الهدم، على وقع ضجيج المعدات الثقيلة التي لا تزال تعمل على هدم المباني المدمرة. بعد مرور بضعة أشهر على الزلزال، تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورة أصبحت شهيرة وتُظهر صاحب متجر يعيد فتح متجره مع بعض الترميم، واضعاً حاوية بين الأنقاض في وسط المدينة المهجورة، ولكن من دون أي زبون يلتفت إليه. وتحولت هذه الصورة وغيرها مما يشابهها رمزاً للناجين المطالبين بالاعتراف بوجودهم في المدينة في مواجهة موجة هجرة هائلة. فقد أصبح هجران المدينة ومحيطها مصدراً للقلق الحقيقي بين من تبقى من أن عملية إعادة الإعمار سوف تتعطل أكثر إما لغياب قوة عاملة مستقرة متبقية وإما لانتفاء الضرورة القصوى. وتم تصوير أصحاب المحال التجارية وهم يحملون بعض الماء والمكانس بأيديهم، وهي أدوات كفاحهم الرئيسية من أجل الحفاظ على المدخل نظيفاً وأنيقاً ضد الغبار والأنقاض التي عمّت الأمكنة كلها.

وعلى الجدران انتشرت كتابات رافقت صورة صاحب المتجر «المقاوم» وتقول «لم نغادر»، «لن تفقد الأمل؛ سوف نعود»، «انهارت بيوتنا، وليس أحلامنا». بعض هذه الكتابات على الجدران أطلقت على أكشاك الكباب وغيره من المأكولات الشعبية التي أعاد أصحابها افتتاحها بما هو متاح وبإصرار إبقاء ذكرى الزلزال حية وصمود شعب هاتاي لإعادة بناء حياتهم في المدينة. واليوم، مع الذكرى السنوية الأولى للزلزال، بات هناك العديد من المتاجر المفتوحة، وسوق الخضروات والفاكهة المحلية (البازار) تعج بالناس.

ومع ذلك، لكل منهم رواية يقصها علينا عن مدى صعوبة الحياة في هذه البقعة.

سيدة تركية تزور مقابر أفراد من عائلتها في الذكرى السنوية لوفاتهم بالزلزال (د. ب. إ.)

لم يتغير شيء

بعد عام من الزلزال يفاجأ الزائر بأن المكان ما زال على حاله. وكأن الزمن لم يمر منذ أن ضربت الكارثة. بدت المدينة مهدمة كما يمكن أن تكون. بين الأنقاض، كانت الخيام والحاويات والأواني المعدنية المؤقتة موجودة في كل مكان تقريباً، وهي تقوم مقام المنازل والمتاجر والمطاعم والمصارف والمكاتب.

تغير مشهد المدينة بشكل هائل. مناطق بكاملها سويت بالأرض حتى أن تجربة مشتركة شاعت بين الناجين كانت الضياع في أماكن يعرفونها طوال حياتهم. فلم يعد في الشوارع نقاط استدلال. وفي غياب الأشجار، أو الأبنية التاريخية، أو المقاهي، أو نقاط اللقاء التي كانت تميز المدينة، لم يتمكن السكان من معرفة أين كانت بيوتهم. وقال «ييغيت»، وهو طالب جامعي من أبناء المدينة إن مقابلة صديقه استغرقت منه ساعة تقريباً من المحاولة، بحيث لم يتمكن أي منهما من وصف موقعه. وقال: «انتهى بنا الأمر إلى استخدام (فيس تايم) ورفعنا صوتنا لنسمع بعضنا البعض ونستدل».

قرى الحاويات وعيش بالمياومة

واليوم يسكن العديد من الناجين الذين بقوا في المدينة إما في «مدن الحاويات» أو في الأطراف والقرى المحيطة بهاتاي. وفقا للإعلان الرسمي الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، تقيم أكثر من 50 ألف أسرة في 175 بلدة حاويات منتشرة في جميع أنحاء المدينة. وقد تمكن أولئك الذين فقدوا منازلهم من الاستفادة من برنامج للمساعدات يغطي نفقات الانتقال وتكاليف الإيجار. ومع ذلك، فإن المبالغ المخصصة كجزء من البرنامج لا تكفي لإيجار شقة، بعد ارتفاع الأسعار ارتفاعاً صاروخياً سواء بسبب خسارة الأبنية السكنية أو بسبب ارتفاع معدلات التضخم في البلاد.

قرى ومدن من الحاويات على أطراف مدينة أنطاكيا (د. ب. إ.)

وبالنسبة للسكان الذين ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه في القرى أو الأطراف وتخيروا الانتقال إلى مدن الحاويات، تخلوا عملياً عن المساعدة في الإيجار فيما لا يزال بعضهم وهم قلة يقيم في الخيام.

تضم إحدى مدن الخيام التي نُصبت في شارع فرعي على بُعد بضعة كيلومترات من وسط المدينة نحو 50 عائلة سورية. يعيش محمد في خيمة واحدة مع زوجته وأطفاله الستة. وعندما سُئل عما إذا كان يتلقى أي مساعدة، أجاب قائلاً: «بعض الناس جلبوا الطعام لبعض الوقت، ولكن ذلك توقف الآن». ومنذ الزلزال لم يعد محمد قادراً على العمل إذ سقط جدار على كتفه وهو يحاول الهرب من مسكنه فاضطر أبناؤه الثلاثة للعمل في محل لبيع الأثاث.

وتتلخص خطة رب الأسرة في تكييف الخيمة مع ما تقتضيه ظروف الشتاء واستمرار العيش فيها. ليس لديه كبير أمل في الترقية إلى حاوية. ويُشكل الانقطاع المتكرر للماء والكهرباء أكبر مشقة بالنسبة له ولعائلته، لأنهم لا يحصلون على الكهرباء إلا كل يومين.

وفي الأجزاء الأخرى من أنطاكيا أيضا، لا يزال انقطاع مقومات العيش الأساسية يُمثل مشكلة كبيرة. توضح السيدة إليف، وهي مُعلمة تعيش الآن في إحدى بلدات الحاويات، أن الأمر أصبح أقل بؤساً، بالمقارنة مع الأشهر الأولى، ولكن عندما يحدث الانقطاع، يمكن أن يستغرق أحيانا 48 ساعة. وتقول: «بعد الزلزال، كانت الحاجة الفورية إلى إعادة الكهرباء بأسرع ما يمكن، فقام العمال بالسير بالكابلات إلى أي مكان بُغية الاستجابة بسرعة للاحتياجات. والآن، عندما يحدث انقطاع، يستغرق الأمر وقتا طويلا لمعرفة ما حدث لأي كابل».

وتمثل الأمطار مصدر خوف بسبب البنية التحتية الهشة للمدينة ومواقع السكن المؤقتة. ولا يقتصر سبب انقطاع الكهرباء على هطول الأمطار الغزيرة في كثير من الأحيان، بل إن معظم الحاويات ليست مضادة للمياه أصلاً ما يشكل خطراً مضاعفاً. إذ يتسرب الماء من الأعلى ومن الأسفل على السواء في الأماكن حيث تقع البلدات في السهول. ويُلقي الناجون باللائمة في ذلك على نقص التخطيط والتنسيق الذي استمر منذ عمليات الإنقاذ. تقول سينيم، وهي امرأة تبلغ من العمر 45 عاماً تعيش في حاوية مساحتها 21 مترا مربعا مع أطفالها الثلاثة وزوجها: «إننا غير قادرين على التخطيط لأي شيء، ونحاول فقط قضاء كل يوم بيومه». وكانت مدرسة أطفالها انهارت خلال الزلزال أيضاً وهم الآن مسجلون في التعليم عن بُعد.

لا مكان للعائلات

وفي العديد من الأسر الميسورة مالياً، هاجرت النساء إلى مدن أخرى من أجل تعليم الأطفال، في حين بقي الرجال في هاتاي لمواصلة عملهم. يوسف واحد منهم. يعيش حالياً في حاوية مُقامة في قريته ويستأجر شقة في إسطنبول لزوجته وأطفاله. بعد قضائه فترة قصيرة في إسطنبول، وجد الرجل صعوبة في استئناف العمل فعاد أدراجه إلى أنطاكيا لفتح محل الأحذية. بعد الزلزال، كان معظم زبائنه الجدد من الجنود وضباط الشرطة والعمال الذين جاءوا إلى المدينة كجزء من عمليات الإنقاذ أو لأعمال البناء. وفيما اتبعت العديد من الأسر نمطاً مماثلا، تغيرت ديموغرافيا المدينة بشكل كبير وقلبت نسبة الرجال إلى النساء من 61.8 في المائة إلى 38.1 في المائة، بحسب مركز هاتاي للتخطيط.

وفي الوقت نفسه، من نجت مبانيهم وخرجوا بأضرار «طفيفة» أو «متوسطة» عادوا تدريجياً وسط خوف دائم من الهزات الارتدادية أو زلزال آخر. أما أولئك الذين يعيشون في مبان متضررة إلى حد كبير نسبياً فقد غابوا في طي النسيان لعدة شهور، حيث انقسمت السلطات حول ما إذا كانت هذه المباني آمنة للعيش بعد التدعيم والتعزيز، أم أنه ينبغي هدمها وإعادة بنائها. ولم يكن حتى قبل 3 أشهر من الآن أن قالت منظمة الكوارث والطوارئ الحكومية إنها اتخذت قراراً بهذا الشأن بحسب كل مبنى.

تضامن شعبي بددته السياسة

في الأسابيع الأولى التي تلت الزلزال، تضامن العديد من الأفراد والمجموعات والمنظمات غير الحكومية مع الناجين، وخاصة مع سكان هاتاي. فلطالما اعتبرت المدينة مثالاً حياً للتعددية الثقافية، وهي التي تضم العرب العلويين، والسنة، والمسيحيين، والأرمن، واليهود. وحالما انتشرت الصور المفجعة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى قنوات التلفزة، حاول حتى المواطنون العاديون في أنحاء مختلفة من البلاد الوصول إلى المنطقة بوسائلهم الخاصة لإرسال التبرعات أو توفير قوة عاملة في عمليات الإنقاذ. وتأسست شبكات جديدة من التضامن داخل المدينة وخارجها للعمل على كيفية إعادة بناء الحياة. ولا تزال هذه القصص حية في ذكريات الناجين، إذ لدى كثيرين منهم ما يقولونه عن كيفية مساعدة جيرانهم أو أشخاص مجهولين لهم.

ولكنها ذكريات بالفعل. فبعد مرور عام طغت على روح التضامن النزاعات والخلافات، التي كان بعضها موجوداً أصلاً قبل وقوع الكارثة. ولا شك في أن المناخ السياسي البالغ الاستقطاب في البلد يعمل كمحفز إضافي لتعميق الخلافات والفجوات. وقد أبدى حزب الشعب الجمهوري حذراً خاصاً من الإجراءات التي اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية إزاء المجتمع العربي - العلوي في المدينة - ثاني أكبر مجموعة بعد السكان السنة - والذي يُصوت عموماً لصالح حزب المعارضة الرئيسي.

وذكرت موجان، وهي صاحبة مطعم عمرها 45 عاماً، أن منطقتها لم تتلق أي مساعدات حكومية في الأيام الثلاثة الأولى من الزلزال، لأنها منطقة يسكنها بالأساس العرب العلويون. ومثل العديد من العرب العلويين الآخرين في المدينة، تعتقد موجان أن الحكومة تستخدم الزلزال لتفريق المجتمع من خلال جعل حياتهم أكثر صعوبة وفرض الهجرة عليهم بصورة غير مباشرة كخيار وحيد.

ووفقا للسيدة موجان، ازداد الانقسام بين السكان السنة والعرب - العلويين، بعد وصول اللاجئين السوريين إلى المدينة، وهو ما تعتبره أيضاً جزءا من سياسة الحكومة التقسيمية. كما أدى قراران صادران عن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بشأن مصادرة الأراضي في الأشهر التالية على الزلزال إلى إثارة مخاوف المجتمع العربي - العلوي. فقد سمحت هذه القرارات لوكالة الإسكان الحكومية (توكي) بمصادرة أراض لبناء مبان جديدة في «ديكمجة» و«غولدرين»، وهما حيان من مدينة أنطاكيا يسكنهما بشكل رئيسي العرب - العلويون. والقراران مرفوعان حاليا إلى المحكمة الإدارية. بعد فترة وجيزة من القرار الرئاسي، شرع أهالي قرية «ديكمجة» في مقاومة مصادرة بساتين الزيتون ونظموا عدة احتجاجات للحفاظ على أرزاقهم، ما أدى إلى مواجهات عنيفة بين الشرطة المحلية والأهالي.

أحياء سويت بالارض في وسط مدينة أنطاكيا (الشرق الأوسط)

الإعمار معضلة متشعبة

ويقول المحامي المحلي أجاويد ألكان: «هناك فوضى في المدينة، والساسة مستفيدون؛ فمن الأسهل أن يحكموا بهذه الطريقة». وإلى جانب تداعيات المشكلات الوطنية العامة على المدينة المنكوبة، صارت النزاعات في مختلف الشؤون جزءاً من الحياة اليومية». ويقول ألكان: «لا تخلو مجموعة واتساب من نزاعات. فهذه المجموعات تشكلت بين سكان الشقق ويتعين عليهم الآن أن يقرروا معاً ما ينبغي القيام به حيال المباني المنهارة». والخيارات هي إما إعادة البناء في نفس المكان، وهو ما يتطلب موافقة 50 في المائة من أصحاب المساكن، أو استبدال شقة من وكالة «توكي» بحقهم في الملكية. وأيا كان الخيار الذي سيتخذونه، سوف تُقدم الحكومة منحة قيمتها 750 ألف ليرة تركية (أي نحو 24 ألف و700 دولار) وقرضاً من دون فائدة بنفس المبلغ، يبدأ سداده بعد سنتين. بيد أن هذه المبالغ ظلت منخفضة للغاية مقابل معدل التضخم المرتفع في البلاد، فيما أغلب الناجين خسروا أعمالهم بالإضافة إلى مساكنهم وهذه المبالغ وإن كانت ضئيلة لكنها تفوق قدرتهم. وهم الآن يُعربون عن قلقهم من أن البنايات الجديدة قد تكلفهم أكثر بكثير مما قد تغطيه المنحة والائتمان معاً، وقد ينتهي بهم الحال إلى الوقوع في براثن الديون الضخمة.

راهناً، تُصنف المباني في المدينة إلى أربع مجموعات، وهي: «مُدمرة»، «أضرار جسيمة»، «أضرار متوسطة»، «أضرار طفيفة أو معدومة الضرر». وبدورها تحولت هذه التصنيفات أيضاً إلى مصدر رئيسي للخلاف، إذ رفع الكثير من السكان تقييم ممتلكاتهم إلى المحاكم على أمل تغييرها إما إلى أضرار «متوسطة» أو «طفيفة» للحيلولة دون هدمها. فمدينة هاتاي، وكذلك منطقتها المركزية أنطاكيا، مليئة بالمباني التي تحمل لافتة تقول «لا تهدم، ارفع إلى المحكمة»، حيث يخشى المالكون من أنهم إذا فقدوا حتى أطلال ما كانوا يمتلكونه، يمكن مصادرة أراضيهم لصالح بعض المشاريع الحكومية أو بناء مبان جديدة لا يمكنهم تحمل نفقات إعادة شرائها. وأعرب مسؤولون حكوميون عن قلقهم إزاء العدد الكبير من القضايا التي غمرت المحاكم المحلية وتؤخر عملية إعادة الإعمار من وجهة نظرهم.

البازار خلاف إضافي

أصبح «أوزون كارشي» (السوق الطويلة) أو البازار التاريخي للمدينة أكثر حياة وحيوية مما كان عليه قبل شهرين. ومع ذلك، يختلف أصحاب المتاجر فيما بينهم حول أهمية البازار. إذ تقضي الخطة الرسمية بهدمه وإعادة بنائه ببنية تحتية أفضل. ولكن لا يتفق الجميع مع تلك الخطة، ويوسف من أشد المعترضين. فهو يرى أن إعادة الإعمار سوف تستغرق وقتاً أطول بكثير مما هو مُعلن رسمياً، خصوصاً أن الحكومة لم تفِ بعد بأي من وعودها السابقة. وإذا ما تم هدم البازار، سوف يُنقل مؤقتاً إلى سوق الحاويات التي، بحسب يوسف، تفتقر إلى روح البازار التاريخي ولن تجذب أحداً.

ولا شك أن سكان المدينة الموالين للحكومة أكثر تفاؤلاً بشأن هذه العملية، ويعتقدون أنه إذا وضع الجميع ثقتهم في الحكومة، فالأمور ستسير بسلاسة أكبر. ولكن حتى سردار، الذي يعمل موظفاً مدنياً في بلدية أنطاكيا (بقيادة حزب العدالة والتنمية)، يعترف بأن الأمور تتحرك ببطء شديد مقارنة بالمدن الأخرى المدمرة. ويقول: «كأن هاتاي (شُرابة) مُعلقة بالبر الرئيسي. كأنها عبء إضافي ومشكلاتها لا تندرج في الأجندة السياسية كأولوية».

مثل هذه المشاعر شائعة بين سكان هاتاي، بصرف النظر عن هوياتهم الخاصة. سليم، على سبيل المثال، دهن جراره الزراعي بألوان قوس قزح ووصف في الخلف كيف تُركت المدينة وحدها بعد الزلزال. وعلق لوحة أرقام مؤقتة تقول «31 زلزال 4.17»، علماً بأن 31 هي رمز المرور في هاتاي، و4.17 ترمز للوقت الذي ضرب فيه الزلزال الأول المدينة بشدة. كان سليم يمتلك مطعماً قبل الزلزال، وقد اشترى الجرار القديم لاستخدامه كديكور في الواجهة غير مدرك أنه سيتحول إلى مصدر رزق. ففي الوقت الحالي، بات يستخدمه لجمع الأشياء من مواقع التدمير ولا يعرف ما العمل الذي يمكن أن يجده بعد ذلك.

الغموض الذي أصاب كل جوانب الحياة في هاتاي بالشلل تقريبا، مع غياب التحرك السياسي الفعال لتلبية الاحتياجات الملحة للسكان، يختصر المناخ العام للمدينة بعد سنة من الزلزال. ولكن مع الانتخابات البلدية التي ستجرى في 31 مارس (آذار) المقبل تمحورت السياسة في المدينة حول الوعود الانتخابية التي تزيد الريبة والشك بين الناخبين في المدينة. فإذا لم يتحقق شيء من الوعود خلال عام، ماذا يرتجون في أشهر؟


مقالات ذات صلة

زلزال بقوة 6.7 درجة يضرب جزيرة مينداناو في الفلبين

آسيا صورة عامة للعاصمة مانيلا (أرشيفية - رويترز)

زلزال بقوة 6.7 درجة يضرب جزيرة مينداناو في الفلبين

ذكر المركز الألماني لأبحاث علوم الأرض أن زلزالاً بقوة 6.7 درجة ضرب مينداناو بالفلبين اليوم (الخميس).

«الشرق الأوسط» (مانيلا)
علوم كوكب الأرض كما يظهر من سطح القمر (ناسا - أ.ب)

هل يصبح يومنا أقصر بسبب دوران لُب الأرض؟

داخل كوكب الأرض كرة من الحديد، تدور بشكل مستقل عن دوران كوكبنا حول نفسه، هذه الكرة لطالما شغلت الباحثين.

شؤون إقليمية فرق الإنقاذ التي تبحث عن ناجين وسط الركام، بعد الزلزال الذي ضرب مدینة كاشمر في شمال شرق إيران (إيسنا)

قتلى وعشرات الجرحى في زلزال هزّ شمال شرق إيران

زلزال بقوة 4.9 درجات يضرب مدينة كاشمر في مقاطعة رضوي خراسان شمال شرقي إيران؛ ما أسفر عن سقوط 4 قتلى وعشرات المصابين

«الشرق الأوسط» (لندن)
آسيا رسم بياني لزلزال (رويترز - أرشيفية)

زلزال بقوة 5.9 درجات يضرب وسط اليابان

ضرب زلزال قوي بلغت شدته 5.9 درجات وسط اليابان، صباح اليوم (الاثنين)، من دون أن يتسبب في إطلاق تحذير من تسونامي، حسبما ذكرت وكالة الأرصاد الجوية اليابانية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
أوروبا مواطنون يتجمعون في منطقة آمنة بالشارع على الواجهة البحرية بين نابولي وبوزولي بعد وقوع زلزال (د.ب.أ)

لم تحدث منذ 40 عاماً... هزات أرضية تثير الذعر جنوب إيطاليا

سجّلت عشرات الهزات الأرضية بدرجات غير مسبوقة منذ 40 عاماً في كامبي فليغري قرب نابولي بجنوب إيطاليا.

«الشرق الأوسط» (روما)

«هجرات معاكسة» من السويد بحثاً عن الشمس والاعتراف

شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
TT

«هجرات معاكسة» من السويد بحثاً عن الشمس والاعتراف

شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)

وصلت عزة ح. (35 عاماً)، إلى السويد قبل 11 عاماً، عن طريق لمّ الشمل مع زوجها، وقامت باستثمار كثير من الوقت في تعلم اللغة السويدية، ومعادلة شهادتها الجامعية ودراسة مجموعة إضافية من المساقات التي تؤهلها للدخول إلى سوق العمل مجدداً ممرضةً، معتبرةً أن ما حصل معها في السويد «عبارة عن حلم، لم يكن ليتحقق في أي مكان آخر في العالم».

وتقول عزة: «السويد بلد الفرص، لمن يعرف كيف يستثمرها. فما توفره الدولة هُنا، لا يمكن مقارنته بأي بلد ثانٍ، وهذا سبب انتقالنا إلى السويد».

لكن، ورغم ذلك، تخطط عزة اليوم لـ«هجرة ثانية» إلى المملكة العربية السعودية حيث وُلِدت وترعرعت لعائلة سورية. وفي حديثها مع «الشرق الأوسط» تستذكر كيف بدأت تفكر بذلك، فتقول: «في البداية كنا منهمكين في بناء حياة جديدة، لكن مع الوقت افتقدنا الروابط الاجتماعية. العلاقة بين المواطنين والقادمين الجدد كارثية خصوصاً بالنسبة لشخص مثلي. هنا نعيش حياة باهتة فلا نلقى تفاعلاً اجتماعياً، أو قبولاً. القيم والأعراف الفردية المطلقة تهيمن على المجتمع السويدي، وبالنسبة لنا كمهاجرين، الفردية القصوى ليست بديهية، نحن أكثر ارتباطاً بالجماعة، وغالباً ما يرتبط الناس بالعائلة أو العشيرة أو المنطقة بأشكال مختلفة من التسلسل الهرمي الاجتماعي».

تروي عزة بشيء من الإحباط كيف أنها حتى الآن لا تملك «رقم هاتف شخص سويدي واحد بعد كل هذه المدة»، وتسأل: «هل يُعقل ذلك؟! لم أختبر معنى أن أتحدث مع مواطن حول أمور الحياة العادية».

تغير مفهوم الاندماج

في الماضي، شهدت السويد موجات من المهاجرين، وعملت على دمجهم وكانت هناك رغبة مجتمعية في مساعدة المهاجرين على الاندماج، وقد اختبر العراقيون الذين وفدوا بعد 2003 تلك الحالة إلى حد بعيد. وفي عملية الاندماج تلك، غالباً ما يتخلى الفرد عن الخصال المجتمعية والثقافية التي يحملها ويتكيف مع أعراف المجتمع المضيف وتقاليده.

لكن اليوم تحول التركيز إلى ترسيخ مفهوم التنوع الثقافي والمجتمع المتعدد، بهدف ألا يضطر أي شخص للتخلي عن هويته الخاصة مقابل فرص اقتصادية واجتماعية وسياسية متساوية في المجتمع المضيف. فكان لذلك أثر سلبي أيضاً لكونه يحصر الوافدين في دوائر مغلقة. وبحسب عزة، يصبح المهاجر «محاصَراً»، لأن المواطن السويدي «لا يرى ضرورة للاندماج أو التواصل على المستوى الفردي، ويترك المهمة للدولة والبرامج الممولة، التي في الغالب تكون نتائجها مخيبة».

مركز تعليم لغة سويدية وتدريب على الاندماج الاجتماعي للوافدين الجدد واللاجئين (غيتي)

وفي الوقت نفسه تُعتبر سياسة الاندماج موضوعاً ساخناً في وسائل الإعلام، والغرف السياسية، خصوصاً مع تصاعد اليمين المتطرف ووصول أحزابه إلى السلطة في عدد من البلدان الأوروبية، وليس فقط في السويد. وتقول عزة: «يتم تحميلنا مسؤولية العزلة التي نعيشها هنا، والبطالة، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والصحية الناجمة عن فشل إدماجنا، فتحولنا بدورنا إلى قضية سياسية توصل أحزاب اليمين إلى السلطة».

أمام هذا كله، ترى عزة أنها لم تعد مضطرة للتحمل أكثر، وتقول: «نعيش الحاضر ونحاول التغلب على العزلة والاكتئاب بممارسة اليوغا، أو المشي مسافات طويلة في الغابة، أو الجري في الصالات المغلقة، أو الذهاب إلى حفلات موسيقية رديئة في الغالب، ونوثق هذه اللحظات على وسائل التواصل الاجتماعي، لإيهام أنفسنا بأننا بخير وللحصول على جرعة من الأمل».

وليست عزة حالة منفردة في السويد، فـ«الهجرة المعاكسة» باتت ظاهرة، خصوصاً في أوساط الوافدين واللاجئين. وأظهرت أرقام هيئة الإحصاء الوطني السويدية أن عدد المهاجرين الذين غادروا البلاد في عام 2022 بلغ 50 ألفاً و592 شخصاً، شكل المولودون في السويد من أبوين سويديَيْن نسبة 37 في المائة منهم لأسباب متنوعة.

ومع نهاية عام 2023، تم تسجيل أكثر من 66 ألف شخص مهاجراً من السويد (أي أنه غادر لأكثر من عام وشطب من سجلات المقيمين)، وهذه أرقام مقلقة ترافقت مع انخفاض عدد الولادات إلى معدلات غير مسبوقة أيضاً أدت إلى تراجع النمو السكاني ليصبح الأدنى منذ عام 2001.

نحن وهم... و«السوسيال»

المهندس عامر بارودي، الذي انتقل للعيش في بلد خليجي قبل عامين، يروي تجربته في الهجرة من السويد، بعدما قضى فيها مع عائلته 8 سنوات. ويرى أن الانتقال كان أكثر ملاءمة له ولعائلته من جميع النواحي بالإضافة إلى الأمان الاجتماعي وإمكانية تربية الأطفال بحسب القيم والعادات والتقاليد العربية.

ويشير بارودي إلى أن أحد الأمور الحاسمة التي دفعته إلى اتخاذ قرار الهجرة المعاكسة صعود اليمين المتطرف في السويد، ومشاركته في وضع سياسات الهجرة، والتضييق المتزايد على المهاجرين، من خلال مشاريع قوانين وأحكام تجعل من الصعب عليهم الاندماج. ويقول: «الخطاب العنصري متصاعد على المستويين الرسمي والمجتمعي حتى وصل إلى بيئة العمل الرسمية، مع مؤشرات كثيرة للعنصرية المؤسساتية».

ويتابع بارودي قوله: «خطاب الكراهية يبدأ من قمة السلطة السياسية، حيث يصنف المهاجرون مواطنين من الدرجة الثانية، ويسهل الطعن في وطنيتهم وولائهم للسويد، واتهامهم بأنهم غير مستعدين للدفاع عنها في حالة الحرب، بالإضافة إلى الحديث المتكرر عن سحب الجنسيات الممنوحة لهم، وفرض مناطق أمنية يسمح فيها للشرطة بتفتيشهم وأطفالهم في أي مكان عام، من دون وجود شبهة جريمة».

وفي بعض المناطق، يجوز للشرطة تفتيش الأشخاص والمركبات بحثاً عن أسلحة أو ممنوعات فيما لا يسمح لها عادة بالتفتيش بلا إذن، وما لم يكن هناك «سبب موجب للافتراض» بأن مخالفة ما أو جريمة قد ارتُكِبت بالفعل.

وفي سياق التجاذبات بين المهاجرين وممثلي المؤسسات الرسمية، يشير بارودي إلى مسألة مهمة، هي دور جهاز الرعاية الاجتماعية (السوسيال) والصورة السلبية عنه التي ترافقت مع تصاعد حملات معادية على وسائل التواصل الاجتماعي مقابل غياب تام لأي خطاب رسمي هادئ يوضح دوره ويفسر أداءه. وقد عمَّت مؤخراً حالة من الرعب بين أوساط المهاجرين مما سمي «خطف الأطفال» (المسلمين بشكل خاص) أدَّت إلى اتخاذ قرار جماعي بمغادرة البلاد أو البحث عن بدائل.

تظاهرة لجاليات مسلمة في مالمو ضد الـ "سوسيال" تطالب بعدم "خطف" الأولاد من أسرهم وسط حملة شرسة تعرضت لها مؤسسة الرعاية الاجتماعية السويدية في 2022 (غيتي)

وكانت هذه المؤسسة تشكلت، مطلع التسعينات، بصلاحيات واسعة تتخطى أحياناً قرارات المحكمة الإدارية بحيث يسمح لها بسحب الأطفال من عائلاتهم إذا ما تعرضوا لسوء معاملة، أو إذا تبين أن بيئة أسرهم غير ملائمة للأطفال واليافعين لأسباب تتراوح بين العنف الأسري أو إدمان المخدرات أو غير ذلك مما يعرِّض الأطفال لمخاطر جسدية ونفسية. وكانت السنوات الخمس الماضية شهدت «ذروة» في سحب أطفال من عائلاتهم، غالبيتهم من أصول مهاجرة، وإيداعهم إما في دور رعاية للدولة أو لدى أسر مضيفة. وتعتبر المؤسسة في المقابل أنها لا تسعى إلى «استهداف» المهاجرين بشكل خاص أو طريقة ممنهجة، وإنما الأمر نسبة وتناسب، وبالتالي فإن الأعداد قد تبدو أعلى بين فئات أكثر من فئات أخرى.

وكان لافتاً طريقة إدارة الأزمة التي نشأت حول دور «السوسيال»، والتجاوزات الكثيرة التي سُجّلت في عمل موظفيه، ثم التكتم وغياب الشفافية في الرد المتأخر من الجهات المسؤولة، وتصوير الأمر فقط على أنه حملة تستهدف أمن السويد؛ ما أدَّى إلى تعميق الهوة بين مكونات مختلف المجتمع السويدي. يأتي ذلك في وقت كشفت فيه وسائل إعلام محلية أن 200 طفل من أصل 240 سُحِبوا من عائلاتهم في عام 2022 وحده انخرطوا في أعمال إجرامية، ليتبين إنهم يتعرضون للتجنيد داخل دور الرعاية نفسها. فهؤلاء الأطفال المهمشون والمحرومون يجدون أنفسهم مستهدَفين من قبل عصابات الجريمة المنظمة التي تستغل ظروفهم. وتترجم هذه الظاهرة بوضوح في زيادة عدد العصابات وجرائم العنف وإطلاق النار في الضواحي التي يقطنها المهاجرون؛ ما يعود ويكرس الصورة النمطية عنهم، ويرفع الخطاب الشعبوي ضدهم. وبسبب فقدان الثقة واعتماد لغة «هم ونحن»، تمتنع الأسر المهاجرة عن المشاركة بفعالية في جهود الدولة لوقف تجنيد الأطفال، فيدور الجميع في حلقة مفرغة.

وفي النهاية، آثر بارودي الرحيل، معتبراً أن هذه العوامل المتراكمة تجعل الحياة تبدو وكأنها «هروب من سجن كبير، حيث يشعر المهاجرون بعدم الانتماء والاستبعاد، ويعيشون في حالة من التوتر والقلق المستمرين، ما يزيد من الشقاق والتمييز ضدهم».

معضلة النمو السكاني

وهناك مفارقة تكمن في اعتماد السويد على الهجرة الوافدة للحفاظ على نموها السكاني والإبقاء على شريحة عمرية شابة ومنتجة اقتصادياً، لكنها تبدو أمام معضلة حقيقية؛ فلا هي قادرة على الحفاظ على الوافدين أو اللاجئين إليها ولا على نسبة ولادات معقولة، كما أنها قامت برفض آلاف طلبات الإقامة.

وكشفت بيانات هيئة الإحصاءات أن 100 ألف و100 طفل فقط وُلِدوا في 2023، أي أقل بـ4 آلاف و700 ولادة من عام 2022. ومقارنة بعام 2021، يقل العدد بنحو 14 ألف ولادة. وتقول غوادالوبي أندرسون، خبيرة الإحصاءات السكانية في هيئة الإحصاء السويدية: «لدينا إحصاءات شهرية حول الولادات لكل امرأة منذ عام 1990. وجاء عدد الولادات لكل امرأة في سن الإنجاب لشهر يناير (كانون الثاني) الماضي الأقل منذ بداية تدوين الإحصائيات».

تظاهرة في مالمو ضد سياسات إعادة لاجئين من العراق وأفغانستان إلى بلدانهم لأنها ليست آمنة في منتصف 2017 (غيتي)

كذلك تُظهر أرقام مصلحة الهجرة السويدية انخفاض عدد تصاريح الإقامة الممنوحة بنحو 40 ألفاً مقارنة بعام 2022. وفي المجمل، وافقت وكالة الهجرة على 102 ألف طلب تصريح إقامة في 2023، مُنحت بغالبيتها للعمل والأقارب والدراسة، في حين أن الفئة الكبيرة تاريخياً من طالبي اللجوء مستمرة في الانخفاض.

وفي الوقت نفسه، كثفت السلطة العمل على إلغاء تصاريح الإقامة الممنوحة؛ إذ تم إلغاء ما يقرب من 11 ألف إقامة في 2023.

واللافت أن بلدان الاتحاد الأوروبي تشهد ارتفاعاً في عدد طلبات اللجوء وسجلت زيادة بنحو 18 في المائة في 2023، بينما يتناقص عدد طلبات اللجوء إلى السويد؛ إذ تراجعت بنسبة 26 في المائة خلال الربع الأول من 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

تقرير من «معهد دراسة المستقبل» يرى أن هذا يترك تأثيراً على المجتمعات الصغيرة والمناطق الريفية والأجزاء الشمالية من البلاد، أو ما يُسمى «نورلاند» المكونة من 5 مقاطعات (نوربوتن، فاستربوتن، جامتلاند، فاسترنورلاند، جافليبورج). تغطي هذه المقاطعات معاً 58 في المائة من مساحة السويد، ويعيش فيها نحو 1.2 مليون شخص، وتبلغ الكثافة السكانية بين 3 و5 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. لذلك بدأت تظهر مشاكل التوظيف، وتراجع التجارة، وتباطؤ البناء، والزيادات الكبيرة في الضرائب بالبلديات التي تعاني من انخفاض عدد السكان، وشيخوختهم.

محمد برهمجي (اقتصادي) يرى أن تأثير الهجرة العكسية يظهر بأشكال مختلفة على الاقتصاد السويدي، منها: «نقص اليد العاملة، وتأثر بعض القطاعات الإنتاجية التي تقوم على المهاجرين؛ ما يعيق الاقتصاد في النهاية».

ويضيف محمد: «يساهم المهاجرون في الابتكار والتنوع الثقافي والاقتصادي. وفقدانهم يقلل من التنوع في سوق العمل، بالإضافة إلى الأثر البالغ على الديموغرافيا، خصوصاً مع الشيخوخة السكانية».

وكانت السويد شهدت، في عام 2015، ما عُرِف بـ«أزمة لاجئين»؛ إذ وصل عدد طالبي اللجوء إلى أكثر من 160 ألف شخص، بينهم 50 ألفاً من سوريا وحدها.

ويعتبر هذا العدد أكثر بضعف ونصف من عدد المتقدمين في 2010 فيما تُقدَّر زيادة السوريين بنحو 20 ألفاً عن عام 2014، الذي سجل 30 ألف طلب من السوريين وحدهم. ومنذ ذلك الحين، استمرت الطلبات السورية في تصدُّر القائمة حتى عام 2021، عندما ارتفعت أعداد الأفغان بعد انسحاب الولايات المتحدة من بلدهم.

وقبل ذلك، كانت السويد سجلت ذروة في عام 2007، مع وصول عدد طالبي اللجوء إلى نحو 36 ألف شخص، نصفهم من العراقيين.

العيش في هوامش الشأن العام

«تجربتي مختلفة في نواحٍ كثيرة عن أزمة اللجوء في 2015، وإن كانت أسباب الرحيل عن البلد الأصلي متشابهة»، يقول حسام موصللي كاتب ومترجم سوري حاصل على إقامة الكتابة الأدبية في عام 2016، بعد انتهاء منحته، تابع موصللي دراسته العليا في إحدى الجامعات السويدية بتخصص العلاقات الدولية، واختار منذ فترة وجيزة الانتقال إلى مصر.

ويقول: «لم أحتكَّ كثيراً مع (السيستم) الخاص باللجوء وتعقيداته وفترات انتظاره الضبابية واللانهائية. قضيتُ في السويد قرابة 7 أعوام، لدي فيها أصدقاء يُعدّون على الأصابع، لكن قد يستغرق الوصول إلى بعضهم 7 ساعات من حيث كنت أقيم في مالمو، جنوباً».

لاجىء أربعيني يتناول طعامه وحيداً في أحد مراكز استقبال الوافدين في كلادسهولمن في السويد، في فبراير (شباط) 2016 (غيتي)

ويضيف حسام: «بحكم عملي ودراستي أنا معنيّ بشؤون عربية متنوعة، وفي السويد كان شعوري الدائم بعدم الإنجاز، وبأنني في الهامش. وقد زال ذلك في لحظات، وبمجرد زيارة لأول مكتبة في بلاد ناطقة بالعربية وإدراك أهمية الاعتراف بك وبمساهماتك وعملك مهما كان بسيطاً، وهي أشياء تكاد تغيب في بلاد يكون المرء فيها وحيداً، وبعيداً عن أي حاضنة اجتماعية أو روابط مهنية، وعاجزاً عن التفاعل الحقيقي مع دوائرها الثقافية والفكرية وليس فقط في الهوامش وضمن الأطر المعزولة أو الموازية التي نخلقها لأنفسنا بوصفنا مهاجرين».

كذلك يلفت حسام إلى أن عامل الطقس كان حاسماً في اتخاذ قراره بالرحيل. ويقول إن «البحث عن الشمس، عن الدفء الفعلي والاجتماعي والألفة الثقافية. بالطبع تحضر العنصرية كأحد أسباب الرحيل المباشرة»، وهي تعمق تلك الغربة الاجتماعية وتزيد من حدتها، لأن الأفراد والعائلات يضطرون إلى «الاختفاء»، كما يقول حسام، تفادياً لأن يصبحوا هم «الآخَر». ويختم حسام بالقول: «المثير للذعر حقاً أن صندوق الاقتراع يحمل حكومة يتحكم اليمين المتطرف بكل مفاصلها، لما يكشفه من مؤشرات اجتماعية صادمة، لكون هذا الصندوق عملياً انعكاساً حراً وديمقراطياً».