«هجرات معاكسة» من السويد بحثاً عن الشمس والاعتراف

وافدون يكابدون العزلة ويخافون صعود اليمين و«السوسيال»

شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
TT

«هجرات معاكسة» من السويد بحثاً عن الشمس والاعتراف

شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)

وصلت عزة ح. (35 عاماً)، إلى السويد قبل 11 عاماً، عن طريق لمّ الشمل مع زوجها، وقامت باستثمار كثير من الوقت في تعلم اللغة السويدية، ومعادلة شهادتها الجامعية ودراسة مجموعة إضافية من المساقات التي تؤهلها للدخول إلى سوق العمل مجدداً ممرضةً، معتبرةً أن ما حصل معها في السويد «عبارة عن حلم، لم يكن ليتحقق في أي مكان آخر في العالم».

وتقول عزة: «السويد بلد الفرص، لمن يعرف كيف يستثمرها. فما توفره الدولة هُنا، لا يمكن مقارنته بأي بلد ثانٍ، وهذا سبب انتقالنا إلى السويد».

لكن، ورغم ذلك، تخطط عزة اليوم لـ«هجرة ثانية» إلى المملكة العربية السعودية حيث وُلِدت وترعرعت لعائلة سورية. وفي حديثها مع «الشرق الأوسط» تستذكر كيف بدأت تفكر بذلك، فتقول: «في البداية كنا منهمكين في بناء حياة جديدة، لكن مع الوقت افتقدنا الروابط الاجتماعية. العلاقة بين المواطنين والقادمين الجدد كارثية خصوصاً بالنسبة لشخص مثلي. هنا نعيش حياة باهتة فلا نلقى تفاعلاً اجتماعياً، أو قبولاً. القيم والأعراف الفردية المطلقة تهيمن على المجتمع السويدي، وبالنسبة لنا كمهاجرين، الفردية القصوى ليست بديهية، نحن أكثر ارتباطاً بالجماعة، وغالباً ما يرتبط الناس بالعائلة أو العشيرة أو المنطقة بأشكال مختلفة من التسلسل الهرمي الاجتماعي».

تروي عزة بشيء من الإحباط كيف أنها حتى الآن لا تملك «رقم هاتف شخص سويدي واحد بعد كل هذه المدة»، وتسأل: «هل يُعقل ذلك؟! لم أختبر معنى أن أتحدث مع مواطن حول أمور الحياة العادية».

تغير مفهوم الاندماج

في الماضي، شهدت السويد موجات من المهاجرين، وعملت على دمجهم وكانت هناك رغبة مجتمعية في مساعدة المهاجرين على الاندماج، وقد اختبر العراقيون الذين وفدوا بعد 2003 تلك الحالة إلى حد بعيد. وفي عملية الاندماج تلك، غالباً ما يتخلى الفرد عن الخصال المجتمعية والثقافية التي يحملها ويتكيف مع أعراف المجتمع المضيف وتقاليده.

لكن اليوم تحول التركيز إلى ترسيخ مفهوم التنوع الثقافي والمجتمع المتعدد، بهدف ألا يضطر أي شخص للتخلي عن هويته الخاصة مقابل فرص اقتصادية واجتماعية وسياسية متساوية في المجتمع المضيف. فكان لذلك أثر سلبي أيضاً لكونه يحصر الوافدين في دوائر مغلقة. وبحسب عزة، يصبح المهاجر «محاصَراً»، لأن المواطن السويدي «لا يرى ضرورة للاندماج أو التواصل على المستوى الفردي، ويترك المهمة للدولة والبرامج الممولة، التي في الغالب تكون نتائجها مخيبة».

مركز تعليم لغة سويدية وتدريب على الاندماج الاجتماعي للوافدين الجدد واللاجئين (غيتي)

وفي الوقت نفسه تُعتبر سياسة الاندماج موضوعاً ساخناً في وسائل الإعلام، والغرف السياسية، خصوصاً مع تصاعد اليمين المتطرف ووصول أحزابه إلى السلطة في عدد من البلدان الأوروبية، وليس فقط في السويد. وتقول عزة: «يتم تحميلنا مسؤولية العزلة التي نعيشها هنا، والبطالة، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والصحية الناجمة عن فشل إدماجنا، فتحولنا بدورنا إلى قضية سياسية توصل أحزاب اليمين إلى السلطة».

أمام هذا كله، ترى عزة أنها لم تعد مضطرة للتحمل أكثر، وتقول: «نعيش الحاضر ونحاول التغلب على العزلة والاكتئاب بممارسة اليوغا، أو المشي مسافات طويلة في الغابة، أو الجري في الصالات المغلقة، أو الذهاب إلى حفلات موسيقية رديئة في الغالب، ونوثق هذه اللحظات على وسائل التواصل الاجتماعي، لإيهام أنفسنا بأننا بخير وللحصول على جرعة من الأمل».

وليست عزة حالة منفردة في السويد، فـ«الهجرة المعاكسة» باتت ظاهرة، خصوصاً في أوساط الوافدين واللاجئين. وأظهرت أرقام هيئة الإحصاء الوطني السويدية أن عدد المهاجرين الذين غادروا البلاد في عام 2022 بلغ 50 ألفاً و592 شخصاً، شكل المولودون في السويد من أبوين سويديَيْن نسبة 37 في المائة منهم لأسباب متنوعة.

ومع نهاية عام 2023، تم تسجيل أكثر من 66 ألف شخص مهاجراً من السويد (أي أنه غادر لأكثر من عام وشطب من سجلات المقيمين)، وهذه أرقام مقلقة ترافقت مع انخفاض عدد الولادات إلى معدلات غير مسبوقة أيضاً أدت إلى تراجع النمو السكاني ليصبح الأدنى منذ عام 2001.

نحن وهم... و«السوسيال»

المهندس عامر بارودي، الذي انتقل للعيش في بلد خليجي قبل عامين، يروي تجربته في الهجرة من السويد، بعدما قضى فيها مع عائلته 8 سنوات. ويرى أن الانتقال كان أكثر ملاءمة له ولعائلته من جميع النواحي بالإضافة إلى الأمان الاجتماعي وإمكانية تربية الأطفال بحسب القيم والعادات والتقاليد العربية.

ويشير بارودي إلى أن أحد الأمور الحاسمة التي دفعته إلى اتخاذ قرار الهجرة المعاكسة صعود اليمين المتطرف في السويد، ومشاركته في وضع سياسات الهجرة، والتضييق المتزايد على المهاجرين، من خلال مشاريع قوانين وأحكام تجعل من الصعب عليهم الاندماج. ويقول: «الخطاب العنصري متصاعد على المستويين الرسمي والمجتمعي حتى وصل إلى بيئة العمل الرسمية، مع مؤشرات كثيرة للعنصرية المؤسساتية».

ويتابع بارودي قوله: «خطاب الكراهية يبدأ من قمة السلطة السياسية، حيث يصنف المهاجرون مواطنين من الدرجة الثانية، ويسهل الطعن في وطنيتهم وولائهم للسويد، واتهامهم بأنهم غير مستعدين للدفاع عنها في حالة الحرب، بالإضافة إلى الحديث المتكرر عن سحب الجنسيات الممنوحة لهم، وفرض مناطق أمنية يسمح فيها للشرطة بتفتيشهم وأطفالهم في أي مكان عام، من دون وجود شبهة جريمة».

وفي بعض المناطق، يجوز للشرطة تفتيش الأشخاص والمركبات بحثاً عن أسلحة أو ممنوعات فيما لا يسمح لها عادة بالتفتيش بلا إذن، وما لم يكن هناك «سبب موجب للافتراض» بأن مخالفة ما أو جريمة قد ارتُكِبت بالفعل.

وفي سياق التجاذبات بين المهاجرين وممثلي المؤسسات الرسمية، يشير بارودي إلى مسألة مهمة، هي دور جهاز الرعاية الاجتماعية (السوسيال) والصورة السلبية عنه التي ترافقت مع تصاعد حملات معادية على وسائل التواصل الاجتماعي مقابل غياب تام لأي خطاب رسمي هادئ يوضح دوره ويفسر أداءه. وقد عمَّت مؤخراً حالة من الرعب بين أوساط المهاجرين مما سمي «خطف الأطفال» (المسلمين بشكل خاص) أدَّت إلى اتخاذ قرار جماعي بمغادرة البلاد أو البحث عن بدائل.

تظاهرة لجاليات مسلمة في مالمو ضد الـ "سوسيال" تطالب بعدم "خطف" الأولاد من أسرهم وسط حملة شرسة تعرضت لها مؤسسة الرعاية الاجتماعية السويدية في 2022 (غيتي)

وكانت هذه المؤسسة تشكلت، مطلع التسعينات، بصلاحيات واسعة تتخطى أحياناً قرارات المحكمة الإدارية بحيث يسمح لها بسحب الأطفال من عائلاتهم إذا ما تعرضوا لسوء معاملة، أو إذا تبين أن بيئة أسرهم غير ملائمة للأطفال واليافعين لأسباب تتراوح بين العنف الأسري أو إدمان المخدرات أو غير ذلك مما يعرِّض الأطفال لمخاطر جسدية ونفسية. وكانت السنوات الخمس الماضية شهدت «ذروة» في سحب أطفال من عائلاتهم، غالبيتهم من أصول مهاجرة، وإيداعهم إما في دور رعاية للدولة أو لدى أسر مضيفة. وتعتبر المؤسسة في المقابل أنها لا تسعى إلى «استهداف» المهاجرين بشكل خاص أو طريقة ممنهجة، وإنما الأمر نسبة وتناسب، وبالتالي فإن الأعداد قد تبدو أعلى بين فئات أكثر من فئات أخرى.

وكان لافتاً طريقة إدارة الأزمة التي نشأت حول دور «السوسيال»، والتجاوزات الكثيرة التي سُجّلت في عمل موظفيه، ثم التكتم وغياب الشفافية في الرد المتأخر من الجهات المسؤولة، وتصوير الأمر فقط على أنه حملة تستهدف أمن السويد؛ ما أدَّى إلى تعميق الهوة بين مكونات مختلف المجتمع السويدي. يأتي ذلك في وقت كشفت فيه وسائل إعلام محلية أن 200 طفل من أصل 240 سُحِبوا من عائلاتهم في عام 2022 وحده انخرطوا في أعمال إجرامية، ليتبين إنهم يتعرضون للتجنيد داخل دور الرعاية نفسها. فهؤلاء الأطفال المهمشون والمحرومون يجدون أنفسهم مستهدَفين من قبل عصابات الجريمة المنظمة التي تستغل ظروفهم. وتترجم هذه الظاهرة بوضوح في زيادة عدد العصابات وجرائم العنف وإطلاق النار في الضواحي التي يقطنها المهاجرون؛ ما يعود ويكرس الصورة النمطية عنهم، ويرفع الخطاب الشعبوي ضدهم. وبسبب فقدان الثقة واعتماد لغة «هم ونحن»، تمتنع الأسر المهاجرة عن المشاركة بفعالية في جهود الدولة لوقف تجنيد الأطفال، فيدور الجميع في حلقة مفرغة.

وفي النهاية، آثر بارودي الرحيل، معتبراً أن هذه العوامل المتراكمة تجعل الحياة تبدو وكأنها «هروب من سجن كبير، حيث يشعر المهاجرون بعدم الانتماء والاستبعاد، ويعيشون في حالة من التوتر والقلق المستمرين، ما يزيد من الشقاق والتمييز ضدهم».

معضلة النمو السكاني

وهناك مفارقة تكمن في اعتماد السويد على الهجرة الوافدة للحفاظ على نموها السكاني والإبقاء على شريحة عمرية شابة ومنتجة اقتصادياً، لكنها تبدو أمام معضلة حقيقية؛ فلا هي قادرة على الحفاظ على الوافدين أو اللاجئين إليها ولا على نسبة ولادات معقولة، كما أنها قامت برفض آلاف طلبات الإقامة.

وكشفت بيانات هيئة الإحصاءات أن 100 ألف و100 طفل فقط وُلِدوا في 2023، أي أقل بـ4 آلاف و700 ولادة من عام 2022. ومقارنة بعام 2021، يقل العدد بنحو 14 ألف ولادة. وتقول غوادالوبي أندرسون، خبيرة الإحصاءات السكانية في هيئة الإحصاء السويدية: «لدينا إحصاءات شهرية حول الولادات لكل امرأة منذ عام 1990. وجاء عدد الولادات لكل امرأة في سن الإنجاب لشهر يناير (كانون الثاني) الماضي الأقل منذ بداية تدوين الإحصائيات».

تظاهرة في مالمو ضد سياسات إعادة لاجئين من العراق وأفغانستان إلى بلدانهم لأنها ليست آمنة في منتصف 2017 (غيتي)

كذلك تُظهر أرقام مصلحة الهجرة السويدية انخفاض عدد تصاريح الإقامة الممنوحة بنحو 40 ألفاً مقارنة بعام 2022. وفي المجمل، وافقت وكالة الهجرة على 102 ألف طلب تصريح إقامة في 2023، مُنحت بغالبيتها للعمل والأقارب والدراسة، في حين أن الفئة الكبيرة تاريخياً من طالبي اللجوء مستمرة في الانخفاض.

وفي الوقت نفسه، كثفت السلطة العمل على إلغاء تصاريح الإقامة الممنوحة؛ إذ تم إلغاء ما يقرب من 11 ألف إقامة في 2023.

واللافت أن بلدان الاتحاد الأوروبي تشهد ارتفاعاً في عدد طلبات اللجوء وسجلت زيادة بنحو 18 في المائة في 2023، بينما يتناقص عدد طلبات اللجوء إلى السويد؛ إذ تراجعت بنسبة 26 في المائة خلال الربع الأول من 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

تقرير من «معهد دراسة المستقبل» يرى أن هذا يترك تأثيراً على المجتمعات الصغيرة والمناطق الريفية والأجزاء الشمالية من البلاد، أو ما يُسمى «نورلاند» المكونة من 5 مقاطعات (نوربوتن، فاستربوتن، جامتلاند، فاسترنورلاند، جافليبورج). تغطي هذه المقاطعات معاً 58 في المائة من مساحة السويد، ويعيش فيها نحو 1.2 مليون شخص، وتبلغ الكثافة السكانية بين 3 و5 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. لذلك بدأت تظهر مشاكل التوظيف، وتراجع التجارة، وتباطؤ البناء، والزيادات الكبيرة في الضرائب بالبلديات التي تعاني من انخفاض عدد السكان، وشيخوختهم.

محمد برهمجي (اقتصادي) يرى أن تأثير الهجرة العكسية يظهر بأشكال مختلفة على الاقتصاد السويدي، منها: «نقص اليد العاملة، وتأثر بعض القطاعات الإنتاجية التي تقوم على المهاجرين؛ ما يعيق الاقتصاد في النهاية».

ويضيف محمد: «يساهم المهاجرون في الابتكار والتنوع الثقافي والاقتصادي. وفقدانهم يقلل من التنوع في سوق العمل، بالإضافة إلى الأثر البالغ على الديموغرافيا، خصوصاً مع الشيخوخة السكانية».

وكانت السويد شهدت، في عام 2015، ما عُرِف بـ«أزمة لاجئين»؛ إذ وصل عدد طالبي اللجوء إلى أكثر من 160 ألف شخص، بينهم 50 ألفاً من سوريا وحدها.

ويعتبر هذا العدد أكثر بضعف ونصف من عدد المتقدمين في 2010 فيما تُقدَّر زيادة السوريين بنحو 20 ألفاً عن عام 2014، الذي سجل 30 ألف طلب من السوريين وحدهم. ومنذ ذلك الحين، استمرت الطلبات السورية في تصدُّر القائمة حتى عام 2021، عندما ارتفعت أعداد الأفغان بعد انسحاب الولايات المتحدة من بلدهم.

وقبل ذلك، كانت السويد سجلت ذروة في عام 2007، مع وصول عدد طالبي اللجوء إلى نحو 36 ألف شخص، نصفهم من العراقيين.

العيش في هوامش الشأن العام

«تجربتي مختلفة في نواحٍ كثيرة عن أزمة اللجوء في 2015، وإن كانت أسباب الرحيل عن البلد الأصلي متشابهة»، يقول حسام موصللي كاتب ومترجم سوري حاصل على إقامة الكتابة الأدبية في عام 2016، بعد انتهاء منحته، تابع موصللي دراسته العليا في إحدى الجامعات السويدية بتخصص العلاقات الدولية، واختار منذ فترة وجيزة الانتقال إلى مصر.

ويقول: «لم أحتكَّ كثيراً مع (السيستم) الخاص باللجوء وتعقيداته وفترات انتظاره الضبابية واللانهائية. قضيتُ في السويد قرابة 7 أعوام، لدي فيها أصدقاء يُعدّون على الأصابع، لكن قد يستغرق الوصول إلى بعضهم 7 ساعات من حيث كنت أقيم في مالمو، جنوباً».

لاجىء أربعيني يتناول طعامه وحيداً في أحد مراكز استقبال الوافدين في كلادسهولمن في السويد، في فبراير (شباط) 2016 (غيتي)

ويضيف حسام: «بحكم عملي ودراستي أنا معنيّ بشؤون عربية متنوعة، وفي السويد كان شعوري الدائم بعدم الإنجاز، وبأنني في الهامش. وقد زال ذلك في لحظات، وبمجرد زيارة لأول مكتبة في بلاد ناطقة بالعربية وإدراك أهمية الاعتراف بك وبمساهماتك وعملك مهما كان بسيطاً، وهي أشياء تكاد تغيب في بلاد يكون المرء فيها وحيداً، وبعيداً عن أي حاضنة اجتماعية أو روابط مهنية، وعاجزاً عن التفاعل الحقيقي مع دوائرها الثقافية والفكرية وليس فقط في الهوامش وضمن الأطر المعزولة أو الموازية التي نخلقها لأنفسنا بوصفنا مهاجرين».

كذلك يلفت حسام إلى أن عامل الطقس كان حاسماً في اتخاذ قراره بالرحيل. ويقول إن «البحث عن الشمس، عن الدفء الفعلي والاجتماعي والألفة الثقافية. بالطبع تحضر العنصرية كأحد أسباب الرحيل المباشرة»، وهي تعمق تلك الغربة الاجتماعية وتزيد من حدتها، لأن الأفراد والعائلات يضطرون إلى «الاختفاء»، كما يقول حسام، تفادياً لأن يصبحوا هم «الآخَر». ويختم حسام بالقول: «المثير للذعر حقاً أن صندوق الاقتراع يحمل حكومة يتحكم اليمين المتطرف بكل مفاصلها، لما يكشفه من مؤشرات اجتماعية صادمة، لكون هذا الصندوق عملياً انعكاساً حراً وديمقراطياً».


مقالات ذات صلة

ترحيل المهاجرين ضمن مهام ترمب في أول أيامه الرئاسية

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

ترحيل المهاجرين ضمن مهام ترمب في أول أيامه الرئاسية

قالت ثلاثة مصادر مطلعة لـ«رويترز» إنه من المتوقع أن يتخذ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب عدة إجراءات تنفيذية في أول أيام رئاسته لإنفاذ قوانين الهجرة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (رويترز)

ترمب: لن يكون أمامنا خيار سوى تنفيذ «ترحيل جماعي» للمهاجرين غير الشرعيين

قال الرئيس الأميركي المنتخب إن قضية الحدود تعد إحدى أولوياته القصوى، وإن إدارته لن يكون أمامها خيار سوى تنفيذ عمليات «ترحيل جماعي» للمهاجرين غير الشرعيين.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ مهاجرون يستمعون إلى التوجيهات قبل عبور الحدود من المكسيك إلى إل باسو بولاية تكساس الأميركية (أ.ف.ب)

الهجرة غير الشرعية تتراجع مع ارتفاع حدة الخطاب الانتخابي الأميركي

تبدو ضفاف نهر يفصل بين المكسيك وأميركا شبه مهجورة، وغدت ملاجئ مخصصة للمهاجرين شبه خاوية، بعد أن كانت مكتظة سابقاً، نتيجة سياسات أميركية للهجرة باتت أكثر صرامة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا السويد تعزز المساعدات للدول القريبة من مناطق النزاع في محاولة لخفض تدفق المهاجرين (إ.ب.أ)

الحكومة السويدية تخصص مساعدات إنمائية للدول التي يتدفق منها المهاجرون

أعلنت السويد أنها ستعزز المساعدات للدول القريبة من مناطق النزاع وعلى طرق الهجرة، في أول بادرة من نوعها تربط بين المساعدات الإنمائية ومحاولة خفض تدفق المهاجرين.

«الشرق الأوسط» (ستوكهولم)
أوروبا مبنى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (رويترز)

القضاء الأوروبي يدين قبرص لإعادتها لاجئيْن سورييْن إلى لبنان

دانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، الثلاثاء، قبرص لاعتراضها في البحر لاجئيْن سورييْن وإعادتهما إلى لبنان، دون النظر في طلب اللجوء الخاص بهما.

«الشرق الأوسط» (ستراسبورغ)

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.