«هجرات معاكسة» من السويد بحثاً عن الشمس والاعتراف

وافدون يكابدون العزلة ويخافون صعود اليمين و«السوسيال»

شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
TT

«هجرات معاكسة» من السويد بحثاً عن الشمس والاعتراف

شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)
شبان لاجئون يتوجهون إلى ملعب كرة قدم في كلادسهولمن، السويد (غيتي)

وصلت عزة ح. (35 عاماً)، إلى السويد قبل 11 عاماً، عن طريق لمّ الشمل مع زوجها، وقامت باستثمار كثير من الوقت في تعلم اللغة السويدية، ومعادلة شهادتها الجامعية ودراسة مجموعة إضافية من المساقات التي تؤهلها للدخول إلى سوق العمل مجدداً ممرضةً، معتبرةً أن ما حصل معها في السويد «عبارة عن حلم، لم يكن ليتحقق في أي مكان آخر في العالم».

وتقول عزة: «السويد بلد الفرص، لمن يعرف كيف يستثمرها. فما توفره الدولة هُنا، لا يمكن مقارنته بأي بلد ثانٍ، وهذا سبب انتقالنا إلى السويد».

لكن، ورغم ذلك، تخطط عزة اليوم لـ«هجرة ثانية» إلى المملكة العربية السعودية حيث وُلِدت وترعرعت لعائلة سورية. وفي حديثها مع «الشرق الأوسط» تستذكر كيف بدأت تفكر بذلك، فتقول: «في البداية كنا منهمكين في بناء حياة جديدة، لكن مع الوقت افتقدنا الروابط الاجتماعية. العلاقة بين المواطنين والقادمين الجدد كارثية خصوصاً بالنسبة لشخص مثلي. هنا نعيش حياة باهتة فلا نلقى تفاعلاً اجتماعياً، أو قبولاً. القيم والأعراف الفردية المطلقة تهيمن على المجتمع السويدي، وبالنسبة لنا كمهاجرين، الفردية القصوى ليست بديهية، نحن أكثر ارتباطاً بالجماعة، وغالباً ما يرتبط الناس بالعائلة أو العشيرة أو المنطقة بأشكال مختلفة من التسلسل الهرمي الاجتماعي».

تروي عزة بشيء من الإحباط كيف أنها حتى الآن لا تملك «رقم هاتف شخص سويدي واحد بعد كل هذه المدة»، وتسأل: «هل يُعقل ذلك؟! لم أختبر معنى أن أتحدث مع مواطن حول أمور الحياة العادية».

تغير مفهوم الاندماج

في الماضي، شهدت السويد موجات من المهاجرين، وعملت على دمجهم وكانت هناك رغبة مجتمعية في مساعدة المهاجرين على الاندماج، وقد اختبر العراقيون الذين وفدوا بعد 2003 تلك الحالة إلى حد بعيد. وفي عملية الاندماج تلك، غالباً ما يتخلى الفرد عن الخصال المجتمعية والثقافية التي يحملها ويتكيف مع أعراف المجتمع المضيف وتقاليده.

لكن اليوم تحول التركيز إلى ترسيخ مفهوم التنوع الثقافي والمجتمع المتعدد، بهدف ألا يضطر أي شخص للتخلي عن هويته الخاصة مقابل فرص اقتصادية واجتماعية وسياسية متساوية في المجتمع المضيف. فكان لذلك أثر سلبي أيضاً لكونه يحصر الوافدين في دوائر مغلقة. وبحسب عزة، يصبح المهاجر «محاصَراً»، لأن المواطن السويدي «لا يرى ضرورة للاندماج أو التواصل على المستوى الفردي، ويترك المهمة للدولة والبرامج الممولة، التي في الغالب تكون نتائجها مخيبة».

مركز تعليم لغة سويدية وتدريب على الاندماج الاجتماعي للوافدين الجدد واللاجئين (غيتي)

وفي الوقت نفسه تُعتبر سياسة الاندماج موضوعاً ساخناً في وسائل الإعلام، والغرف السياسية، خصوصاً مع تصاعد اليمين المتطرف ووصول أحزابه إلى السلطة في عدد من البلدان الأوروبية، وليس فقط في السويد. وتقول عزة: «يتم تحميلنا مسؤولية العزلة التي نعيشها هنا، والبطالة، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والثقافية والصحية الناجمة عن فشل إدماجنا، فتحولنا بدورنا إلى قضية سياسية توصل أحزاب اليمين إلى السلطة».

أمام هذا كله، ترى عزة أنها لم تعد مضطرة للتحمل أكثر، وتقول: «نعيش الحاضر ونحاول التغلب على العزلة والاكتئاب بممارسة اليوغا، أو المشي مسافات طويلة في الغابة، أو الجري في الصالات المغلقة، أو الذهاب إلى حفلات موسيقية رديئة في الغالب، ونوثق هذه اللحظات على وسائل التواصل الاجتماعي، لإيهام أنفسنا بأننا بخير وللحصول على جرعة من الأمل».

وليست عزة حالة منفردة في السويد، فـ«الهجرة المعاكسة» باتت ظاهرة، خصوصاً في أوساط الوافدين واللاجئين. وأظهرت أرقام هيئة الإحصاء الوطني السويدية أن عدد المهاجرين الذين غادروا البلاد في عام 2022 بلغ 50 ألفاً و592 شخصاً، شكل المولودون في السويد من أبوين سويديَيْن نسبة 37 في المائة منهم لأسباب متنوعة.

ومع نهاية عام 2023، تم تسجيل أكثر من 66 ألف شخص مهاجراً من السويد (أي أنه غادر لأكثر من عام وشطب من سجلات المقيمين)، وهذه أرقام مقلقة ترافقت مع انخفاض عدد الولادات إلى معدلات غير مسبوقة أيضاً أدت إلى تراجع النمو السكاني ليصبح الأدنى منذ عام 2001.

نحن وهم... و«السوسيال»

المهندس عامر بارودي، الذي انتقل للعيش في بلد خليجي قبل عامين، يروي تجربته في الهجرة من السويد، بعدما قضى فيها مع عائلته 8 سنوات. ويرى أن الانتقال كان أكثر ملاءمة له ولعائلته من جميع النواحي بالإضافة إلى الأمان الاجتماعي وإمكانية تربية الأطفال بحسب القيم والعادات والتقاليد العربية.

ويشير بارودي إلى أن أحد الأمور الحاسمة التي دفعته إلى اتخاذ قرار الهجرة المعاكسة صعود اليمين المتطرف في السويد، ومشاركته في وضع سياسات الهجرة، والتضييق المتزايد على المهاجرين، من خلال مشاريع قوانين وأحكام تجعل من الصعب عليهم الاندماج. ويقول: «الخطاب العنصري متصاعد على المستويين الرسمي والمجتمعي حتى وصل إلى بيئة العمل الرسمية، مع مؤشرات كثيرة للعنصرية المؤسساتية».

ويتابع بارودي قوله: «خطاب الكراهية يبدأ من قمة السلطة السياسية، حيث يصنف المهاجرون مواطنين من الدرجة الثانية، ويسهل الطعن في وطنيتهم وولائهم للسويد، واتهامهم بأنهم غير مستعدين للدفاع عنها في حالة الحرب، بالإضافة إلى الحديث المتكرر عن سحب الجنسيات الممنوحة لهم، وفرض مناطق أمنية يسمح فيها للشرطة بتفتيشهم وأطفالهم في أي مكان عام، من دون وجود شبهة جريمة».

وفي بعض المناطق، يجوز للشرطة تفتيش الأشخاص والمركبات بحثاً عن أسلحة أو ممنوعات فيما لا يسمح لها عادة بالتفتيش بلا إذن، وما لم يكن هناك «سبب موجب للافتراض» بأن مخالفة ما أو جريمة قد ارتُكِبت بالفعل.

وفي سياق التجاذبات بين المهاجرين وممثلي المؤسسات الرسمية، يشير بارودي إلى مسألة مهمة، هي دور جهاز الرعاية الاجتماعية (السوسيال) والصورة السلبية عنه التي ترافقت مع تصاعد حملات معادية على وسائل التواصل الاجتماعي مقابل غياب تام لأي خطاب رسمي هادئ يوضح دوره ويفسر أداءه. وقد عمَّت مؤخراً حالة من الرعب بين أوساط المهاجرين مما سمي «خطف الأطفال» (المسلمين بشكل خاص) أدَّت إلى اتخاذ قرار جماعي بمغادرة البلاد أو البحث عن بدائل.

تظاهرة لجاليات مسلمة في مالمو ضد الـ "سوسيال" تطالب بعدم "خطف" الأولاد من أسرهم وسط حملة شرسة تعرضت لها مؤسسة الرعاية الاجتماعية السويدية في 2022 (غيتي)

وكانت هذه المؤسسة تشكلت، مطلع التسعينات، بصلاحيات واسعة تتخطى أحياناً قرارات المحكمة الإدارية بحيث يسمح لها بسحب الأطفال من عائلاتهم إذا ما تعرضوا لسوء معاملة، أو إذا تبين أن بيئة أسرهم غير ملائمة للأطفال واليافعين لأسباب تتراوح بين العنف الأسري أو إدمان المخدرات أو غير ذلك مما يعرِّض الأطفال لمخاطر جسدية ونفسية. وكانت السنوات الخمس الماضية شهدت «ذروة» في سحب أطفال من عائلاتهم، غالبيتهم من أصول مهاجرة، وإيداعهم إما في دور رعاية للدولة أو لدى أسر مضيفة. وتعتبر المؤسسة في المقابل أنها لا تسعى إلى «استهداف» المهاجرين بشكل خاص أو طريقة ممنهجة، وإنما الأمر نسبة وتناسب، وبالتالي فإن الأعداد قد تبدو أعلى بين فئات أكثر من فئات أخرى.

وكان لافتاً طريقة إدارة الأزمة التي نشأت حول دور «السوسيال»، والتجاوزات الكثيرة التي سُجّلت في عمل موظفيه، ثم التكتم وغياب الشفافية في الرد المتأخر من الجهات المسؤولة، وتصوير الأمر فقط على أنه حملة تستهدف أمن السويد؛ ما أدَّى إلى تعميق الهوة بين مكونات مختلف المجتمع السويدي. يأتي ذلك في وقت كشفت فيه وسائل إعلام محلية أن 200 طفل من أصل 240 سُحِبوا من عائلاتهم في عام 2022 وحده انخرطوا في أعمال إجرامية، ليتبين إنهم يتعرضون للتجنيد داخل دور الرعاية نفسها. فهؤلاء الأطفال المهمشون والمحرومون يجدون أنفسهم مستهدَفين من قبل عصابات الجريمة المنظمة التي تستغل ظروفهم. وتترجم هذه الظاهرة بوضوح في زيادة عدد العصابات وجرائم العنف وإطلاق النار في الضواحي التي يقطنها المهاجرون؛ ما يعود ويكرس الصورة النمطية عنهم، ويرفع الخطاب الشعبوي ضدهم. وبسبب فقدان الثقة واعتماد لغة «هم ونحن»، تمتنع الأسر المهاجرة عن المشاركة بفعالية في جهود الدولة لوقف تجنيد الأطفال، فيدور الجميع في حلقة مفرغة.

وفي النهاية، آثر بارودي الرحيل، معتبراً أن هذه العوامل المتراكمة تجعل الحياة تبدو وكأنها «هروب من سجن كبير، حيث يشعر المهاجرون بعدم الانتماء والاستبعاد، ويعيشون في حالة من التوتر والقلق المستمرين، ما يزيد من الشقاق والتمييز ضدهم».

معضلة النمو السكاني

وهناك مفارقة تكمن في اعتماد السويد على الهجرة الوافدة للحفاظ على نموها السكاني والإبقاء على شريحة عمرية شابة ومنتجة اقتصادياً، لكنها تبدو أمام معضلة حقيقية؛ فلا هي قادرة على الحفاظ على الوافدين أو اللاجئين إليها ولا على نسبة ولادات معقولة، كما أنها قامت برفض آلاف طلبات الإقامة.

وكشفت بيانات هيئة الإحصاءات أن 100 ألف و100 طفل فقط وُلِدوا في 2023، أي أقل بـ4 آلاف و700 ولادة من عام 2022. ومقارنة بعام 2021، يقل العدد بنحو 14 ألف ولادة. وتقول غوادالوبي أندرسون، خبيرة الإحصاءات السكانية في هيئة الإحصاء السويدية: «لدينا إحصاءات شهرية حول الولادات لكل امرأة منذ عام 1990. وجاء عدد الولادات لكل امرأة في سن الإنجاب لشهر يناير (كانون الثاني) الماضي الأقل منذ بداية تدوين الإحصائيات».

تظاهرة في مالمو ضد سياسات إعادة لاجئين من العراق وأفغانستان إلى بلدانهم لأنها ليست آمنة في منتصف 2017 (غيتي)

كذلك تُظهر أرقام مصلحة الهجرة السويدية انخفاض عدد تصاريح الإقامة الممنوحة بنحو 40 ألفاً مقارنة بعام 2022. وفي المجمل، وافقت وكالة الهجرة على 102 ألف طلب تصريح إقامة في 2023، مُنحت بغالبيتها للعمل والأقارب والدراسة، في حين أن الفئة الكبيرة تاريخياً من طالبي اللجوء مستمرة في الانخفاض.

وفي الوقت نفسه، كثفت السلطة العمل على إلغاء تصاريح الإقامة الممنوحة؛ إذ تم إلغاء ما يقرب من 11 ألف إقامة في 2023.

واللافت أن بلدان الاتحاد الأوروبي تشهد ارتفاعاً في عدد طلبات اللجوء وسجلت زيادة بنحو 18 في المائة في 2023، بينما يتناقص عدد طلبات اللجوء إلى السويد؛ إذ تراجعت بنسبة 26 في المائة خلال الربع الأول من 2024، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

تقرير من «معهد دراسة المستقبل» يرى أن هذا يترك تأثيراً على المجتمعات الصغيرة والمناطق الريفية والأجزاء الشمالية من البلاد، أو ما يُسمى «نورلاند» المكونة من 5 مقاطعات (نوربوتن، فاستربوتن، جامتلاند، فاسترنورلاند، جافليبورج). تغطي هذه المقاطعات معاً 58 في المائة من مساحة السويد، ويعيش فيها نحو 1.2 مليون شخص، وتبلغ الكثافة السكانية بين 3 و5 نسمة في الكيلومتر المربع الواحد. لذلك بدأت تظهر مشاكل التوظيف، وتراجع التجارة، وتباطؤ البناء، والزيادات الكبيرة في الضرائب بالبلديات التي تعاني من انخفاض عدد السكان، وشيخوختهم.

محمد برهمجي (اقتصادي) يرى أن تأثير الهجرة العكسية يظهر بأشكال مختلفة على الاقتصاد السويدي، منها: «نقص اليد العاملة، وتأثر بعض القطاعات الإنتاجية التي تقوم على المهاجرين؛ ما يعيق الاقتصاد في النهاية».

ويضيف محمد: «يساهم المهاجرون في الابتكار والتنوع الثقافي والاقتصادي. وفقدانهم يقلل من التنوع في سوق العمل، بالإضافة إلى الأثر البالغ على الديموغرافيا، خصوصاً مع الشيخوخة السكانية».

وكانت السويد شهدت، في عام 2015، ما عُرِف بـ«أزمة لاجئين»؛ إذ وصل عدد طالبي اللجوء إلى أكثر من 160 ألف شخص، بينهم 50 ألفاً من سوريا وحدها.

ويعتبر هذا العدد أكثر بضعف ونصف من عدد المتقدمين في 2010 فيما تُقدَّر زيادة السوريين بنحو 20 ألفاً عن عام 2014، الذي سجل 30 ألف طلب من السوريين وحدهم. ومنذ ذلك الحين، استمرت الطلبات السورية في تصدُّر القائمة حتى عام 2021، عندما ارتفعت أعداد الأفغان بعد انسحاب الولايات المتحدة من بلدهم.

وقبل ذلك، كانت السويد سجلت ذروة في عام 2007، مع وصول عدد طالبي اللجوء إلى نحو 36 ألف شخص، نصفهم من العراقيين.

العيش في هوامش الشأن العام

«تجربتي مختلفة في نواحٍ كثيرة عن أزمة اللجوء في 2015، وإن كانت أسباب الرحيل عن البلد الأصلي متشابهة»، يقول حسام موصللي كاتب ومترجم سوري حاصل على إقامة الكتابة الأدبية في عام 2016، بعد انتهاء منحته، تابع موصللي دراسته العليا في إحدى الجامعات السويدية بتخصص العلاقات الدولية، واختار منذ فترة وجيزة الانتقال إلى مصر.

ويقول: «لم أحتكَّ كثيراً مع (السيستم) الخاص باللجوء وتعقيداته وفترات انتظاره الضبابية واللانهائية. قضيتُ في السويد قرابة 7 أعوام، لدي فيها أصدقاء يُعدّون على الأصابع، لكن قد يستغرق الوصول إلى بعضهم 7 ساعات من حيث كنت أقيم في مالمو، جنوباً».

لاجىء أربعيني يتناول طعامه وحيداً في أحد مراكز استقبال الوافدين في كلادسهولمن في السويد، في فبراير (شباط) 2016 (غيتي)

ويضيف حسام: «بحكم عملي ودراستي أنا معنيّ بشؤون عربية متنوعة، وفي السويد كان شعوري الدائم بعدم الإنجاز، وبأنني في الهامش. وقد زال ذلك في لحظات، وبمجرد زيارة لأول مكتبة في بلاد ناطقة بالعربية وإدراك أهمية الاعتراف بك وبمساهماتك وعملك مهما كان بسيطاً، وهي أشياء تكاد تغيب في بلاد يكون المرء فيها وحيداً، وبعيداً عن أي حاضنة اجتماعية أو روابط مهنية، وعاجزاً عن التفاعل الحقيقي مع دوائرها الثقافية والفكرية وليس فقط في الهوامش وضمن الأطر المعزولة أو الموازية التي نخلقها لأنفسنا بوصفنا مهاجرين».

كذلك يلفت حسام إلى أن عامل الطقس كان حاسماً في اتخاذ قراره بالرحيل. ويقول إن «البحث عن الشمس، عن الدفء الفعلي والاجتماعي والألفة الثقافية. بالطبع تحضر العنصرية كأحد أسباب الرحيل المباشرة»، وهي تعمق تلك الغربة الاجتماعية وتزيد من حدتها، لأن الأفراد والعائلات يضطرون إلى «الاختفاء»، كما يقول حسام، تفادياً لأن يصبحوا هم «الآخَر». ويختم حسام بالقول: «المثير للذعر حقاً أن صندوق الاقتراع يحمل حكومة يتحكم اليمين المتطرف بكل مفاصلها، لما يكشفه من مؤشرات اجتماعية صادمة، لكون هذا الصندوق عملياً انعكاساً حراً وديمقراطياً».


مقالات ذات صلة

الاعتقالات في المحاكم تشير إلى «تكتيك جديد» لإدارة ترمب

الولايات المتحدة​ مسؤولون قانونيون يرافقون مشتبهاً به من شقة إلى سيارة نقل خلال مداهمة في شرق دنفر (أ.ب)

الاعتقالات في المحاكم تشير إلى «تكتيك جديد» لإدارة ترمب

كشفت تقارير إعلامية أميركية عن تكتيك جديد في حملات الترحيل، يتمثل في تنفيذ اعتقالات مفاجئة للمهاجرين داخل أو فور خروجهم من قاعات المحاكم.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا مقتل عدد من السودانيين بالصحراء الليبية جنوب الكفرة أغسطس الماضي (جهاز الإسعاف والطوارئ الليبي)

وفاة 11 سودانياً في صحراء الكفرة الليبية بسبب العطش

وسط الصحراء الشاسعة بين ليبيا والسودان، لقي كثير من الفارّين من الحرب بالدولة المجاورة مصيراً غامضاً، بينما مات آخرون في حوادث متفرقة.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
الولايات المتحدة​ تأشيرة أميركية ملغاة في جواز سفر (رويترز- أرشيفية)

روبيو: أميركا ألغت آلاف التأشيرات

قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، الثلاثاء، إن عدد التأشيرات التي ألغتها الولايات المتحدة «ربما بالآلاف»، مضيفاً أنه يعتقد أنه لا يزال هناك مزيد لفعله.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا تتطاير أعلام الاتحاد الأوروبي خارج مقر المفوضية في بروكسل (رويترز)

الاتحاد الأوروبي يدرس مقترحاً يتيح ترحيل طالبي اللجوء لغير دولهم

اقترحت المفوضية الأوروبية، اليوم الثلاثاء، تعديل قانون يسمح للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بترحيل طالبي اللجوء المرفوضين إلى دول لا تربطهم بها أي صلة.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
خاص طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)

خاص الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

تلاقت اهتمامات الإدارة الأميركية مع السيطرة على الجامعات ومنع الحركات المناهضة لإسرائيل واستهداف المغتربين، وسريعاً بدأ التضييق والمراقبة و«الوصاية الأكاديمية».

لبنى الأمين

الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
TT

الحرب على الجامعات تُغيّر علاقة الدولة بإنتاج المعرفة في أميركا

طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)
طالبان بالكوفية الفلسطينية خلال «حفل تخرّج الشعب» الذي أُقيم تكريماً لمحمود خليل ومَن مُنعوا من المشاركة في حفل تخرجهم في جامعة كولومبيا 18 مايو الجاري (رويترز)

عدتُ إلى الولايات المتحدة في زيارة بعد انقطاع دام نحو العامين. قبل السفر، أرسلت لي صديقة أميركية وثيقة وضعتها الجمعيّة الأميركية لمحامي الاغتراب حول كيفية التعامل مع ما سمته «الواقع الجديد» عند نقاط الدخول إلى البلاد، الذي صار يشمل، كما ظهر في حالات تمّ تناقلها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قيام ضباط الهجرة والجوازات بتفتيش الأجهزة الإلكترونية للمسافرين. أما التدبير الأول الذي نصح به المحامون فكان استخدام أجهزة إلكترونية مخصَّصة للسفر تكون المعلومات الشخصية فيها قليلة. وتفسّر الوثيقة أنّ حاملي جوازات السفر الأميركية يمكن منعهم من الدخول إذا رفضوا مشاركة أجهزتهم وكلمات سرّها، بينما يحق للمواطنين رفض الإجابة عن الأسئلة، ولكن قد يؤدي ذلك إلى التأخير في إجراءات الدخول. تساءلتُ لدى وصولي إلى مطار شيكاغو عمّا يمكن أن يسألني عنه ضابط الهجرة، ورحت أستعد للإجابة، وكنتُ قد حصلت على الجنسية الأميركية منذ بضعة أعوام، ولكنه لم يسألني شيئاً.

الخوف في اليوميات

اكتشفت أن القلق الذي انتابني لدقائق معدودة في المطار يسود يوميات أصدقائي وزملائي السابقين الذين التقيتهم خلال زيارتي. حتى إنّ زميلةً أميركيةً (غير مجنّسة) أسرّت لي أنها في الآونة الأخيرة صارت تستفيق في منتصف الليل يؤرقها مستقبل الجامعة (نورثويسترن) ومستقبل عملها. فقد باشرت إدارة الرئيس دونالد ترمب منذ بداية ولايته بالتطبيق العملي لشعار رفعه نائبه جي دي فانس في 2021 هو «الجامعات هي العدو». وكان من أوّل الإجراءات التي اتخذتها تهديد جامعة كولومبيا في نيويورك بسحب التمويل الفيدرالي الذي تتلقاه والبالغ 400 مليون دولار.

طالبة أميركية مسلمة تضبط حجابها قبل الصعود إلى منصّة حفل التخرج من جامعة نيويورك في 15 مايو الجاري (رويترز)

هنا تلاقت اهتمامات الإدارة مع السيطرة على الجامعات، ومناهضة الحركات المناهضة لإسرائيل، واستهداف المغتربين كلها دفعة واحدة. إذ تمحورت معظم مطالبها حول ضبط حركات التظاهر الطلابية في حرم الجامعات، ومعاقبة المتظاهرين، خصوصاً المغتربين منهم، ووضع قسم «الدراسات الشرق أوسطية والأفريقية والجنوب آسيوية» في جامعة كولومبيا تحت «الوصاية الأكاديمية»، أي أنْ يخسر القسم استقلاليته وتراقبه الحكومة مباشرةً، في خطوة غير مسبوقة. وعملياً، انصاعت الجامعة لهذه المطالب.

كان من أبرز الاعتقالات التي نفذتها الإدارة الأميركية الجديدة إلقاء القبض على زعيم الحركة الاحتجاجية في كولومبيا، الطالب الفلسطيني محمود خليل، وهو لا يزال مهدَّداً بالترحيل مع أنه يحمل إقامة دائمة في الولايات المتحدة.

ولم يكن اعتقال خليل في حد ذاته هو ما أخاف الكثيرين فحسب، بل ما أثار الذعر خاصّة كانت الطريقة التي اعتُقل بها. فقد جرى ذلك في مدخل البناية التي يعيش فيها، ومن دون تحذير أو تفسير وأمام زوجته الحامل، ومن عملاء رفضوا تعريف أنفسهم أو الجهة التي يمثلونها، ومن ثمّ اختفاؤه لأشهر في مركز اعتقال في مدينة في ولاية لويزيانا البعيدة عن مكان سكنه. وهي طريقة وصفها خليل بأنها أشبه ما تكون بالخطف.

تهديد وسحب أوراق

وخلال زيارتي تلقيت إيميلاً من طالب دكتوراه في إحدى الجامعات الخاصة في نيويورك (لن أحددها للحفاظ على هويته)، وهو كان ناشطاً في الحركة الداعمة لفلسطين في جامعته، يخبرني فيه أنه يفكر بمغادرة البلاد لاستكمال أطروحته خارج الولايات المتحدة، على الرغم من أنّه سوف يخسر بذلك تأشيرة الدراسة والمنحة المالية التي تقدمها الجامعة. وقال الطالب في رسالته، وهو من جنسية عربية: «لا أخرج من بيتي خوفاً من أن يعتقلوني في الطريق. أخاف من كل طَرْقٍ على الباب». تلك أيضاً عبارة قالها لي أستاذ جامعي آخر يحمل جنسيتين، إحداهما أوروبية، ولعب دور المفاوض بين المتظاهرين الطلاب والإدارة في جامعة أخرى، موضحاً أنه يخاف أن يخرج من بيته مع ولده الصغير حين تكون زوجته مسافرة في حال اعترضه موظفو الأمن لاعتقاله ولم يعرفوا ماذا يفعلون بالولد فيسلّمونه لجهات حكومية.

طالبة تحمل علماً فلسطينياً خلال تدريبات حفل التخرج بجامعة يال في ولاية كونيتيكت 19 مايو الجاري (رويترز)

وقالت أستاذة أخرى من جنسية عربية كانت داعمة للحركات الطلابيّة في جامعتها إنّ محاميها يحذّرونها باستمرار من أنّ نشاطها السياسي هذا قد يؤثّر على فرصتها لنيل الجنسية الأميركية التي تقدّمت لها منذ فترة. فقد ورد اسمها في الوثائق التي حضّرها الكونغرس حول المظاهرات والتي أدرجها تحت تهمة «معاداة السامية». وتنتظر الأستاذة الجامعية الآن المقابلة التي تسبق الحصول على الجنسيّة بكثير من التوّجس والقلق.

تذكير بـ«تيانانمين»

وليس المغتربون من أصل عربي هم وحدهم الخائفون. فإحدى طالبات الدكتوراه الصينيات التي تدرّس مساقاً أكاديمياً عن «الحركة النسويّة المعادية للاستعمار في الصين» قالت إنها حذفت من مقررها بعض المواد التي قد تعد «راديكالية»، خوفاً من أن يؤثر ذلك على فرصتها في تجديد تأشيرتها الدراسية.

طالبة أخرى كورية تخاف من أن تتحدث بلغتها الأم خارج المنزل خوفاً من أن يظنّ الطلاب اليمينيون في الجامعة التي تقع في ولاية ويسكونسون المحافظة أنّها صينية فيتنمّرون عليها. وأخبرتني هي نفسها عن صديقة أخرى تعرضت لإلغاء التأشيرة التي تسمح لها بالعمل بعد استكمال الدراسة بسبب مخالفة سير.

طالبة آسيوية تحتفل بتخرجها في جامعة بنسلفانيا بولاية فيلادلفيا 19 مايو الجاري (أ.ب)

وفي جامعة إنديانا، وهي ولاية محافظة أيضاً، يتم التحقيق مع أستاذ يهودي بتهمة انتهاك «التنوّع الفكري» بسبب انتقاده دولة إسرائيل في أحد الصفوف. وقد نقلت زميلة، وهي من جنسية أوروبية وتقيم منذ سنوات في أميركا وتعمل في جامعة نورثويسترن، وهي جامعة خاصة، أن الإدارة طلبت من الأساتذة والطّلاب عدم استخدام بريدهم الإلكتروني التابع للجامعة للحديث عن «موضوعات سياسية»، لأن هذه الإيميلات قد تكون عرضة للكشف القضائي إذا قررت الحكومة الأميركية أن تحقق مع أي منهم. وهي نقلت أنّ كل ما يرسل، من رسائل قصيرة أو طويلة، عبر شبكة «eduroam» للإنترنت، وهي متاحة في كل المؤسسات التربوية، هو عرضة للتدقيق القضائي. وتقول الأستاذة التي تشارف على الستين من عمرها: «كنت أعيش في بكين بعد تيانانمين، والحالة الآن تستذكر الحالة التي كانت عليه الصين وقتها».

كلمات ممنوعة

من أهداف ترمب فيما يتعلّق بالجامعات إلغاء البرامج المتعلّقة بالتنوّع والإنصاف والشمول. فقد حجبت الإدارة الأميركية الكثير من المنح التي كانت تقدمها من خلال برامجها التربويّة. وتنص الميزانية التي قدّمها الرئيس الأميركي أخيراً على تقليص الدعم لـ«مؤسسة العلوم الوطنية» (NSF) فيما يخص «المناخ، والطاقة النظيفة، والعلوم الاجتماعية والاقتصادية»، وكل ما يصنّف تحت خانة الـ«WOKE» أي ذات حساسية مجتمعية أو توجه تقدمي.

مظاهرة بمدينة نيويورك دعماً للجامعات والتعليم حملت اسم «مسيرة الحق في التعلم» (أ.ف.ب)

وقامت الإدارة الأميركية مباشرةً بعد فوز ترمب بإدراج تعميم بكلمات من قاموس الـ«woke» مثل: التمييز، والتنوّع، والعرق، والانحياز، والأقليّات، والأزمة المناخيّة، واللاعدالة، والقمع المؤسسي، والنسوية، والنساء، والضحية، والتروما، والهويّة وغيرها، وطلبت حذفها من المواقع والمراسلات الرسمية. وأحصت صحيفة «نيويورك تايمز» أكثر من 500 كلمة حُذفت أو مُنع استخدامها فعلياً في المواقع الإلكترونية الرسمية لأنها لا تعكس توجه الإدارة الحالية في السياسات العامة. وطال التعديل المصطلحات في أحيان كثيرة، إذ حذفت أو تغيرت، لكن أيضاً في أحيان أخرى لحذف الفكرة والمضمون من ورائها أيضاً.

وهذا ما اضطر زميلاً آخر لأن يغيّر لقب منصبه في الجامعة من «أستاذ العدالة البيئية» إلى «أستاذ السياسة البيئية». أمّا مديرة «مركز النساء والجنسانية» في جامعة نورثويسترن فهي لم تعد تعرف إذا كان المركز ووظيفتها فيه باقيين حتى السنة المقبلة، أم سيتعين عليها البحث عن عمل، إن وجدت. وفي جامعة ويسكونسون، وهي جامعة رسميّة، اشترط محافظ الولاية على قسم العلوم السياسية توظيف أستاذ محافظ. وفي جامعة أوهايو تم إدخال مساق أكاديمي إلزامي تحت عنوان ما سمّته إدارة الجامعة «الحوار المدني».

الأمل المعلّق على «هارفارد»

استرجع الأكاديميون بعضاً من الأمل عندما رفضت جامعة هارفارد مطالب الإدارة الأميركية التي هددتها، مثلما هددت جامعة كولومبيا، بسحب تمويلها الفيدرالي. وكان الخوف أنه إذا انصاعت «هارفارد» وهي أغنى جامعة أميركية، فلن تحاول أي جامعة أخرى مقاومة السيطرة الحكومية.

وانتقلت الإدارة الأميركية إلى التهديد برفع الضريبة التي تجبيها على المخصصات التابعة لـ«هارفارد» والجامعات من مثيلاتها، أي الجامعات الغنية والخاصة التي تعد نخبوية. وقد عرض عضو الكونغرس الجمهوري عن ولاية تكساس رفع هذه الضريبة من مستواها الحالي، والبالغ تقريباً 1.5 في لمائة، إلى 21 في المائة. كذلك يهدّد ترمب بالتوقف عن اعتبار الجامعات مؤسسات لا تبغي الربح، مما يعني أنّ كل الأموال التي تصرفها الجامعات لتحقيق أهدافها التربوية ستصبح عرضة للضرائب.

الرئيس دونالد ترمب يتحدث عن احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية قبيل دخوله قاعة محكمة مانهاتن العام الماضي (رويترز)

نقض الاستقلالية الأكاديمية

هذا التغيير في تعريف الجامعات هو بمثابة تغيير لشكل علاقة الدولة بإنتاج المعرفة الذي جرى الاتفاق عليه في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وقتها كان السؤال: كيف ستقوم الدولة بدعم الإنتاج العلمي؟ وبعد النقاش السياسي والفلسفي حول هذا السؤال كان القرار ألّا يكون ذلك بالتدخل المباشر في هذا الإنتاج، بل بأن تدعم الدولة الجامعات لتكون هي المكان الذي يصير فيه إنتاج المعرفة والفكر. وكان من أساسيات هذا الاتفاق مبدأ استقلالية الجامعات وحريتها الداخلية. فهذا التدبير في مجمله عرضة لتحوّل جذري الآن.

وسيكون عرضةً للتحوّل أيضاً، نتيجةَ هذا التغيير، ليس مصائر الأفراد فحسب وإنما مكانة الولايات المتحدة بصفتها البلد الرائد في الإنتاج العلمي حول العالم. وهذا تحديداً ما أرّق زميلتي الأميركية ومنعها من النوم ومثلها عشرات، لا بل مئات الأكاديميين القلقين.