كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

«الشرق الأوسط» تنشر الحلقة الأخيرة لقصة توسعة الحرم المكي

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟
TT
20

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

كيف تم تطوير تصميم التوسعة الثالثة للمسجد الحرام؟

تناول الفصلان الأولان من قصة تصميم التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام، بدايات الموضوع بتشكيل فريق من المختصين من أساتذة الجامعات السعودية وغيرهم من الخبراء العالميين لدراسة المشروع المقترح للتوسعة، وذلك بناء على الأمر السامي الذي صدر في عام 1429هـ - 2008م، مع ذكر أبرز أسماء رؤساء اللجان والفرق الفنية المشاركة في الفريق الذي قام بتقويم وضع الحرم المكي من خلال الدراسات والمسوحات الميدانية، إضافة إلى تقويم التصميم المقترح، علاوة على تقديم رؤية تقنية للمسجد الحرام قام بها فريق من أساتذة وباحثي معهد ماساتشوستس للتقنية (إم آي تي MIT ). كذلك ذكرت أسماء فريق الباحثين الذين قدموا تلك الأبحاث، وكيف تمت الاستفادة من بعض الأفكار والمقاربات التصميمية والرؤى المستقبلية التي قدمها كبار المعماريين والمكاتب الاستشارية العالمية وبعض المكاتب والجامعات السعودية، في تطوير الفكرة التصميمية التي قدمتها جامعة الملك سعود وتم اختيارها من المقام السامي.

تصميم جامعة أم القرى المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف
تصميم جامعة أم القرى المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

يتطرق هذا الفصل إلى إعادة تشكيل اللجان والفرق التخصصية، ومنهجية العمل مع الاستشاري (دار الهندسة) والمقاول (مجموعة بن لادن)، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي (رئاسة الحرمين)، إضافة إلى مسارات العمل وآلية عمل الفرق، وتشكيل الفريق المؤقت الذي باشر تطوير التصميم المقترح، وكان غالبية أعضائه من كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، بحكم أنها الجهة صاحبة الفكرة التصميمية.

وكان الفريق باشر تلك المهمة في مكاتب «دار الهندسة» بالقاهرة، وبالتضامن مع فرقها الفنية، وصولاً إلى اعتماد الملك عبد الله رحمه الله للمسار التطويري (التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأصغر)، وصولاً إلى الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع توسعة الملك عبد الله بصورتها التي انتهت إليها.

ويلفت الفصل إلى عمل فريق الوزارة مع بدء التنفيذ وآلية العمل والتنسيق مع المقاول خلال تلك المرحلة، وتزامن العمل مع طرح فكرة مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف وما تم بعدها، وتشكيل فريق فني ميداني من جامعة أم القرى لتولي بعض المهام، ثم كيفية انتهاء مهمة فريق الوزارة. كذلك سيتم ذكر المشروعات الخمسة الرئيسية التي دشنها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية الثالثة، مروراً ببعض القصص والمواقف المتعلقة بمشروع التوسعة وأعضاء الفريق، والوقوف عند أهمية هذه التجربة وفرادتها وكيف يمكن الاستفادة منها في المشروعات التي تنفذ اليوم.

انطلاق المرحلة الثانية

فور صدور التوجيه السامي بتطوير التصميم المقترح من جامعة الملك سعود، انطلقت أعمال المرحلة الثانية للمشروع في شهر ربيع الأول عام 1430هـ - مارس (آذار) 2009م، من خلال عدد من المهام والأعمال التي تضمنها التوجيه وأوكل تنفيذها إلى فريق الوزارة.

وحدد الفريق الأساس الذي تولى أعمال المرحلة السابقة، وآلية العمل ومنهجيته لهذه المرحلة بما يضمن جودة دراسة المشروع ومستوى تخطيطه وتصميمه وتميزه من الناحية المعمارية والهندسية والتشغيلية والأمنية، فضلاً عن تحقيقه مبادئ الاستدامة ومفهومها، وإحداث نقلة نوعية في عمارة المسجد الحرام ترتقي إلى مستوى تطلعات القيادة السعودية الرامية إلى تيسير أداء العبادة لقاصدي المسجد الحرام، والنهوض بمستوى تقديم الخدمة لهم، وما تحمله هذه التطلعات من مضامين عميقة ورؤية واضحة، ترنو إلى مستوى عالٍ من التميز والجودة لمشروع التوسعة، ووفقاً لما نص عليه التوجيه السامي، وتلخصت آلية العمل في هذه المرحلة كما يلي:

أولاً: اللجنة الثلاثية

حلت بدلاً من اللجنة التوجيهية السابقة، لجنة ثلاثية مكونة من وزير التعليم العالي (د. خالد العنقري)، والرئيس العالم لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي (الشيخ صالح الحصين)، ورئيس «مجموعة بن لادن السعودية» (م. بكر بن لادن)، وهي تعمل كمرجعية للمشروع. وكان ممثلو فريق الوزارة يعرضون مخرجات العمل الجوهرية على هذه اللجنة بين فترة وأخرى، ويطلعونها على وضع المشروع ومساره وتحدياته.

ثانياً: إعادة تشكيل الفرق التخصصية

أُعيد تشكيل الفرق التخصصية للعمل ضمن إطار المشروع وفق الآتي:

أولاً، الفريق الفني في وزارة التعليم العالي الذي ضم عدداً من الفرق الفنية المتخصصة والمتكاملة، من مختلف منسوبي الجامعات السعودية. وتعد هذه الفرق الذراع الفنية لإدارة المشروع المعنية بتحديد وتوجيه الدراسات اللازمة والتصاميم المطلوبة، وكذلك مراجعة واعتماد الدراسات والتصاميم المقدمة من الاستشاري (دار الهندسة)، وجاء تشكيل الفرق على النحو الآتي:

الإدارة الفنية العامة: برئاسة أ.د. صالح بن حامد السيد.

الفريق المعماري: برئاسة د. سمير بن محمود زهر الليالي.

الفريق الإنشائي: برئاسة أ.د. يوسف بن عبد الله السلوم.

فريق الحركة والحشود والخدمات المساندة: برئاسة أ.د. عبد الرحيم بن حمود الزهراني.

فريق الكهروميكانيكا والمرافق الصحية: برئاسة د. إبراهيم بن عمر حبيب الله.

فريق البيئة والاستدامة: برئاسة د. خالد بن محمد الجماز.

ثانياً، هناك الفرق الفنية التخصصية لدى الاستشاري (دار الهندسة) والمقاول (مجموعة بن لادن السعودية)، وتعمل بالتضامن والتنسيق التام مع الفريق الفني في وزارة التعليم العالي على إعداد الدراسات والتصاميم اللازمة بتوجيه من الفريق الفني في الوزارة، الذي يقوم بمراجعتها وتقويمها ومن ثم اعتمادها. وأخيراً ممثل إدارة المشروعات في الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي.

ثالثاً: منهجية تنسيق الفريق مع الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين

لعله من المناسب إعطاء نبذة عن «دار الهندسة» (استشاري المشروع)، التي ارتبطت بعلاقة استراتيجية مع «مجموعة بن لادن السعودية» وغدت استشاري مشروعات الحرمين الشريفين. تأسست «دار الهندسة» عام 1956 (1376هـ) على يد 4 من أساتذة كلية الهندسة في الجامعة الأميركية ببيروت؛ وهم كمال الشاعر ونزيه طالب وخليل معلوف وسمير ثابت، ونمت وتطورت عبر السنوات لتصبح إحدى كبرى الشركات المهنية والمكاتب الاستشارية الهندسية حول العالم. وفي الثمانينات من القرن الماضي، تشابكت «مجموعة بن لادن السعودية» وترابطت مع «دار الهندسة»، الأمر الذي مكن الأخيرة ومن خلال مكتبها بالقاهرة تحديداً، من أن تصبح «الصندوق الأسود» لمشروعات الحرمين الشريفين، بحيث بات لديها كل المعلومات والخرائط والمخططات والدراسات والتصاميم والمسارات، وغيرها من المعلومات المهمة والمرتبطة بمشروعات الحرمين الشريفين. هذا الكم من المعلومات إضافة إلى كوادرها المهنية المتميزة جعل دورها مهماً ومحورياً في تطوير التصميم.

هيكلية تنظيمية لفرق العمل
هيكلية تنظيمية لفرق العمل

وقد انتهج الفريق الفني في وزارة التعليم العالي أسلوب عمل فريداً يعتمد على العمل الجماعي المتكامل داخل فريق الوزارة بتخصصاته المختلفة، وعلى التنسيق المباشر والتكامل مع الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين خلال مراحل العمل المشترك. واتسم المنهج بالمرونة والكفاءة الفاعلة والعمل بروح واحدة وعقول متعددة، وبالحرص على اقتناص كل فكرة تطويرية واعدة في أي مجال تخصصي بغض النظر عن مصدرها، ومناقشتها وتعزيزها ودعمها وإثرائها من الجميع.

واشتملت منهجية العمل الجماعي هذه على ورش العمل الدورية، حيث نُظمت مجموعة من ورش العمل التخصصية الدورية لتدارس وتنظيم العمل في مشروع تصميم توسعة المسجد الحرام وضبط جودته، ومناقشة المهام الفرعية المرتبطة به، ومتابعة أعمال تطوير التصميم وتوجيهه. وعُقدت ورش العمل هذه بحضور الفرق التخصصية المختلفة في وزارة التعليم العالي والاستشاريين في «دار الهندسة» و«مجموعة بن لادن السعودية» ورئاسة الحرمين، وبحضور خبراء عالميين في الاختصاصات المختلفة، استعين بهم أحياناً بحسب متطلبات مرحلة العمل.

الشيخ صالح الحصين والدكتور صالح السيد والدكتور يوسف السلوم أمام مجسم التصميم قبل تطويره
الشيخ صالح الحصين والدكتور صالح السيد والدكتور يوسف السلوم أمام مجسم التصميم قبل تطويره

كذلك، اعتمدت المنهجية على تشكيل فرق عمل تصميم مشتركة لتسريع العمل ودعم تطوير تصميم مشروع التوسعة ولرفع مستوى الجودة ودقة الأداء. وشُكلت فرق عمل موحدة، بحسب ما تقتضيه المرحلة، مكونة من أعضاء بالفرق التخصصية بوزارة التعليم العالي ومن الاستشاري والمقاول ورئاسة الحرمين. وقد أنيط بها مهمة تطوير التصاميم المعمارية والهندسية لمشروع التوسعة المعتمد من المقام السامي الكريم، بحيث يقوم فريق الوزارة بمتابعة وتوجيه ودعم الأعمال المقدمة من الاستشاري (دار الهندسة) عبر التكامل مع فرقه المتخصصة والعمل معها، والمساهمة المشتركة الفاعلة بالأفكار والمقترحات التطويرية، كما أنيط بالفرق التخصصية في فريق الوزارة مهمة اتخاذ القرارات التصميمية والإشراف على مراجعة ضبط وتوحيد منظومات الأنظمة الأخرى في لغة معمارية وهندسية موحدة.

رابعاً: مسارات العمل

لما كانت المرحلة الثانية من المشروع تقتضي مراجعة وتقويم مخرجات تطوير تصميم مشروع التوسعة وتعزيزه بالأفكار الفنية التطويرية، اتخذ العمل في هذه المرحلة المسارات المتتابعة الآتية:

مسار البحث والبرمجة: تضمن هذا المسار إعداد الدراسات اللازمة لمشروع التوسعة ووضع المعايير المرجعية التصميمية العامة والتفصيلية والبرنامج الفراغي للمشروع وتحديد المساحة البنائية التقديرية للتوسعة.

وقد شرع فريق وزارة التعليم العالي ضمن هذا المسار في دراسة وتحليل جميع المقترحات التصميمية (الرؤى المعمارية) التي قدمت في المرحلة الأولى من قبل دور الخبرة المحلية والعالمية بهذا المجال، في ورشة عمل بالتعاون مع الاستشاري (دار الهندسة) و«مجموعة بن لادن السعودية»، وبمشاركة الرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وخبراء محليين تم إشراكهم مؤقتاً في هذا المهمة. وتم استخلاص بعض الأفكار والحلول التصميمية الواعدة من هذه المقترحات.

كذلك حدد فريق الوزارة الدراسات اللازمة للمشروع وصاغ الإطار العام للملخص التصميمي التفصيلي في جميع الجوانب الفنية للمشروع، بالإضافة إلى تحديد نطاق البرنامج الفراغي، وتقدير مساحة البناء، بينما عمل الاستشاري (دار الهندسة) على إعداد المعايير التفصيلية والبرنامج المعماري التفصيلي، وذلك بالتنسيق مع فريق الوزارة الذي تولى مراجعتها واعتمادها.

مسار تطوير تصميم مشروع التوسعة: عني هذا المسار بتطوير تصميم مشروع التوسعة من قبل الاستشاري (دار الهندسة) وبالتعاون والتنسيق المباشر والآني مع الفريق الفني في وزارة التعليم العالي.

وسعى الفريق الفني بالوزارة ضمن هذا المسار إلى توجيه ومتابعة أعمال تصميم مشروع التوسعة والمشاركة الفاعلة والجوهرية في تطويره فكرياً وفنياً؛ منذ البداية وحتى عمل التصاميم المعمارية والهندسية التطويرية وتفاصيلها ومراجعة تطبيقها في أرض الواقع.

ولتنفيذ المهام المتضمنة في هذا المسار بجودة وإتقان، تطلب ذلك تكامل الفريق الفني للوزارة واندماجه أحياناً مع الفرق المتخصصة للاستشاري (دار الهندسة) و«مجموعة بن لادن السعودية» ورئاسة الحرمين، والعمل معاً كفريق عمل موحد متكامل باتباع منهجية التصميم المتكامل لا المتتابع، كالتشاور المستمر والمتبادل بين جميع التخصصات، ما أدى إلى تسريع وتيرة العمل والارتقاء بجودته ونوعيته.

وقد اتسم تشكيل فرق عمل المشروع بالديناميكية والمرونة بما يتوافق مع حاجات العمل وطبيعة مراحل المشروع، بحيث يشارك الأعضاء في مراحل المشروع حسب الحاجة. وتميزت طريقة العمل بروح الفريق الواحد والانسجام بين الأعضاء، وكانوا يتعاملون كزملاء في هذه المهمة السامية، فتتبلور الأفكار والحلول وتطرح من خلال النقاشات الجماعية، دون تمييز بين رئيس ومرؤوس؛ بل إنه كان يُناب بعض الأعضاء في حال غياب المدير الفني العام أو رؤساء الفرق، وكان الجميع يعملون بروح الفريق كما يقال: «الجميع يعمل على طاولة مستديرة».

وأنيط بالفريق خلال انطلاق المرحلة الثانية مهمة ضبط جودة واتجاه تطوير تصميم التوسعة انطلاقاً من الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع جامعة الملك سعود والمعتمدة من المقام السامي، وكان على الفريق الالتزام بمضامين التوجيه السامي خلال العمل في التطوير، وبالتضامن مع الفريق الفني للاستشاري (دار الهندسة) والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وتطلبت هذه المرحلة تكوين فريق عمل مشترك (مؤقت) برئاسة رئيس الفريق المعماري للمشروع، وعضوية عميد كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود، الذي كان رئيساً لفريق التصميم الأساسي، وعدد من أعضاء هيئة التدريس ممن شاركوا ضمن فريق التصميم الأساسي بالكلية، بحكم أنها الجهة صاحبة الفكرة التصميمية، وذلك كاستشاريين غير متفرغين، كما انضم أيضاً إلى هذا الفريق أعضاء آخرون من كليات العمارة في الجامعات الأخرى، وأصبح بعضهم لاحقاً استشاريين متفرغين.

وعقدت اجتماعات هذا الفريق المؤقت بمقر «دار الهندسة» في القاهرة، وذلك خلال الفترة من 17 جمادى الآخرة 1430هـ - 10 يونيو (حزيران) 2009م، إلى 16 رجب 1430هـ - 9 يوليو (تموز) 2009م.

وأسفرت هذه المهمة التعاونية والتكاملية العاجلة التي استمرت لمدة شهر عن تطوير مسارات تطويرية متكافئة انطلقت جميعها من الفكرة التخطيطية والمعمارية للتصميم المقترح من جامعة الملك سعود والمعتمد من المقام السامي أساساً للتطوير، حيث ارتكزت هذه المسارات التطويرية على المبادئ الآتية:

المسار التطويري الأول: القائم على مبدأ التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأوسع.

المسار التطويري الثاني: القائم على مبدأ التجزئة على مستوى الكتلة والحيز الفراغي الأصغر.

والمساران متكافئان، أما الفرق الأساسي بينهما ففي التشكيل المعماري الداخلي للتوسعة.

مخططات للتوسعة الثالثة
مخططات للتوسعة الثالثة

وقد قُوّمت مخرجات هذين المسارين التطويريين المتكافئين والمطورين من قبل الفريق ذاته باستخدام معايير محددة، وبتفصيل أدق وضعت بهدف التحقق قبل عرضهما على المقام السامي من أن كلا المسارين يمكن أن يعمل بكفاءة في حال اختياره.

أما معايير تقويم مخرجات المسارات التطويرية فهي:

معايير مرتبطة بالأمن والسلامة وحركة الحشود: الأمن والسلامة ضمن المبنى والفراغات الخارجية - حركة الحشود ضمن المبنى والفراغات الخارجية - حركة الحشود من مبنى المسجد الحرام (التوسعتان الأولى والثانية) وإليه - التعرف المكاني (way finding) - ووضوح الإرشاد للمستخدمين.

معايير مرتبطة بالكفاءة التشغيلية:

العبادية، والمتعلقة خصوصاً بأماكن أداء الصلاة؛ ومنها اتجاه الكعبة وانتظام صفوف المصلين وتحفيز الخشوع.

أداء الأنشطة الأخرى: إلقاء المحاضرات والدروس العلمية والوصول إلى المصاحف والوضوء والسقيا وغيرها.

اقتصاديات التوزيع الفراغي: ترشيد مناطق الخدمات التشغيلية وترشيد ممرات الحركة الأفقية وترشيد مناطق الحركة الرأسية والاقتصاد في حجم شبكات الخدمات (مياه، تكييف، كهرباء، حريق... إلخ).

مرونة إدارة المنشأة: تنظيم توزيع الرجال والنساء بعدة خيارات وتنظيم استخدام أجزاء محددة من المبنى وتنظيم إغلاق أو فتح بعض أجزاء المبنى على المستوى الأفقي، كما تنظيم إغلاق أو فتح بعض أجزاء المبنى على المستوى الرأسي، بالإضافة إلى تنظيم الوصول إلى مبنى التوسعة السعودية الأولى دون الحاجة لفتح مبنى التوسعة السعودية الثالثة للاستخدام، وتنظيم صيانة المنشأة وشبكات الخدمات دون الاختلاط بالمستخدمين في جميع الأوقات، بما في ذلك أوقات الذروة.

معايير مرتبطة بعلاقة التشكيل الفراغي بالجوانب البيئية: الاستفادة القصوى من الإضاءة والتهوية الطبيعيتين وحماية محيط المبنى من العوامل البيئية وترشيد استخدام الطاقة غير المتجددة.

معايير مرتبطة بالجودة الجمالية لعناصر مكونات المشروع: مبدأ الوحدة (Unity) - إثراء تجربة المستخدم للمكان من خلال التنوع المكاني (Variety) - التوازن بين المقياس الإنساني (Human Scale) وتحقيق المهابة الشرفية (Formalty) - الانسيابية (Spatial Interpenetration) - الشفافية (Form Transparency).

معايير مرتبطة بمرونة التنفيذ: مرونة تحديد مراحل التنفيذ (Construction Phasing) - توحيد عناصر البناء (Building Components Standardization).

لقطات لتصاميم المسار التطويري الثاني
لقطات لتصاميم المسار التطويري الثاني

العرض والموافقة:

في يوم السبت 18 رجب 1430هـ الموافق 11 يوليو 2009، عُرض المساران التطويريان المتكافئان على الملك عبد الله بن عبد العزيز في قصره بمدينة جدة من قبل أعضاء فريق الوزارة، وبحضور عدد من أصحاب السمو الملكي الأمراء والمعالي الوزراء، من بينهم وزير التعليم العالي ونائبه والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، إضافة إلى رئيس «مجموعة بن لادن السعودية»، حيث اعتمد حينها المسار التطويري الثاني خياراً لتطوير تصميم مقترح جامعة الملك سعود للتوسعة، وصدرت الموافقة السامية بذلك.

المرحلة الثالثة:

استمر فريق الوزارة في ممارسة أعماله بالكفاءة ذاتها والروح الجماعية المتفائلة والمتفانية، ويشهد لها كل من عايش المشروع أو سنحت له فرصة الاطلاع على العمل من مسؤولين وغيرهم.

وانطلاقاً من مبدأ العمل كفريق واحد بين وزارة التعليم العالي والاستشاري (دار الهندسة)، والمقاول (مجموعة بن لادن السعودية)، والرئاسة العامة لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، سعى الفريق المعماري وجميع الفرق التخصصية الأخرى بالوزارة في فترة تزيد على السنة، وبالتحديد في المدة من 22 رجب 1430هـ الموافق 13 يوليو 2009، إلى 23 رمضان 1431هـ الموافق 2 سبتمبر (أيلول) 2010، في عمل دائب ومتواصل إلى تطوير التصاميم الابتدائية والتصاميم التفصيلية للتوسعة، وذلك من خلال عقد ورش عمل متعددة ومكثفة ولقاءات نقاش ومراجعة متتالية في مقر الاستشاري (دار الهندسة) بالقاهرة أو بيروت حيناً، ومقر فريق الوزارة في كلية علوم البحار بجدة أحياناً أخرى. مع الأخذ في الحسبان تحقيق التكامل في جميع التصاميم المعمارية مع حلول ومقترحات وتصاميم النظم الهندسية (الإنشائية، والكهروميكانيكية، وتغذية المياه والصرف) وغيرها.

وكان العمل في الفريق يسير وفق ما انتهجه منذ بداية تشكيله في المرحلة الأولى؛ على طاولة مستديرة تتلاقح فيها الأفكار والعقول وتسودها روح مهنية واحدة رغم اختلاف الآراء الذي كان يثري العمل ولا يعيقه.

والجدير ذكره في هذه المرحلة أن العمل فيها كان بمنهجية تزامن التصميم والتنفيذ في الموقع (Design-Build Approach)، وهذا احتاج إلى مراعاة عالية للأولويات وضبط دقيق في جدول المهام والوقت وتناسق تام للمهام رغم تعددها وتراكبها وتداخلها.

وبذلك كانت التصاميم والمخططات المعتمدة نهائياً تسلم للمقاول أولاً بأول للتنفيذ المباشر.

جانب من التفاصيل المعمارية الداخلية
جانب من التفاصيل المعمارية الداخلية

يشار هنا إلى أن الحوار الثنائي بين أعمال الموقع وأعمال التصميم كان يغذي بعضها بعضاً، حيث كان تطوير التصميم يستجيب بصورة جادة مع معطيات الموقع، كمسارات زمزم ونحوها مما يستجد ظهوره، كما يستجيب في الوقت ذاته لمتطلبات التنفيذ والتصنيع والتوريد.

نماذج من زخارف وتفاصيل معمارية للتوسعة
نماذج من زخارف وتفاصيل معمارية للتوسعة

ولم يكن العمل في هذه المرحلة مكتبياً أو على الورق أو الرسومات ثنائية الأبعاد، بل كانت التصاميم تمر بـ4 مستويات من العمل المهني التكاملي: التصاميم الورقية والحاسوبية، والمحاكاة الحاسوبية (Digital modeling)، والتجسيم الفيزيائي (physical modeling)، والبناء الفعلي للنماذج التصميمية (mockup) بمقياس 1:1 في ورشة بناء تقع في بحرة بين جدة ومكة المكرمة، خُصصت لاختبارات التصاميم من قبل المقاول المنفذ، ومراجعة ذلك في حركة تغذيات راجعة وتعديلات حتى الوصول إلى التصميم الأكمل، ومن ثم ينفذ على أرض الواقع بصورته النهائية المعتمدة.

وفي هذه المرحلة تمت تغطية جميع جوانب التصاميم الأساسية من مساقط وقطاعات وواجهات داخلية وخارجية وأسقف وأرضيات ونظم صوتية وإضاءة وغيرها، واختيار المواد والعينات، وكثير من الجوانب التصميمية والمواصفات التفصيلية، سواء على المستوى المعماري أو التخصصات الهندسية الأخرى. وسواء كانت التصاميم لمبنى التوسعة الرئيسي، أو لمبنى الخدمات (المصاطب) بكل مكوناتها وعناصرها، أو مبنى الخدمات المركزية للتكييف والمعالجة، الواقع على بعد كيلومترات من التوسعة، أو بما يتعلق بأنفاق المشاة والأنفاق الأخرى تحت جبل الشامية (جبل قعيقعان)، أو الساحات وجسورها وما تحت الساحات من خدمات مواضئ ودورات مياه وغيرها، كل ذلك تمت تغطيته وإنهاء تصاميمه الأساسية وتفاصيلها، وتم اختبارها على أرض الواقع بمقياس 1:1، بل وتنفيذ أهمها فعلياً.

وبعد هذا الإنجاز الضخم من الأعمال والتصاميم، بدا أن مهمة الفريق الفني التابع لوزارة التعليم العالي تقترب من نهايتها، تلك المهمة السامية التي انطلقت بتقويم التصميم المقترح للتوسعة المقدم من «مجموعة بن لادن السعودية»، وانتهت بتطوير التصميم المقترح من جامعة الملك سعود، ومرت خلالها بتكليف الفريق بدراسة عدد من المشروعات النوعية أو الحرجة الإضافية التي أحيلت إليه، وتخص بعض الجهات الحكومية، لكن تلك المشروعات لها قصة ثانية.

كما تزامن عمل الفريق في تطوير تصميم التوسعة مع طرح فكرة دعوة كليات وأقسام العمارة في جامعات الملك سعود، والملك عبد العزيز، وأم القرى، والدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً)، وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، لتقديم مقترحات تصميمية لزيادة الطاقة الاستيعابية للمطاف، وأعد الفريق الأسس والشروط المرجعية لتصميم هذا المشروع.

تصميم جامعة الملك عبدالعزيز المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف
تصميم جامعة الملك عبدالعزيز المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

وأسند إلى جامعة أم القرى تطوير تصميمها المقترح في فترة لاحقة بعد انتهاء عمل الفريق، وذلك بالتضامن مع أحد المكاتب الاستشارية العالمية. وتم عرض المقترح على خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، في قصر الصفا بمكة المكرمة مساء يوم السبت 27 رمضان 1432هـ الموافق 22 يونيو 2011. وكانت الجامعة شكلت لجنة فنية بإشراف مديرها الأستاذ الدكتور بكري بن معتوق عساس، وتولت اللجنة متابعة أعمال تشييد التوسعة السعودية الثالثة التي تنفذها «مجموعة بن لادن السعودية»، إلى جانب مراجعة دراسات وتصاميم مشروع رفع الطاقة الاستيعابية للمطاف، من خلال فريق فني برئاسة الأستاذ الدكتور فيصل بن فؤاد وفا. لكن تفاصيل تصميم ثم تنفيذ مشروع توسعة المطاف ومراحله تحديداً، وما حصل فعلاً على أرض الواقع، تستحق قصة منفصلة.

تصميم جامعة الدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً) المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف
تصميم جامعة الدمام (الإمام عبد الرحمن الفيصل حالياً) المقترح لرفع الطاقة الاستيعابية للمطاف

المرحلة الأخيرة

بانتهاء المرحلة الثالثة والاطمئنان على سلامة مخرجات تصاميم تطوير مشروع التوسعة الثالثة، بل وتنفيذ أجزاء منها، لم يتبقَّ حينذاك إلا مهمة مواصلة العمل في متابعة الرسومات التفصيلية لبعض الأجزاء ومتابعة تنفيذ ما تم اعتماده سابقاً في المرحلة الثالثة، مثل منظومة الاهتداء ومنظومة صحة المنشأة التي اعتمدت توجهاتها وبعض متطلباتها، بعد هذا كله رأت الوزارة وجاهة تجديد الدماء في الفريق، فتم إنهاء عمل الفريق الأساسي الذي بدأ منذ اليوم الأول حتى انقضاء المرحلة الثالثة بخطابات شكر خاصة بكل فرد منهم. وحينذاك رجع أعضاء الفريق الأساسي إلى مواقعهم بالجامعات، والبعض رأى الانضمام لـ«مجموعة بن لادن» للعمل هناك.

الأمير نايف والأمير خالد الفيصل يستمعان لشرح من الدكتور سمير زهر الليالي
الأمير نايف والأمير خالد الفيصل يستمعان لشرح من الدكتور سمير زهر الليالي

وتزامناً مع هذا التغيير انتهت أيضاً مهمة اللجنة الثلاثية، وأسندت بعد ذلك بعض مهام فريق الوزارة إلى فريق جامعة أم القرى الذي توسعت مهامه الفنية والإدارية، ليصبح اسمه «اللجنة الفنية لمشروعات توسعة المسجد الحرام والعناصر المرتبطة به».

ومن المهم الإشارة هنا إلى ملخص الفكرة التخطيطية والتصميمية لمشروع التوسعة بصورتها التطويرية التي انتهت إليه، كما يلي:

يتكون مشروع التوسعة السعودية الثالثة للمسجد الحرام من جزأين رئيسيين.

الجزء الأول: ويقع في منطقة الشامية بالجهة الشمالية من المسجد الحرام، ويشتمل على المبنى الرئيسي للتوسعة، والمصاطب المتدرجة والمرافق الخدمية الملحقة بها، إلى جانب الأفنية والساحات المفتوحة.

الجزء الثاني: ويقع في منطقة التيسير على بعد 2 كم في الجهة الشمالية الغربية من المسجد الحرام، ويشتمل على محطة خدمات مركزية لخدمة المشروع تتضمن محطة تبريد مياه التكييف، والمولدات الاحتياطية، ومعالجة المياه الرمادية، والتخلص من النفايات، وورش الصيانة ونحوها.

وقد اعتمدت الفكرة التخطيطية لتصميم مشروع التوسعة السعودية الثالثة على مبدأ «احترام مركزية الكعبة المشرفة وصفوف الصلاة، وتجزئة الحشود». لذا فقد تم تشكيل المشروع عن طريق توظيف محاور إشعاعية منطلقة من الكعبة المشرفة تقسم المشروع إلى أجزاء تتقاطع مع قطاعات حلقية دائرية مركزها الكعبة المشرفة، كالآتي:

القطاعات الحلقية الدائرية: تشكل مكونات المشروع وتتضمن:

المبنى الرئيسي: يتكون من 3 أجزاء رئيسية تقع بين 4 محاور إشعاعية.

الأفنية الخارجية المفتوحة: تقع شمال وجنوب المبنى الرئيسي.

المصاطب المتدرجة ومباني المرافق الخدمية: تقع شمال الأفنية الخارجية المفتوحة.

الساحات الخارجية تقع حول المشروع من الجهات الشرقية (ساحة المسعى ومنطقة المروة) والغربية (ساحة باب العمرة وشارع أم القرى).

المحاور الإشعاعية:

تشكل هذه المحاور الإشعاعية جسوراً وممرات للحركة الأفقية والرأسية. وتقسم هذه المحاور للمشروع إلى أجزاء يمكن لكل منها احتواء عدد محدد من الحشود، مما يدعم من انسيابية وسلاسة حركة الحشود وتدفقهم وتعريفهم ويعمل على تحقيق أمنهم وسلامتهم. كما تحتوي على مجموعة الخدمات المساندة لخدمة تلك الحشود وتربط هذه المحاور بين أجزاء وعناصر المشروع.

وقد اعتمدت الفكرة الأساسية لجامعة الملك سعود التي انطلق تطوير التصميم (المشروع) منها على مبدأ «الوحدة الوظيفية النموذجية» التي تمثل وحدة بنائية متكاملة في وظائفها وخدماتها، ويمكن تكرارها في اتجاه المحاور الإشعاعية، أو في اتجاه القطاعات الحلقية الدائرية لتكوين الكتل البنائية للمشروع التي تكوّن في مجموعها تشكيلاً عمرانياً وظيفياً مترابطاً يلبي المتطلبات الرئيسية للمشروع، ويتجانس مع مبنى المسجد الحرام ويراعي طبوغرافية الموقع. ويمكن من خلال هذه الوحدات البنائية تحقيق ما يلي:

تجزئة الحشود إلى أجزاء محددة يمثل كل منها الحجم الأمثل الذي يمكن التعامل معه بصورة تحقق الأمن والسلامة وتساعد في انتظام صفوف المصلين وتمكنهم من أداء الشعائر التعبدية بسكينة وخشوع.

توفير الخدمات والوظائف الحيوية للمستخدمين بصورة متكاملة من قاعات الصلاة والخدمات الملحقة بها.

توفير المرونة اللازمة لتشغيل المبنى؛ مثل إمكانية استخدام أجزاء من المبنى في كل دور فقط أو استخدام أدوار محددة فقط بحسب الحاجة خلال المواسم المختلفة، مع إمكانية تخصيص مواقع مصليات النساء والرجال بشكل مرن.

تيسر أعمال الصيانة لشبكات النظم الهندسية في مستويات ومسارات منفصلة تماماً للمستخدمين، وصيانة الفراغات الداخلية لكل وحدة بنائية دون التأثير على الأداء الوظيفي للوحدات عن حركة الأخرى.

تصميم مكونات قياسية نموذجية لكل العناصر والتفاصيل المستخدمة بالمشروع المعمارية والنظم الهندسية.

دعم وتيسير استراتيجيات مراحل التنفيذ أو التمدد للمستقبلي.

إثراء التشكيل الفراغي وتحقيق الجودة الجمالية لعناصر المشروع مع إمكانية تميز كل وحدة بنائية بشخصية مستقلة تحقق سهولة التوجيه والإرشاد المكاني في كل منطقة من مناطق المشروع.

البهو الرئيسي للتوسعة في المراحل النهائية
البهو الرئيسي للتوسعة في المراحل النهائية

وماذا بعد؟

توفي الملك عبد الله رحمه الله في 3 ربيع الثاني 1436هـ الموافق 23 يناير (كانون الثاني) 2015، وأكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله، فور توليه مقاليد الحكم، مواصلة العمل بواجبات ومسؤوليات خدمة الحرمين الشريفين التي تشرف بها ملوك البلاد السابقون، وتوفير الأمن والراحة والطمأنينة لضيوف الرحمن. وتأكيداً لحرصه على كل ما من شأنه أداء قاصدي المسجد الحرام لمناسكهم بكل يسر وراحة، تفقد الملك سلمان يوم السبت 12 شعبان 1436ه الموافق 30 مايو (أيار) 2015، مراحل مشروع التوسعة السعودية الثالثة للحرم المكي، ووجه بتسخير كل الإمكانات والمتطلبات التي يحتاج إليها المسجد الحرام ومشروع التوسعة. وقال: «سأنفذ وصية الملك عبد الله وقد أوصاني بالمشاريع في مكة».

خادم الحرمين الشريفين يدشن عدد من المشاريع الرئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية للحرم المكي(واس)
خادم الحرمين الشريفين يدشن عدد من المشاريع الرئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية للحرم المكي(واس)

وفي يوم 24 رمضان 1436هـ الموافق 11 يوليو 2015، دشَّن الملك سلمان 5 مشروعات رئيسية ضمن المشروع الشامل للتوسعة السعودية الثالثة، الذي تشرف على تنفيذه وزارة المالية، وهي: مشروع مبنى التوسعة الرئيسي، ومشروع الساحات، ومشروع أنفاق المشاة، ومشروع محطة الخدمات المركزية للحرم، ومشروع الطريق الدائرية الأول.

قصة تصميم التوسعة ليست قصة أشخاص، أو جامعات، أو شركات أو استشاريين، أسهم كل منهم بدوره وجهده، ولكنها قصة عمل مهني مشرف، وقبل ذلك وبعده قصة قيادة نذرت نفسها لخدمة الحرمين ودولة سخرت مواردها لأمن وسلامة وراحة قاصديهما واستثمرت في الإنسان الذي أسهم في عمارتهما، وقدم الفكرة التصميمية لثالث التوسعات بعد نحو 75 عاماً من تصميم أول توسعة سعودية للحرمين الشريفين.

وبعد، هذا جزء يسير من تاريخ التوسعة الطويل، مما يمكن استلحاقه لاحقاً.

وكان في زوايا القصة وكواليسها جوانب مشرقة ومواقف مقدرة وجهود مشكورة، وقبل ذلك وبعده كثير من التوفيق والتيسير من المولى القدير، رغم التحديات والصعوبات التي تمثلت في ضيق الوقت المحدد لإنهاء الدراسة والجوانب المتعددة والمعقدة المتصلة بطبيعة وضع المسجد الحرام من حيث الإنشاءات والحركة وتباين ثقافات وخلفيات القاصدين وغير ذلك.

أما عن الأعضاء، بل أكثرهم فتلك قصة أخرى. بعضهم رفض تسلم المكافآت رغم حاجته لها، وجلهم كانوا لا يريدون أن تذكر أسماؤهم في سجلات توثيق المشروع ولا غيرها، لأنهم يرون أن مجرد المشاركة في مشروع توسعة الحرم شرف لا يضاهيه شرف، وكل ذلك رغبة فيما عند الله وحده، وبذلك تولوا إلى الظل من دون أن يتباهوا بما قدموا أو يحمدوا بما عملوا.

وتلك ليست مبالغة. فهنا قصتان فيهما خير مثال. أولاً فريق كلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود الذي طلب رئيسه تنفيذ استوديو افتراضي ثلاثي الأبعاد مقابل اختيار تصميم الجامعة أساساً لتصميم التوسعة، ليكون مكافأة لمنسوبي الكلية وتعم الفائدة للجميع، وبالفعل تم تنفيذ الاستوديو وتجهيزه في أحد معامل الكلية.

الاستوديو الافتراضي الثلاثي الأبعاد بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود
الاستوديو الافتراضي الثلاثي الأبعاد بكلية العمارة والتخطيط بجامعة الملك سعود

أما القصة الثانية، فقد كانت هناك حاجة ملحة لرئاسة الحرمين لاستشارة فنية حول إحدى المنشآت الإلكتروميكانيكية المرتبطة بالمسجد الحرام، وكانت كل الحلول التي قدمت من مقاول الصيانة تتجه إلى استبدال الأجهزة الموجودة بالكامل؛ بل ونقل المحطة إلى مكان آخر بما يستلزم ذلك من حفر لأنفاق وتكاليف إنشاء وتجهيز، فقرر الشيخ صالح الحصين رحمه الله، أن يستعين بأحد الاستشاريين المختصين في ذات التخصص المطلوب (هذا الاستشاري من جنسية عربية، وعمل لاحقاً ضمن الفريق الأساسي لوزارة التعليم العالي في مشروع التوسعة الثالثة)، وبعد أن عاين الدكتور المشكلة، واطلع على التقارير التي قدمت، اجتمع مع الفريق المسؤول عن تلك المنشأة ودرس بعناية مقترحات الاستبدال وما يقابلها من بديل، ورأى أن مقترح رفع مستوى حجم وطاقة المحطة الحالية في الموقع ذاته أمر ممكن ومجدٍ، وقدم التصور الكامل لإمكانية تحقيق ذلك فنياً، مما حسم الأمر، هذا الحل وفر ملايين الريالات على الميزانية العامة فرأى الشيخ الحصين تقديم مكافأة مالية له تعادل نسبة مئوية من إجمالي قيمة التوفير واستصدر الموافقة على ذلك، وحين قابل الشيخ الدكتور وشكره على جهده قدم له ظرفاً يحوي شيكاً بقيمة الأتعاب الاستشارية المقدرة، فلما علم الدكتور أن في الظرف شيكاً له رفض تسلمه من دون أن ينظر حتى إلى قيمة المبلغ (وكان كبيراً)، وباءت كل محاولات الشيخ لإقناعه بأخذه لأنه حقه الشرعي والنظامي أو ربما هو أقل، وأن عمله كان سبباً للتوفير على خزينة الدولة، وأدى لاختصار الجهد والوقت.

كما صاحب تلك التجربة الفريدة والمعقدة الكثير من التسهيلات والدعم اللامحدود من حكومة خادم الحرمين الشريفين وتوفير جميع احتياجات الفريق وتأمين طلباته وتيسير الإجراءات واستقدام كبار الخبراء في العالم عند الحاجة، وتسهيل التواصل مع مراكز الفكر وبيوت الخبرة العالمية. كل ذلك من أجل توسعة بيت الله الحرام لاستيعاب الأعداد المزدادة من الحجاج والمعتمرين وتيسير أداء نسكهم بكل راحة وسلامة وأمان.

إن المتمعن في هذه التجربة، يجد أنها مختلفة في منهجها عما سبق من توسعات الحرمين وفريدة في مشروعات الدولة الكبرى، عمل عليها مئات المتخصصين من أعضاء هيئات التدريس بالجامعات السعودية والخبراء العالميين في مختلف المجالات، وغيرهم من المهندسين والفنيين تجاوز عددهم المئات من مختلف الجنسيات، هذا عدا بيوت الخبرة والجامعات العالمية والرواد المعماريين، وغيرهم، بتنسيق بديع وتكامل فريد، وأنفق عليها مئات الملايين من الريالات. لذا يجب ألا تتوقف؛ بل يمكن أن تُدرس وتقوم ويستفاد منها ويؤسس عليها؛ ليس في مخرجاتها فحسب، بل وفي كونها تجربة مهنية جماعية نقلت كثيراً من العلوم والمعارف والتجارب والخبرات، وأسهمت في تطوير معارف وتجارب أعضاء الفريق وسن طريقة غير مسبوقة في تنفيذ دراسات المشروعات العملاقة من خلال منظومة عمل فرق تكاملية في جميع التخصصات والعلوم.

ولعل الأهم بعد هذا التوثيق معرفة كيف يمكن تقويم تلك التجربة الفريدة والاستفادة منها ثم البناء عليها...

*كاتب وباحث سعودي

اقرأ أيضاً


مقالات ذات صلة

بين التراث والتقنيات الحديثة... استعراض تاريخي لمسيرة كسوة الكعبة المشرفة

يوميات الشرق خيوط من الفضة المطليّة بماء الذهب لحياكة الحزام والزخارف الإسلامية (الشرق الأوسط)

بين التراث والتقنيات الحديثة... استعراض تاريخي لمسيرة كسوة الكعبة المشرفة

قدمت الهيئة العامة للعناية بشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي عرضاً تفاعلياً فريداً ضمن فعاليات بينالي الفنون الإسلامية، يسلّط الضوء على صناعة كسوة الكعبة.

أسماء الغابري (جدة)
خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام play-circle 01:52

خاص الحجيلان يكشف حدود الدور الفرنسي في تحرير المسجد الحرام

في الحلقة الأخيرة من مذكراته، يوضح رجل الدولة السعودي الشيخ جميل الحجيلان، حقيقة الدور الفرنسي في جهود تحرير الحرم المكي الشريف من مجموعة جهيمان العتيبي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر (الرياض)
تحقيقات وقضايا لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج play-circle 05:39

لأكثر من 100 عام... نجاحات سعودية في إدارة الحج

على مدى أكثر من 100 عام، تعهدت الدولة السعودية بخدمة الحجاج، ونجحت في إدارة الحشود المليونية التي كانت قبل العهد السعودي لا تصل إلى 4 آلاف حاج من الخارج.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر
المشرق العربي زوار يطلون من جبل الزيتون على المسجد الأقصى في القدس القديمة (أرشيفية - أ. ب)

«دائرة الأوقاف» في القدس تحذر من مضاعفة اقتحامات المستوطنين للأقصى

حذر مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية من خطط مضاعفة عدد المقتحمين من المستوطنين وطمس المعالم العربية والإسلامية.

«الشرق الأوسط» (تل أبيب)
يوميات الشرق وصل البث المباشر لآخر حدود الصين واليابان شرقاً والأميركيتين الشمالية والجنوبية غرباً (واس)

بعد 4 عقود من نقل صلاة التراويح... كيف يبدو البث التلفزيوني في الحرمين؟

كان أول بث مباشر على التلفزيون السعودي لصلاة التراويح وختمة القرآن الكريم من المسجد الحرام في «العشر الأواخر» من شهر رمضان عام 1397هـ.

غازي الحارثي (الرياض)

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
TT
20

كيف أوصل الشرع «هيئة تحرير الشام» إلى قصر الشعب؟

قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)
قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) في حلب في 4 ديسمبر 2024 (تلغرام)

منذ تحول الثورة السورية إلى العمل العسكري بعدما استبعد النظام السابق خيار التفاوض واستخدم القوة المفرطة في قمع المظاهرات عام 2011، شهدت البلاد طفرة في الفصائل المسلحة التي ترواحت بين إسلامية جهادية وأخرى معتدلة، بحسب موقعها من طيف التشدد والتدين الذي شكل قاعدتها المشتركة.

وفي أواخر عام 2011 تأسست إحدى أكبر الفصائل باسم «حركة أحرار الشام»، وتجمع بين الجهادية والإخوانية بأجندات محلية. ويمكن القول إن «أحرار الشام» هي أول فصيل دمج بين الجهادية والمحلية، سابقة بذلك «هيئة تحرير الشام» نفسها التي كانت تؤمن بالجهادية العالمية إبّان تبعيتها لتنظيم «القاعدة» وحتى لحظة فك ارتباطها به في يوليو (تموز) 2016.

وبمراحل تحولها وصعودها كافة، التي بلغت أخيراً بمعركة «ردع العدوان» وأوصلت «هيئة تحرير الشام» وقائدها «أبو محمد الجولاني»/ أحمد الشرع إلى حكم سوريا الجديدة، تميزت الهيئة بهيكلية داخلية دقيقة أقرب إلى «كلية عسكرية» بحسب وصف أحد القياديين السابقين في «الهيئة»، الذين تحدثوا إلى «الشرق الأوسط».

طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)
طفل يجلس على أكوام من الذخيرة في معرة نصرين في إدلب نهاية 2021 (غيتي)

«أحرار الشام»

في البدايات كان فصيل «أحرار الشام» أكثر الفصائل السورية أدلجة وتنظيماً معاً، وكان لقادته أمثال حسان عبود وأبو يزن الشامي كاريزما قوية وثقل في الأوساط الثورية، فكانت إلى جانب أسماء أخرى كعبد القادر الصالح (قائد لواء التوحيد) شخصيات وازنة في الأوساط الثورية بمختلف مشاربها.

وبقي هذا حال الحركة حتى يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2014. حين قتل قادتها في تفجير استهدف اجتماعاً لمجلس شورى الحركة في بلدة رام حمدان بريف إدلب. وهو تفجير لا تزال ملابساته غامضة حتى اليوم، أودى بحياة قائد الحركة أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) ونحو أربعين آخرين من القياديين والشرعيين، لتبدأ مرحلة التراجع التدريجي في القوة والنفوذ وتصل سريعاً إلى أدنى مستوياتها فتتحول فصيلاً صغيراً موزع الولاءات بين فصائل أكبر كـ«الجيش الوطني» و«هيئة تحرير الشام».

ويذكر أن «الجيش الوطني السوري» فصيل تشكل في 30 ديسمبر (كانون الأول) 2017، من 36 فصيلاً مسلحاً مثل «الجبهة الشامية»، و«جيش الإسلام»، و«فيلق المجد»، و«الفرقة 51»، و«لواء السلام»، و«فرقة السلطان شاه» المكونة بشكل أساسي من التركمان.

«لواء التوحيد»

من الفصائل الكبرى في سوريا، التي تميّزت بالقوة والنفوذ وقبول شعبي واسع أكثر من «جبهة النصرة»، «لواء التوحيد» الذي تأسس في 21 يوليو (تموز) 2012 وضمّ مجموعة من الكتائب العسكرية المحلية للقتال في مناطق ريف حلب الشمالي.

ويعد «لواء التوحيد» التشكيل الأكبر في المعارضة المسلحة في تلك المرحلة والممثل الأبرز للتيار الإسلامي «المعتدل» الذي يزاوج بين السلفية المعتدلة والإخوانية والخطاب «الوطني» المحلي. إنه أحد أكثر الفصائل التي ضمت في بداياتها أطيافاً متنوعة من الجهادي المعتدل إلى الإخواني إلى ما تعارف على تسميته «الإسلامي الوطني» أو حتى «الوطني الصرف» بمعنى غير الإسلامي؛ ما يعكس واقع التذبذب في توجهات تلك الفصائل فكرياً وآيديولوجياً.

وكان «لواء التوحيد» أبرز فصائل الثورة السورية التي خاضت معارك كثيرة وعلى جبهات مختلفة، لعل أهمها المعارك مع «حزب الله» اللبناني في بلدة القصير عام 2013. لكن بعد مقتل قائده عبد القادر الصالح في استهداف مباشر بغارة جوية في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2013، سرعان ما اضمحل هذا الفصيل أيضاً وتفكك، وتوزعت قياداته وعناصره بين فصائل مختلفة كل بحسب توجهه.

مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
مقاتلون من «هيئة تحرير الشام» في حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

«جيش الإسلام»

من الفصائل البارزة التي لعبت أدواراً أساسية، «جيش الإسلام» الذي يتخذ من بلدة دوما في ريف دمشق معقلاً له، وفرض سيطرته على غالبية الحواضن الثائرة المحيطة بالعاصمة من الغوطة الشرقية في ريف دمشق وبلدة القلمون ومحيطها وصولاً إلى الحدود اللبنانية. كذلك سيطر «جيش الإسلام» على أحياء داخل العاصمة وأطرافها الشرقية، أهمها القابون وبرزة البلد وجوبر وزملكا وغيرها، وصولاً إلى ساحة العباسيين، أهم الساحات الدمشقية بعد ساحة الأمويين.

يشكّل «جيش الإسلام» بتوجهه «السلفي الجهادي» المعلن من عشرات المجموعات المسلحة العاملة في العاصمة وريفها صيف عام 2013 حتى بلغ عدده أكثر من 25 ألف مقاتل بتجهيزات عسكرية متوسطة وثقيلة، بينها دبابات وعجلات مدرعة وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى ظهرت في الاستعراض العسكري الذي نظمه «جيش الإسلام» ربيع عام 2015 لدى تخريج دفعة من مقاتليه بلغت 1700 مقاتل.

وعلى رغم توجهه السلفي الجهادي، فقد دخل هذا الفصيل في جولات قتال مع «جبهة النصرة» و«فيلق الرحمن» المقرب منها، وكذلك تنظيم الدولة (داعش)؛ ما أدى إلى إضعافه بشكل كبير. لكنه بقي متماسكاً إلى حد كبير في بنيته العسكرية حتى لحظة مقتل زعيمه زهران علوش في غارة جوية يُعتقد أنها روسية نفذت في 26 ديسمبر 2015.

وكغيره من الفصائل التي تفككت بمقتل قائدها، لم يستطع «جيش الإسلام» الصمود طويلاً على رغم ما كان يتلقاه من دعم، ولم يتمكن من الحفاظ على مناطق سيطرته ونفوذه السابقة مقارنة بـ«هيئة تحرير الشام».

وبذلك تلاشى واضمحل كأغلبية فصائل الثورة السورية التي فاقت «هيئة تحرير الشام» عدداً وتلقت دعماً مادياً وإعلامياً وشعبياً، التي كانت تحمل اسم «جبهة النصرة» حينها، التي كانت مصنفة - ولا تزال - على قوائم الإرهاب العالمية؛ ما ساهم أيضاً في عزلتها حتى على الإعلام العالمي، على عكس بقية الفصائل. لكن، هذه العزلة هي نفسها التي ستتيح للتنظيم رص صفوفه وتقوية عوده بعيداً عن الأضواء والتأثيرات الخارجية.

التحدّي والصمود

في حين انشغل قادة معظم فصائل المعارضة المسلحة التي تزامن صعودها مع صعود جبهة النصرة كمثل «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» و«لواء التوحيد»، بالتنافس فيما بينهم على النفوذ في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات نظام بشار الأسد، ومحاولاتهم حصد الشعبية في الأوساط الثورية والحواضن الاجتماعية، كان قائد «هيئة تحرير الشام» أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) يعمل بصمت بعيداً عن الضوضاء ولم يظهر للعلن حتى عام 2016، عندما أعلن فك ارتباطه بتنظيم «القاعدة»، ثم عاد وانكفأ إلى حد بعيد.

مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)
مقاتلون من حركة نور الدين الزنكي في ريف حلب في سبتمبر 2018 (غيتي)

تشكلت «هيئة تحرير الشام» (أو جبهة النصرة سابقاً) من تحالف طوعي أو قسري لعدد من الفصائل والتنظيمات المسلحة، كـ«جبهة أنصار الدين» و«حركة نور الدين الزنكي» و«جيش السنة» و«لواء الحق» وغيرها، وتحالف طيف واسع من التشكيلات الأصغر المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، وأبرزها «إمارة القوقاز» و«الحزب الإسلامي التركستاني» و«جيش العزة» و«جيش النصر»، وشهدت هي الأخرى تحولات مهمة وانشقاقات وانتقالات بين التشكيلات العسكرية. لكن ما ميّز «هيئة تحرير الشام» عن الفصائل والمجموعات الأخرى، قدرتها على تغيير مرجعيتها الفكرية وفق ما تفرضه معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ومعطيات خريطة النفوذ والتحالفات في المناطق الخارجة عن سيطرة قوات الأسد.

والواقع أنه قبل انشقاقها عن تنظيم «داعش» في ربيع عام 2013، كانت «جبهة النصرة» الفصيل الأقوى في محافظة دير الزور من حيث القدرات القتالية بأعداد تتعدى 7 آلاف مقاتل، بحسب التقديرات، وأسلحة متوسطة وثقيلة معظمها من تنظيم «داعش» في العراق. وأدى الانشقاق هذا إلى تراجعها مؤقتاً، لكنها سرعان ما أعادت ترتيب صفوفها وتمكنت من تجاوز مرحلة الضعف التي رافقت نهاية قتالها مع «داعش» الذي انتزع منها السيطرة على محافظة دير الزور وبلدة الشحيل، معقلها الرئيس، وأخرجها من معادلة التوازنات في المحافظة كلها.

لكن «جبهة النصرة» التي انسحب مقاتلوها من دير الزور إلى محافظة إدلب، عادت ونجحت في الانطلاق من جديد لبناء قوة فرضت نفسها بحلول نهاية معركة حلب أواخر عام 2016، وتشكيل «هيئة تحرير الشام» في فبراير (شباط) 2017.

وخلافاً للفصائل التي اضطرت للاندماج مع غيرها لضمان بقائها، مثل حركة «أحرار الشام» على سبيل المثال التي اندمجت مع «حركة نور الدين الزنكي» تحت مسمى «جبهة تحرير سورية»، تمكنت «تحرير الشام» من الحفاظ على استقلالها التنظيمي.

بل أكثر من ذلك، انضمت إليها بعض الفصائل الصغيرة مثل «جبهة أنصار الدين» و«جيش النصر» وهما من التنظيمات المسلحة المرتبطة بتنظيم «القاعدة»، أو القريبة منه، وغيرهما.

وكلما مرّ الوقت، ازدادت «تحرير الشام» نفوذاً وقوة، إلى أن تمكنت مطلع 2019 بعد موجة من القتال مع «حركة أحرار الشام» و«حركة نور الدين زنكي» وفصائل أخرى من إحكام سيطرتها على كامل محافظة إدلب، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظات حلب وحماة واللاذقية.

قائد يعرف جنوده

يقول سامي محمد، وهو قيادي شرعي ثم عسكري سابق في «تحرير الشام»، لـ«الشرق الأوسط»: «أهم عامل في بقاء واستمرارية (تحرير الشام) هو استقلالية القرار، وكاريزما القيادة التي يتمتع بها أحمد الشرع وقادة (تحرير الشام)، وتأثيرهم المباشر على عناصرهم، بالإضافة إلى الانضباط العالي والتزام العناصر والقادة بقرارات القيادة».

أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)
أبو محمد الجولاني (الثاني من اليمين) يناقش تفاصيل عسكرية مع القادة الميدانيين في ريف حلب في 2016 (أ.ب)

ولفت محمد إلى الأمر الآخر والمهم جداً هو الثقة التي بناها أحمد الشرع مع العناصر والقادة، فهو يعرف كل قادة الصفوف كلهم حتى الصغيرة ويلتقي بهم وبالعناصر بشكل دائم، وهذا عزز الثقة ومكانته بينهم وداخل التنظيم، بعكس حال الفصائل التي تتسم بالفوضوية والارتجال في القرارات».

وبحسب محمد، فإن «هيئة تحرير الشام» هي أشبه بكلية عسكرية فعلية، بعيدة عن المناطقية سواء لجهة انتماء العناصر أو القادة، بعكس الفصائل التي كان يغلب عليها الطابع المناطقي، وأحياناً العائلي. كما أن خطاب الجماعة لم يكن مناطقياً، بل اعتمدت في سردياتها الحديث عن سوريا كاملة. وعما يقصده محمد بالكلية العسكرية، يقول: «هناك هيكلية قيادية وتنظيمية واضحة بالإضافة إلى مركزية اتخاذ القرار وتنفيذ السياسات التي ترسمها القيادة عبر المجموعات، وهذا عزز كثيراً قوة (تحرير الشام) بعكس الفصائل التي ليس للقيادة المركزية قيمة حقيقية فيها؛ فكل فصيل يتكون من مجموعات محلية تعمل بشكل مستقل وتتبع الفصيل الأساسي بالاسم فقط».

الاستقلالية وتجاوز الخطوط

ويقول محمد الإبراهيم، المعروف باسم «أبو يحيى الشامي»، وكان قائداً عسكرياً في أحد الفصائل الإسلامية، والمُطّلع على تقلبات الفصائل: «إن أهم عامل من عوامل صعود (هيئة تحرير الشام) هو الاستقلالية النسبية التي تمتعت بها، وقدرتها على تجاوز الخطوط المرسومة».

ويشرح الشامي في اتصال مع «الشرق الأوسط» قوله بأن بقية الفصائل ذات التبعية المباشرة لدول معينة، التزمت بخط هذه الدول إلى حد بعيد ووقفت عند سقف محدد لها، بينما عدم تبعية «تحرير الشام» بشكل مباشر حررها من التقيد بسياسة خارجية، فكانت متحررة وقادرة على التصرف بما تمليه مصالحها المباشرة وصولاً حتى إلى تدمير بقية الفصائل.

الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)
الرئيس السوري أحمد الشرع على فرس أسود في دمشق (متداولة)

ويلفت الشامي إلى أن «ذلك لم يكن فقط بسبب قوتها الذاتية، بل بسبب تصنيفها الدولي كياناً إرهابياً، وعدم انخراط الدول في علاقة معلنة معها على غرار فصائل أخرى». وأضاف: «هذا البعد الدولي الظاهري والقرب الخفي أتاح لها هامشاً واسعاً من الاستقلالية؛ ما جعل قدرتها على المناورة والتميز عن بقية الفصائل أكثر قابلية».

ويؤكد الشامي أن «الجولاني، في صراعاته مع فصائل الثورة، وضع كل الاعتبارات جانباً وسعى خلف مصالحه ومصالح فصيله. فكان يقاتل بكل شراسة ويحرص على التغلب. على عكس فصائل كثيرة ارتضت بأنصاف الحلول».

وأخذ الشامي على بقية الفصائل «جبنها» أحياناً في المواجهات مع «هيئة تحرير الشام»، فكانت تقبل بالحلول التي يطرحها الجولاني وتصدق في كل مرة أنه يريد الصلح بينما هو يخدعها ليضعفها ثم يفككها ثم يقضي عليها.

ويضيف الشامي: «هناك تسجيل صوتي منتشر لحسن الدغيم، (الذي كان مسؤول التوجيه المعنوي في الجيش الوطني السوري ثم أصبح الناطق باسم لجنة الحوار الوطني في إدارة أحمد الشرع بعد سقوط النظام السابق) قال فيه صراحة إن الجولاني شخص براغماتي، يضحي بأي شيء وأي شخص من أجل الوصول إلى السلطة». وبحسب الشامي، فإن «هذه البراغماتية كانت العامل الأهم في إدارة الهيئة، والقضاء على خصومها ومنافسيها أو تحييدهم، وإعادة استيعابهم ما أدى إلى إفراغ الساحة من أي مشاريع منافسة، بحيث لم يبقَ سوى مشروع حكومة الإنقاذ، التي انتقلت لاحقاً إلى دمشق بعد التحرير».

مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)
مقاتل من «هيئة تحرير الشام» يحمل سلاحه ويطل على مدينة حمص نهاية يناير 2025 (غيتي)

وختم الشامي بالقول إن «خبرة الجولاني العملية اكتسبها في سوريا، فلم تكن لديه هذه القدرات سابقاً. لكنه طموح جداً، ويُجيد الاستفادة من الإنجازات كما تعلم الدروس من أخطاء (داعش) و(النصرة)».

وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الفوز ممكناً لولا أن ساهم رجال كثيرون لا سيما الشرعيون من «جبهة النصرة» و«هيئة تحرير الشام»، وخارجهما في توطيد شرعية الجولاني ومكانته من خلال الدعاية الدينية. وأبرز هؤلاء مسؤول إدارة التواصل السياسي زيد العطار المعروف تنظيمياً بـ«أبو عائشة»، وأصبح اليوم وزيراً للخارجية (أسعد الشيباني)، والمسؤول الأمني «أبو أحمد حدود» أو أنس خطّاب الذي أصبح اليوم أيضاً مديراً للاستخبارات العامة.

النصر... نصر مشترك

ويقول القيادي السابق في الجيش الحر علاء الدين أيوب، المعروف باسم «الفاروق أبو بكر»، والذي قاد مفاوضات خروج الفصائل من حلب عام 2016: «اختلفنا سابقاً حول سلوك (جبهة النصرة) – ثم (فتح الشام) – ثم (هيئة تحرير الشام)، في تعاملها مع فصائل الجيش الحر. لكن لا يمكننا إنكار أنها كانت الأكثر تنظيماً وتدريباً من بيننا. وعملت الهيئة على تنظيم صفوفها وتدريب مقاتليها، لكن في الوقت عينه لا يمكن نسب النصر الذي تحقق أخيراً لها وحدها».

أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)
أحمد الشرع وقادة الفصائل في إعلان انتصار الثورة 29 يناير الماضي (رويترز)

وأضاف لـ«الشرق الأوسط»: «كان للنصر في عملية ردع العدوان عوامل كثيرة، منها الخارجي كالتدافع الدولي والصراع بين الدول ومنها الداخلي الشعبي والعسكري الذي انعكس في نضال عشرات الآلاف من المقاتلين في المعارك ضمن فصائل الثورة... ومع ذلك، يُحسب للهيئة تفوقها على غيرها في استغلال الفرص».

وأردف أيوب قائلاً: «نعلم جميعاً المرحلة التي سبقت سيطرة الهيئة على إدلب، والمعارك التي خاضتها ضد بقية الفصائل. ولا يمكننا إغفال أن السبب الرئيسي برأيي في سيطرة الهيئة دون غيرها كان تشرذم الفصائل، وعدم قدرتها على تقديم نموذج موحد ومتماسك».

وتابع: « طغت الأنا، وظهر أمراء حرب حولوا فصائلهم أدوات استثمار لتحقيق مكاسب شخصية مالية وسلطوية، فضعفت الفصائل والانتماء إليها. وقد عزز هذه الصورة الدعم الخارجي، وارتهان الكثير من قادة الفصائل لإملاءات الجهات الداعمة».

تشكيلات بولاءات كثيرة

أما بالنسبة للتشكيلات السياسية وأبرزها «الائتلاف الوطني السوري» الذي يمثل الجناح السياسي للمعارضة المسلّحة والمخوّل بالتفاوض قبل سقوط النظام، فقد تشكل بدعم وغطاء تركي وإقليمي ما جعل ولاءات معظم الشخصيات والمجموعات داخله مقيدة بالدول التي ساهمت في إنشائه.

مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)
مارة يعبرون من خلف زجاج خلال إطلاق نار في دمشق (غيتي)

وختم أيوب بقوله: «على مدار أربعة عشر عاماً من الثورة السورية، برزت قيادات كثيرة كانت تمتلك خلفيات دينية وشعبية وثورية، مثل: زهران علوش، عبد القادر الصالح قائد لواء التوحيد، وحسان عبود زعيم (أحرار الشام) معه أبو يزن الشامي، وجمال معروف زعيم فصيل (جبهة ثوار سوريا) الذي قضت عليه (تحرير الشام) عام 2014، لكنهم أبعدوا عن المشهد، سواء بالاغتيال الجسدي أو بالاغتيال المعنوي بينما كان الجولاني الأوفر حظاً في البروز بعد تخفٍّ، والنجاة ثم الفوز بفضل عوامل عدة، أهمها، تجربته السابقة في العراق، وقدراته الأمنية والعسكرية».