بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

المجتمع الاستهلاكي لا يبحث عن منتجات وخدمات فحسب بل عن «تجارب استهلاكية»

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي
TT

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من الأسواق، في ظل دعم كبير من الذكاء الاصطناعي. ومع أننا لسنا أمام مفهوم اقتصادي جديد، إلا أن اقتصاد التجربة بدأ منذ سنوات بالتحوّل إلى إحدى أهم الركائز التي يقوم عليها الاقتصاد العالمي الحديث. ولهذا سنشهد ربما في عام 2024 دينامية اقتصادية داعمة لكل ما يتعلق باقتصاد التجربة، وترسيخاً لوعي اقتصادي جديد حيال ما تستطيع التكنولوجيا فعله بدعمٍ من الذكاء الاصطناعي في عالمنا.

في عام 1998 قدّم كل من جوزف باين وجيمس غيلمور نظرتيهما إلى مفهوم اقتصاد التجربة في مقال، قبل أن يستفيضا بشرحها من خلال كتاب أصدراه في عام 1999 ركّز على تطّور القيمة الاقتصادية وانطلاق عصر المنتجات الزراعية وصولاً إلى عصر الخدمات. وبعد أن كانت الزراعة تشكل محور الاقتصاد العالمي لفترة طويلة من الزمن، جاءت الصناعة بكامل قوتها لتُعيد تعريف الكثير من المفاهيم الاقتصادية وتستحوذ على القيمة ضمن الناتج الاقتصادي العالمي. لم يستمر هذا الوضع طويلاً، فقد حلّت مرحلة اقتصاد الخدمات، الذي سيطر سريعاً على المفاصل الاقتصادية.

لحظة تاريخية

وفي تلك اللحظة التاريخية، تحوّلت الخدمات إلى سلع، وباتت المنافسة تتركز على الأسعار. لكن عندما تساوت السلع من حيث القيمة السعرية، بدأت الأسواق بمحاولة شجاعة، هدفها إخراج الأسعار من حلبة المنافسة وإضافة بُعد جديد يميّز الخدمات ويعطيها آفاقاً جديدة. هنا بالتحديد بدأت المنافسة تشتد بين السلع والخدمات، ووُلدت بذلك ما نسمّيها اليوم «تجربة العميل»، التي فتحت أبواباً واسعة أمام قيامة «اقتصاد التجربة». ولا شك أننا وصلنا إلى هذه المرحلة بـ«بركة التكنولوجيا» لأنها أعطت بُعداً كبيراً للتجارب التي يخوضها المُستهلك أو المستخدم في عالم الخدمات بشكل خاص.

وإذا نظرنا اليوم إلى سياق التطوّر التاريخي لاقتصاد التجربة سنرى أن التكنولوجيا لعبت الدور الحيوي الأكبر في تعزيز التفاعل بين المستهلك والعلامة التجارية، وبأساليب لم يسبق لنا أن تخيّلناها من قبل.

اقتصاد التجربة

ولهذا السبب تُعدّ فكرة «اقتصاد التجربة» بالنسبة إلى كبار الاقتصاديين كما لشركات التكنولوجيا مثل «أفايا»، نقلة اقتصادية تاريخية تختصر مجمل التحولاّت الاقتصادية الرئيسية في العالم. ومن البدهيّ القول إن مفهوم اقتصاد التجربة يستند إلى وعي اقتصادي حديث ومختلف للعلاقة التي تجمع الاستهلاك بتجربة الاستهلاك. وهو ما يؤكد أن المجتمع الاستهلاكي ككل لا يبحث عن منتجات وخدمات فحسب، بل يبحث أيضاً عن تجارب استهلاك مميّزة تترك شعوراً بالرضا والمتعة التي لا تُنسى. فالسلع متوفرة لدى المنافسين وكذلك الخدمات، أما «تجربة التعامل» مع السلع والخدمات فباتت أمراً آخر تتنافس عليه العلامات التجارية. وهذا ليس اكتشافاً، فمعظم الاقتصاديين الكبار ركّزوا على أهمية تحقيق فهم عميق للعلاقات التي تربط السلع بالعمل والقيمة، كونها مصدراً أساسياً أسهم في بناء الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الليبرالية.

قواعد اللعبة تغيّرت

في عام 2024 من المرجّح أن يشهد عالمنا تسارعاً ملحوظاً في عالم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتطوّر الذي سنشهده لن تقتصر فوائده على المجالات التكنولوجية فحسب، لأن الذكاء الاصطناعي بدأ بالفعل بدفعنا جميعاً إلى مراجعة الأفكار والمسلّمات والمفاهيم الاقتصادية والاستهلاكية. إنه عالم تزداد فيه وتيرة وسرعة التغيرات. وفي ظل تطور مفهوم اقتصاد التجربة، حيث لا تقتصر اهتمامات المستهلك على مجرد الحصول فقط على المنتج أو الخدمة، يظهر دور الذكاء الاصطناعي بوصفه منصة فريدة من نوعها تدعم هذا التحوّل الإيجابي، كونها تسهم في صناعة تجربة استهلاك أفضل. وعندما نرى كم من المستهلكين يبحثون عن تجارب مميّزة تلبي تطلعاتهم، نفهم أكثر دور الذكاء الاصطناعي في تحقيق هذه الرغبات.

جيل الألفية وجيل «زد»

نسبة هؤلاء المستهلكين ليست ضئيلة وتزداد باستمرار، خصوصاً مع جيل الألفية وجيل «زد» Z اللذين لا يساومان على التجربة ونوعيتها وقدرتها على تلبية متطلباتهما، وتقديم ذكريات استهلاكية ممتعة. وإذا نظرنا إلى الجيلين بوصفهما شريحة متجانسة تلتقي تطلّعاتها عند موضوع التجارب المتعلقة بالخدمات والسلع، فإننا عملياً نتحدث هنا عن نحو 50 في المائة من سكان العالم، وتالياً ثمة شريحة استهلاكية كبيرة ربما لم تتحدد نسبتها بشكل دقيق بعد، ولكنها تمثّل الجزء الأكبر من الأجيال الاستهلاكية في عالمنا اليوم. نعم! لقد تغيّرت قواعد اللعبة، فالأجيال الجديدة مستعدة للإنفاق على القيمة والتجربة لا على الاستحواذ والملكية، ومن هنا نفهم أكثر سبب الرعب الذي يصيب العلامات التجارية التي لم تعرف بعد أن ولاء المستهلك لم يعد للعلامة التجارية والمنتج بل للتجربة والإحساس والذكريات المصاحبة لاستهلاك المنتج، سلعةً كان أم خدمةً.

تجارب الأجيال

التجربة التي تعيشها هذه الشريحة العالمية المشكّلة من جيلين، لم يشهد التاريخ الاقتصادي مثيلاً لها، لأنها مؤلَّفة من قاعدة استهلاكية تبنّت في معظمها الخدمات التكنولوجية الحديثة، وهي تتطلّع باستمرار إلى نوعية حياة مختلفة وجديدة، مما يسهم تالياً في حدوث تحوّل نوعي في الديناميات الاقتصادية. كما تتبنّى هذه الشريحة قيماً استهلاكية وشخصية مختلفة عن قيم الأجيال السابقة تجاه التسوّق والاستهلاك. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في حين يشعر جيل الألفية برغبة الانخراط في تجارب يعدها ممتعة ومفيدة وتترك أثراً، يتوقع جيل «زد» أن تقدم له العلامات التجارية تجارب استهلاك مخصّصة له، تتمتع بالفرادة وبالقدرة على التفاعل أو توفير الميزات التفاعلية، وهذا أمر لا تتيحه مبدئياً سوى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

كذلك، كِلا الجيلين يتوق إلى الاستفادة من الابتكار التكنولوجي واستخدام التقنيات الحديثة، لا بل إنهما يتوقعان توفير العلامات التجارية الخدمات والسلع في قالب من الابتكار والتفاعل ضمن تجربة استهلاك مميزة. وهذا الأمر يظهر جلياً مع الاعتماد المتنامي على التطبيقات الذكية في الحياة اليومية، ومشاركة المحتوى الرقمي مع الآخرين واستخدام الواقع الافتراضي والواقع المعزّز.

من هنا نفهم أكثر، أهمية الهاتف الذكي وباقي الأجهزة الذكية في حياة جيل الألفية وجيل «زد»، فكلاهما ينظر إلى الأجهزة الذكية وعلى رأسها الهاتف الذكي، بوصفها «البوابة الذهبية» التي سيعبران من خلالها إلى عالم جديد يلبي تطلعاتهما ورغباتهما الاستهلاكية، وأهمها تجربة الاستهلاك المدعوم بالذكاء الاصطناعي. وتعلم هذه الشريحة من الأجيال أن الذكاء الاصطناعي قادر على تحسين نوعية حياتها، لهذا تندفع العلامات التجارية ومعها مزوّدو حلول تطوير تجارب الاستهلاك الذكية مثل «أفايا»، إلى تعزيز القدرات في عالم الذكاء الاصطناعي.

على مشارف المستقبل

نقف جميعاً اليوم على مشارف مستقبل واعد في عالم اقتصاد التجربة، تقوده ثلاثية ذهبية مكوّنة من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأجيال الجديدة. ولا شك أن حضور الشركات بقوة على حلبة «اقتصاد التجربة»، إذ يجري تحويل السلع والخدمات إلى تجارب، سيكون له أثر كبير ومفيد لا في مستقبل الاستهلاك فحسب بل أيضاً في مستقبل الشركات نفسها. وليس من المبالغة القول إن تجارب العملاء في عالم اقتصاد التجربة سيُحدد مَن يبقى ويستمر ومَن يتلاشى ويرحل من الشركات. وبما أن تجارب العملاء التي ستقدمها الشركات هي بيت القصيد في عالم اقتصاد التجربة، فإن التركيز في عام 2024 قد يكون ابتكار تجربة عملاء تحقق التمايز والنمو في آن معاً. وتدرك قيادات العلامات التجارية أن مراكز الاتصال وأنظمة الاتصالات والتعاون بين فرق العمل، سيشكّلان «رأس الحربة» لقيادة عملية توليد تجارب مميزّة لعملائها، وستكون الابتكارات المدعومة بالذكاء الاصطناعي في مقدمة عملية تعزيز حلول تجربة العملاء.

وإذا كان عام 2023 هو عام اكتشاف الإمكانات الكبيرة للذكاء الاصطناعي، فإن عام 2024 سيكون الميدان الذي نرى فيه كيف ستتم ترجمة الاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي بشكل ملموس إلى بلورة قيمة الأعمال.

أخلاقيات العمل

ولأن الرؤساء التنفيذيين ومجالس الإدارة في مختلف الشركات، يركزون حالياً وبشكل متصاعد على إدارة المخاطر والخصوصية والأمن والمخاوف المتعلقة بأخلاقيات العمل المرتبطة بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، فإن عام 2024 قد يكون العام الذي يُفتح فيه النقاش واسعاً حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي. وهذا أمر في غاية الأهمية بالنسبة لكل الشركات والمؤسسات والهيئات الناظمة والمجالس التشريعية التي تعي أهمية أخلاقيات الأعمال.

وبغضّ النظر عن كيف ستسير الأمور على مستوى اقتصاد التجربة ودور الذكاء الاصطناعي وتفاعل شرائح المستهلكين مع التجارب الجديدة في عالم الخدمات والسلع، فإن الأكيد أننا أمام ولادة عصر جديد، لأن اقتصاد التجربة يشكل نهجاً حيوياً غير مسبوق في العلاقة التي تجمع العلامات التجارية بالمستهلكين. إنه يتجاوز مجرد مفهوم تبادل المنتجات والخدمات، ويتمحور حول التجربة الناتجة عن الاستهلاك. وليس لديَّ أدنى شك في أن اقتصاد التجربة سيوفّر التفاعل العاطفي بين المستهلك والعلامة التجارية، وهو ما سيؤدي إلى بناء علاقات بينهما تتسم بالقوة والمتانة. وبالتالي ستحقق الشركات نجاحاً أكبر عندما ستضع المستهلك وسط تجربة فريدة تعزّز الولاء والرغبة بتكرار عمليات الشراء.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص رئيس الاحتياطي الفدراسي في مؤتمر صحافي 13 ديسمبر (أ.ف.ب)

خاص 2024... سنة معقّدة ومحورية للاقتصاد العالمي

الانخفاضات المتوقعة في معدلات الفائدة من قبل المصارف المركزية الرئيسية في يونيو (حزيران) 2024 تأتي مصحوبة بجوانب من عدم اليقين.

سمير عساف

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!