هل يستطيع السودان الصمود؟

حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف السودانية لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح.

سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

هل يستطيع السودان الصمود؟

سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)

بدأ عام 2023 بداية كانت تبدو مبشّرة وداعية للتفاؤل بالنسبة إلى السودان، حيث أبرم كل من القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتفاق إطار لتشكيل حكومة مدنية انتقالية. للأسف مع نهاية العام يواجه السودان انقساماً على أرض الواقع مثله مثل ليبيا. فقد دُمرت العاصمة، واستشرى القتال على أساس عرقي، ونزح نحو 5.5 مليون سوداني، في حين يعاني 18 مليوناً من الجوع الشديد.

هذا الوضع أبعد ما يكون عما تصوره الشعب السوداني، والولايات المتحدة الأميركية، وغيرهم بعد عزل الرئيس البشير في أبريل (نيسان) 2019، وما أعقب ذلك من تشكيل حكومة انتقالية يغلب عليها الطابع المدني. كيف ساءت الأمور بهذا الشكل؟ تبين أن الدولة الفاسدة، التي أقامها البشير، قوية وثابتة وراسخة رغم عزله من منصبه. ازدادت الأطراف الفاعلة السياسية المدنية انقساماً وفرقة، وفشلت في التواصل مع النساء والشباب الذين قادوا الثورة التي اندلعت خلال عامي 2018 و2019. وعندما حاولت الحكومة الانتقالية نقل بعض السلطات المرتبطة بالاقتصاد من أيدي الجيش، نفّذ كل من الفريق أول البرهان وحميدتي انقلاباً في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.

قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان (أ.ب)

وبعد الانقلاب، حاول كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، وهي مؤسسة إقليمية، بشكل مشترك تيسير تسوية جديدة بين الأطراف السياسية المدنية والقائدين. دعمت الولايات المتحدة الأميركية هذه المحاولات، وأسفرت العملية عن اتفاق يؤسس لتشكيل حكومة مدنية انتقالية جديدة في أبريل 2023. مع ذلك ظلت المسألة المثيرة للجدل، والمتمثلة في دمج قوات «الدعم السريع» والقوات المسلحة السودانية في جيش واحد قائمةً وعصيّة عن الحل، واستغل المخربون والمفسدون ذلك.

وفي 15 أبريل اندلع قتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» داخل العاصمة الخرطوم ومحيطها، وسرعان ما اتسع نطاق القتال. وعند نهاية العام، سيطرت قوات «الدعم السريع» على أربع ولايات من إجمالي خمس ولايات في إقليم دارفور في الغرب، وأجزاء مهمة من إقليم كردفان في الجنوب، إضافة إلى جزء كبير من الخرطوم الكبرى، في حين تهيمن القوات المسلحة السودانية على غالبية مناطق النيل الأبيض. لقد بات السودان في حالة انقسام فعلي.

لم يتجاهل العالم هذه الأزمة الجديدة في السودان، وسرعان ما نظمت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مفاوضات في جدة سعياً لوقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للنازحين السودانيين. وعلى رغم وعود القائدين بوقف إطلاق النار، استمر القتال وتم تعليق المفاوضات. كذلك حاولت أطراف فاعلة خارجية القيام بجهود وساطة. مع ذلك رفضت حكومة البرهان جهود الاتحاد الأفريقي بقولها إن تعليق الاتحاد عضوية السودان بعد الانقلاب دليل على الانحياز.

كذلك رفض البرهان محاولات اللجنة الرباعية التابعة للهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بزعم أن القيادة الكينية لها تفضل قوات «الدعم السريع» وتنحاز لها. وعرقل أيضاً أي دور لبعثة الأمم المتحدة في السودان. وعقدت مصر اجتماعاً لدول الجوار، لكن أخفقت تلك الجهود أيضاً في وقف القتال. وكانت النتيجة الأكثر بشاعة لتوسيع نطاق الصراع هي مذبحة المساليت العرقية التي ارتكبتها قوات «الدعم السريع» بالتعاون مع حلفائها من القبائل البدوية. استمرت جرائم القتل والاغتصاب دون رقيب من جانب قيادة قوات «الدعم السريع».

قائد قوات «الدعم السريع» محمد حميدتي (أ.ب)

في أكتوبر 2023، استأنف كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية محادثات جدة، ونجحت في الدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» لمناقشة إجراءات بناء الثقة بهدف التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. مع ذلك سرعان ما عاد القائدان السودانيان إلى المطالبة بالحد الأقصى من بعضهما البعض، واستمر القتال.

في الأثناء، عقدت الهيئة الحكومية للتنمية قمة استثنائية في 3 ديسمبر (كانون الأول)، ويُقال إن البرهان وحميدتي وافقا على اللقاء في غضون 15 يوماً لمناقشة وقف إطلاق نار مدته 30 يوماً. وما إن عاد البرهان من القمة، حتى بدأ وزير خارجيته يقوّض نتيجتها، وما أسفرت عنه، ويبدو أن جهود السلام قد وصلت إلى طريق مسدود.

وعلى رغم المكاسب التي حققتها قوات «الدعم السريع» على الأرض مؤخراً، يبدو أن القتال يتجه إلى طريق مسدود هو الآخر. هل يمكن لأي من القوات المسلحة السودانية أو قوات «الدعم السريع» هزيمة الآخر؟ في الوقت الذي قد يعتقد فيه القائدان ذلك، يشير تاريخ السودان إلى خلافه. لقد أسفرت 38 عاماً من الحرب الأهلية السابقة عن انقسام البلاد لا عن نصر عسكري.

هل تقسيم السودان بدرجة أكبر من ذلك هو ما يريده أي شخص، سواء كان سودانياً أو غير سوداني، حقاً؟ ولصالح مَن هذه النتيجة؟ بالتأكيد ليست لصالح السودانيين الذين سيظلون يعانون ويموتون إذا ما استمر القتال. وبالتأكيد ليس ذلك أيضاً لصالح الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا اللتين تريدان توقف القتل العرقي، وتدفق مواد الإغاثة الإنسانية، وإقامة حكم ديمقراطي في السودان. كذلك ليس ذلك لصالح أي من دول جوار السودان، كما هو مأمول، التي إما تخشى امتداد حالة الفوضى وانعدام الأمن إليها، وإما تريد الاستثمار في الإمكانيات الهائلة الزراعية أو التجارية أو في الثروة المعدنية في السودان. فهل تكون الاستثمارات آمنة إذا ظل المعسكران المسلحان يقتتلان؟

حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح. من أين يمكن البدء؟ على الأرجح ليس مع القائدين السودانيين اللذين لا يزالان يسعيان وراء نصر عسكري، ولا يقدمان أي مسار مقبول للسلام. ربما يمكن البدء بأولئك الذين يتيحون استمرار القتال.

يتمتع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعيّن حديثاً، رمتان لامامرا، بالخبرة والوقار اللازمين لإشراك كافة أطراف الصراع في مسار لوقف القتال وإتاحة المجال لحل سياسي. كذلك قد يكون التعيين الفوري لمبعوث للهيئة الحكومية للتنمية نافعاً، شريطة توحيد الجهود مع لامامرا. ويمكن أيضاً لجهود «المسار الثاني» غير الرسمية أن تكون مفيدة في التوصل إلى صيغة تلبي ما يكفي من مصالح الطرفين لإنهاء القتال، والتوصل إلى مسار سياسي لإعادة توحيد السودان. مع ذلك سوف يتطلب أي توحيد وطني حقيقي لدعم الأغلبية العظمى من الشعب السوداني نفسه، ويعني ذلك ضرورة جعل الحركات المدنية السياسية والحركات الشعبية، التي تزداد وحدة وترابطاً، في صلب أي صيغة لسلام واستقرار مستدامين.

عاش السودان منذ الاستقلال في ظل حكم عسكري في غالبية المراحل، وأصبح دولة هشة. والاستمرار في شكل حكم يسيطر عليه الجيش، وتوقع نتيجة مختلفة، أمر غير مجد ولا طائل من ورائه.

هل يمكن للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا دعم مثل هذا النهج القائم على المصالح الذي يتطلب الكثير من التنازلات والمواءمات؟ هل ستتمكنان من تحقيق أهداف الشعب السوداني؛ من أمن وشروط حياة إنسانية وحكم رشيد إذا ما فعلتا ذلك؟ هل يمكن أن تدعما اتفاقات يتوصل إليها القائدان السودانيان وقادة مدنيون مع شركاء إقليميين للبلاد؟ بعبارة أخرى، هل يمكن لهم التنازل عن بعض مصالحهم إذا ما عزم من يشعلون الحرب ويستمرون في القتال على ذلك؟

يعتمد بقاء السودان وصموده على إنهاء القتال، ويتطلب ذلك دبلوماسية بارعة من جانب طرف موثوق به ليس لديه أي مصالح من أجل التوصل إلى تنازلات ومواءمات فيما يتعلق بمصالح سودانية وخارجية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».