هل يستطيع السودان الصمود؟

حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف السودانية لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح.

سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

هل يستطيع السودان الصمود؟

سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)
سودانيون يفرون من تمدد المعارك إلى ود مدني قبل سيطرة «الدعم السريع» عليها قبل أيام (أ.ف.ب)

بدأ عام 2023 بداية كانت تبدو مبشّرة وداعية للتفاؤل بالنسبة إلى السودان، حيث أبرم كل من القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو (حميدتي)، اتفاق إطار لتشكيل حكومة مدنية انتقالية. للأسف مع نهاية العام يواجه السودان انقساماً على أرض الواقع مثله مثل ليبيا. فقد دُمرت العاصمة، واستشرى القتال على أساس عرقي، ونزح نحو 5.5 مليون سوداني، في حين يعاني 18 مليوناً من الجوع الشديد.

هذا الوضع أبعد ما يكون عما تصوره الشعب السوداني، والولايات المتحدة الأميركية، وغيرهم بعد عزل الرئيس البشير في أبريل (نيسان) 2019، وما أعقب ذلك من تشكيل حكومة انتقالية يغلب عليها الطابع المدني. كيف ساءت الأمور بهذا الشكل؟ تبين أن الدولة الفاسدة، التي أقامها البشير، قوية وثابتة وراسخة رغم عزله من منصبه. ازدادت الأطراف الفاعلة السياسية المدنية انقساماً وفرقة، وفشلت في التواصل مع النساء والشباب الذين قادوا الثورة التي اندلعت خلال عامي 2018 و2019. وعندما حاولت الحكومة الانتقالية نقل بعض السلطات المرتبطة بالاقتصاد من أيدي الجيش، نفّذ كل من الفريق أول البرهان وحميدتي انقلاباً في أكتوبر (تشرين الأول) 2021.

قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان (أ.ب)

وبعد الانقلاب، حاول كل من الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، وهي مؤسسة إقليمية، بشكل مشترك تيسير تسوية جديدة بين الأطراف السياسية المدنية والقائدين. دعمت الولايات المتحدة الأميركية هذه المحاولات، وأسفرت العملية عن اتفاق يؤسس لتشكيل حكومة مدنية انتقالية جديدة في أبريل 2023. مع ذلك ظلت المسألة المثيرة للجدل، والمتمثلة في دمج قوات «الدعم السريع» والقوات المسلحة السودانية في جيش واحد قائمةً وعصيّة عن الحل، واستغل المخربون والمفسدون ذلك.

وفي 15 أبريل اندلع قتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» داخل العاصمة الخرطوم ومحيطها، وسرعان ما اتسع نطاق القتال. وعند نهاية العام، سيطرت قوات «الدعم السريع» على أربع ولايات من إجمالي خمس ولايات في إقليم دارفور في الغرب، وأجزاء مهمة من إقليم كردفان في الجنوب، إضافة إلى جزء كبير من الخرطوم الكبرى، في حين تهيمن القوات المسلحة السودانية على غالبية مناطق النيل الأبيض. لقد بات السودان في حالة انقسام فعلي.

لم يتجاهل العالم هذه الأزمة الجديدة في السودان، وسرعان ما نظمت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية مفاوضات في جدة سعياً لوقف إطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية للنازحين السودانيين. وعلى رغم وعود القائدين بوقف إطلاق النار، استمر القتال وتم تعليق المفاوضات. كذلك حاولت أطراف فاعلة خارجية القيام بجهود وساطة. مع ذلك رفضت حكومة البرهان جهود الاتحاد الأفريقي بقولها إن تعليق الاتحاد عضوية السودان بعد الانقلاب دليل على الانحياز.

كذلك رفض البرهان محاولات اللجنة الرباعية التابعة للهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) بزعم أن القيادة الكينية لها تفضل قوات «الدعم السريع» وتنحاز لها. وعرقل أيضاً أي دور لبعثة الأمم المتحدة في السودان. وعقدت مصر اجتماعاً لدول الجوار، لكن أخفقت تلك الجهود أيضاً في وقف القتال. وكانت النتيجة الأكثر بشاعة لتوسيع نطاق الصراع هي مذبحة المساليت العرقية التي ارتكبتها قوات «الدعم السريع» بالتعاون مع حلفائها من القبائل البدوية. استمرت جرائم القتل والاغتصاب دون رقيب من جانب قيادة قوات «الدعم السريع».

قائد قوات «الدعم السريع» محمد حميدتي (أ.ب)

في أكتوبر 2023، استأنف كل من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية محادثات جدة، ونجحت في الدفع باتجاه التوصل إلى اتفاق بين القوات المسلحة السودانية وقوات «الدعم السريع» لمناقشة إجراءات بناء الثقة بهدف التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. مع ذلك سرعان ما عاد القائدان السودانيان إلى المطالبة بالحد الأقصى من بعضهما البعض، واستمر القتال.

في الأثناء، عقدت الهيئة الحكومية للتنمية قمة استثنائية في 3 ديسمبر (كانون الأول)، ويُقال إن البرهان وحميدتي وافقا على اللقاء في غضون 15 يوماً لمناقشة وقف إطلاق نار مدته 30 يوماً. وما إن عاد البرهان من القمة، حتى بدأ وزير خارجيته يقوّض نتيجتها، وما أسفرت عنه، ويبدو أن جهود السلام قد وصلت إلى طريق مسدود.

وعلى رغم المكاسب التي حققتها قوات «الدعم السريع» على الأرض مؤخراً، يبدو أن القتال يتجه إلى طريق مسدود هو الآخر. هل يمكن لأي من القوات المسلحة السودانية أو قوات «الدعم السريع» هزيمة الآخر؟ في الوقت الذي قد يعتقد فيه القائدان ذلك، يشير تاريخ السودان إلى خلافه. لقد أسفرت 38 عاماً من الحرب الأهلية السابقة عن انقسام البلاد لا عن نصر عسكري.

هل تقسيم السودان بدرجة أكبر من ذلك هو ما يريده أي شخص، سواء كان سودانياً أو غير سوداني، حقاً؟ ولصالح مَن هذه النتيجة؟ بالتأكيد ليست لصالح السودانيين الذين سيظلون يعانون ويموتون إذا ما استمر القتال. وبالتأكيد ليس ذلك أيضاً لصالح الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا اللتين تريدان توقف القتل العرقي، وتدفق مواد الإغاثة الإنسانية، وإقامة حكم ديمقراطي في السودان. كذلك ليس ذلك لصالح أي من دول جوار السودان، كما هو مأمول، التي إما تخشى امتداد حالة الفوضى وانعدام الأمن إليها، وإما تريد الاستثمار في الإمكانيات الهائلة الزراعية أو التجارية أو في الثروة المعدنية في السودان. فهل تكون الاستثمارات آمنة إذا ظل المعسكران المسلحان يقتتلان؟

حتى ينتهي القتال وتنتهي حالة الانقسام الموجودة حالياً على أرض الواقع، من الضروري تقديم كل الأطراف لتنازلات تتعلق بمصالحهم والتوصل إلى تسوية مرضية توفق بين هذه المصالح. من أين يمكن البدء؟ على الأرجح ليس مع القائدين السودانيين اللذين لا يزالان يسعيان وراء نصر عسكري، ولا يقدمان أي مسار مقبول للسلام. ربما يمكن البدء بأولئك الذين يتيحون استمرار القتال.

يتمتع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعيّن حديثاً، رمتان لامامرا، بالخبرة والوقار اللازمين لإشراك كافة أطراف الصراع في مسار لوقف القتال وإتاحة المجال لحل سياسي. كذلك قد يكون التعيين الفوري لمبعوث للهيئة الحكومية للتنمية نافعاً، شريطة توحيد الجهود مع لامامرا. ويمكن أيضاً لجهود «المسار الثاني» غير الرسمية أن تكون مفيدة في التوصل إلى صيغة تلبي ما يكفي من مصالح الطرفين لإنهاء القتال، والتوصل إلى مسار سياسي لإعادة توحيد السودان. مع ذلك سوف يتطلب أي توحيد وطني حقيقي لدعم الأغلبية العظمى من الشعب السوداني نفسه، ويعني ذلك ضرورة جعل الحركات المدنية السياسية والحركات الشعبية، التي تزداد وحدة وترابطاً، في صلب أي صيغة لسلام واستقرار مستدامين.

عاش السودان منذ الاستقلال في ظل حكم عسكري في غالبية المراحل، وأصبح دولة هشة. والاستمرار في شكل حكم يسيطر عليه الجيش، وتوقع نتيجة مختلفة، أمر غير مجد ولا طائل من ورائه.

هل يمكن للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا دعم مثل هذا النهج القائم على المصالح الذي يتطلب الكثير من التنازلات والمواءمات؟ هل ستتمكنان من تحقيق أهداف الشعب السوداني؛ من أمن وشروط حياة إنسانية وحكم رشيد إذا ما فعلتا ذلك؟ هل يمكن أن تدعما اتفاقات يتوصل إليها القائدان السودانيان وقادة مدنيون مع شركاء إقليميين للبلاد؟ بعبارة أخرى، هل يمكن لهم التنازل عن بعض مصالحهم إذا ما عزم من يشعلون الحرب ويستمرون في القتال على ذلك؟

يعتمد بقاء السودان وصموده على إنهاء القتال، ويتطلب ذلك دبلوماسية بارعة من جانب طرف موثوق به ليس لديه أي مصالح من أجل التوصل إلى تنازلات ومواءمات فيما يتعلق بمصالح سودانية وخارجية.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
TT

الحقيقة بين حَربَيْن: يوليو 2006 - أكتوبر 2023

رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)
رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة (غيتي)

المحنة الخطيرة التي تعرّض لها لبنان في عام 2006، بالمقارنة مع المحنة التي لا يزال يتعرّض لها منذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وحتى الآن، تبينان أن هناك أوجه شبه متعددة في جذورهما، كما أن هناك فروقات شاسعة بينهما، لا سيما بسبب تغير الظروف والأحوال.

منذ اللحظة التي قام بها العدو الإسرائيلي بعدوانه على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، بحجة العملية العسكرية لـ«حزب الله» واختطافه عنصرين من الجيش الإسرائيلي، دعوتُ مجلس الوزراء للانعقاد والبحث في مخاطر هذا العدوان وتداعياته، واتخاذ التدابير، لحماية الأمن الوطني وحماية أمن اللبنانيين وسلامتهم، في المناطق التي أصبح يستهدفها، وللحؤول دون إفراغ الجنوب اللبناني من أهله.

لقد طرحتُ الأمر على مجلس الوزراء، وقلتُ بوضوح، إننا كحكومة فوجئنا ولم نكن على علم مسبّق بهذه العملية، وإننا لا نتبناها، ونستنكر عدوان إسرائيل على لبنان، وعلى سيادته وعلى الشعب اللبناني، وعلينا تقديم شكوى عاجلة إلى مجلس الأمن، والمطالبة بوقف إطلاق النار.

المسافة بين الدولة و«الحزب»

بذلك نجحت الحكومة آنذاك في إيجاد مسافة واضحة بين الدولة اللبنانية و«حزب الله»، وهو ما أفسح المجال أمامها في مخاطبة المجتمعين العربي والدولي، والتواصل معهما من أجل مساعدة لبنان وتعزيز صموده. وهذا أيضاً ما أهّلها ومكّنها بعد ذلك، وفي ظل عنف الجرائم التي باتت ترتكبها إسرائيل إلى أن تكتسب دور الضحية الذي حاولت إسرائيل أن تلبس رداءه منذ صباح الثاني عشر من يوليو (تموز).

حرصت منذ ذلك الوقت على أن تكون الدولة اللبنانية بكل مكوناتها وإمكاناتها هي المسؤولة عن كل ما يجري، وعن معالجة نتائج ما حصل وما سيحصل، وأنها ستتحمل مسؤولياتها باتخاذ كل القرارات والإجراءات التي تحمي لبنان واللبنانيين، وتوفير مقومات صمودهم والاهتمام بالنازحين اللبنانيين.

منذ ذلك اليوم، تحوّل السراي الحكومي إلى ورشة عمل وطنية لا تهدأ، كما تحول أعضاء الحكومة إلى فريق عمل واحد للدفاع عن لبنان، والعمل على استنهاض الجهود في كل إدارات الدولة ومرافقها وإمكاناتها من أجل توفير مقومات الحياة للبنانيين، كما استنهاض المجتمع المدني للقيام بدورهم بواجب الدفاع عن لبنان.

على المستوى الخارجي، تكثّفت الاتصالات اليومية وبالتعاون مع وزير الخارجية اللبناني بكبار المسؤولين في العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة، ومروراً برؤساء الدول العربية الشقيقة، وكذلك الدول الصديقة ممن يملكون القرار، ولهم القوة والنفوذ والتأثير الدولي، وكان مطلبنا الأساسي والأول من مجلس الأمن الدولي وقف إطلاق النار.

في ذلك الوقت، استمرّ العدو الإسرائيلي في شن الحرب على لبنان، وفي استهداف المنشآت والمرافق، وتدمير الجسور والطرقات والمدارس والأبنية في القرى والبلدات، بينما جهدت الحكومة من أجل استنهاض العالم والمنظمات الدولية لإدانة ووقف ما يعانيه لبنان، وما يتعرّض له من مخاطر.

مهجرون في حرب تموز 2006 يعودون إلى مناطقهم بعد وقف إطلاق النار (غيتي)

خطة النقاط السبع

في ذلك الوقت، بادرت مع مجلس الوزراء، وبحضور رئيس الجمهورية ومشاركته الفعالة إلى بلورة صيغ الحلول للبنان، ووضعها بمتناول رؤساء دول العالم ومجلس الأمن من أجل وقف الحرب على لبنان ولإنهاء العدوان الإسرائيلي، حيث أقرت الحكومة خطة النقاط السبع التي عرضْتُها في مؤتمر روما، والتي اعتمدها مجلس الأمن من ضمن بناءاته في إصدار القرار الدولي بوقف إطلاق النار.

صدر القرار رقم 1701 عن مجلس الأمن، وتوقفت الحرب، وعاد النازحون إلى ديارهم وقراهم ابتداء من يوم 14 أغسطس (آب) 2006، وأنجزت ورشة البناء والإعمار للبنى التحتية وللأبنية المدمرة والمتضررة على أعلى درجات الكفاءة والصدقية والفاعلية والسرعة، وبفضل المساعدات الكريمة التي قدمتها الدول العربية، لا سيما دول الخليج، والدول الصديقة، والتي استند لبنان في الحصول عليها على الثقة التي رسختها الحكومة اللبنانية في علاقاتها مع جميع الأشقاء والأصدقاء. وبناء على ذلك، فقد عاد لبنان من جديد إلى نهوضه وازدهاره، ولممارسة دوره الطبيعي عربياً وعالمياً، وحيث استطاع لبنان خلال السنوات من 2007 إلى 2010 أن يحقق أعلى نسبة نمو في تاريخه الحديث لـ4 سنوات متوالية، وأن يحقق فائضاً سنوياً كبيراً في ميزان المدفوعات، وكذلك فائضاً إيجابياً كبيراً في مجموع الاحتياط من العملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وخفضاً نسبياً كبيراً في نسبة الدين العام اللبناني إلى ناتجه المحلي.

لقاء رئيس الحكومة الاسبق فؤاد السنيورة بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل للاتفاق على مشاركة ألمانيا في قوات "يونيفيل" في 2006 (غيتي)

وحدة ساحات بلا مقوّمات

بالمقارنة، فإنَّ ما حصل في 8 أكتوبر عام 2023، نتيجة مبادرة «حزب الله» مستنداً إلى نظريته بوحدة الساحات، وهو قد قام بذلك منفرداً وعلى مسؤوليته، ومن دون اطلاع أو معرفة السلطات الشرعية في لبنان إلى إشعال الجبهة على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، وأيضاً دون الأخذ بالحسبان الظروف شديدة الصعوبة التي بات يعاني منها لبنان آنذاك، ولا يزال.

صباح اليوم التالي، في 8 أكتوبر 2023، أصدرتُ بياناً شدّدت فيه على أن لبنان لا يستطيع، ولا يمكن أن يُزجَّ به في هذه المعركة العسكرية، وعددت 5 أسباب أساسية فحواها الأزمة الوطنية والسياسية لعدم انتخاب رئيس للجمهورية، وعدم تأليف حكومة مسؤولة، والضائقة الاقتصادية الخانقة، وأزمة النازحين السوريين، وانحسار الصلات الوثيقة مع دول الاحتضان العربي، وعدم توفر شبكة الأمان العربية والدولية التي حمته في عام 2006، وكذلك عدم وجود عطف أو تأييد لدى غالبية اللبنانيين لدعم مثل هذا التدخل العسكري.

الآن، ولأنّ القرار 1701 لم يطبق كما يجب، ولأنَّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لم يلعبا دورهما في السهر على تطبيق جميع القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان وبالقضية الفلسطينية كما يجب، وحيث أثبتت إسرائيل أنها لا تسعى لتحقيق السلام العادل والدائم في المنطقة، ولا تعترف بالقانون الدولي، ولا بالشرعية الدولية، ولا بالحقوق الإنسانية، وتمعن في جرائم الإبادة والقتل والتدمير في غزة والضفة الغربية، وترتد اليوم على لبنان لتعود وتقتل المدنيين وتهجر الآمنين وتدمر المنازل والمنشآت، وتَستعْمِل وسائل التكنولوجيا الحديثة واصطياد الناس الآمنين.

دور وطني يبحث عن أبطال

الآن، وقد أصبحنا على ما نحن عليه، من إرغامات ومن عوائق، وكذلك من نوافد يمكن الولوج منها نحو إخراج لبنان من نير هذا العدوان الإسرائيلي، فإنّه باعتقادي أن في لبنان الآن دوراً وطنياً كبيراً، يبحث عن أبطاله وفي غياب رئيس للجمهورية، وهما بنظري الرئيس نبيه بري بكونه رئيس السلطة التشريعية، والرئيس نجيب ميقاتي بكونه رئيس حكومة تصريف الأعمال، وعليهما أن يكتسبا بجهودهما وتفانيهما، شرف وأجر هذا الدور وهذه البطولة، وعلى جميع المسؤولين والحريصين على إنقاذ لبنان، أن يبادروا إلى مساعدتهما عبر تبني النقاط الست الآتية:

أولاً: إنَّ الواجب الوطني يقتضي من جميع اللبنانيين التضامن والتماسك والتصرف على قاعدة الوحدة والأخوة الوطنية الواحدة، وأن الشعب اللبناني بِرُمَّته يشجب ويدين هذا العدوان الإسرائيلي الغاشم الذي يستهدف لبنان كله والصيغة اللبنانية، بتآلف عناصرها وتفاعلها، والتي لا تحتمل غالباً أو مغلوباً.

بري متوسطاً ميقاتي وجنبلاط في لقاء عين التينة الأربعاء (إ.ب.أ)

ثانياً: إنَّ الحلول للبنان لن تكون ويجب ألا تكون إلا عبر الحلول الوطنية الجامعة، التي تركّز على التمسك بحسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف والدستور اللبناني، وبالدولة اللبنانية وسلطتها الواحدة والحصرية، وبقرارها الحر ودورها المسؤول في حماية الوطن والسيادة الوطنية، ومسؤوليتها الكاملة تُجاه شعبها وأمنه واستقراره.

ثالثاً: بما أنّ العدوان يطال كل لبنان ويصيب كل اللبنانيين، وليس من أحد منهم يتوسَّل العدوان الإسرائيلي، لكي يستفيد أو يدعم موقفه السياسي، فإنّ التفكير والبحث يجب أن ينصبَّ على ضرورة أن تعود الدولة اللبنانية لتأخذ على عاتقها زمام الأمور والمسؤولية، وما يقتضيه ذلك من موقف وطني جامع، بحيث يحتضن اللبنانيون بعضهم بعضاً ويكون همهم الوحيد إنقاذ لبنان وإخراجه من أتون هذه الأزْمة المستفحلة والخطيرة، التي تهدّد كيان الوطن ووحدة اللبنانيين وتماسكهم ومصيرهم.

رابعاً: مطالبة مجلس الأمن الدولي بإصدار قرارٍ بوقفٍ فوري لإطلاق النار في لبنان، وتَحَمُّلِ مسؤولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، عبر التزام جميع الأطراف بالتطبيق الكامل والفوري للقرار الدولي 1701 بمندرجاته كافة، واحترام جميع القرارات الدولية ذات الصلة.

خامساً: مبادرة رئيس المجلس النيابي بدعوة المجلس إلى الانعقاد لمناقشة المخاطر التي تتربص بالدولة اللبنانية وبالشعب اللبناني بما يحفظ الكيان اللبناني، ويحترم الدستور اللبناني، ويحافظ على وحدة لبنان وسلامة أراضيه. كما الدعوة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية دون أي إبطاء. رئيس يستطيع أن يجمع اللبنانيين، وبالتالي لتشكيل حكومة مسؤولة تتولى التنفيذ الكامل للقرار 1701، وتعمل لاستعادة العافية والسيادة اللبنانية وتعزيز دور الدولة اللبنانية الكامل في الحفاظ على استقلال وسيادة، وحرية لبنان، واستعادة نهوضه، واستقراره.

سادساً: السعي مع جميع الأشقاء العرب وجامعة الدول العربية بكونهم أشقاء الدم والهوية، وكذلك مع جميع الدول الصديقة والمؤسسات الدولية الإنسانية لتقديم كلّ المساعدات اللازمة والعاجلة لصيانة كرامة النازحين المنتزعين من بلداتهم وقراهم والحفاظ على كرامة اللبنانيين، وكذلك لتأمين العودة العاجلة والفورية لعودة النازحين إلى بلداتهم وقراهم ووضع الآليات ورصد المبالغ اللازمة لإعادة إعمار ما تهدم وما تضرر.

لقد أثبتت هذه المحنة الجديدة أن لبنان لم يستفِد من تجربة ودروس عام 2006، وأنه بات مكشوفاً بتفاصيله أمام العدو الإسرائيلي الذي استثمر تفوقه الناري والجوي والتكنولوجي والاستخباراتي والدعم الدولي اللامحدود له بالترخيص بالقتل والتدمير، وهو الذي لا يزال يُراهن على التسبب بالانقسام، والفتنة بين اللبنانيين، التي لا ولن تحصل بإذن الله، وهو لذلك لم يتورع عن ارتكاب المجازر والاغتيالات، التي كان آخرها اغتيال الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله.

اليوم لبنان والعالم كله أمام الامتحان، فهل تقف الأمم المتحدة ومجلس الأمن لمناصرة الحق، وهل يبادر اللبنانيون بكل قواهم، للدفاع عن حق لبنان واللبنانيين في الوجود الكريم والآمن، وتلقين إسرائيل درساً في معنى الحق والإنسانية واحترام حقوق الإنسان؟!