الوجود الأميركي في الشرق الأوسط و«ترشيق استخدام القوة»

حاملة الطائرات الأميركية تعبر مضيق هرمز نهاية الشهر الماضي في طريقها إلى الخليج ضمن الانتشار الأميركي عقب حرب غزة (أ.ب)
حاملة الطائرات الأميركية تعبر مضيق هرمز نهاية الشهر الماضي في طريقها إلى الخليج ضمن الانتشار الأميركي عقب حرب غزة (أ.ب)
TT

الوجود الأميركي في الشرق الأوسط و«ترشيق استخدام القوة»

حاملة الطائرات الأميركية تعبر مضيق هرمز نهاية الشهر الماضي في طريقها إلى الخليج ضمن الانتشار الأميركي عقب حرب غزة (أ.ب)
حاملة الطائرات الأميركية تعبر مضيق هرمز نهاية الشهر الماضي في طريقها إلى الخليج ضمن الانتشار الأميركي عقب حرب غزة (أ.ب)

قليلة هي المسائل التي تجذب انتباه القادة العرب، ممن تربطهم علاقات ودية بواشنطن، أكثر من الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. فحتى أدنى تخفيض لهذه القوات يثير قدراً كبيراً من القلق، قد يدفعهم إلى افتراض الأسوأ بشأن نوايا الولايات المتحدة تجاه المنطقة.

لكن التقييم الهادئ للأولويات الجيو - سياسية المتغيرة لدى الولايات المتحدة، إذا ما تبعه فهم لكيفية سعي واشنطن لتعديل موقفها العسكري في المنطقة، يفترض أن يُخفف من قلق الشركاء العرب، أو على الأقل بعضهم.

وعلى رغم أن الولايات المتحدة بلغت مرحلة من الإجهاد والتعب في الشرق الأوسط؛ نظراً لتدخلاتها المكلفة في أفغانستان والعراق، فإن المحرك الأكثر قوة وراء الحد من الاستثمارات العسكرية في المنطقة يتلخص في تحديد الأولويات الاستراتيجية للولايات المتحدة على مسارح المحيطين الهندي والهادي، فضلاً عن المسرح الأوروبي.

ويتطلب كبح جماح الصين ومواجهة روسيا قدراً من الموارد أكبر مما كان مخصصاً في السابق لكل مسرح على حدة. ونظراً إلى أن موارد الولايات المتحدة محدودة، فلا بد من جلب هذه الموارد من مصادر أخرى. وبكل المقاييس الموضوعية، فإن للولايات المتحدة وجوداً ضخماً في الشرق الأوسط؛ ما يجعل المنطقة مرشحاً طبيعياً لتقليص التواجد العسكري الأميركي فيها.

وهيمنت على السياسات والمعنويات في المنطقة وجهة نظر تفيد بتخلّي الولايات المتحدة - بلا داع - عن الشرق الأوسط. لكن ذلك بلا أساس من الصحة. ولطالما تحوي المنطقة موارد طبيعية استراتيجية، بما في ذلك كميات كبيرة من النفط والغاز، ولطالما أن تصدير تلك الموارد بالغ الأهمية لرفاه الاقتصاد الدولي، فإن الولايات المتحدة سوف تُعنى بالمنطقة وسوف تُكرس مواردها للحفاظ على الاستقرار في ذلك الجزء الحيوي من العالم.

والسؤال الآن هو كيف يمكن للولايات المتحدة المحافظة على مصالحها، وتعزيز شراكاتها، والالتزام بمهمتها في تحقيق الاستقرار في المنطقة بموارد أقل.

مرحلة ترشيق استخدام القوة

لا شك أن واشنطن تأثرت بهذه المسألة على مستوى السياسات؛ فالصراع بين إسرائيل و«حماس» هو مجرد مثال على القيود المفروضة على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. لكن ما يبعث على التفاؤل أن وزارة الدفاع الأميركية اقترحت بعض الأفكار المبتكرة في ما يتعلق بمستقبل الوجود العسكري الأميركي في المنطقة؛ ما يقود إلى الدخول في مرحلة ترشيق استخدام القوة.

استُحدث مفهوم ترشيق استخدام القوة أو الاستخدام المرن للقوة (dynamic force employment) بصفة رسمية ضمن استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018. ويهدف هذا المفهوم، الذي طُبّق في منطقة الشرق الأوسط بأكثر من أي مكان آخر في الآونة الأخيرة، إلى الحد من عمليات النشر الروتينية للقوات توفيراً للمرونة وجعل تحركات القوات في وقت السلم أكثر خفة وسرعة من دون التفريط في الاستعداد القتالي.

وصرح القائد الحالي للقيادة المركزية للقوات الجوية الأميركية الفريق غريغ غيلوت بأن «نشر القوات من منطلق ديناميكي ومرن يعكس المقدرة على نقل القوة القتالية إلى مسرح العمليات في الوقت المناسب عندما يتطلب الأمر، وليس فقط في حالة الاحتياج إليها».

قناص من المارينز خلال تدريب في خليج عدن أكتوبر الماضي (القيادة المركزية الأميركية)

ويقدم هذا الاستخدام أو التوظيف حماية أكبر للقوات الأميركية من تهديدات الصواريخ والأنظمة المسيّرة الإيرانية. وفي بيان الموقف الذي أدلى به في 15 مارس (آذار) 2022، أشار القائد السابق للقيادة المركزية الأميركية الجنرال فرانك ماكنزي بصورة صحيحة إلى أن «توزيع القوات على نطاق أوسع خارج نطاقات التهديد الإيراني الأكثر أهمية لا يعزز القدرة على قابلية البقاء فحسب، وإنما يعكس أيضاً المقدرة المتزايدة لإحداث التأثير السريع في المعارك الجماعية».

هذا بالضبط ما برهنت عليه القيادة المركزية الأميركية في مقاربتها إزاء المنطقة خلال الأسابيع والأشهر القليلة الماضية. وقد رأينا الولايات المتحدة تنشر أصولاً عسكرية إضافية، بما في ذلك حاملات طائرات وسفن حربية وطائرات مقاتلة؛ بُغية التصدي للتهديدات المتزايدة التي تشكلها شبكة التهديد الإيرانية. وكان لا بد من جلب هذه الموارد من مناطق أخرى، بما في ذلك أوروبا، وحتى القواعد العسكرية في الولايات المتحدة نفسها.

ويجب ألا يؤشر «ترشيق استخدام القوة» هذا إلى أن الولايات المتحدة قد تحولت إلى اعتماد استراتيجية التوازن الخارجي، أو أنها على وشك التخلي تدريجياً عن وجودها العسكري المتقدم في منطقة الشرق الأوسط. والواقع، أن الموقف الفعال الذي يساهم في نشر مهام الردع، والطمأنينة، والتعاون الأمني لا بد وأن يشتمل على عنصر الانتشار المتقدم.

حضور فعلي لردع إيران

ولردع إيران، يجب أن يكون لدى الولايات المتحدة حضور فعلي في مسرح العمليات للتأثير على حسابات صنع القرار للقيادة في طهران و«الحرس الثوري» الإيراني. ما من شك أن قوة الردع الأميركية ضد إيران كانت موضع خلاف، بيد أن فاعليتها ستكون أقل في غياب وسائل عقاب فورية وقوية من قِبل الولايات المتحدة، والتي يمكن أن تمنع إيران من أن تحسم الوقائع بسرعة على الأرض في خضم أزمة من الأزمات.

ولطمأنة الشركاء؛ تحتاج الولايات المتحدة إلى قوة عسكرية مرئية ودائمة في المنطقة. ويشعر الشركاء الإقليميون بقدر أكبر من الاطمئنان إزاء استمرار تمركز القوات والعتاد الأميركي على أراضيهم؛ لأن ذلك يعكس مستوى معيناً من التزام الولايات المتحدة بأمنهم. ولإجراء التعاون الأمني الفعال، تحتاج الولايات المتحدة إلى قوات وأفراد مدربين في المنطقة لتقديم المشورة والمساعدة لنظرائهم. إن مشروع التعاون الأمني برمته يدور حول بناء الثقة والعلاقات الشخصية، ولا يمكن ببساطة تنفيذ ذلك عن بُعد.

من الصعب دائماً الوقوف على مقدار الوجود المتقدم اللازم لمتابعة هذه المهام الثلاث بصورة فاعلة. ويتعين على المرء أيضاً إدراك أنه عندما يتعلق الأمر بالموقف، فهناك توتر كامن ما بين الردع، والطمأنينة، والتعاون الأمني.

في حين أن التعاون الأمني لا يحتاج إلى تواجد كبير للولايات المتحدة - فهو يحتاج إلى النوع المناسب من الأفراد في الأماكن المناسبة أكثر من أي شيء آخر - فإن الشركاء يُفضلون دائماً وجوداً قوياً وكبيراً. أما بخصوص مسألة الردع، فقد بات من المُحال تقريباً معرفة إلى أي مدى قد تكون قوة النيران الأميركية كافية لتحقيق الفاعلية؛ ذلك لأن هذا المفهوم في حد ذاته يصعب قياسه وتقييمه لكونه يعتمد على العديد من المتغيرات الأخرى، بما في ذلك المصداقية والاتساق، ولأن إيران تعمل على نحو مستمر وثابت بأدنى من عتبة الحرب.

من المفترض أن يوازن «ترشيق استخدام القوة» بطريقة ذكية بين جميع المهام الثلاث عبر الحفاظ على وجود متقدم مع إعطاء أهمية أكبر للحفاظ على إمكانية الوصول والاستثمار في التكيف وبناء المرونة. وهذا الأمر يُشكل تحدياً خاصاً؛ لأن الشركاء الإقليميين قد يقرّرون الحد من وصول الولايات المتحدة إلى المنطقة إذا رأوا أن واشنطن تواصل تخفيض وجودها الفعلي بصورة أكبر.

يكتسب الوصول إلى هذه المناطق أهمية أكبر بالنسبة للولايات المتحدة مع تزايد التوترات مع إيران وتزايد احتمالات نشوب حرب. تتطلب اللحظات القليلة الأولى من المواجهة المحتملة، أو حتى الأزمة العسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، توافر درجة عالية من المرونة العملياتية الأميركية، والتي لا يمكن تمكينها إلا من خلال سهولة الوصول.

في خاتمة المطاف، لا بد وأن تكون أي مناقشة لموقف الولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط أو أي مكان آخر، مستنيرة أولاً وقبل كل شيء بالاستراتيجية. إذ إن الاستراتيجية تقود الموقف، وليس العكس. ولا جدوى من مناقشة أعداد القوات والإمكانات الأميركية في الشرق الأوسط إذا لم يكن لدى واشنطن فكرة واضحة عن الأهداف التي تريد تحقيقها بهذه القوات والإمكانات.

ولكن، حتى عندما تحين لحظة الوضوح هذه في استراتيجية الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط، يتعين على واشنطن أن تتذكر دائماً أن الشركاء الإقليميين لهم حق التصويت. ومن دون إذنهم وإتاحة الوصول من طرفهم، لن يكون بوسع الولايات المتحدة أن تصنع الكثير في الشرق الأوسط.


مقالات ذات صلة

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

خاص السعودية تعزز ريادة الأعمال والاقتصاد الرقمي في قطاع الاتصالات والمعلومات (الشرق الأوسط)

نقلة نوعية للاقتصاد الرقمي السعودي في 2024

ما لا شك فيه أن الفرص السانحة في المملكة العربية السعودية لا تعد ولا تحصى، إلا أن التوجهات التي سترسم ملامح عام 2024، وما بعده ستتخطى التقنيات والحلول الجديدة.

إياد مرعي
خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خاص أهم 6 توجهات لتقنيات «ويب 3.0» و«بلوك تشين» والعملات الرقمية

خوارزميات الـ«بلوك تشين» يمكن استخدامها لتعزيز أمان الشبكات والمساعدة في اكتشاف مشكلات الأمان المحتملة بشكل أكثر كفاءة من المنهجيات التقليدية.

بن تشو
خاص ثورة المدفوعات الرقمية  في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

خاص ثورة المدفوعات الرقمية في السعودية تعزز فرص التجارة الإلكترونية

يشكّل التحول نحو وسائل الدفع الرقمية محفزاً لتحول أوسع في قطاعات التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجيستية في المملكة العربية السعودية.

إيمان الغامدي
خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

خاص الاتصالات المعزَّزة تعد بنقلة في قطاع السيارات

تواجه مسألة التحضُّر المدني والنمو الاقتصادي السريع في العصر الحالي عدّة تحدّيات رئيسية، من أبرزها الازدحام المروري الخانق الذي تتسبّب به الزيادة السكانية.

لويس دي لا كروز
خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

خاص بزوغ عصر اقتصاد التجربة مدعوماً بالذكاء الاصطناعي

في حين يقف العالم على أبواب مرحلة اقتصادية جديدة حافلة بالفرص والتحديات على كل المستويات، بدأت ملامح «اقتصاد التجربة Experience Economy» في الاكتمال في عدد من…

نضال أبو لطيف

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.